ورد عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: إن الله عز وجل خلق الناس كلهم على الفطرة التي فطرهم عليها، لا يعرفون إيماناً بشريعة، ولا كفراً بجحود، ثم بعث الله الرسل تدعوا العباد إلى الإيمان، فمنهم من هدى الله، ومنهم لم يهده الله[1].
مدخل:
تتحدث الرواية الشريفة عن أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق مجبولين على أمر ما، سماه(ع) بالفطرة، وأشار إلى أنه ووفقاً لما جبلهم الله عليه، لم يكونوا مؤمنين بشريعة، ولا كافرين جاحدين. وهذا المعنى أعني كونهم مخلوقين على الفطرة، دون إيمان بشريعة، ولا كفر بجحود، يحتاج بياناً، فما هي الفطرة التي خلق الله سبحانه الخلق عليها دون الإيمان والكفر، هذا ما سوف نجعله محور حديثنا إن شاء الله تعالى.
معنى الفطرة لغة واصطلاحاً:
هذا وأول ما ينبغي علينا الإحاطة به لكي يكون المقصود من الرواية الشريفة واضحاً معرفة حقيقة الفطرة، وما هو المقصود منها، إذ أن ذلك يعين كثيراً على فهم المراد.
للفطرة تعريفان، تعريف في اللغة، وتعريف في الاصطلاح.
أما تعريفها في اللغة، فقد ذُكر أن المقصود منها: نوع الخلقة التي خلق الله الناس عليها. ولذا معنى قوله تعالى:- (فطرة الله التي فطر الناس عليها)، يعني خلقة الله سبحانه التي خلق الناس عليها.
وأما في الاصطلاح، فيمكن تعريف الفطرة بأنها: مجموعة من الحاجات العضوية، والحاجات النفسية، المفطورة في النفس البشرية، المرتكزة في أعماق الإنسان وكيانه، بصورة طبيعية ذاتية من غيرا كتساب من مجتمع أو واقع، يشترك فيها جميع أبناء البشرية على حدّ سواء ودون استثناء.
وهذا التعريف يتكون من ثلاثة عناصر:
الأول: أن الفطرة عبارة عن أمر مركب من شيئين، وليس أمراً بسيطاً، وهذان الشيئان اللذان يتركب منهما هما:
1-الحاجات العضوية. 2-الحاجات النفسية.
الثاني: إن العنصرين المتركب منهما حقيقة الفطرة، لا يخضعان لعوامل خارجية تؤثر في تحققهما ووجودهما عند الإنسان، بمعنى أنهما ليسا اكتسابيـين، بل هما ذاتيان طبيعيان موجودان في الأعماق الإنسانية، ومما فطرت عليه البشرية.
الثالث: يشترك جميع أفراد العنصر البشري في هذين العنصرين المتركب منهما حقيقة الفطرة، وهذا يعني أن وجود العنصرين لا يتصور عند فرد دون آخر، بل الجميع مالكان لهما، كما لا يخفى.
الفرق بين لحاجات العضوية والنفسية[2]:
ثم إنه ربما تصور البعض أنه لا فرق بين العنصرين الذين تركبت منهما الفطرة، فيعتقد أن الحاجات العضوية والحاجات النفسية شيء واحد، ولا أقل أنهما تؤولان لباً إلى ذلك، وهذا لا يستوجب عدهما قسيمين، بل ينبغي جعلهما قسماً واحداً.
وهذا الذي ذكر يندفع، ويتضح خطأه من خلال التعرف على الفارق بينهما، وسوف نشير إلى فارقين:
الأول: يتضح هذا الفرق ببيان تعريف كل واحد من المفهومين، فإن الحاجات العضوية تعرّف بأنها: الوظائف الإنسانية التي تتطلب الإشباع الحتمي، ولو لم يتحقق فيها الإشباع أدى ذلك إلى موت العنصر البشري، وانتهاء حياة الإنسان، ويمكن توضيح ذلك بعدة أمثلة، كالطعام، والشراب، والتنفس، فإن الإنسان ما لم يتناول الطعام وبقي ممتنعاً عنه عدة أيام، فإن ذلك سوف يوجب انقضاء حياته وموته. وكذا يجري الكلام أيضاً بالنسبة إلى الشراب، فإن الامتناع عن تناول الماء يؤدي في النهاية إلى هلاك الإنسان وموته. ومثل ذلك يجري بالنسبة للتنفس، فلاحظ.
