المرجع بين التقليد والتبعيض
خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان ووجه إليه مجموعة من التكاليف علم بعضها بنحو اليقين والضرورة، وبعضها لم يعلمه، فأحتاج أن يبحث عنها رغبة في إفراغ ذمته مما هي مشغولة به، ولذا وجدت له طرق ثلاثة يمكنها أن يحصل الفراغ من أحدها، فإما أن يجتهد باستنباط الأحكام الشرعية من مصادرها المقررة لها شرعاً، أو يكون محتاطاً بين أقوال الفقهاء ملتـزماً بأحوط الأقوال منها، رغبة في إحراز الواقع المجهول، وإلا تعين عليه التقليد، وذلك بأن ينتخب واحداً من الفقهاء، فيعمل وفق رأيه، وفتواه.
مرجع التقليد:
ومن المعلوم أنه لا ينتخب شخص من الأشخاص مرجعاً للتقليد إلا بعد توفره على شروط معلومة، على رأسها الاجتهاد، فما لم يثبت كونه مجتهداً لن يصح تقليده وإن توفرت فيه الشروط الأخر.
ومع أن الاجتهاد من الموضوعات، إلا أنه لا يمكن الرجوع فيه للعرف، لأنه من الموضوعات المستنبطة، شأنه شأن كثير من الموضوعات كالغناء مثلاً. على أنه لو منع كونه موضوعاً مستنبطاً، وأنه من الموضوعات العرفية، شأنه شأن بقية الموضوعات التي لم يعمد الشارع المقدس إلى تحديدها، فيرجع فيها إلى العرف، إلا أنه لن يوكل أمره إلى مطلق العرف، بل سوف يكون مختصاً بفئة معينة من أفراده، يمكنها معرفته، ومعرفة من توفر عنده.
طرق معرفة الاجتهاد:
وعلى أي حال، فقد ذكر صاحب العروة(ره)، ووافقه على ذلك المعلقون عليها، بأن طريق إثباته يكون من خلال أمور
الأول: العلم الوجداني:
وينحصر هذا الطريق في خصوص أهل الفضل، والاختصاص، ويمكن تحصيل ذلك من خلال وسائل:
احداها: أن يقوم المكلف نفسه بعملية امتحان الشخص ليعلم أنه قد وصل إلى المرتبة المطلوبة.
ثانيتها: أن يقوم المكلف بمعاشرة الشخص مدة من الزمن، ويتداول معه البحث والحوار وفي مناسبات مختلفة حتى يتوصل إلى كونه مجتهداً.
ثالثـتها: أن يقوم بمراجعة كتبه الفقهية والنظر في آرائه واستدلالاته في موارد مختلفة ليتأكد من وصوله إلى الملكة.
الثاني: العلم التعبدي:
ويكون من خلال البينة الشرعية، بأن يشهد شاهدان عادلان عارفان بكونه مجتهداً ببلوغه ذلك. ويعتبر في الشاهدين أن يكونا من أهل الخبرة، بأن يكونا محيطين بالأمر عن إطلاع ومعرفة ودراية. والسر في اعتبار شرط الخبروية في البينة، يعود لكون الاجتهاد من الموضوعات الخفية التي يتوقف العلم بها على معرفة حقيقته ومظاهره، ولا يمكن إدراكه بالحواس، ولا بمجرد النظرة الأولية، كبقية الموضوعات العادية، بل هو يحتاج تمعناً وتحرياً واختباراً. ويدل على هذا الاعتبار سيرة العقلاء المتصلة بعصر المعصوم(ع)، ولم يرد ردع منه عنها. كما يعتبر في البينة أن يكون إخبارها ناجماً عن حس، وليس عن حدس.
ويعتبر في حجية البينة عدم معارضتها بشهادة أخرى تنفي الاجتهاد عنه، وقد وقع الخلاف في مثل هكذا مورد، فأختار بعضهم الترجيح لإحدى البينتين على الأخرى بالكثرة العددية، وقال آخرون بالتساقط.
خبر العدل أو الثقة:
ولا يكفي في ثبوت الاجتهاد شهادة العدل الواحد، فضلاً عن الثقة، ولذا لو قدم الشخص شهادة من أحد المجتهدين بكونه مجتهداً لم يكفه ذلك لثبوت كونه مجتهداً، لأن الشهادة المذكورة صادرة عن عدل واحد، ولا يكفي ذلك في ثبوت الموضوع وتحققه.
الثالث: الشياع المفيد للعلم[1]:
بحيث يصبح الشخص معروفاً عند مختلف الأوساط الاجتماعية على اختلاف طبقاتهم من الخبراء وغيرهم بأنه قد بلغ رتبة الاجتهاد.
ولا يخفى أن في جعله قسيماً للعلم من قبل صاحب العروة(ره) مسامحة واضحة، لأنه مع تقيـيد حجيته بإفادته للعلم، يوجب رجوعه إليه، فلا معنى لجعله قسيماً. نعم لو بني على حجية الشياع مطلقاً، أو بقيد إفادته الوثوق، كما عن المقدس السيد أحمد الخونساري(ره)، أمكن عده قسيماً للعلم في الأمر الأول.
وقد يتوهم أنه لا ثمرة للتقيـيد بكون الشياع مفيداً للعلم من عدمه، وهو مردود، إذ تظهر الثمرة حال المعارضة بين الشياع المفيد للعلم، والبينة، فلا ريب في تقديم الشياع حينئذٍ.
ثم إنه مع التسليم بكون الشياع طريقاً من الطرق التي يثبت من خلالها الاجتهاد، وقد عرفت حقيقته، فقد اختلفوا في أنه هل يعتبر في حجية الشياع أن يكون حاصلاً بين أهل الفن والاختصاص، فلا يكون حجة لو كان حاصلاً بين عامة الناس، كما يظهر من السيد اليزدي(ره) في العروة، وجملة من المعلقين عليها، أو أنه لا يعتبر ذلك، بل يكفي حصوله ولو بين عامة المكلفين، ولو لم يكن بين أهل الاختصاص، كما هو مختار الإمام الخوئي(ره)، وجماعة، وتفصيل ذلك يطلب من البحوث التخصصية، وعللوا ذلك بأن المدار على حصول العلم، ولا يعتبر فيه أن يكون من مصدر معين، أو بكيفية خاصة، فمتى حصل سواء عن طريق الخبير، أم غيره، كفى ذلك لترتيب الأثر.
