فتوى الفقيه

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
99
0

كثيراً ما يتداول في بعض الكتابات، أو على الألسن بصورة جماعية موسعة، أو بصورة محدودة، مسألة فتاوى الفقيه والآراء التي تصدر عنه، وهل أنها تمثل حكم الله سبحانه وتعالى، بحيث يصح أن تنسب الآراء الصادرة عنه إليه تعالى، أم أن الآراء الصادرة عن الفقيه، لا تمثل حكم الله تعالى، بل هي تمثل رأي الفقيه فقط ليس إلا.

ومن الطبيعي أنه على كلا الشقين الذين يذكران تترتب جملة من الأمور، ضرورة أنه لو قيل بأن الصادر من الفقيه إنما يمثل رأي الفقيه الشخصي، فإنه لن يكون هناك ما يوجب إلزام الآخرين بالعمل على طبقه، بل سوف يكون الناس أحراراً إن شاءوا العمل على وفقه ومقتضاه عملوا، وإلا فلا.

بخلاف ما لو بنينا على الشق القائل بأن الصادر من الفقيه يمثل حكم الله سبحانه وتعالى، فمن الواضح جداً أن الآخرين ملزمون بالعمل على وفقه، وأنه ليس لهم التخلف عنه، بل ليس لأحد منهم الاعتراض عليه أو المناقشة فيه.

فأي هذين الطرحين هو الصحيح؟…

حتى يتسنى لنا معرفة ذلك، نحتاج بداية إلى التعرف على الحكم الشرعي، وهو الذي يمثل حكم الله سبحانه وتعالى، فنقول:

حقيقة الحكم الشرعي:

لقد ذكر الفقهاء تعريفاً للحكم الشرعي، فقالوا: الحكم الشرعي هو: التشريع الصادر من الله سبحانه وتعالى لتنظيم حياة الإنسان وتوجيهه.

وهذا يعني أنه لا ينطبق عنوان الحكم الشرعي على أمر إلا إذا كان صادراً من الله سبحانه وتعالى، فلو صدر أي تنظيم أو قانون لكنه لم يكن عنه سبحانه، كما لو كان ذلك التنظيم أو القانون صادراً عن البشر كما في جملة من القوانين الوضعية التنظيمية، فإنها لا ينطبق عليها عنوان الحكم الشرعي.

نعم عنوان الصدور عنه سبحانه وتعالى له معنى واسع، فقد يكون الصدور عنه سبحانه وتعالى مباشرة، كما في آيات القرآن الكريم، فإنها صادرة عن الباري عز وجل، وقد يكون الصدور عن نبيه الكريم محمد(ص)، فإنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فما يصدر عنه(ص)، في الحقيقة يؤول إلى الصادر عنه سبحانه، وكذا ما يصدر عن المعصومين(ع)، فإنه يجري عليهم ما يجري على رسول الله(ص).

تقسيم الحكم الشرعي:

ثم إن الحكم الشرعي يقسم إلى عدة أقسام من خلال لحاظات مختلفة، نشير إلى تقسيمين منها:

الأول: انقسام الحكم الشرعي، إلى تكليفي ووضعي، ولسنا هنا بصدد بيان المقصود من كل منهما، بل ليطلبا من محله، وإنما أشير بصورة موجزة أن المقصود بالحكم التكليفي عبارة عن الأحكام الخمسة، من وجوب وحرمة واستحباب وكراهة، وإباحة، وأما الوضعي، فيقصد منه ما يشمل الصحة والفساد، والجزئية والشرطية، والملكية وما شابه.

الثاني: انقسام الحكم الشرعي، إلى واقعي، وظاهري، وهذا مربوط بمحل بحثنا لذا ينبغي تسليط الضوء عليه بصورة مفصلة، فنقول:

الحكم الواقعي: هو كل حكم لم يفترض في موضوعه الشك في حكم شرعي مسبق.