وأما الحاجات النفسية، فتعرّف بأنها: الوظائف الإنسانية التي تتطلب إشباعاً فقط، لكنه لا يتوقف وجود الإنسان وحياته عليها، بمعنى أنه لو لم يتحقق الإشباع فإن ذلك لن يؤدي إلى هلاك الإنسان وموته. فرغبة الجنس تحتاج إلى إشباع، لكن لو لم يشبعها الإنسان، فإن ذلك لن يؤدي إلى موته، ورغبة التقوى والتدين تحتاج إلى إشباع من خلال العبادة، بل كثرتها، والصلاة والصوم، والذكر، والاستغفار، وما شابه، لكن لو لم يشبعها الإنسان، فإنه لن يموت، وهكذا.
نعم ما يقرره علماء النفس أن الحاجات النفسية ما لم يتحقق إشباعها، فإن ذلك سوف يؤدي إلى ترك جملة من الأضرار الوخيمة على الإنسان، مثل إصابته بالعقد، وإصابته بالقلق، فيتحول إلى إنسان معقد، أو إنسان قلق، أو يعيش شيئاً من عدم الارتياح النفسي.
وبالجملة، إن الحاجات العضوية متقومة بأمرين، بالإشباع، وترتب الهلاك والموت بعدمه، أما الحاجات النفسية، فإنها تتقوم بالإشباع فقط، دون أن يترتب على تركه الموت كما لا يخفى.
الثاني: إن الحاجات العضوية يؤثر فيها أمران، وهما المحرك الداخلي، والمؤثر الخارجي، وهذا بخلاف الحاجات النفسية، فإن المؤثر فيها هو خصوص المؤثر الخارجي، دون أن يكون للمحرك الداخلي مدخلية في ذلك. توضيح ذلك:
إن الإنسان عندما يشعر بالجوع والحاجة للأكل، فإن المعدة-مثلاً-ترسل إشارات إلى منطقة الإحساس عند الإنسان، ولنقل أنها الدماغ، فعندها يرسل الدماغ محركات ودوافع للإنسان ليتحرك بحثاً عن الطعام، لإشباع جوعته، ونلاحظ أن الموجب لحصول البحث عن الطعام عند الإنسان في البين كان عبارة عن المحرك الداخلي، فهناك ما أوجب الحركة عند الإنسان لأجل إيجاد الطعام.
ومرة أخرى، لا يكون هناك محرك داخلي، وإنما تكون هناك بعض العوامل والمؤثرات الخارجية هي التي تثير الإنسان من أجل أن يتناول الطعام، مثل أن يوضع بين يديه طبق من الطعام شهي الطعم، ولذيذ، فيسيل عندها لعابه، ويتحرك من أجل تناوله، فنلاحظ أن الموجب للتحرك ناحية الطعام في البين لم يكن الدافع الداخلي، وإنما كان المحرك له عبارة عن المؤثر الخارجي الذي تمثل في عرض الطعام عليه، وهكذا.
وهذا الذي ذكرناه من وجود عنصرين في الحاجات العضوية، لا يتصور في الحاجات النفسية، ذلك أنه لا يتصور وجود محرك داخلي عند الإنسان من أجل إشباع الغرائز النفسية مثلاً، وإنما الذي يحرك الإنسان لإشباع الغرائز ينحصر في خصوص المؤثر الخارجي، فعندما يرى الشاب صورة فتاة جميلة، أو عندما يشاهد في التلفاز مقطعاً رومانسياً، أو عندما تقرأ الفتاة قصة رومنسية بعيدة عن عناصر العفة والحياء، فضلاً عن مشاهدتها لذلك في التلفاز، فسوف يكون ذلك موجباً لحركة الغريزة الجنسية عندهما، وبالتالي سوف يكون هناك دعوة لتلبية حاجة هذه الغريزة، وإشباعها. وهذا يعني أنه لولا وجود المؤثر الخارجي لما كان هناك ما يوجب تحريك الإنسان لإشباع الغريزة الجنسية، كما لا يخفى.
ومن خلال هذا الفارق يتضح أن الحاجات النفسية لا يكون لها تحرك داخلي أبداً، ولا يحصل عند الإنسان شعور بالحاجة إلى إشباعها من الداخل، وإنما الموجب لذلك ينحصر في خصوص المؤثر الخارجي ليس إلا، وهذا يعني أنه متى ما وجد ذلك المؤثر كان موجباً لتحريكها، وإلا فلا.
