وقع الخلاف بين المفسرين في تحديد المقصود من الروح المسؤول عنه فيقوله تعالى:- (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)[1] على أقوال:
الأول: أن السؤال كان عن حقيقة الروح التي تكون في بدن الإنسان، وقد كان مصدر هذا السؤال هم اليهود، وقد ذكر سببان لعدم إجابة النبي(ص) عليهم:
أحدهما: أن منشأ ذلك يعود لما علمه النبي(ص) من اليهود من أن سؤالهم لم يكن لغاية الاستفادة، وإنما كانت غايتهم منه هو التعنت ليس إلا.
ثانيهما: أن ذلك يعود لأن عدم الإجابة تدلل على صدق نبوة النبي(ص)، لأن اليهود قد طلبوا من الكفار أن يسألوا النبي(ص) عن حقيقة الروح، فإن أجابهم عنها لم يكن نبياً، وإن لم يجبهم عنها فهو نبي لما هو الموجود في كتابهم من أن النبي لا يجيب على مثل هكذا أمر.
الثاني: أن السؤال لم يكن عن حقيقة الروح أساساً، بل إن سؤالهم عن كونها مخلوقة حادثة، أم ليست كذلك، وقد كان الجواب الإلهي بقوله تعالى:- (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)، إشارة إلى أنها من فعله سبحانه وتعالى، ومخلوقاته.
وقد أختلف القائلون بهذا القول في تحديد المقصود من الروح التي وردت في الآية الشريفة، على احتمالات:
أحدها: أن يكون المقصود منه الروح الإنسانية والتي يكون بها قوام الجسد.
ثانيها: أن يكون المقصود منه جبرائيل(ع).
ثالثها: أن المقصود منه ملك له سبعون ألف وجه، لكل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله بجميع ذلك.
رابعها: أن المقصود منه هو المسيح عيسى(ع).
الثالث: إن المسؤول عنه في البين هو القرآن الكريم، والسائل هم المشركون، وقد ذكروا في سؤالهم:
1-أنهم سألوه عن الملك كيف يلقاه بالقرآن الكريم.
2-أن سؤالهم كان عن القرآن كيف صار معجزة، وكيف صار نظمه وترتيبه مخالفاً لأنواع الكلام من الخطب والأشعار.
وقد اتضح من خلال ما تقدم، أن الأقوال في تحديد المقصود من الروح في الآية خمسة:
1-أن المقصود به الروح الإنسانية التي يكون قوام الجسد بها.
2-أن المقصود به الأمين جبرائيل(ع).
3-أن المقصود به ملك من الملائكة، له صفة معينة، وكيفية خاصة.
4-أن المقصود به هو نبي الله المسيح عيسى بن مريم(ع).
5-أن المقصود به هو القرآن الكريم زاده الله عزة وشرفاً.
والظاهر أن منشأ الأقوال التي ذكرت هو ما جاء في القرآن الكريم من استعماله لكلمة الروح، إذ أن المراجعة للآيات الشريفة يجد تعدد استعمالها فيه:
فقد استعملت بمعنى الروح التي بها قوام الجسد، في قوله تعالى: -(فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ)[2].
واستعملت بمعنى ملك من الملائكة، في قوله تعالى:- (
فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)[3]، واستعملت بمعنى القرآن الكريم في قوله تعالى:- (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ)[4]، وكذا قوله تعالى:- (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)[5]، وغير ذلك من الاستعمالات التي يجدها المتابع في القرآن الكريم.
وعليه، فلن يخلو المتصور في حقيقة هذه الكلمة عن احتمالين:
الأول: أن تكون من الألفاظ المشتركة، التي يصح استعمالها في كافة الاستعمالات المذكورة، ولتحديد المقصود منها في كل مورد، لابد من وجود قرينة، تحدد المقصود منه.
الثاني: أن يكون لفظ الروح موضوعاً لحقيقة واحدة، إلا أن استعماله في غيرها يكون بنحو المجاز، وبالتالي لابد للمتكلم من نصب قرينة على تحديد المقصود من مراده.
والظاهر أنه يستبعد الثاني عادة، لعدم تصور وجود الاستعمال المجازي في القرآن الكريم، كما أن من الصعب البناء على الأول، لأن الاشتراك اللفظي محل أخذ ورد عند علماء الأصول كما لا يخفى، وإن كان المحقق في محله هناك ثبوته وفقاً لأساطين الطائفة.
مختار السيد العلامة والتعقيب عليه:
ولم يرتض السيد العلامة الطباطبائي(ره) شيئاً من الأقوال السابقة، وأختار أن السؤال عن مطلق الروح الوارد في كلامه سبحانه وتعالى، وأن الجواب الصادر منه عز وجل مشتمل على بيان حقيقة الروح الوارد في كلامه سبحانه وتعالى، وأنه من سنخ الأمر.
واستند(ره) في مختاره إلى موارد الاستعمال التي وردت في القرآن لكلمة الروح، وبالتالي يكون الحديث ملحوظاً فيه العنوان الجامع لكل ما ذكر في آياته الشريفة[6].
والظاهر أنه نظر(ره) بلحاظ أن مراتب الموجودات على نوعين:
الأول: عالم أمر يحتاج في تكونه إلى الأمر التكويني من غير أن يحتاج إلى مادة، وهو عالم الأرواح.