فصلاة الصبح مثلاً واجبة، وموضوع هذا الوجوب هو صلاة الصبح، وليست صلاة الصبح مشكوكة، والصوم واجب، وموضوع هذا الوجوب شهر رمضان، وليس شهر رمضان مشكوكاً، والخمس واجب، وموضوعه الفائدة، وليست الفائدة مشكوكة، وهكذا.

وأما الحكم الظاهري: فهو كل حكم افترض في موضوعه الشك في حكم شرعي مسبق.

بمعنى أنه إذا لم يكن الحكم الواقعي معلوماً ومعروفاً لدى المكلف، بل كان مجهولاً، فإنه تصل النوبة إلى الحكم الظاهري، فكل ما ليس معلوماً للإنسان يكون مصداقاً للحكم الظاهري بمقتضى حديث الرفع: رفع عن أمتي ما لا يعلمون.

والحاصل، إن الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي، بمعنى أنه في رتبة متأخرة عنه، فكما أن الواحد متقدم على الاثنين، فكذلك الحكم الواقعي متقدم على الحكم الظاهري، ولذا لو كان الحكم الواقعي معلوماً فلا يوجد حكم ظاهري، لكن لو لم يكن الحكم الواقعي معلوماً تصل النوبة للحكم الظاهري.

الأحكام الواقعية والظاهرية:

ثم إنه بعد اتضاح هذا التقسيم للحكم الشرعي، نود التعرف على مصاديق الحكم الواقعي، والحكم الظاهري، فنقول:

لا يخفى على أحد أن هناك جملة من التكاليف الصادرة من الباري سبحانه وتعالى موجهة للإنسان، سواء كانت معلومة بالتفصيل، أم كانت معلومة بالإجمال، وهذه التكاليف يتحصل عليها الإنسان إما من خلال الله سبحانه وتعالى، أو من خلال أحد المعصومين(ع)، فإذا كانت التكاليف صادرة عن الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم وكان نصاً صريحاً، يسمى حكماً واقعياً، وكذا ما أخبر به المعصوم(ع)، سواء في ذلك الرسول الأكرم محمد(ص)، أم بقية المعصومين(ع)، ولذا لو سأل زرارة من الإمام الباقر(ع)، فإن ما يخبره(ع) به يكون حكماً واقعياً، وكذا لو سأل محمد بن مسلم من الإمام الصادق(ع)، كان جوابه(ع) عبارة عن الحكم الواقعي.

لكن في زمان الغيـبة المظلمة التي غبنا فيها عن الإمام المعصوم(ع)، فما عدنا نراه، ولا يمكننا الاجتماع به، ففي هذه الحالة كيف يمكننا معرفة التكاليف الإلهية، وما هو الطريق لتحصيلها؟…

لا ريب أن الذي سيتولى الإجابة على ذلك، وسيعمد إلى بيان الأحكام الشرعية هم الفقهاء، وهم المصدر لذلك.

حجية قول الفقيه:

وعندها يأتي التساؤل، وهو هل أن قول الفقيه حجة يعتمد عليه، ويستند إليه في مقام العمل، كونه يمثل حكم الله سبحانه، أم أنه لا يصلح أن يكون حجة لأنه لا يمثل إلا رأي الفقيه نفسه، وهو شخص يتأثر بجملة من الظروف الخارجية والمعطيات؟…

حتى نستطيع الإجابة على هذا السؤال، نحتاج بداية إلى معرفة حجية قول الفقيه من عدمها، فلو ثبت لدينا حجية قول الفقيه، فلا ريب عندها أنه سيكون ممثلاً لحكم الله سبحانه، بخلاف ما لو لم يقم دليل على حجيته.

هذا وقد وردت النصوص الشريفة أنه وفي عصر الغيـبة المظلمة، المرجع في معرفة الأحكام الشرعية هم الفقهاء، فيمكن وعن طريقهم معرفة أحكام الله سبحانه وتعالى، فلاحظ ما جاء في التوقيع المباركة الصادرة عن الناحية المقدسة: وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله[1].