دوافع تحرك الحاجات النفسية:
وطبقاً لقولنا أن الحاجات النفسية لا تتحرك إلا بمؤثر خارجي، وأنه لا مدخلية للمحرك الداخلي فيها، يمكننا أن القول بأن الدوافع والعوامل المحركة للغرائز، كي ما يحصل لها الإشباع عبارة عن أمرين:
الأول: تداعي الأفكار، ونقصد بها الاقتران، أو التفكير في شيء معين، بحيث يشغل بال الإنسان ويسيطر عليه، فيثير مشاعره وأحاسيسه، مثلاً الغريزة الجنسية لن تتحرك أو تثار ما لم يكن هناك تفكير في فتاة جميلة، أو تفكير في أمر ما له علاقة بالجانب الجنسي عند الإنسان.
وكذا غريزة التدين والتقوى، يثيرها التفكير في آيات الله سبحانه العظيمة، كالسماوات والأرض، والشمس والقمر، وما شابه، والتفكير في يوم القيامة، وما يرتبط بذلك.
ويمكننا أن نقرب ذلك بصورة أوضح من خلال كلمة وردت لسيد الموحدين، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، إذ يقول: من فكر في المعاصي دعته إليها، يعني أن التفكير في بعض الذنوب والمعاصي داعٍ لأن يرتكب الإنسان تلك الذنوب، فلو لم يعطها الإنسان مساحة من تفكيره، فلا ريب أنه سيكون أبعد عن الوقوع في ارتكابها، فلاحظ.
الثاني: الواقع المحسوس المثير للمشاعر، ونقصد به الدوافع والمهيجات لتحريك الحاجات النفسية عند الإنسان، فالغريزة الجنسية مثلاً يحركها جملة من الأمور، فالشاب عندما يرى فتاة جميلة، أو عندما يشاهد مقطعاً رومنسياً في التلفاز تتحرك عنده هذه الغريزة، وتدفعه للبحث عن إروائها وإشباعها، وكذا الفتاة عندما تشاهد مقطعاً عاطفياً يكون ذلك سبباً لتحريك الغريزة لديها، وهكذا.
وبالجملة، لولا وجود ما يحرك تلك الكوامن الداخلية، ويشعلها من مؤثرات خارجية فإنها بنفسها لا تتحرك ولا تدعوا إلى الإشباع، والارتواء.
الحاجات النفسية:
هذا ولا بأس بما أننا تحدثنا عن تركب الفطرة الإنسانية من عنصرين، أن نشير إلى الخلاف الموجود بين علماء النفس في تعداد الحاجات النفسية، فإنهم يختلفون في عددها، ولنشر بداية إليها، ثم نشير للخلاف الواقع بينهم لا في تعدادها، فإنه خارج عن محل كلامنا، وإنما الأصل في هذه الحاجات النفسية. وعلى أي حال، من الحاجات النفسية: غريزة حب البقاء، وغريزة حب النوع، وغريزة الجنس، وغريزة الجوع والعطش، وغريزة الشبع والارتواء، وغريزة النوم، وغريزة المعرفة، وغريزة حب الإطلاع، وغريزة الأنا، وغريزة التملك، وغريزة الفرح والسرور، وغريزة الحزن، وغريزة التعجب، وغريزة الاعتبار والسمعة، وغريزة المحاكاة، وغريزة الطمع.
وقد اختلف علماء النفس في مصدر دوافع السلوك البشري، ونسبته لأي واحدة من هذه الغرائز أم لها جميعاً، ففرويد مثلاً يرى أن الغريزة الجنسية هي الكل في شخصية الإنسان، وهي المنشأ لكل عمل يصدر منه، ولا ينفك الإنسان عنها أبداً.
وقد وافقه تلميذه أدلر في حصر الحاجات النفسية في غريزة واحدة، وخالفه في الغريزة، فقال بأن الغريزة التي تعدّ المصدر هي الشعور بمركب النقص والضعة عند الإنسان، وهي الغريزة الوحيدة المسيطرة عليه.
وقد قوبل هذا الاختيار من الأستاذ وتلميذه بكثير من الرفض من قبل علماء النفس، لما لمسوا فيه من التطرف.