الثاني: عالم خلق، وهو يحتاج في تكونه إلى وجود مادة يكون فيها.
وجوابه تعالى بقوله:- )قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)، إشارة إلى أنها من النوع الأول، ومن الواضح أنه لا يمكن إدراك خصوصياته وكيفياته بهذه الحواس الجسمانية، لذا كان التعريف به غير مفيد، فتدبر.
ولا يخفى أن تمامية ما ذكر لا يتناسب وما جاء في سبب النزول، ذلك أن المذكور في كلمات المفسرين كما عرفت أن السؤال منشأه اليهود، وأن لذلك محتملين ذكرناهما، على أن التسليم بما أفاده(ره) يستدعي أن تكون الآية الشريفة متأخرة نزولاً عما سبقها من الآيات المباركة، وهو ما لا يحرز، فلاحظ.
مختار صاحب الأمثل:
وأختار بعض أعلامنا المعاصرين(حفظه الله) أن المقصود بالروح في الآية هو أن المقصود بالروح في الآية الشريفة هو النفس الإنسانية، وبرر مختاره بوجود قرائن موجودة في الآية الشريفة تساعد على مثل هذا الاستظهار، إلا أنه(دام ظله)، لم يتعرض لذكر تلك القرائن.
وما يمكن أن يتصور قرينة داخلية هي ملاحظة مناسبة الحكم والموضوع، وهو وإن كان يساعد على ذلك، إلا أنه ليس من الوضوح ليجعل قرينة توجب صرف ظهور اليه، نعم لو ضم إليه القرينة الخارجية المتمثلة في سبب النـزول، أمكن المساعدة على ذلك، فتأمل.
الروح هو الأمين جبرائيل:
هذا وقد يقرب القول بكون المقصود بالروح في الآية الشريفة هو الأمين جبرائيل، بملاحظة سبب النـزول، بهذا البيان:
إن ملاحظة سبب النـزول، والسائلين، أو لا أقل منشأ السؤال، يساعد على الالتـزام بكون الروح هو مخلوق عظيم، إذ قد عرفت أن السائلين هم اليهود، إما مباشرة، أو أنهم قد لقنوا كفار مكة أن يسألوا النبي(ص) عن هذا.
والمستفاد من الآيات المباركة وجود عداوة بين اليهود والأمين جبرئيل، فهم يعتبرونه خصماً وعدواً، ويسمونه ملك العذاب، ويعتقدون فيه الخيانة، لأن الله تعالى قد جعل النبوة في بني إسرائيل، لكنه وضعها في ولد إسماعيل، ومنه يتضح أن مقالة: خان الأمين، والواردة تهمة في كلمات بعضهم لشيعة أهل البيت(ع)، مصدرها يهودي، ويشهد لما ذكرنا من عداوتهم لجبرئيل، ما ذكره أمين الإسلام الطبرسي(قده)، من سؤال أحد أحبار اليهود وهو صوريا للنبي(ص)، عن الملك الذي ينـزل عليه بالأمر من عند الله تعالى، فقال(ص): جبريل، فقال صوريا: ذاك عدونا، ينـزل بالقتال والشدة والحرب، وميكائيل ينـزل باليسر والرخاء، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنا بك. وقد رد الله تعالى هذا المعتقد منهم، فقال عز وجل:- (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ )[7] ،وقال تعالى:- (مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ)[8]، فالقرآن الكريم يعتبره شخصاً معصوماً لا يزل ولا يخطأ، ويصفه بأنه رسول الله، ويرد على دعواهم الخيانة منه، بوصفه بالأمانة، قال تعالى:- (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِي)[9].
ولا يذهب عليك أن القبول بهذا التفسير يتم لو ألتـزم بكون سبب نزول الآية الشريفة هو ما ذكر، وبني على أن المورد يخصص الوارد، وإلا مع البناء على عدم تخصيص المورد للوارد، فلا مجال لما ذكر، فتدبر.
هذا والذي أتصوره في منهجية التفسير القرآني، هو المنهج المتبع في عملية الاستنباط الفقهي، بحيث يتعامل المفسر مع الآيات القرآنية كما يتعامل الفقيه مع الأحكام الفرعية، وهذا يعني أنه لا يمكن الاعتماد على ظهور الآية الشريفة في كل مورد مورد من دون النظر إلى النصوص التي وردت في تفسيرها، مع التدبر في كون هذه النصوص محمولة على نحو الجري والتطبيق، أم أنها في مقام التفسير، وعليه لابد وأن تلحظ النصوص التي وردت في تفسير هذه الآية المباركة، وهي واردة في كتب الفريقين، فقد ذكر السيوطي نصوصاً عدة في الدر المنثور، وذكر السيد البحراني(ره) في برهانه، والشيح الحويزي(ره) في نور الثقلين، وسوف أقصر العرض على خصوص النصوص الواردة من طرقنا، روماً للاختصار.
ولنبدأ بما جاء في كتاب البرهان، للسيد هاشم البحراني(ره):
منها: ما نقله عن الكافي لشيخنا الكليني(ره) بسند صحيح عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن قول الله عز وجل:- (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي)، قال: خلق أعظم من جبرئيل(ع) وميكائيل، كان مع رسول الله(ص)، وهو مع الأئمة، وهو من الملكوت[10].