وما رواه عبد الله بن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبد الله(ع): إنه ليس كل ساعة ألقاك، ولا يمكن القدوم، ويجئ الرجل من أصحابنا فيسألني، وليس عندي كل ما يسألني عنه، فقال: ما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي، فإنه سمع من أبي، وكان عنده وجيهاً[2].

وما رواه علي بن المسيب الهمداني، قال: قليت للرضا(ع): شقتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت، فممن آخذ معالم ديني؟ قال: من زكريا بن آدم القمي، المأمون على الدين والدنيا، قال علي بن المسيب: فلما انصرفت قدمنا على زكريا بن آدم، فسألته عما احتجت إليه[3].

وما رواه عبد العزيز بن المهتدي والحسن بن علي بن يقطين جميعاً عن الرضا(ع)، قال: قلت: لا أكاد أصل إليك أسألك عن كل ما أحتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: نعم[4].

فإن هذه الإرجاعات الصادرة منهم(ع) تشير إلى أنه في حال عدم تمكن المكلف من الوصول إلى المعصوم(ع)، فإن وظيفته هي اللجوء لنوابه القائمين مقامه في بيان أحكام الله سبحانه وتوضيح تكاليفه، وهؤلاء النواب هم الفقهاء.

بل يمكن التمسك أيضاً بجملة من الآيات المباركة الدالة على ذلك، بل وكذا السيرة العقلائية القائمة على رجوع الجاهل للعالم، والحديث عنهما يطلب من محله.

فتحصل من خلال ما قدمنا أن قول الفقيه حجة، وذلك بمقتضى ما دل على حجيته من الأدلة.

ومع كون قوله حجة، فعندها سوف يكون ما يصدر من الفقيه يمثل حكم الله سبحانه وتعالى، ولا يمثل رأي الفقيه الشخصي، بمعنى أنه لا يجوز لأحد نقضه، وليس لأحد الرد عليه، كما ليس لأحد الامتناع عن الاستناد إليه في مقام العمل، والامتثال.

هذا ولو قيل إذا كان ما يصدر من الفقيه يمثل حكم الله سبحانه وتعالى، فما هو الفرق إذن بينه وبين ما يصدر من المعصوم(ع)؟…

قلت: أشرنا فيما تقدم أن الفارق بينهما أن الصادر من المعصوم(ع) يمثل حكم الله الواقعي، فما يصدر عنه(ع) يصيب ما هو الثابت في لوح الواقع، بخلاف ما يصدر من الفقيه فهو وإن كان حكم الله سبحانه وتعالى، لكنه حكم ظاهري فقد يكون مصيـباً للثابت في لوح الواقع، وقد لا يصيـبه.

كما نود الإشارة إلى أن الفقيه في ما يصدر عنه من أحكام شرعية يعتمد على مصادر محددة للوصول للحكم الشرعي، وهذا يعني أنه لا يمكن للفقيه أن يتأثر بالظروف الموضوعية المحيطة به في بيان الحكم الشرعي.

نعم قد يطرأ تغير في موضوع الحكم، يكون موجباً لتغير الحكم، وهذا أمر طبيعي وفقاً لما ثبت في بحث الثابت والمتغير في الأحكام الشرعية.

ومن المعلوم أن تغير الموضوع الموجب لتغير الحكم لا يعني تأثر الفقيه بالظروف المحيطة به، إذ فرق بينهما، فلاحظ.