ولقد أختار مكدوجل اشتمال الإنسان على مجموعة من القوى الموجهة والاستعدادات الغائية(الغرائز)، تحمل الفرد على بلوغ غايات طبيعية محدودة حين يدرك أشياء معينة في بيئته. وقد جعل مكدوجل الغرائز أربعة عشر غريزة، وكلها أصلية في طبيعتها، ثم أضاف لها في أواخر أيامه أربعاً أخرى، فصارت ثمانية عشر غريزة. وقد جعل لكل واحدة من هذه الغرائز استجابة. فمثلاً غريزة الوالدية،استجابتها الحنو، وغريزة الجوع واستجابتها البحث عن الطعام، وغريزة التدين، واستجابتها الخضوع، وهكذا[3].
ولم يختلف علماء النفس من المسلمين عن الغربيـين، حيث يرى جملة منهم أن دوافع سلوك الإنسان تسيره ثلاث غرائز رئيسة، وبقية الغرائز إنما هي مظاهر لها. بينما يرى السيد الشهيد الصدر(ره) أن دوافع سلوك الإنسان يدخل ضمن الإطار العام لغريزة حب الذات، وبقية الغرائز تعتبر فروعاً لهذه الغريزة وشعبها[4].
سبل توجيه الفطرة الإنسانية:
وفقاً لما تقدم من تعريف للفطرة الإنسانية، وبيان لكلا المقومين لحقيقتها، أعني الحاجات العضوية والحاجات النفسية، وبيان أن الحاجات النفسية تتأثر بما يدور حولها من أمور، فللمحيط والبيئة دخالة واضحة فيها، وهذا يعني أنها ليست بالخيّرة بالأصل كما أنها ليست بالشريرة بالأصل، وإنما هي حيادية تتأثر بما حولها.
والسؤال الذي يطرح هو : ما هي أفضل طريقة ووسيلة يمكن من خلالها توجيه الفطرة الإنسانية وفق أسس ومبادئ التربية الإسلامية المقررة من قبل الله سبحانه وتعالى، بمعنى أن لا يعمد إلى قمع هذه الحاجات، ولا يطلق لها العنان على آخره؟…
إن الطريقة التي يتم من خلالها توجيه الفطرة الإنسانية على وفق المقررات الشرعية والمبادئ الإسلامية يقوم على تطبيق أسلوبين فيها:
الأول: طريقة الإعلاء والتسامي:
ونقصد بها تحويل الفطرة البشرية بما فيها من طاقات، وقوى إلى سبل الخير والصلاح، فيعمد إلى الاستفادة منها في المجال العلمي، وفي النشاط الاجتماعي، والمجال الفني، وفي الموارد الاقتصادية، وهكذا. فيمكن تحويل الغريزة العدوانية الموجودة عند الإنسان إلى حب السلام، وهكذا بقية الغرائز الأخرى، حيث أن هناك حقيقة علمية تقرر: أن تصريف الاستعدادات الفطرية إلى فعاليات ونشاطات منتجة، تجعل الإنسان لا يفكر إلا بالأمور النافعة، وينسى قضايا الجنس والغريزة، وهذه الحقيقة العلمية تستفاد من كلام لأمير المؤمنين(ع)، حيث جاء عنه: إذا كثرت المقدرة قلت الشهوة. ولا يبعد أن علماء النفس استفادوا هذا المبدأ التربوي واقتبسوه منه(ع)، وقد سموها بالاقتصاديات العقلية[5].
الثاني: طريقة الثواب والعقاب:
ولا يختلف اثنان في أنهما أسلوبان تربويان وضعا لتحفيز وضبط سلوك الإنسان، كما أنهما في نفس الوقت منهاجان إسلاميان. ولا أظن أنني بحاجة للحديث عنهما، فإنهما من الوضوح بمكان لدى القارئ.
صفات الفطرة الإنسانية:
هذا ولنختم الحديث بالإشارة إلى بعض الصفات التي تمتاز بها الفطرة الإنسانية، وذلك استكمالاً للحديث عنها والتعريف بها:
أنها وسط محايد:
إن الفطرة الإنسانية أياً ما كان تعريفنا إياها، فسواء عرفناها بأنها مجموعة الغرائز والاستعدادات الخفية، أم قلنا بأنها غريزة عامة تنطوي تحت ظلها كل القابليات والاستعدادات الإنسانية، فهي الفطرة التي تحدث القرآن الكريم عنها، فقال تعالى:- (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله)[6].
ولا يخفى أن هذه الفطرة منقادة بحد ذاتها انقياداً خفياً نحو قوة مدبرة حكيمة تأخذ بيدها نحو التكامل الخاص، وتدبير شؤونها لتنقذها من الحيرة والضلال، وهذا الانقياد الذاتي هو الميل الطبيعي إلى التدين، وتحكيم الدين في الحياة على شكل نظام متكامل يعالج شؤون الحياة العام.