ومنها: ما جاء فيه أيضاً عن أبي بصير بسند صحيح أيضاً، قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول:- (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي)، قال: خلق عظيم أعظم من جبرئيل وميكائيل، لم يكن مع أحد ممن مضى غير محمد(ص)، وهو مع الأئمة(ع)، يسددهم، وليس كلما طلب وجد[11].
ولا يبعد الالتـزام باتحاد الصحيحين، وأنهما رواية واحدة، ويشهد لذلك قرائن عديدة، كاتحاد الراوي والمروي عنه، واتحاد الموضوع، ومجرد وجود الزيادة في ذيل الصحيح الثاني دون الأول، لا يعني التعدد، فلاحظ.
ومنها: ما جاء فيه أيضاً بسند يشتمل على الحسين بن أبي العلاء، وسعد الأسكاف، مضافاً إلى إرساله، قال: أتى رجل أمير المؤمنين(ع) يسأله عن الروح، أليس هو جبرئيل؟ فقال له أمير المؤمنين(ع): جبرئيل من الملائكة، والروح غير جبرئيل. فكرر ذلك الرجل، فقال له: لقد قلت عظيماً من القول، ما أحد يزعم أن الروح غير جبرئيل. فقال له أمير المؤمنين(ع): إنك ضال تروي عن أهل الضلال، يقول الله عز وجل لنبيه(ص):- (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون*ينـزل الملائكة بالروح)والروح غير الملائكة[12].
ومنها: ما جاء في التفسير المنسوب لعلي بن إبراهيم القمي، بسند صحيح ينتهي إلى أبي بصير عن أبي عبد الله(ع) قال: هو ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل، كان مع رسول الله(ص) وهو مع الأئمة(ع)[13].
ولا يتوهم أنه عين صحيحي أبي بصير المتقدمين، ذلك أنهما تضمنا انه من الملكوت، وهذا جعله من الملائكة، فلاحظ.
ومنها: ما جاء في مختصر بصائر الدرجات بسند صحيح عن هشام بن سالم، قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول:- (ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي). قال: خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل، لم يكن مع أحد ممن مضى غير محمد(ص)، وهو مع الأئمة(ع) يوفقهم ويسددهم، وليس كلما طلبه وجده[14].
ومنها: ما جاء في تفسير العياشي مرسلاً عن زرارة قال: سألت أبا جعفر(ع) عن قول الله عز وجل:- (يسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي)، قال: خلق من خلق الله، والله يزيد في الخلق ما يشاء[15].
ولا يخفى إجمال المقصود من الروح في الخبر المذكور، ضرورة أنه لم يحدد المقصود من الروح، وإنما عمد إلى بيانها إجمالاً بكونها مخلوقاً له تعالى، وهو يتناسب وبعض ما تقدم من كون السؤال كان عن كون الروح حادثة مخلوقة له تعالى، أم لا.
وهذا لا يستوجب وجود معارضة بينه وبين النصوص المتقدمة، ضرورة أن ما تقدم من النصوص لم يتعرض لبيان كون الروح ليس حادثاً مخلوقاً له تعالى، كما أن الخبر الذكور لم ينفِ كونه مخلوقاً غير جبرائيل وميكائيل، وعليه فيمكن أن يرفع الإجمال الوارد فيه من خلال النصوص السابقة، فلاحظ.
ومنها: ما جاء فيه أيضاً مرسلاً عن زرارة وحمران، عن أبي جعفر وأبي عبد الله(ع) عن قوله تعالى:- (يسئلونك عن الروح). قالا: إن الله تبارك وتعالى أحد صمد، والصمد الشيء الذي ليس له جوف، فإنما الروح خلق من خلقه، له بصر وقوة وتأيـيد، يجعله في قلوب الرسل والمؤمنين[16].
وهو لا يختلف عن سابقه من حيث الدلالة، وبالتالي يجري فيه عين ما قدم ذكره في سابقه، نعم يختلف عما تقدم من النصوص جميعاً في سعة دائرة ما يحيطه الروح، إذ أن كل ما تقدم، كان يقصر دور الروح في البعد المعصومي، فهو مع النبي الأكرم محمد(ص)، ومن بعده هو مع الأئمة الهداة(ع)، لكنه في هذا الخبر جعله شاملاً حتى للمؤمنين، وإن كان من المحتمل كون المقصود بالمؤمنين، هم الأئمة الأطهار(ع)، فتأمل جيداً.
ومنها: وفيه أيضاً مرسلاً عن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول:- (يسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي)، قال: خلق عظيم أعظم من جبرائيل وميكائيل، لم يكن مع أحد ممن مضى غير محمد عليه وآله السلام، ومع الأئمة يسددهم، وليس كلما طلب وجد[17].
والظاهر أنه عين ما تقدم من الكافي، وبالتالي يمكن الاستناد إليه أيضاً، والتعويل على حجيته لحجية ما في الكافي، فلاحظ.
ومنها: ما جاء فيه أيضاً مرسلاً عن أبي أيوب الخزاز، قال: أعظم من جبرائيل، وليس كما ظننت[18].
ولا يذهب عليك عدم صلوح الخبر المذكور للاستناد إليه فيه مقام التفسير، لعدم عدّه من السنة الشريفة، لأنه قول أبي أيوب، ومجرد احتمال عدم حكايته قولاً عن غير المعصوم(ع) اعتماداً على جلالته، لا توجب الوثوق بالخبر، لبقاء احتمال كونه رأياً له، فلاحظ.
وكيف كان، فإنه لا يختلف عما تقدم من النصوص، من كون المقصود بالروح في الآية الشريفة مخلوقاً غير جبرائيل(ع).
ومنها: ما جاء في تفسير العياشي مرسلاً عن أسباط بن سالم عن أبي عبد الله(ع) قال: خلق أعظم من جبرائيل وميكائيل، مع الأئمة يفقههم، وهو من الملكوت[19].
وقد نقل الشيخ الحويزي(ره) في تفسيره القيم نور الثقلين، عند تفسير الآية الشريفة سبعاً من النصوص المتقدمة، فحكى نصوص أبي بصير المروية في الكافي، وما نقله عنه العياشي، وخبر أبي أيوب في العياشي، وخبر حمران فيه أيضاً عن أبي جعفر وأبي عبد الله(ع)، فلاحظ.
ومن النصوص التي تضمنت تفسير الروح أيضاً بخلق أعظم من الملكين جبرائيل وميكائيل، ما ذكره في الكافي بسند معتبر عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن قول الله تبارك وتعالى:- (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) قال: خلق من خلق الله عز وجل، أعظم من جبرائيل وميكائيل، كان مع رسول الله(ص) يخبره ويسدده، وهو مع الأئمة من بعده.
ومنها: ما جاء فيه أيضاً بسند معتبر عن أسباط بن سالم، قال: سأله رجل من أهل هيت وأنا حاضر، عن قول الله عز وجل:- (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا)، فقال منذ أنزل الله عز وجل ذلك الروح على محمد(ص) ما صعد إلى السماء، وإنه لفينا.
ومن الواضح أن مقتضى هذه النصوص البناء على عدم القبول بكون المقصود بالروح في الآية هو جبرائيل، لكونها قد نصت على أنه خلق أعظم منه، فلاحظ.
وفي مقابل هذه النصوص، يوجد نص ذكره السيد البحراني(ره) وهو ما رواه العياشي مرسلاً عن أبي بصير عن أحدهما(ع)، قال سألته عن قوله:- (ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي)، ما الروح؟ قال: التي في الدواب والناس. قلت: وما هي؟ قال: هي من الملكوت، من القدرة.
ولا يخفى دلالتها على أن المقصود بها الروح الحيوانية التي يجعلها الله سبحانه وتعالى في الموجودات الحية.
ولا ريب في وقوع المعارضة بين النص المذكور والنصوص السابقة، لو بني على إحراز صدورها، ورفع اليد عن إرسالها، فلاحظ.
علاج المعارضة المتصورة:
وقد نفى بعض أعلامنا المعاصرين(حفظه الله)وجود المعارضة بينهما، على أساس أن نصوص الطائفة الأولى، وإن تضمنت أن المقصود بالروح هو خلق أعظم من الملكين العظيمين، جبرائيل وميكائيل(ع)، وأن الطائفة الثانية فسرته بالروح الإنسانية، لكنهما يشيران إلى حقيقة واحدة، ومعنى واحد، فإن المقصود من الخلق فيها الذي هو أعظم من الملكين، هي الروح الإنسانية، فتتوافق الطائفة الثانية والأولى، نعم إن لهذه الروح مراتب ودرجات، فما جاء في الطائفة الأولى، إشارة إلى بعض مراتبها، وما جاء في الطائفة الثانية إشارة إلى مراتب أخرى.
ويمكن تأيـيد ما ذكره(حفظه الله)، بل الاستدلال عليه بالنصوص التي تضمنت ما ركب في الرسل والأئمة(ع) من أرواح، فقد عقد في الكافي باباً بهذا العنوان: باب فيه ذكر الأرواح التي في الأئمة(ع):
منها: خبر جابر الجعفي- به على الأقل-قال: قال أبو عبد الله(ع): يا جابر، إن الله تبارك وتعالى خلق الخلق ثلاثة أصناف، وهو قول الله عز وجل:- (وكنتم أزواجاً ثلاثة* فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة* وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة* والسابقون السابقون* أولئك المقربون)، فالسابقون هم رسل الله(ص) وخاصة الله من خلقه، جعل فيهم خمسة أرواح: أيدهم بروح القدس، فبه عرفوا الأشياء، وأيدهم بروح الإيمان، فبه خافوا الله عز وجل، وأيدهم بروح القوة، فبه قدروا على طاعة الله، وأيدهم بروح الشهوة، فبه اشتهوا طاعة الله عز وجل، وكرهوا معصيته، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون. وجعل في المؤمنين أصحاب الميمنة روح الإيمان، فبه خافوا الله، وجعل فيهم روح القوة، فبه قدروا على طاعة الله، وجعل فيهم روح الشهوة، فبه اشتهوا طاعة الله، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون.
ومنها: خبره أيضاً بمحمد بن سنان، وبعمار بن مروان، وبه، عن أبي جعفر(ع) قال: سألته عن علم العالم، فقال لي: يا جابر، إن في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح: روح القدس، وروح الإيمان، وروح الحياة، وروح القوة، وروح الشهوة، فبروح القدس يا جابر، عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى. ثم قال: يا جابر إن عدم هذه الأربعة أرواح يصيبها الحدثان إلا روح القدس فإنها لا تلهو ولا تلعب.
ومنها: خبر المفضل بن عمر، به، وبمحمد بن سنان، وبمعلى بن محمد، قال سألت أبا عبد الله(ع) عن علم الإمام بما في أقطار الأرض، وهو في بيته مرخى عليه بستره. فقال: يا مفضل، إن الله تبارك وتعالى، جعل في النبي(ص) خمسة أرواح: روح الحياة، فبه دب ودرج، وروح القوة فبه نهض، وجاهد، وروح الشهوة، فبه أكل وشرب وأتى النساء من الحلال، وروح الإيمان، فبه آمن وعدل، وروح القدس فبه حمل النبوة، فإذا قبض النبي(ص) انتقل روح القدس، فصار إلى الإمام، وروح القدس لا ينام ولا يغفل، ولا يلهو ولا يلعب، ولا يزهو، والأربعة الأرواح تنام وتغفل وتزهو وتلهو وروح القدس كان يرى به.
وتقريب دلالتها على المدعى يتوقف على التالي:
أن تكون الروح الواردة في جميعها بمعنى الروح الحيوانية، والتفاوت بينها باعتبار أعمالها ودرجاتها، ومراتبها في الطاعة، ويشهد لهذا إطلاق العقل الهيولاني، والعقل بالملكة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد عليها، وكل ذلك بحسب مراتبها في العلم والمعرفة.
أما لو بني على مغايرة الأرواح المذكورة لبعضها البعض، ولا أقل من القول بكون روح القدس هي الخلق العظيم الذي أشير إليه في نصوص الطائفة الأولى، فلا تصلح النصوص المذكورة شاهداً للجمع المذكور، وعندها سوف يكون جمعاً تبرعياً، لا يعول عليه، فلاحظ.
وقد يوجب البناء على المغايرة ما تضمنته النصوص من وجود صفات يمتاز بها روح القدس غير موجودة في بقية الأرواح، مما يساعد على المغايرة بينها، فقد ورد في صحيح أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن قول الله تبارك وتعالى:- (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان)، قال: خلق من خلق الله عز وجل أعظم من جبرائيل وميكائيل، كان مع رسول الله(ص) يخبره ويسدده وهو مع الأئمة من بعده.
لكون المقصود من هذا الروح هو روح القدس الذي أشير إليه في النصوص السابقة، فلاحظ.
وقد يقال بالمنع من القبول بحمل الروح في الآية الشريفة على الروح الإنسانية، لأنك قد عرفت أن سبب نزول الآية المباركة يكشف عن وجود عداوة بين المجتمع اليهودي والأمين جبرائيل(ع)، فهم يعتبرونه خصماً لهم، ويصفونه بأنه ملك العذاب، كما يعتقدون أنه قد خان فنقل النبوة من ولد إسحاق إلى ولد إسماعيل(ع)، فإذا ضممنا لهذا أن منشأ التساؤل الوارد في الآية هم، فهذا يساعد على أن المسئول عنه عندهم ليس هو الروح الإنسانية، بل المسئول عنه هو الروح الأمين جبرائيل(ع).
على أننا لو رفعنا اليد عن جميع ما قدم، فإنه لا يوجد عندنا ما يسند تفسير الروح في الآية بالنفس الإنسانية إلا خبر واحد، وهو لا يصلح للمعارضة كونه ضعيف السند، ومع البناء على أنه لا يعتبر في النصوص التفسيرية ما يعتبر في نصوص الأحكام الفرعية، فلا ريب في أنه لن يصلح للحجية، لأنه يكون من مصاديق ما فيه الريب لمخالفته لنصوص كثيرة تفيد خلافه، فتأمل.
تحديد المقصود من الروح:
وبالجملة، يبقى الأمر في تحديد المقصود من الروح في الآية الشريفة بين محتملين لا ثالث لهما:
الأول: أن يكون المقصود منه هو الروح الأمين جبرائيل(ع)، وفقاً لملاحظة سبب النـزول، وما يكتنفه من أمور أشير إليها.
الثاني: أن يكون المقصود منه هو خلق عظيم أعظم من جبرائيل وميكائيل، وهو الروح القدس الذي يكون مع النبي(ع)، ومن بعده يكون مع الأئمة(ع).
والإنصاف، أن ملاحظة الآية الشريفة وما يرتبط بها من حيثيات، تساعد على كون المقصود منه هو الأمين جبرائيل، وكذا النص المحكي في التفسير المنسوب للقمي. إلا أن ملاحظة النصوص الشريفة توجب أن يكون المقصود منه الخلق الأعظم من جبرائيل ومبيكائيل(ع).
وقد يتوهم أن النصوص المفيدة للتفسير الثاني مخالفة للكتاب، وبناء على ما ورد عنهم(ع) من لزوم عرض كل ما صدر عنهم على الكتاب، فإن وافقه أخذ به، وإن لم يوافقه رد، فيلزم ردها.
إلا أنه فاسد، لعدم النص في الآية الشريفة على كون المقصود بالروح فيها هو الأمين جبرائيل(ع)، بل ولا حتى ظهورها في ذلك بصورة جلية واضحة، وإنما قد لوحظ ذلك من خلال التأمل في الحيثيات الخارجية لتشكل قرينة قد توجب حمل اللفظ على هذا المعنى، فتأمل. والنص المحكي عن التفسير لا يصلح للمعارضة، ضرورة أنه لم يثبت نسبة الكتاب لمؤلفه، فيقوى احتمال حصول الخطأ والاشتباه فيه، وذلك بتصحيح كلمة الملكوت الواردة في صحيحي أبي بصير بالملك، وهذا من موارد التصحيح القياسين وهو كثير في النصوص.
ولا مجال في البين لحمل النصوص المذكورة على الجري والتطبيق، ضرورة أنه لو قيل أن المقصود من الروح في الآية الشريفة هو الأمين جبرائيل، فإن النصوص تفيد معنى آخر يغايره تماماً، ما يلزم منه البناء على كون لفظ الروح في الاستعمال القرآني ذا حقائق متعددة، وبالتالي يكون تحديد المقصود منه في كل مورد مورد بحاجة إلى وجود قرينة موجبة لتحديد المقصود منه، وهذا ما يصعب البناء عليه في المعاني القرآنية، والمفاهيم التي وردت فيه.
المختار في المقام:
والظاهر أنه لا مانع من أن يكون السؤال الصادر من السائل عن أمر ما، لكن الجواب من المجيب يكون متضمناً لبيان شيء آخر، فيمكن أن يسأل السائل عن قضية معينة يعتقد أن الأمور المرتبطة بها بهذه الكيفية، فيجيبه المجيب بما يكون موجباً لتصحيح جملة من الأمور التي ترتبط بهذه القضية، ما يوجب حصول المغايرة بين السؤال والجواب، ولو في الجملة.
وعليه، فلا مانع من أن يكون اليهود قد سألوا عن الأمين جبرائيل(ع)، وكانوا يعتقدون أنه هو الروح، إلا أن الباري سبحانه وتعالى أجابهم بأن الروح أمر آخر أو مخلوق آخر ليس هو جبرائيل، بل هو ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل(ع)، ومنشأ توهم اليهود بأن جبرائيل هو الروح لظنهم أن المسدد للنبي(ص) هو جبرائيل، لأنه هو الذي يأتيه بالوحي، فكان الجواب القرآني، أن المسدد هو روح القدس، وهو خلق عظيم، وليس لجبرائيل(ع) من وظيفة إلا أنه رسول الله، ينـزل بالوحي على النبي(ص)، وعليه سوف يكون المقصود من قوله تعالى:- (قل الروح من أمر ربي)، إشارة إلى روح القدس الذي يكون معهم(ع).
وهذا الذي وصلنا له يتوافق وما ذكره بعض أعلامنا المعاصرين(حفظه الله)، كما عرفت في ما تقدم فلاحظ.
حقيقة روح القدس:
ثم إنه بعد الوصول إلى كون المقصود من الروح في الآية الشريفة هي روح القدس، وقد عرفت أنه يكون مع النبي(ص)، والأئمة الأطهار(ع)، يلزم التعرف على حقيقته، ومعنى كونه خلقاً أعظم من جبرائيل وميكائيل(ع)، فنقول:
إن التأمل في النصوص التي تضمنت تفسير الروح في الآية بهذا المعنى يظهر منها أن الخلق العظيم الذي هو أعظم منهما، ليس ملكاً، فلاحظ صحيح أبي بصير: خلق أعظم من جبرائيل وميكائيل. كما يظهر منها أنه من الملكوت، وهذا يتناسب كثيراً وما جاء في ذيل الآية بقوله تعالى:- È@è% ßyr9$# ô`ÏB ÌøBr& În1u)[20]، لإشارتها إلى عالم المجردات مقابل عالم الجسمانيات[21].
ولهذا نجد أن بعض النصوص نصت على أنه ليس من الملائكة، فقد جاء في رواية سعد الإسكاف، قال: أتى رجل أمير المؤمنين(ع) يسأله عن الروح أليس هو جبرائيل؟
فقال له أمير المؤمنين(ع)” جبرائيل من الملائكة، والروح غير جبرائيل. فكرر ذلك على الرجل.
فقال له: لقد قلت عظيماً من القول، ما أحد يزعم أن الروح غير جبرائيل.
فقال له أمير المؤمنين(ع): إنك ضال تروي عن أهل الضلال، يقول الله لنبيه(ص):- (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون* ينـزل الملائكة بالروح من أمره)، والروح غير الملائكة صلوات الله عليهم[22].
وقد جعل منشأ أعظمية الخلق المذكور على الملكين المشار إليهما بحسب الرتبة والعلم[23]. وتقريب التوجيه المذكور مبني على ملاحظة مقدمتين طويتا في البيان المذكور:
الأولى: أنه قد ثبت أن الملكين العظيمين جبرائيل وميكائيل(ع)، هما أعظم الملائكة من حيث العلم والمعرفة، فلا يوجد من هو أعظم منهما.
الثانية: أن هذين الملكين العظيمين، وبما لهما من مكانة ومعرفة، لم يبلغا الإحاطة بكل شيء، والإطلاع على كافة الأمور، وفقاً للإقرار الصادر من الملائكة في قصة نبي الله آدم(ع)، وهما منهم، قال تعالى:- (لا علم لنا إلا ما علمتنا) ما يعني أنه يوجد من يكون أكثر إحاطة ودراية ومعرفة منهما.
وقد ثبت أن روح القدس امتلك من العلم والمرتبة ما لم يمتلكاه، فكان أعظم منهما، فلاحظ.
إلا أنه بقي الحديث حول تحديد المقصود من هذه الروح، وما هي حقيقتها، وقد فسرها الملا صالح المازندراني(ره) بأنها القوة القدسية التي تتجلى فيها لوايح الغيب وأسرار الملكوت المختصة بالأنبياء والأوصياء، وأنها منبع العلم والمعرفة عندهم، وبها صاروا يعرفون كل شيء. قال(ره): اعلم كما أن الروح –أي النفس الناطقة-تسمى مطمئنة ولوامة وأمارة بالسوء باعتبارات مختلفة، كذلك تسمى روح المدرج باعتبار أنها مصدر للذهاب والمجيء، وسبب للحركة في الحوائج، وتسمى روح الشهوة باعتبار أنها مع القوة الشهوية تشتهي طاعة الله والإتيان بالحلال من النساء وغير ذلك، وتسمى روح القوة باعتبار أنها تقدر بسبب القدرة المعدة لها على الإتيان بما تشتهيه، وتسمى روح الإيمان باعتبار أن الإيمان والعدل والخوف من الله يتحقق بها، وتسمى روح القدس باعتبار اتصافها بالقوة القدسية التي تتجلى فيها لوايح الغيب وأسرار الملكوت المختصة بالأنبياء والأوصياء، وهم بسببها عرفوا الأشياء كلها كما هي، وصاروا من أهل التعليم والإرشاد. وإنما سميت هذه القوة روحاً لأنها مبدأ كل فيض وراحة وحياة حقيقة، فهي الروح التي بها قوام حقيقة النبوة، وكل واحدة من هذه الأرواح فيهم على غاية الكمال والسداد[24].
وهذا قريب مما يذكر في علم النفس الفلسفي، من أن النفس في وحدتها كل القوى. ومقتضى ما ذكره(ره) أنها تعد أحد مصادر علوم المعصومين(ع) الغيبية، كما لا يخفى.
وللعلامة الشعراني(ره) في حاشية الكتاب المذكور كلام جميل جداً يزيد بياناً لحقيقة الروح، قال(ره): لم يعهد من علماء سائر فرق المسلمين في عصر الأئمة(ع) البحث عن القوى النفسانية التي يتفاضل الناس فيها فضلاً عن القوة القدسية وروح الولاية المختصة بأولياء الله تعالى، وكان علماء العامة يظنون أفراد الإنسان سواء النبي(ص) والأوصياء وسائر الناس في طبقة واحدة لا يعلمون شيئاً إلا بالسماع والنقل والحفظ والقراءة في الكتب، ولم يكونوا يتعقلون إفاضة روح ومبدأ قوة من الله تعالى على أوليائه، بها يعرفون ما يجب من غير سماع تفاصيل الأمور واحداً بعد واحد كما تعقله الحكماء وبينوه في كتبهم في علم النفس-إلى أن قال-وللعاقل المنصف أن يجعل نفس هذه الأحاديث دليلاً على إمامة الأئمة(ع) وكونهم مؤيدين بروح القدس الذي ذكره في هذه الأحاديث، ولولا ذلك كانوا يعتقدون اعتقاد سائر علماء العامة ولم يعرفوا أسرار النفوس ودرجاتها في الفضائل ومراتب نقائها إلى قرب رب العالمين، كما لم يكن يعرف ذلك سائر منتحلي العلم[25].
وأختم الحديث حول بيان حقيقتها بما ذكره السيد المقرم(ره) في المقتل، قال: إن الله عز شأنه أودع في الإمام المنصوب حجة للعباد، ومناراً يهتدي به الضالون قوة قدسية نورية يتمكن بوساطتها من استعلام الكائنات، وما يقع في الوجود من حوادث وملاحم، فيقول الحديث الصحيح: إذا ولد المولود منا رفع له عمود من نور يرى به أعمال العباد وما يحدث في البلدان. والتعبير بذلك إشارة إلى القوة القدسية المفاضة من ساحة الحق سبحانه، ليكتشف بها جميع الحقائق على ما هي عليه، من قول أو علم أو غيرهما من أجزاء الكيان الملكي والملكوتي، وبتلك القوة القدسية يرتفع سدول الجهل واستتار الغفلة، فلا تدع لهم شيئاً إلا وهو حاضر بذاته عند ذواتهم القدسية[26].
روح القدس من مختصات النبي والأئمة:
هذا وقد يعترض على العمل بهذه النصوص وما تضمنته لكونها متعارضة، فقد تضمن بعضها أن روح القدس جعله الله تعالى في جميع الأنبياء، خصوصاً أولي العزم منهم، بينما عندنا ما يفيد حصر ذلك في خوص النبي(ص) والأئمة الأطهار(ع)، فتقع المعارضة حينئذٍ، ولا يوجد ما يوجب الترجيح لأحدهما على الآخر، فيكون ذلك موجباً لإسقاط الجميع، فلاحظ.
ولا يخفى أن اللجوء لرفع اليد عن النصوص بإسقاطها فرع عدم إمكان التوفيق والجمع بينها، وهذا يعني أنه مع إمكانية الجمع العرفي فإن ذلك يمنع من سقوطها، وقد جمع العلامة المجلسي غواص بحار الأنوار(ره) بينها، وذكر وجهين:
الأول: الالتـزام بأن روح القدس مشترك بين جميع الأنبياء والأوصياء، إلا أن الروح الذي ورد ذكره في الآية محل البحث، وعبر عنه بأنه من أمر ربي، من المختصات، وعليه فتكون النصوص الدالة على وجوده مع جميع الأنبياء ناظرة للأول، وما دل على اختصاصه ناظر للثاني، فلاحظ.
الثاني: الالتـزام بأن روح القدس مفهوم كلي تحته مصاديق، وكل مصداق منه يختلف عن المصداق الآخر، فما يكون في أولي العزم يختلف عما يكون في النبي والأئمة(ع)، ذلك لأن ما كان في نوح(ع) مثلاً، وهكذا، ويساعد على هذا ما تضمنته النصوص من أن روح القدس يكون مع الإمام من حين ولادته، مع أن المفروض أنه مع النبي(ص) أو الإمام الذي قبله، فتدبر[27].
ولا يذهب عليك أن مقتضى كلام العلامة المجلسي(ره) ليس مجرد تعدد المصاديق دون أن يكون بينها تفاوتاً، بل لابد وأن يلتـزم بأن هذه الأفراد متفاوتة في ما بينها وفقاً لما يتفاوت في الأنبياء من حيث المراتب والفضل، فلاحظ.
وظيفة روح القدس:
قد عرفت أن الله سبحانه وتعالى قد زود أوليائه وأنبيائه بروح القدس، فما هو الدور أو الوظيفة المناطة بهذه الروح؟
لقد تضمنت النصوص بيان الوظيفة المناط بهذه الروح، ذلك أن المستفاد منها أن العلم اللدني الذي يمتلكه أهل البيت(ع) يتحقق بواسطة روح القدس، فعن أبي حمزة الثمالي قال: سألت أبا عبد الله الصادق(ع) عن العلم أهو علم يتعلمه العالم من أفواه الرجال، أم في الكتاب عندكم تقرؤنه فتعلمون منه؟
قال: الأمر أعظم من ذلك وأوجب، أما سمعت قول الله عز وجل:- (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب لا الإيمان)[28]. ثم قال: أي شيء يقول أصحابكم في هذه الآية؟ أيقرون أنه كان في حال ما يدري ما الكتاب ولا الإيمان؟ فقلت: لا أدري-جعلت فداك-ما يقولون.
فقال لي: بلى قد كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان، حتى بعث الله تعالى الروح التي ذكر في الكتاب فلما أوحاها إليه علم بها العلم والفهم، وهي الروح التي يعطيها الله تعالى من شاء، فإذا أعطاها عبداً علمه الفهم[29].
[1] سورة الإسراء الآية رقم 85.
[2] سورة الحجر الآية رقم 29.
[3] سورة مريم الآية رقم 17.
[4] سورة النحل الآية رقم 2.
[5] سورة الشورى الآية رقم 52.
[6] الميزان في تفسير القرآن ج 13 ص 195.
[7] سورة البقرة الآية رقم 97.
[8] سورة البقرة الآية رقم 98.
[9] سورة الشعراء الآية رقم 193.
[10] البرهان في تفسير القرآن ج 4 ص 617 تفسير سورة الإسراء الآية رقم 85 ح 1.
[11] المصدر السابق ح 2.
[12] المصدر السابق ح 3.
[13] المصدر السابق ح 4.
[14] المصدر السابق ح 5.
[15] المصدر السابق ح 6.
[16] المصدر السابق ح 7.
[17] المصدر السابق ح 8.
[18] المصدر السابق ح 9.
[19] المصدر السابق ح 12.
[20] سورة الإسراء الآية رقم 85.
[21] أشير لهذا المعنى في كلام الملا صالح المازندراني في شرح أصول الكافي ج 6 ص 65، فلاحظ. وقد ذكروا في موجب تسمية المجردات بعالم الأمر، مع أن الجسمانيات أيضاً تكون بأمر الله تعالى أن المجردات ليس ما فيها لسبب ظاهر يعد له، فتكون سبتها لله تعالى محضاً، وأما الجسمانيات فإنها تكون بعد استعداد المواد بأسباب معدة في الظاهر علل وجودها.
[22] أصول الكافي ج 1 كتاب الحجة باب الروح التي يسدد الله بها الأئمة ح 6.
[23] شرح أصول الكافي ج 6 ص 66.
[24] شرح أصول الكافي ج 6 ص 62.
[25] المصدر السابق الحاشية ص 68.
[26] مقتل الحسين ص 45-46.
[27] مرآة العقول ج 3 ص 172-173.
[28] سورة الشورى الآية رقم 52.
[29] أصول الكافي ج 1 كتاب الحجة باب الروح التي يسدد الله بها الأئمة ح 5.