عوامل اختلاف الآراء والفتاوى بين العلماء:

ثم إنه بعدما ثبت لنا أن ما يصدر من الفقيه يكون حكم الله سبحانه وتعالى، يتبادر إلى الأذهان سؤال مهم، وهو: إذا كان الصادر من الفقيه حكم الله تعالى، فلماذا نجد اختلافاً بين الفقهاء في الأحكام، فهل يا ترى أن الأحكام الإلهية مختلفة، بحيث يكون في الواقعة الواحدة أكثر من حكم، ويمكن التعبد بكل منهما، أم أن الثابت هو حكم واحد؟…

عندما نجيب على هذا السؤال، أولاً نركز على أنه ليس لله سبحانه وتعالى في كل واقعة إلا حكم واحد، ولهذا لا يمكن تعدد الأحكام في الواقعة الواحدة على موضوع واحد.

ومنه يتضح عدم صحة مقالة القائلين بالقراءة المتعددة للدين، بحيث يدعون أن كل حكم من الفقهاء في واقعة واحدة ذات موضوع واحد وإن اختلفوا فهو حجة، بل الصحيح أن الحجة منها هو حكم واحد يكون مصيـباً للواقع، ولذا نص الفقهاء على أنه حال اختلاف الفقهاء في الفتاوى فالمرجع هو الأعلم، ومع التساوي يكون العمل بأحوط الأقوال وهو الطريق الموافق لأدارك الواقع.

وأما بالنسبة لمسألة الاختلاف بين الفقهاء في الفتاوى، فمضافاً إلى أن هذا هو مقتضى فتح باب الاجتهاد المؤدي إلى اختلاف وسائل الاستنباط المعتمد عليها بينهم في استخراج الحكم الشرعي، إلا أنه يمكن أن تذكر عدة عوامل تؤدي إلى ذلك:

الأول: أن الموضوع الواحد قد يخـتلف حكمه بسبب اختلاف العناوين الطارئة عليه، فالصدق قد يطرأ عليه عنوان هلاك المؤمن، فيكون قبيحاً محرماً، وبذلك يخـتلف عن حكمه بدون هذا العنوان، فربما كان سبب اختلاف الفقهاء لأجل اختلاف وجود العناوين الطارئة عليه، ولعل من هذا القبيل ما ذكر حول الدم، من أن بيعه لم يكن جائزاً في السابق عند الفقهاء، لأنه لم تكن له منفعة محللة مقصودة، وأما في عصرنا، فله مثل هذه المنفعة، وهو استخدامه لعلاج المرضى، وجواز البيع وعدمه يدور مدار وجود المنفعة وعدمها، وبذلك يتغير حكم الدم من حيث جواز البيع وعدمه.

كما أن الشارع المقدس جعل أحكامه للموضوعات الكلية، مثلاً قوله تعالى:- ( أوفوا بالعقود) فقد جعل وجوب الوفاء للعقد، وهو موضوع كلي، نأخذ معنى العقد من عصر نزول الآية، لكنه لا يتحدد حكمه الذي هو وجوب الوفاء بالمصاديق المعهودة في ذلك العصر، بل يشمل المصاديق المستجدة فيما إذا لم يخالف الأحكام الإسلامية المسلمة كما لو استلزم العقد الضرر أو الربا، فإذا وجد عقد جديد، فيشمله الحكم إلا أن يخرج هذا الشيء الجديد عن مصداقيته للعقد، ومن هنا ربما تظهر مصاديق جديدة للعقد لم تكن في السابق، فيشمله حكم العقد، بينما ليس للسابقين مثل هذا الحكم لعدم وجود مصداقه.

وربما اختلف العلماء في الفهم العرفي لهذا المصداق، وهل أنه يشمله مفهوم العقد أو لا، وهل أنه مصداق للعقد أو لا، أو أنه يستلزم مخالفة الأحكام الإسلامية، أو ربما اختلفوا في أصل القاعدة، وأن قوله تعالى:- ( أوفوا بالعقود) هل يختص بالمصاديق المعهودة في عصر رسول الله(ص)، أو تشمل غيرها، وبذلك يظهر الاختلاف.