وعندما يحلل علماء النفس هذه الفطرة يقررون أن تتأثر بالعوامل المحيطة بها، ولذلك هم يشبهون الفطرة بالورقة البيضاء الناصعة البياض، التي ما لتبث أن تتلوث وتتسخ بالدخان الذي يحوطها، وهذا معنى أن الفطرة الإنسانية وسط محايد، أي أنها تتأثر بالعوامل والظروف المحيطة بها، وكما قلنا سابقاً، فهي غير مجبولة بذاتها على الشر والرذيلة، كما أنها لم تجبل على الخير والصلاح، بل هي تملك الاستعداد لكلا الأمرين، وهذا المعنى يستفاد من الآيات الشريفة، قال تعالى:- (فألهما فجورها وتقواها)[7]، وقال سبحانه:- (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً)[8]، فالإنسان مزود بدوافع ذاتية تدفعه إلى اختيار أحد طريقين، إما الهدى، أو الضلال[9].
إنها ذات طريقة مزدوجة:
وهذه نقطة يختلف بها الإنسان عن بقية الموجودات ذلك أن جميع الموجودات مزودة بفطرتها التي فطرت عليها، وهو طريق إلهام وهداية لا يقبل الانحراف والخروج عن الجادة المقررة.
وهذا بخلاف الإنسان، فإنه قد ألهم طريقين، ألهم طريق الخير وطريق الشر، كما أشار لذلك القرآن الكريم في أكثر من آية من آياته. ولذا قيل بأن الإنسان يحمل في طياته وبين جوانبه داءه ودواءه، يحمل داءه المتمثل بدوافعه الذاتية، وحبه لشهواته، وأثرته المتمثلة في تفضيله لمصالحه الذاتية على مصالح الآخرين، كما يحمل في نفس الوقت دواءه المتمثل في ميله الطبيعي نحو الدين لتحكيمه في شؤون الحياة العامة[10].
معرفتها لله تعالى معرفة فطرية حضورية:
تنقسم المعرفة إلى قسمين[11]:
1-معرفة فطرية حضورية باطنية، وهي المعرفة التي تدل عليها آية الفطرة وهي قوله تعالى:- (فطرة الله التي فطر الناس عليها)، فإن المستفاد من الآية أن الله سبحانه وتعالى خلقهم على دينه القيم، وصراطه المستقيم، ونتيجة لانغماس أكثر الناس في الأمور المادية، غفلوا عن ذلك ولم يعرفوه. إلا أنه لو خلي ونفسه أمكن أن يستذكرها ويسترجعها، ويعود إلى صوابه ورشده.
2-معرفة فطرية حضورية قلبية، وهي التي تدل عليها آية الميثاق، وهي قوله تعالى:- (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين)[12]، إذ يستفاد منها أنه سبحانه قد أخذ الاعتراف من كل واحد من بني آدم بوجوده وبوحدانيته، وهي المعرفة الحضورية الشهودية به سبحانه.
طريق إلى الله:
تعتبر الفطرة أحد الطرق المؤدية للوصول إلى الله سبحانه وتعالى، لكن وطبقاً لما قدمنا من أنها تتعرض للتأثر بالعوامل الخارجية المحيطة بها، فإنها لا تكون طريقاً مأموناً للوصول إليه سبحانه، وهذا يعني أنها تحتاج دليلاً آخر يكون بمثابة المكمل لها، وليعينها في الوصول إليه سبحانه.
[1] الكافي ج 2 ب ثبوت الإيمان وهل يجوز أن ينقله الله ص 417 ح 1.
[2] المفاهيم الإيمانية والتربوية ص 28.
[3] علم النفس التربوي، المفاهيم الإيمانية ص 30.
[4] فلسفتنا ص 36.
[5] المفاهيم الإسلامية ص 51-52.
[6] سورة الروم الآية رقم 30.
[7] سورة الشمس الآية رقم 8.
[8] سورة الإنسان الآية رقم 3.
[9] المفاهيم الإيمانية ص 33.
[10] المصدر السابق ص 38، اقتصادنا للسيد الشهيد الصدر ص 326-327.
[11] يراجع في هذا التقسيم وما يرتبط به كتاب معارف القرآن القسم الأول، للشيخ مصباح اليزدي.
[12] سورة الأعراف الآية رقم 172.