وقد ذكر في بعض الكلمات، أن من الطرق الموجبة لثبوت الاجتهاد دعوى الشخص نفسه اجتهاده، ومن الواضح، أنه لو بني عليه لزم أن لا يفيد ذلك العلم العادي أعني الوثوق والاطمئنان[2]. وتمسك القائل بكفاية ذلك بالسيرة القائمة بين العديد من أتقياء الفقهاء ومنذ قديم الأيام على دعوة الناس من أهاليهم وأصحابهم إلى تقليدهم، وهم يشترطون في مرجع التقليد الاجتهاد المطلق، بل الأعلمية، ولولا أنهم يرون كفاية ادعاء الشخص الاجتهاد لثبوت الموضوع لما صح ذلك منهم، وإلا لزم إغراء الجاهل، وهو منافٍ للعدالة والتقوى المحرزة فيهم بلا ريب.
مبادئ الاجتهاد:
لابد من تحصيل مقدمات قبل العمل بالرأي، فضلاً عن الإفتاء للآخرين نتيجة استنباط الحكم الشرعي من مداركه المقررة، وتلك المقدمات هي:
الأولى: معرفة القواعد العربية:
التي هي مفتاح فهم مقاصد الكتاب والسنة، واللازم منها علم النحو والصرف واللغة في الجملة. وأما علم البلاغة بأقسامه الثلاثة، فيـبدو أن أهمها هو علم البيان، ولا يحتاج إليه في الفقه إلا في بعض المسائل كالحقيقة والمجاز، والكناية والاستعارة.
والأولان، منقحان في الأصول، والثانيان يـبدو أنهما من الأمور الواضحة لدى أهل الذوق السليم المستقيم.
الثانية: معرفة علم المنطق:
بمقدار تشخيص الأقيسة وتنظيم الأشكال من الاقترانيات، وغيرها، وتميـيز عقيمها من غيرها، ومعرفة البرهان وأثره.
نعم ذكر بعض الأعاظم(ره) أن الفقيه لا يحتاج إلى علم المنطق، وذلك لأن الوارد في مقام الاستدلال هو القياس المنطقي من الشكل الأول، وهو بديهي، يعرفه كل أحد.
الثالثة: الوقوف على المسائل الأصولية:
لدوران رحى الاستنباط عليها، ولا يخفى مقدار الحاجة إليها، بل هي بديهية وواضحة، خصوصاً ما هو دخيل في فهم الأحكام الشرعية منها.
الرابعة: علم الرجال:
وتميـيز الرواة بين ثقات وضعاف بمقدار ما يحتاج إليه في تشخيص الروايات، وينبغي معرفة الراوي والمروي عنه، والتلاميذ والمشائخ، لتميـيز السند المقطوع من المتصل، والمرسل من المسند.
وتتجلى أهمية علم الرجال على القول بمسلك الوثاقة، وأن عمل المشهور غير جابر، ولا كاسر، وتكون الحاجة إليه أساسية، فلابد للمجتهد حينها من استعلام حال الراوي في كل خبر يفتي به من حيث الوثاقة والضعف.
وكذا أيضاً على القول بمسلك الوثوق النوعي، ضرورة أن أحد الأمور الموجبة لتحصيله هي وثاقة الراوي.
الخامسة: الأنس بالمحاورات العرفية:
وفهم موضوعاتها، وهو ما جرت محاورات الكتاب الشريف والسنة المباركة عليه، مع الاحتراز من الخلط بين العرفيات، وبين الدقيات العقلية.
السادسة: معرفة الكتاب والسنة:
لأن رحى الاستنباط تدور عليهما، وبالأخص الكتاب الكريم، حيث قلت عناية الفقهاء به في الإمعان في آياته واستخراج نكاتها، فعلى المجتهد أن يتمعن في الآية الشريفة، ثم ملاحظة الروايات الواردة حولها.
ويكفي في معرفة الكتاب، الإلمام بآيات الأحكام-على خلاف في عددها-كما عليه الأنس بالأخبار الصادرة عن أهل البيت(ع)، فإنها رحى العلم، ويدور عليها الاجتهاد.
السابعة: معرفة المذاهب الرائجة:
في عصر الأئمة(ع) لتميـيز ما صدر تقية عن غيره، ومن أحسن الكتب التي تنفع في هذا المجال كتاب الخلاف، لشيخ الطائفة(ره).
الثامنة: الفحص الكامل عن كلمات القوم:
وبالأخص القدماء لدراسة سير المسألة، وتاريخها، ومعرفة أنها من المسائل الأصلية، أم أنها من المسائل المستنبطة، ومعرفة الإجماع والشهرة.
التاسعة: معرفة القواعد الفقهية:
من خلال الإحاطة بمداركها، وموارد تطبيقها.
العاشرة: ممارسة الفروع الفقهية:
بتكرير الفروع على الأصول حتى تحصل له قوة الاستنباط، وتكمل فيه، لكون الاجتهاد من الأمور العملية، وللعمل دخالة تامة فيه.
الحادي عشر: بذل الوسع واستفراغ الجهد:
في الفحص عن الدليل اللفظي في جميع مظانه، بل ما يحتمل حصوله فيه، قبل القيام بإجراء الأصل العملي.
وفي الختام، نشير إلى أن بعضهم ذكر أنه لا ينبغي للفقيه الإكثار من مخالفة المشهور، إذ لعله الأقرب إلى الواقع، بل لا ينبغي ترك الاحتياط حين المخالفة، تورعاً من الوقوع في الخطأ[3].
تعدد الفقهاء والمجتهدين:
ومع تعدد الفقهاء المستجمعين لشرائط الفتوى والتقليد، وقع الخلاف بين الأعلام على أقوال:
الأول: وهو منسوب إلى المشهور من أعلامنا، من وجوب تقليد الأعلم مطلقاً، سواء علم المكلف بوجود اختلاف في الفتاوى بينه وبين المجتهدين الآخرين أم لم يعلم.
وبناءاً على هذا القول لابد من إحراز الأعلم، بحيث لو لم يكن متميزاً، وجب على المكلف أن القيام بعملية الفحص عنه.
ومن الواضح أن الأعلمية وفقاً لهذا القول سوف تكون شرطاً تعبدياً، فيجب مراعاته مطلقاً.
الثاني: التخيـير بين تقليد الأعلم وغيره مطلقاً، سواء أكانا متفقين في الفتوى، أم كانا مختلفين فيها، وهذا يعني أنه يجوز تقليد المفضول حتى مع وجود الفاضل والعلم بوجود الخلاف بينهما.
وقد نسب هذا القول إلى جماعة ممن تأخر عن الشهيد الثاني(قده). وقد شيد هذا القول فيما بعد الشيخ صاحب الفصول(قده)، وأقام عليه الأدلة.
ولا يخفى أن هذين القولين مطلقان من حيث الالتـزام، ضرورة أن الأول منهما مطلق من حيث لزوم تقليد الأعلم، كما أن الثاني منهما مطلق من حيث عدم لزوم تقليده.
الثالث: التفصيل بين كون الأعلم معروفاً مميزاً، ويعلم بالاختلاف بينه وبين غيره، وبين كونه مجهولاً، فيجب تقليد الأعلم في صورة تميزه ومعرفته، أما في حالة الجهل به فيتخير في تقليد من شاء من الفقهاء.
الرابع: التفصيل بين صورة العلم بوجود اختلاف في الفتوى بين الفقهاء، وبين صورة عدم العلم بذلك، فيجب الفحص عن الأعلم وتقليده في الصورة الأولى، أما في الصورة الثانية، فيتخير في تقليد أيهما شاء.
ولا يخفى أنه يمكن إرجاع الأقوال السابقة إلى قولين أساسين، وهما:
1-وجوب تقليد الفاضل.
2-جواز تقليد المفضول.
ولا ريب في حكم العقل عند العامي مع غض النظر عن رأي العلماء بلزوم تقليد الفاضل دون المفضول، والوجه في ذلك هو أن قول الفاضل متيقن الحجية، بخلاف قول المفضول فإنه مشكوكها، والشك في الحجية يساوق القطع بعدمها، وهو الموافق لقاعدة الاحتياط[4].
ولما كان الموجود في كلمات الفقهاء المعاصرين، هو القول الرابع، لذا سوف نقصر البحث عنه، فنقول:
إن الفتاوى الصادرة من الفقهاء لا تخرج عن صورتين:
الأولى: أن يتفقوا جميعاً في الفتوى، فلا يوجد بينهم اختلاف فيها، فكلهم قائلون بأن مقدار المسافة التي توجب قصر الصلاة هو أربعة وأربعون كلم، وأن الارتماس في نهار الصوم ليس من المفطرات. وفي هذه الحالة لا يكون المكلف ملزماً باختيار مرجع منهم بعينه، بل هو مخير بينهم جميعاً فيمكنهم تقليد من شاء.
الثانية: أن يكونوا مختلفين فيها، فأحدهما يفتي بطهارة الكتابي، والأخر يفتي بنجاسته، وهنا لا مناص من تقليد أعلمهم، فلا يجوز تقليد غيره، لأن سيرة العقلاء منعقدة على الرجوع للأعلم حال الخلاف، وهذا نظير ما لو احتاج الإنسان مراجعة طبيب لإجراء عملية ما، ووجد طبيبان أحدهما يفوق الآخر من حيث المستوى العلمي، واختلفا في تشخيص الحالة، وراجع المريض الأقل منهما مستوى، فإنه يكون عرضة لملامة العقلاء ونقدهم لعدم أخذه بقول الأكثر علماً ومعرفة، وهذا يشير إلى أنه في مورد الاختلاف يكون المرجع هو الأعلم والأعرف بالأمر.
أدلة تقليد الأعلم:
وقد استدل القائلون باشتراط تقليد الأعلم بأمور:
الأول: الإجماع، فقد نقله الشريف المرتضى(ره) في كتابه الذريعة، والمحقق الثاني، والشهيد الثاني، وأيده المقدس الأردبيلي، واعتمد عليه الشيخ الأعظم(ره) في رسالته في التقليد، وجعله هو الحجة في إثبات ذلك.
لكن يوجد أمام هذا الإجماع مشكلتان:
الأولى: أن المسألة خلافية، كما اعترف بذلك الشيخ الأعظم(ره) نفسه بذلك، وعبر عن القول باشتراط تقليد الأعلم بأنه الأشهر.
الثانية: أنه من الإجماعات المدركية لو سلم انعقاده، وقد تقرر في محله المنع من الاستناد إليها.
الثاني: النصوص، وهي مجموعة روايات:
منها: مقبولة عمر بن حنظلة المروية عن أبي عبد الله الصادق(ع)، والتي جاء فيها: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث[5].
وقد ذكرت عدة تقريـبات لدلالتها على اشتراط الأعلمية في مرجع التقليد:
منها: ما ذكره الشيخ الأعظم(ره) أيضاً، وقواه المحقق الرشتي(قده)، واختاره بعض أساطين العصر من المحققين (دامت أيام بركاته) كما حكي ذلك عنه، وحاصله:
أن المراد من الحكم في الرواية هو الفتوى، بمعنى الإخبار عن حكم كلي بنحو القضية الحقيقية، وليس المراد منه الحكم الاصطلاحي، وهو الإنشاء لفصل الخصومة.
وبعبارة أخرى: إن السؤال الوارد في المقبولة منصب على الشبهات الحكمية، وهي لا تتلائم مع الحكم الاصطلاحي، ويدل على ذلك اختلاف الحكمين لأجل اختلاف أحاديثهم(ع) في حكم المسألة، ولهذا أرشد(ع) السائل إلى ترجيح أحد الحكمين على الآخر بالأفقهية والأصدقية، ثم الترجيح بمرجحات الخبرين المتعارضين.
وبعبارة ثالثة: يمكن تقسيم المقبولة إلى ثلاثة مقاطع، يدل:
الأول: على القضاء وفصل الخصومة.
والثاني: على باب الاجتهاد والتقليد لتعيـين تقليد الأعلم.
والثالث: على الترجيح بين الخبرين المتعارضين.
فيكون السؤال فيها منصباً على الشبهة الموضوعية بداية، إلا أنه لما وصلت النوبة إلى اختلاف الحاكمين الحاصل من اختلاف الخبرين، وهي شبهة حكمية، رجح الإمام(ع) بالأفقهية.
وقد أورد على البيان الثالث من هذا التقريب بعض الأعاظم(قده) وتبعه على ذلك بعض الأعلام (حفظه الله) وشيخنا الأستاذ (دام ظله) بأن الرواية ليست متعرضة لأمور ثلاثة، بل هي ناظرة لخصوص أمرين فقط، وهما القضاء والحكومة، فهي واردة فيهما دون الأمر الثالث وهو اختلاف المفتيـين، ويشهد لذلك التعبيرات التي وردت فيها.
والإنصاف أن الإيراد المذكور غير وارد، ضرورة أن المدعى أن الرواية مطلقاً واردة في مسألة اختلاف الفقيهين في الفتوى، ولا أقل من كون مورد الترجيح بالأعلمية هو مورد اختلاف الفقيهين.
وعمدة الإشكال المتصور على تقريب دلالة المقبولة على المدعى هو: أنه قد اتضح من خلال تقريب دلالتها ابتناء ذلك على أن تكون الشبهة الواردة فيها شبهة حكمية، فلو كانت الشبهة شبهة موضوعية لن تكون دالة على المدعى، وهذا يستوجب أن يكون ظهور المقبولة في المدعى من الوضوح بمكان، فما لم يكن كذلك، لن يصح الاستناد إليها في مقام الاستدلال، ذلك لأن احتمال إرادة الشبهة الموضوعية يبقى وارداً، خصوصاً وأن الفرض أن لا معين لظهور المقبولة في الشبهة الحكمية.
والذي يظهر من المقبولة أنها ظاهرة في الأعم من الشبهة الحكمية والموضوعية، بل لا يبعد أن يقال بأنها مجرد فرض ذهني، لا وجود له في الخارج، وهو ما يطلق عليه بالفقه الفرضي.
والإنصاف أن تقريب الاستدلال بها وإن كان قوياً جداً، لكن كثرة الإيرادات عليها موجبة للريب، وبالتالي يكون للتوقف في الاعتماد عليها مجال.
ومنها: معتبرة داود بن الحصين عن أبي عبد الله(ع) في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف، فرضيا بالعدلين، فاختلف العدلان بينهما عن قول أيهما يمضي الحكم؟ قال: إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر[6].
ولا يخفى صراحتها في تقديم قول الأفقه حين الاختلاف والمعارضة.
ويجري في هذه المعتبرة عين ما تقدم في المقبولة من حيث تقريب الدلالة، ومن حيث الإيراد، فلا حاجة للإعادة.
ومنها: خبر موسى بن أكيل عن أبي عبد الله(ع) قال: سئل عن رجل يكون بينه وبين أخ منازعة في حق فيتفقان على رجلين يكونان بينهما فحكما فاختلفا فيما حكما، قال: وكيف يختلفان؟ قلت: حكم كل واحد للذي اختاره الخصمان، فقال: ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله فيمضي حكمه[7].
وهي ضعيفة سنداً بوقوع ذبيان بن حكيم فإنه لم يوثق، كما أنه يجري في دلالتها ما تقدم ذكره في دلالة ما سبقه.
ومنها: ما جاء في الوسائل عن النبي(ص)، قال: من أمّ قوماً وفيهم من هو أعلم منه لم يزل أمرهم إلى السفال يوم القيامة[8].
ودلالتها على المدعى على أساس أن المقصود من الإمامة ليست إمامة الصلاة، وإنما المقصود منها الإمامة بمعنى القيادة الدينية التي تعني المرجعية، وهذا يفيد اعتبار تقليد الأعلم وتقديمه على غيره.
ويلاحظ على الاستدلال بها، أولاً: أنها ضعيفة سنداً بالإرسال.
ثانياً: أن الاستدلال بها يعتمد على أن المقصود من الإمامة القيادة الدينية التي تعني المرجعية، لكن لو قلنا بأن المقصود من الإمامة في الخبر المذكور الإمامة العظمى، بمعنى الخلافة الإلهية، فلا ريب في كونها أجنبية عن المقام. والظاهر أن المقصود هو المعنى الثاني دون الأول، إذ لم يكن عصر رسول الله(ص) عصر فقه كما هو واضح.
ومنها: ما جاء في البحار نقلاً عن عيون المعجزات أن الإمام الجواد(ع) خاطب عمه: يا عم إنه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك لم تفتِ عبادي بما لم تعلم، وفي الأمة من هو أعلم منك[9].
ودلالتها على المدعى واضحة، ضرورة أنها واردة مورد الفتوى، وأن المفتي لا يحق له الإفتاء لو كان بين ظهراني الأمة من هو أعلم منه. كما أنها من حيث الدلالة على اعتبار ذلك في المفتي مطلقة من دون لحاظ مخالفة فتواه للمفضول من عدمها.
وقد سلم دلالتها على اعتبار الأعلمية مطلقاً في المفتي، بعض الأعاظم(قده)[10]، ومثل ذلك حكي عن الفقيه العلامة الشيخ حسين الحلي(ره)، حيث ذكر دلالة الحديث على عدم جواز الإفتاء من شخص مع وجود من هو أعلم منه، لعمل الناس بفتواه، فيدل على عدم حجية فتوى غير الأعلم في حقهم[11].
نعم قد ذكر هذه الرواية المفيد(ره)في كتابه الاختصاص، ولم ينقل الذيل الذي هو محل الشاهد، مما يعني أن في البين اختلافاً بين النسخ، وهذا يمنع من الوثوق بالخبر فلا يمكن الاعتماد عليه، خصوصاً وأنه لا موجب لترجيح إحدى النسختين على الأخرى.
ومع رفع اليد عما ذكرنا، يمكن الخدشة في دلالتها، بأن يقال: الظاهر أنها مختصة بموردها، لما فيها من إيهام للناس بأن المنصب متعين في عبد الله، وهو الأولى به، مما يكون تغريراً للناس عن طريق الحق، فتأمل. هذا كله، مع الغض عن ضعفها السندي، كما هو واضح.
الثالث: سيرة العقلاء:
فقد جرت سيرتهم منذ القدم على الرجوع للأخبر والأعلم في كل فن عند الاختلاف بينه وبين العالم والخبير، فنراهم يقدمون قوله على غيره، ويرون أفضليته عليه وأولوية العمل به دون من سواه.
والإنصاف أن هذا هو عمدة ما يمكن أن يستدل به على لزوم تقليد الأعلم حين الاختلاف[12].
استثناء في تقليد الأعلم:
ويستثنى من وجوب تقليد الأعلم في مورد الاختلاف الاستناد إلى فتوى الأعلم في عدم وجوب تقليد الأعلم، بحيث لو أفتى الأعلم أنه لا يجب تقليد الأعلم، بل يجوز تقليد غير الأعلم، جاز تقليده في هذه المسألة، ومن ثمّ العمل بفتاوى غير الأعلم عندها.
ولا يجوز الاستناد في تقليد غير الأعلم إلى فتوى غير الأعلم في عدم وجوب تقليد الأعلم، لأنه من الدور كما لا يخفى[13].
معيار الأعلمية:
وعند الرجوع لكلمات الأعلام، نجد تعاريف متعددة للأعلم، ما يوحي بوجود اختلاف بينهم فيه، مع أن الصحيح خلاف ذلك، فإنهم لا يختلفون في بيان الحقيقة، وإنما الاختلاف بينهم في كيفية إبرازها.
وقبل بيان معناه ينبغي الالتفات إلى عمدة ما يلاحظ فيه الأعلمية وهي ثلاثة أمور:
الأول: تحصيل أصالة الصدور:
فلابد من التمكن لإثبات حجية الدليل صدوراً، وهنا تبرز أهمية علم الحديث، فينبغي معرفة شؤونه واصطلاحاته، بل معرفة نسخ الكتاب ومصادر الكتب، وصحة نسبتها إلى مؤلفيها، ومدى إتقان المؤلف ودقته وضبطه وتحرزه في النقل وعدمه، وكون المصدر مشهوراً أو خلافه.
ويرتب على هذا أمران:
1-تميـيز النصوص الموضوعة والمدسوسة من الصادرة من عين صافية.
2-تميـيز متن الخبر من كلام الراوي أو المصنف.
وكذلك تبرز أهمية علم الرجال لمعرفة الراوي المشترك من غيره، ومعرفة الثقة من الضعيف، كما ينبغي معرفة طبقات الرواة لما لذلك الأثر الكبير في استكشاف صحة السند باتصال رواته من عدمه بوجود إرسال أو سقط فيه، كما يترتب على ذلك معرفة رواية هذا الراوي عن ذاك المروي عنه من عدمها، وهكذا.
الثاني: انعقاد أصالة الظهور للنص:
بما يتطابق والقوانين والمحاورات العرفية من خلال الأنس بطريقتهم(ع)، ومعرفة مداخل كلامهم ومخارجه. وكذلك معرفة أقوال من عاصرهم من فقهاء العامة، ومعرفة فتواهم وأدلتهم لما لذلك من تميـيز أن هذا الظهور منعقد للفظ على نحو الإرادة الجدية، أو كان المورد تقية أو ما شابه ذلك.
كما ينبغي معرفة العلوم الأدبية من كناية واستعارة وتطبيقها في موارد الاستعمال العرفي.
الثالث: تطبيق الأمرين السابقين:
بصورة واسعة من خلال تفريع الفروع وردها للأصول وبيان مواردها.
إذا عرفت هذا، فنقول:
تعريف الأعلم:
اشتملت كلمات الأعلام على ذكر مجموعة من التعريفات للأعلم:
منها: ما ذكره الشيخ الأعظم(ره)، من أن الأعلم هو الأقوى ملكة وليس الأزيد معلومات[14].
ومنها: ما جاء في مفاتيح الأصول، من أن الأعلم هو الأكثر علماً والأوسع إحاطة بالمعلومات[15].
ومنها: ما ذكره صاحب العروة(ره)، من أنه الأجود استنباطاً، وهذا يكون من خلال أعرفيته بالقواعد والمدارك ذات الارتباط بالمسألة، كما يكون من خلال اطلاعه على نظائرها والأخبار المرتبطة بها.
ومنها: أنه الأعرف في تحصيل الوظيفة الفعلية عقلية كانت أم شرعية، والأعرف في أخذ كل فرع من أصله[16].
ومنها: الأعلم هو الأعرف بتطبيق الكبريات على صغرياتها، وأدق في الاستنباط للأحكام، وأكثر إحاطة بالجهات الموجبة لجودته[17].
وسوف نركز على تعريف السيد اليزدي(ره) لأنه موضع قبول عند كثير من الأعلام، وقد تضمن
تعريفه(ره) عدة أمور:
1-أن يكون أعرف بالقواعد والمدارك لكل مسألة مسألة، سواء أكان ذلك دليلاً اجتهادياً أم كان ذلك دليلاً فقاهتياً.
2-أن يكون أكثر اطلاعاً على النظائر وأكثر اطلاعاً على الأخبار.
وذلك لما للنظائر من مدخلية في فهم الحكم والاستنباط، لأن العلم بكثرة النظائر توجب العلم بأن هذا الفرع يندرج تحت أي واحدة من الكبريات بحيث يكون صغرى لها، ولنوضح ذلك بمثال:
إن الحقوق على أقسام، فهناك حق التحجير، وهناك حق الرهن، وهناك حق الدائن، وهناك حق الزوجة، وغيرها، فمتى عرف الفقيه نظائر مختلفة لهذه الحقوق أمكنه عندها أن يميز حق الزكاة أو الخمس من أي واحد من هذه الحقوق، وهكذا.
كما أن أكثرية الاطلاع على الأخبار، بلحاظ أنها يستفاد منها في مسألة مع أنها واردة في مسألة أخرى، مثلاً أن تكون الرواية واردة في باب الديات، فيستفاد منها في باب الصلاة أو الأمور العبادية الأخرى.
3-أن يكون أجود فهماً للأخبار.
وعاد ولخص المراد من الأعلم، نتيجة توفر هذه الأمور عنده، فقال: أنه الأجود في عملية الاستنباط.
وعرفه غيره بغير ذلك.
وعلى أي حال، فإن إطلاق الأعلمية يتضمن احتمالات:
الأول: أن يكون بلحاظ كثرة المعلومات، فمن يكون صاحب معلومات أكثر فهو الأعلم.
الثاني: أن يكون بلحاظ كثرة إصابته للواقع.
الثالث: أن يكون بلحاظ قوة دليله، فمن يكون أقوى دليلاً على دعواه، فهو الأعلم.
والفارق بين الثلاثة، يظهر في مسألة جواز التبعيض في كل مسألة مسألة، إذ أنه على وفق الثالث، يمكن التبعيض، لكنه لا يمكن ذلك على الأولـين، والوجه في ذلك: إن الأعلمية في الأولـين تكون أمراً قائماً بمجموع المسائل، بخلافه على الثالث، فيقوم بآحادها، فتقوم بكل مسألة مسألة.
وعلى أي حال، فإن إرادة المعنى الأول للأعلمية في غير محلها، لأن سيرة العقلاء قائمة على ملاحظة الأقربية للواقع في المسائل التي يرجع فيها، وكثرة المعلومات لا دخل لها في ذلك.
كما أن المعنى الثاني أيضاً، غير مراد، لأنه لا يتيسر تشخيص الأعلمية لمن يتولى تشخيصها من أهل الخبرة.
فيتعين الاحتمال الثالث، وهو أعرفية الشخص ومتانة أدلته، وجودة سليقته، وحسن فهمه للأخبار، مما له مدخلية في ذلك بنظر أهل الخبرة.
بل لا يـبعد أن المرتكز العرفي قائم على ما ذكرناه فيها، لذا نرى أن أهل الخبرة يرجعون للأعلم قبل أن يعرفوا كمية معلوماته، ومقدار إصابته للواقع.
وعلى هذا، فلا يـبعد أن ترجع جميع التعريفات التي ذكرت للأعلم لهذا الذي ذكرناه، والله العلم بحقائق الأمور.
المرجع في تعيـين الأعلم:
بقي أن نشير في ختام الحديث حول اعتبار الأعلمية في مرجع التقليد إلى بيان من هو المرجع في تعيـين الأعلم، وقد ذكر الفقهاء(رض) أن المرجع في تعيـينه، هم أهل الخبرة، قال السيد اليزدي(قده) في العروة: والمرجع في تعيـينه: أهل الخبرة والاستنباط.
ويعني بذلك من تكون لهم قدرة وتميـيز لذلك. نعم هل يعتبر فيهم الاجتهاد، أم لا؟
يـبتني معرفة اشتراط ذلك من عدمه على تفسير العبارة المذكورة في كلام السيد اليزدي(قده)، فيوجد احتمالان فيها:
الأول: أن تكون كلمة(والاستنباط) عطفاً تفسيرياً على كلمة أهل الخبرة، فيكون المعنى حينئذٍ أن المراد من أهل الخبرة، هم من كانوا مجتهدين، لا مطلقاً.
الثاني: أن تكون كلمة(والاستنباط) معطوفة على كلمة أهل الخبرة، وتكون الواو للمغايرة، فعندها يكون المعنى أن أهل الخبرة، قد يكونوا من أهل الاستنباط، وقد لا يكونوا كذلك، لكنهم قاربوا الاستنباط، وهم من يعبر عنهم بأهل الفضل.
والظاهر من المحتملين هو الثاني، دون الأول، فيثبت عندها أنه لا يعتبر في أهل الخبرة أن يكون مجتهداً، نعم يعتبر فيه أن يكون من أهل الفضيلة[18].
التبعيض في التقليد:
ثم إنه قد لا يكون إحراز الأعلم من بين الفقهاء ممكناً، لصعوبة تشخيص الأعلم خارجاً لتقارب المستوى العلمي بين الفقهاء، أو لاختلاف أهل الخبرة في التشخيص والتحديد، ما يجعل تحديد ذلك في شخص واحد خارجاً صعباً، ومع كون الفقهاء مختلفين في الفتوى كما هو الفرض، فعندها يتخير المكلف في تقليد من شاء منهم، كما يجوز له التبعيض بينهم في الفتوى.
معنى التبعيض:
للتبعيض مصداقان:
الأول: أن يكون تبعيضاً ابتدائياً، بمعنى أنه لم يسبق للمكلف تقليد أحد المجتهدين المتساويـين، بل هو بصدد تعيـين من يقلد، إما لبلوغه حديثاً، أو لموت مرجعه مثلاً، أو لغير ذلك من الأسباب، وقد ثبت له من خلال أهل الخبرة مساواة من يتعين عليه تقليدهما، فيعمد للتبعيض بينهما، بأن يقلد أحدهما في شيء، ويقلد الآخر في شيء آخر وهكذا.
الثاني: أن يكون تبعيضاً استمرارياً، بمعنى أن يقلد المكلف مجتهداً من المجتهدين، ويعمل برأيه في مسألة ما، ثم يعمد لتقليد المجتهد الآخر في المسألة نفسها بعد ذلك، كما لو قلد في الأسبوع الأول يوم الجمعة ظهراً المجتهد الأول في وجوب صلاة الجمعة ظهراً، وقلد الأسبوع الثاني المجتهد الثاني في وجوب صلاة الظهر، فإن عدوله من المرجع الأول للمرجع الثاني يعدّ تبعيضاً استمرارياً في التقليد.
مشروعية التبعيض:
وقد وقع الخلاف بين الأعلام في مشروعية التبعيض بقسميه الابتدائي والاستمراري بين الفقيهين المتساويـين في الناحية العلمية حال الاختلاف بينهما في الفتوى، على أقوال، ولا بأس قبل ذلك من التمهيد بمقدمتين:
الأولى: امكان المساواة:
وقع الخلاف بين الأعلام في إمكانية وجود المساواة بين الفقهاء خارجاً في المستوى العلمي، على قولين:
الأول: ما أختاره جماعة منهم، كالعلامة والشهيد الأول(ره)، وغيرهما من البناء على عدم إمكان تحقق ذلك خارجاً.
الثاني: ما قاله جملة من الأعلام، وعليه من عاصرناهم من الفقهاء، من الالتـزام بإمكان ذلك.
الثانية: التبعيض ابتدائي واستمراري:
يختلف الأعلام في البناء على مشروعية التبعيض في المصداقين السابقين، لوقوع الخلاف بينهم في أن التبعيض ابتدائي، أو استمراري، توضيح ذلك:
لقد حصر جملة من الأعلام كالشهيد الأول، والشيخ الأعظم الأنصاري(ره)، وجماعة مشروعيته بما إذا كان التخيـير ابتدائياً، وهو ما إذا لم يقم المكلف بعدُ بانتخاب مرجع تقليد، فيكون مخيراً بالعمل بفتوى أي من الفقيهين المتساويـين، ولا يجري ذلك بعد قيامه بتقليد أحدهما، لأنه بتقليده له صار قوله حجة في حقه، فلم يعد جاهلاً، ومن المعلوم أن التقليد وظيفة الجاهل، ومن كانت عنده حجة ليس كذلك. وعليه رتبوا أنه لا يجوز العدول من المجتهد الحي إلى المجتهد الحي المساوي له بعد تقليده للمجتهد الأول.
بينما وسع آخرون من الأعلام دائرته، فلم يقيدوا مشروعية التبعيض بالابتداء، بل بنوا على شموله لحال الاستمرار، فيمكن للمكلف أن يبعض بين الفقيهين حتى بعد انتخابه لأحدهما في التقليد، ومن هنا قالوا بجواز العدول من المجتهد الحي لمثله، حتى بعد تقليده في المسألة التي قلده فيها.
وعليه، سوف يكون التبعيض وفقاً للقول الأول محصوراً في التبعيض الابتدائي، بخلافه على القول الثاني. وهذا يعني أن القائلين بحصر ذلك في خصوص التبعيض الابتدائي، لن يلتـزموا بالتبعيض الاستمراري، بل يجعلونه خاصاً في خصوص الابتدائي منه.
وعلى أي حال، يقع الحديث ضمن مسألتين:
الأولى: التبعيض الاستمراري:
وقع الخلاف بين الأعلام في مشروعية التبعيض الاستمراري، على أقوال:
الأول: ما صرح به غير واحد من الأعلام كصاحب العروة، وجملة من المعلقين عليها، كالإمام الخوئي(ره) تبعاً للشهيد الأول، والشيخ الأعظم الأنصاري، وكاشف الغطاء(ره)، وغيرهم، من البناء على عدم جواز ذلك، فلا يجوز لمن قلد واحداً من المجتهدين المتساويـين، أن يعدل عنه إلى المجتهد الآخر، فلو عمل مثلاً بفتوى المجتهد الأول، كما لو قلده في وجوب صلاة الجمعة، لم يجز له أن يعمل في الأسبوع الذي يليه بعدم وجوبها من خلال تقليده للمرجع الثاني.
الثاني: ما عليه عدة من أعلام الطائفة، كالعلامة، والمحقق الكركي، والشهيد الثاني(ره)، وجملة من معلقي العروة، من الالتـزام بجواز التبعيض بينهما، فيمكنه أن يصلي قصراً في مسافة 43 كلم، عملاً بفتوى المجتهد الأول، ويصلي تماماً في المسافة نفسها مرة أخرى عملاً بفتوى المجتهد الثاني، وهكذا.
الثالث: ما أختاره بعض أساطين العصر من المحققين(دامت أيام بركاته)[19]، من التفصيل، فيبنى على عدم جواز التبعيض بينهما، إذا توفر شرطان:
أحدهما: أن يكون أحدهما أورع من الآخر، بمعنى أن يكون أكثر تبثتاً منه في الفتوى، ومراعاة للاحتياط، وعدم مخالفة المشهور.
ثانيهما: أن لا يكون له علم إجمالي منجز، ولا حجة إجمالية، تمنعه من الأخذ بأحد قوليهما. وتوضيح هذا الشرط أن يقال:
أما بالنسبة للعلم الإجمالي المنجز، كما لو علم المكلف بوجوب صلاة عليه يوم الجمعة ظهراً، وتردد في أنها صلاة الجمعة، أو صلاة الظهر، فهو يعلم إجمالاً بوجوب صلاة عليه، لكنه لا يحرز أنها الظهر أو الجمعة، فلو كان أحد الفقيهين المتساويـين، يفتي بالظهر، والآخر يفتي بالجمعة، لم يجز له التبعيض بينهما، بل لزمه الأخذ بأحوط الأقوال، وهو يقضي بالجمع بين الظهر والجمعة.
وكذا لو كان أحدهما يقرر أن المسافة التي توجب القصر هي 42 كلم، والآخر يقرر أنها 44 كلم، ففي مسافة 43 كلم، لا يمكنه أن يبعض بينهما، بل يلزمه البناء على أحوط القولين، وهو يقضي بالجمع بين القصر والتمام، وهكذا.
وبالجملة، لما كان له علم إجمالي منجز بالتكليف، صار ملزماً بإفراغ ذمته منه، ولا يكون ذلك من خلال التبعيض بين الفقيهين، بل يكون بالعمل بأحوط الأقوال القاضي بالجمع، وهكذا.
وأما الحجة التعبدية، فلو اختلف المجتهدان في شرعية المعاملة الواقعة خارجاً، كما لو كان أحدهما يفتي بعدم صحة البيع المعاطاتي، ويفتي الآخر بصحته، فإن المكلف يعلم إجمالاً إما بعدم صحة تصرفه في ما انتقل إليه من الثمن، لعدم صحة البيع المعاطاتي، أو عدم صحة تصرفه في ما انتقل منه من العين، لوقوع البيع المعاطاتي، وعليه، يكون مطالباً بالعمل بأحوط الأقوال، الذي يقضي باجتناب التصرف في الإثنين، المبيع والثمن.
الثانية: التبعيض الابتدائي:
وهو الذي لم يكن مسبوقاً بتقليد من المكلف لأحد الفقيهين المتساويـين، وقد عرفت ابتناء هذه المسألة على أن التخيـير بينهما ابتدائي، أو استمراري. وقد وقع الخلاف فيها بين الفقهاء أيضاً على أقوال:
الأول: مشروعية التبعيض بينهما، فيجوز للمكلف انتخاب من شاء منهما، فيمكنه أن يقلد الأول، كما يمكنه أن يقلد الثاني على حدٍ سواء.
ولهذا القول صور متعددة، سوف نشير إليها في الخاتمة، وليست جميعها مورد قبول عند القائلين به، ذلك أن بعضهم يلتـزم بعدم مشروعيتها.
والحاصل، يمكن القول، بأن ما يتفق عليه القائلون بمشروعية التبعيض في هذه المسألة في الجملة، وليس بالجملة.
وهذا هو مختار صاحب العروة، وجملة من المعلقين عليها، نعم اشترط صاحب العروة(ره) عدم وجود مرجح لأحدهما على الآخر، ومع وجوده كما لو كان أحدهما أورع، أو أكثر عدالة، تعين تقليده.
ومن الأدلة التي يمكن ذكرها لهذا القول، عدم وجود طريقة مغايرة للشارع المقدس لما عليه العقلاء في العمل والوصول للغايات المطلوبة، ما يعني أنه قد أمضى ما عليه العقلاء في تعاملاتهم، فإنهم لا يفرقون في مقام العمل بين الاعتماد على المختلفين مع تساويهم في الأداء، فيراجعون الأطباء، والمهندسين والحرفيـين، دون تفريق بينهم بعد علمهم بتساويهم، وإن كانت طرق أداءهم للعمل مختلفة.
الثاني: ما ربما يظهر من بعض الأساطين(ره)[20]، من البناء على عدم مشروعية التبعيض الابتدائي، لعدم تمامية ما ذكر دليلاً على مشروعيته.
الثالث: ما عليه بعض أساطين العصر من المحققين(دامت أيام بركاته)، من التفصيل بين ما إذا لم يكن بين المجتهدين المتساويـين ما يوجب ترجح أحدهما على الآخر ككونه أورع، ولم يكن في المقام علم إجمالي منجز، ولا حجة تعبدية، فإنه يجوز التبعيض بينهما، وبين ما إذا توفر الشرطان السابقان، فإنه يتعين الأخذ بأحوط القولين.
خاتمة:
بقي أن يشار في الختام أن التبعيض قد يكون في الأحكام، وقد يكون بين الحكم والموضوع، فهنا صورتان:
الأولى: أن يكون التبعيض بين المجتهدين المتساويـين في الحكم والموضوع، بأن يرجع لأحدهما في الحكم ويرجع للآخر في الموضوع.
بل يمكن أن يكون ذلك في موارد عدم وجود فتوى للمرجع الأعلم، فيرجع المكلف في احتياطات المرجع الأعلم للمجتهد الأعلم الذي بعده، كما لو كان الأعلم يحتاط وجوباً بعدم انعقاد النذر من جدة إذا استلزم ارتكاب محظور من محظورات الإحرام، وكان الفقيه الذي بعده في الأعلمية، يلتـزم بانعقاد النذر وإن استلزم ذلك، لكنه لا يجيز الإحرام من جدة، فربما تصور البعض أنه يجوز الرجوع للفقيه الثاني في صحة الإحرام بالنذر، والبقاء على الفقيه الأول في جواز الاحرام من جدة، على أساس أنه من التبعيض بين الحكم والموضوع.
الثانية: أن يكون التبعيض في الأحكام:
وهذا له طرق:
الأول: أن يكون التبعيض في الأبواب الفقهية، بأن يقلد أحدهما في باب فقهي كالطهارة، ويقلد الآخر في باب آخر كالبيع، وهذا موضع اتفاق بين القائلين بمشروعية التبعيض الابتدائي.
الثاني: التبعيض في المسألة الواحدة في عمل واحد في مكان وزمان مختلفين، بأن يقلد أحدهما في وجوب صلاة الجمعة هذا الاسبوع، ويقلد الآخر في صلاة الظهر في الاسبوع القادم[21].
الثالث: التبعيض في المسألة الواحدة، كما لو قلد الأول في وجوب جلسة الاستراحة، وقلد الآخر في عدم جزئية البسملة من كل سورة من السور القرآنية عدا الفاتحة.
تنبيه:
التقليد لا يكون عن تقليد:
يعتبر في التقليد من الجاهل للعالم أن لا يكون عن تقليد، بل لابد للجاهل من أن يستند إلى حجة قائمة عنده على أن حكمه هو التقليد، وإلا لو اعتمد في جواز التقليد على التقليد للزم من ذلك الدور أو التسلسل، لأن كل ما بالعرض لابد أن ينتهي إلى ما بالذات.
هذا ولا فرق في تسمية قيام هذه الحجة عند الجاهل بالأحكام بالاجتهاد في جواز التقليد له، أو تسميتها بتحصيل العلم بجواز التقليد.
والاجتهاد المطلوب هنا هو تحصيل الحجة على أن الطريقة المشروعة إلى معرفة الأحكام الشرعية وامتثالها هو تقليد المجتهد الجامع للشرائط.
وقد يقال: بأن ما يتصور من الإحاطة بالأدلة الدالة على مشروعية التقليد، إنما هو في خصوص من كان له حظ من العلم، أو كان له إطلاع على هذا المجال التخصصي من البحوث، دون بقية الناس وإن كانوا أصحاب معرفة في مجالات أخرى، كالطب أو الهندسة مثلاً، فهؤلاء لا يتسنى لهم أن يكون تقليدهم عن اجتهاد؟
قلنا: بأنه يكفي لتحقق الاجتهاد عند هؤلاء في مسألة التقليد ومشروعيته دليل العقل الدال على لزوم رجوع الجاهل للعالم، وكذا سيرة العقلاء الدالة على ذلك أيضاً.
نعم لا إشكال في التقليد في بعض الخصوصيات المرتبطة بالتقليد، كلزوم تقليد الأعلم، وجواز البقاء على تقليد الميت، وعدم جواز تقليد المرأة. يعتبر المشهور في مرجع التقليد أن يكون أعلم الموجودين في عصره، وهذا ما يعرف في الفقه بمسألة تقليد الأعلم[22].
————————————
[1] وقع الخلاف بين الأعلام في حجية الشياع على أقوال:
الأول: أنه حجة مطلقاً سواء أفاد العلم، أم أفاد الظن، وهو مختار أعيان الفن، كالشيخ حسن كاشف الغطاء، وصاحب الجواهر، وغيرهم(ره).
الثاني: البناء على عدم حجيته، إلا إذا أفاد العلم، ومن الواضح أن الحجية ليست للشياع، وإنما هي لحصول العلم، وهذا مختار صاحب العروة(ره)، والمحشين عليها، إلا من سنشير إلى مخالفته. مطلقاً.
الثالث: أن حجيته معلقة على إفادته للوثوق والاطمئنان، فما لم يفدهما لن يكون حجة، وهو مختار المقدس السيد أحمد الخونساري(ره)وهذا يعني أنه لا موضوعية له، وإنما هو طريق لتحصيلهما.
الرابع: التفصيل في حجيته، فلا يحكم بحجيته مطلقاً، ولا تنفى حجيته مطلقاً، وإنما يحكم بحجيته إذا كان يفيد الظن القوي، وتنفى حجيته إذا لم يفد ذلك.
الخامس: البناء على حجيته إذا كان يفيد الظن بالوفاق ولو كان الظن ضعيفاً.
[2] لا حاجة للتأكيد على كون الشخص الواصف نفسه بالاجتهاد ثقة عدل، مؤهل لنيل هذه المرتبة، ككونه أحد أساتذة الحوزة المعروفين.
[3] كلمات توضيحية ج 1 ص 79-81.
[4] المصدر السابق ج 1 ص 95.
[5] وسائل الشيعة ج 27 ب 9 من أبواب صفات القاضي ح 1 ص 106.
[6] وسائل الشيعة ب 9 من أبواب صفات القاضي ح 20.
[7] وسائل الشيعة ب 9 من أبواب صفات القاضي ح 45.
[8] وسائل الشيعة ج 8 ب 26 من أبواب صلاة الجماعة ح 1 ص 346.
[9] بحار الأنوار ج 50 ح 12 ص 100.
[10] التنقيح في شرح العروة ج 1 ص 141.
[11] حكاه عنه تلميذه آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم(حفظه الله) في كتابه مصباح المنهاج ج 1 ص 80.
[12] كلمات توضيحية ج 1 ص 102-108(بتصرف).
[13] المصدر السابق ص 110.
[14] مطارح الأنظار ج 2 ص 207.
[15] مفاتيح الأصول ص 632.
[16] مستمسك العروة ج 1 ص 25.
[17] تنقيح العروة ج 1 ص 203.
[18] كلمات توضيحية ج 1 ص 110-114.
[19] المرجع الديني الأعلى للطائفة الإمام السيستاني(دامت أيام بركاته).
[20] مستمسك العروة ج 1.
[21] قد عرفت في ما تقدم وقوع الخلاف في مشروعية مثل هذا التبعيض، فلا نعيد.
[22] كلمات توضيحية ج 1 ص 89-90.