الثاني: ربما اكتشف العلماء معلومات جديدة من القرآن والسنة، غفل عنها السابقون، وربما وجدوا قرائن وروايات كانت موجودة، ولكن لم يتوجه إليها أو إلى دلالتها السابقون، كما ذكروه في روايات الاستصحاب، وكذلك ربما استفاد العلماء مما يحمله التطور العلمي وتجارب الآخرين، من معلومات وآراء لها تأثيرها في عملية الفهم والاستنباط، كما استفادوا من نظرية حساب الاحتمالات في بعض مسائل الفقه والأصول، وأمثالها.

لكن في الغالب أن هذه المعلومات الجديدة مما تؤدي إلى عمق الفهم وتطور الاستدلال، لا إلى نفي الأحكام السابقة سواء في الأحكام القطعية أو الظنية المعتبرة، وحتى لو أدت إلى ذلك، فإنها تختص في القليل من الأحكام والنصوص الظنية والخلافية ولا تشمل الضرورية والقطعية والاتفاقية.

الثالث: إجمال بعض النصوص أو ألفاظها في معناها العرفي أو اللغوي، ربما يكون سبباً للاختلاف، حيث يخـتلف العلماء حينئذٍ في تحديد موضوعها، وحكمها، كالاختلاف في معنى الصعيد والغناء أو الكعبين وأمثالها، لكن لا يخفى أن هذا أيضاً في موارد قليلة.

الرابع: اختلاف العلماء في بعض القواعد الأصولية أو الفقهية أو الرجالية وأمثالها، والتي تؤثر في استنباط الحكم من النصوص، كما في الآراء حول حجية بعض الروايات وعدم حجيتها، فربما اعتبر البعض الشهرة جابرة لضعف الرواية، بينما ينكر البعض الآخر ذلك، أو يخـتلفون في تقويم بعض الرواة، أو في تميـيز النسخة الصحيحة عن غيرها، أو في جريان البراءة في بعض المسائل كالشبهات التحريمية وعدم جريانها، أو اعتبار بعض المفاهيم كمفهوم الوصف وعدمه، أو في الاختلاف في حدودها ومجالاتها، فإن هذه الأمور مما تؤثر في اختلاف الآراء والفتاوى.

الخامس: الاختلاف في الموضوعات التي يهتم الباحث بها، ويحاول دراستها من خلال النص، فالاختلاف في كتب التفسير نشأ من اختلاف الموضوعات والمسائل أو الأسئلة التي يطرحها المفسر على القرآن الكريم ليتعرف على أجوبتها، حسب اهتمام المفسر، فربما يـبحث المفسر عن رأي القرآن في بعض القضايا الإقتصادية مثلاً، دون أن يهتم أو يتنبه لها مفسر آخر، وفي الواقع ليس هذا من الاختلاف في الآراء، لأن الاختلاف يتضمن موضوعاً واحداً تخـتلف فيه الآراء، وإنما هذا من اهتمام البعض بموضوعات وبحوث، دون أن يهتم بها الآخر، ولكن هذا السبب يدل على اختلاف المفسرين أو العلماء في الموضوعات التي يبحثون عنها.

عوامل أخرى:

هذا وتوجد عوامل أخرى غير ما ذكرنا لاختلاف العلماء، لو أردنا استقصاءها يطول بنا البحث والحديث عنها، لكننا نتعرض إليها بصورة موجزة، خصوصاً وأنه ربما كانت بعض هذه العوامل سلبية، يلزم على الباحث تجنبها لأنها من التفسير بالرأي، أو التفسير اعتماداً على الظنون غير المعتبرة، أو أنها خاضعة لأهواء الباحث وأمثالها، مع التأكيد بأنها حالات جزائية عند بعض الآراء والقليل من الباحثين، ولكن يمكن التجرد الموضوعي عنها، وخاصة مع التنبه لها، كما تجرد عنها الكثير من علمائنا، فربما خضع البعض لقبلياته، أو ظروفه الزمانية والمكانية في الاستنباط، أو رغباته وميوله، وأمثالها من المؤثرات، مما يؤكد علماؤنا على التجرد عنه مع إمكانه، فيما لو توجه الفقيه إليها، أو ذكر بها، كما رأينا العلماء يتراجعون عن بعض آرائهم حين يكتشفون خطأها، أو خضوعهم لبعض المؤثرات شعورياً أو لا شعورياً.

ولذا لا بأس بالإشارة إلى تلك العوامل بصور موجزة كما ذكرنا، مع التأكيد على سلبية بعضها ولزوم تجنبها:

منها: عدم استيعاب القواعد اللغوية والأدبية، أو عدم الاهتمام بها، أو عدم الاستفادة من الأساليب العامة للكلام التي تشمل جميع المتكلمين، أو الخاصة ببعض المتكلمين، كزعماء الأمم والأديان، لأنه ربما لهم أساليب خاصة في الكلام من استعمال الخاص أو المقيد المنفصل أو الناسخ أو المنسوخ والمحكم والمتشابه والتورية أو التقية، وأمثالها، مما لا يستعملها سائر المتكلمين، لذلك لابد من معرفة قواعد الكلام وأساليبه العامة والخاصة، من حمل المطلق على المقيد أو العام على الخاص، أو معرفة جهة النص، وأنه للتقية أو لبيان المراد الجدي، وكذلك التعرف على الكثير من القواعد والأساليب التي توصل الباحث للمراد الاستعمالي أو الجدي.

وقد ذكرها علماؤنا في كثير من بحوثهم، وخاصة في الفقه والأصول والدراية والرجال، والتـزموا بها علمياً في بحوثهم، ولكن ربما البعض لا يهتم أو لا يعترف بها، ولذلك يقع في الكثير من الخطاء ويؤدي لاختلافه مع غيره.

ولذا نلاحظ في الروايات الصادرة عن أهل بيت العصمة(ع) التأكيد على ضرورة تعرف الفقيه على هذه الأساليب العامة والخاصة، وأنه لا يعد الفقيه فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامهم(ع) ولحنه، وتفصيل الحديث في ذلك يطلب من محله.

وهده كلها أساليب وطرق عقلائية وعرفية يستخدمها العقلاء في فهم أقوال عموم المتكلمين، أو في فهم أمثال هذا المتكلم الخاص، حيث أنه ليس للشارع طريقة أخرى في كلامه وتفهيم مراده، غير تلك الطرق العرفية والعقلائية.

ومنها: ما يلاحظه البعض عند تفسيره للنص من ظروف صدوره، كما يلاحظ شأن نزول الآية، وظروف صدور الرواية، وبعضهم لا يلاحظها، وهذا يؤثر كثيراً في اختلاف الفهم والتفسير، فالسيد البروجردي(قده) مثلاً يرى ضرورة دراسة ظروف صدور الرواية، والآراء الشائعة آنذاك، لأن الرواية ناظرة لها، وربما توصل لتفسير يخـتلف كثيراً عن تفسير من لا يرى أهمية لدراسة ظروف الرواية، فيتوصل إلى موضوع لحكم الرواية أوسع أو أضيق.

ومنها: بعض الأطماع والأهداف الدنيوية والشيطانية، فإنه ربما كان لها تأثيرها في حمل النصوص الإسلامية من الكتاب والسنة على بعض المعاني التي يتوصل من خلالها لأطماع الساعين إلى غرض معين، وبذلك ربما وجدت بعض التيارات والمذاهب اعتماداً على هذه التفسيرات، فنلاحظ أن الأمويـين شجعوا المذاهب الجبرية والمرجئة، تبريراً لممارساتهم، وكذلك غيرهم من أصحاب الأطماع والتيارات المنحرفة.

——————————————————————————–

[1] وسائل الشيعة ب 11 من أبواب صفات القاضي ح 9.

[2] المصدر السابق ح 23.

[3] المصدر السابق ح 27.

[4] المصدر السابق ح 33.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة