رد الشمس
من فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) المنصوص عليها في المصادر الحديثية والتاريخية، فضيلة رد الشمس، وقد نص على ردها له مرتين، مرة في عهد النبي(ص)، وقد كان ذلك كرامة للنبي الأكرم محمد(ص) ولوصيه أمير المؤمنين(ع)، ومرة في أيام خلافة أمير المؤمنين(ع) الظاهرية. بل يمكن القول أن ذلك موضع إجماع بينهم، خصوصاً القضية الأولى منهما، لأنه لم ينكرها إلا شرذمة قليلة جداً من علماء الجمهور، وقد حصروا في ثمانية أشخاص، منهم: ابن عساكر، وابن الجوزي، وابن تيمية، وابن قيم الجوزية، وابن كثير الشامي.
ومن الغريب أن نجد تسليم هؤلاء بحادثة شق القمر للنبي محمد(ص)، وينكرون وقوع فضيلة رد الشمس لأمير المؤمنين(ع)، مع أن القضيتين من سنخ واحد، وهذا يعني أن كل من سلم بحادثة شق القمر للنبي الأكرم(ص)، فعليه أن يسلم بحادثة رد الشمس لأمير المؤمنين(ع).
ولسنا بصدد الحديث عن دخول حادثة رد الشمس في دائرة الإعجاز أو الكرامة، فإن ذلك وإن كان كبرى مسلمة للمسألة، التي نحن بصددها، لكننا نحيل الحديث عن ذلك إلى بحث آخر. ونقصر الحديث عن أصل الفضيلة، أعني فضيلة رد الشمس.
الذين ردت لهم الشمس في الأمم السابقة:
إن الغاية من التعرض لهذا البحث، أنه متى ثبت وقوع حادثة رد الشمس في الأمم السابقة على أمة النبي محمد(ص)، فإنه يستوجب أن يكون ذلك واقعاً في عصر النبي محمد(ص)، أيضاً، وذلك لما ورد عنه(ص) أنه قال: لتتبعن من كان قبلكم حذو القدة بالقدة، والنعل بالنعل، ولتركبن ما ركبوا طبقاً عن طبق.
والحاصل، إن ثبوت وقوع ذلك في الأمم السابقة على أمة النبي(ص)، يستلزم وقوعه في أمة النبي الأكرم محمد(ص).
وبعبارة ثانية، إن مقتضى وقوع رد الشمس في الأمم السابقة، لازمه وقوع ذلك في أمة النبي(ص) أيضاً، ولذا يمكن الاكتفاء في مقام إثبات هذه الفضيلة لأمير المؤمنين(ع)، بالاقتصار على رد الشمس له في حياة النبي(ص).
وكيف ما كان، فقد تضمنت الكتب المعتبرة في التفسير والحديث والتاريخ، أن الشمس قد ردت لثلاثة من الأوصياء، وصيان سابقان على زمان النبي محمد(ص)، ووصي في حياته(ص). والأوصياء الثلاثة هم:
1-سليمان بن داوود(ع):
وقد أشير إلى ذلك في قوله تعالى:- (ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب* إذ عرض بالعشي الصافنات الجياد* فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب* ردوها عليّ فطفق مسحاً بالسوق والأعناق)[1].
وقد وقع الاختلاف في المقصود من قوله تعالى:- (حتى توارت بالحجاب* ردوها علي)، سيما عند علماء الجمهور، لأنهم وجدوا أنفسهم ملزمين بإثبات فضيلة لأمير المؤمنين(ع)، لو بني على القبول بدلالة الآيات وفق ظاهرها،
وعلى أي حال، فإن أهم الأقوال الموجودة فيها أربعة:
أحدها: أن يكون المقصود من قوله تعالى:- (حتى توارت بالحجاب)، هي الشمس، ومعنى ردوها يعني الشمس، وعليه سوف يكون مدلول الآيات القرآنية، أن سليمان(ع) غربت عنه الشمس، أو كادت أن تغرب، حينما كان يستعرض الخيول الصافنات، وعندما كاد أن يفوته وقت الصلاة، أمر برد الشمس حتى يتسنى له القيام بأداء الصلاة في أول وقتها.
وسوف يكون القول المذكور مفيداً لحصول فضيلة رد الشمس لوصي داوود نبي الله سليمان(ع). ومع حصول هذه الفضيلة في الأمم السابقة، فلازمه أن يحصل ذلك في أمة النبي(ص)، ولم يدع وقوع ذلك لأحد سوى أمير المؤمنين(ع).
ثانيها: أن يكون المقصود بقوله تعالى:- (توارت بالحجاب)، هي الشمس، والمقصود بردوها الخيل، فالآية الشريفة بصدد الحديث عن موضوعين مختلفين:
الأول: ذهاب وقت العبادة، أو قرب ذهابه.
الثاني: استرجاع الخيل للقيام بعملية إنفاقها، من خلال ضربها وقتلها.
ووفقاً لهذا القول لن يتضمن القرآن الكريم حديثاً عن فضيلة رد الشمس لسليمان(ع)، فإن تضمنت السنة ذلك، وإلا فلا.
ثالثها: أن يكون المقصود في قوله تعالى:- (توارت)، وقوله تعالى:- (ردوها)، هي الصافنات الجياد، وهي الخيل، وقد ذكر بياناً لذلك أن سليمان(ع) لما وجد أن الخيل تشغله عن ذكر الله سبحانه وتعالى، حتى كادت أن تفوته عبادة ربه اتخذ قراراً أن يقتل تلك الجياد، ولذلك أمر بردها عليه، وقام يضربها ضرباً مبرحاً، حتى ماتت.
وقد برر ما قام به من عمل أن وجودها يوجب انشغاله بها عن ذكر ربه، وتلهيه عن طاعته، لذلك لا يريدها، ويشير إلى هذا قوله تعالى:- (حتى توارت بالحجاب) يعني الخيل، (ردوها علي)، أيضاً الخيل، بعدما أخذت من عنده، وذهب بها إلى اسطبلها، فأمر بإرجاعها مرة بعد أخرى، وقام يضربها حتى قتلها جميعاً، أو قتل قسماً منها.
ووفقاً لهذا القول، لن تكون الآيات الشريفة مرتبطة بموضوع البحث أساساً.
رابعها: أن يكون المقصود بتوارت في الآية هي الصافنات الجياد، والمقصود بردوها علي هي الشمس. وعليه سوف تكون الآيات الشريفة دالة على رد الشمس إلى سليمان(ع).
وكيف ما كان، فإنه إنما يصح البناء على تضمن القرآن الكريم رد الشمس لنبي الله سليمان(ع) إذ بني على أن المقصود بالآيات الشريفة أحد قولين، إما الأول، أو الرابع، دون القولين الثاني والثالث.
وقد بذل الفخر الرازي جهداً كبيراً جداً في تفسيره من أجل إثبات أن المقصود في قوله تعالى:- (ردوها عليّ)، ليس رد الشمس، بل يقصد به رد الخيل، أو شيء آخر.
ومن الواضح أن داعيه إلى ذلك ما يحمله في نفسه من شيء ضد أمير المؤمنين(ع).
وقد خالفه الألوسي في تفسيره، ويمكن للقارئ مراجعة ما ذكره هناك في تفسيره روح المعاني.
ويعتبر القول الأول هو أقرب الأراء الأربعة للقبول، خصوصاً وأن الرأي الرابع يستدعي فرض الضمير في قوله تعالى:- (ردوها علي) راجعاً لشيء مذكور، وليس في الآيات الشريفة ما يشير إلى ذلك، بعكس قوله تعالى:- (حتى توارت بالحجاب)، فإن المفروض أن نبي الله سليمان(ع) كان مشتغلاً باستعراض الخيول الصافنات الجياد أثناء النهار، وقد توارى ما كان طالعاً أثناءه، وليس من شيء يتصور أن يتوارى بعدما كان طالعاً أثناء النهار غير الشمس[2].
2-يوشع بن نون:
وقد تضمنت المصادر رد الشمس إليه أيضاً، فقد ذكر ذلك الثعلبي في كتابه قصص الأنبياء، أن الشمس قد ردت إليه. قال: إن يوشع بن نون خرج مع بني إسرائيل يريد أن يفتح بلدة اسمها أريحة، وكانوا مشتغلين بالقتال حتى غربت الشمس، فالتفت يوشع بن إلى الشمس، وقال لها: أنت في طاعة الله، وأنا في طاعة الله فأمسكي، فوقفت الشمس عن الغروب حتى أتم يوشع بن نون ما كان في يده من قتال، وجهاد للأعداء، ثم صلى بعد ذلك هو وأصحابه، فغربت الشمس.
وقد جاء هذا أيضاً في غير واحدة من آيات التوراة، من أن الشمس قد ردت لوصي موسى الكليم، يوشع بن نون.
وبالعودة للنصوص المتعرضة للحديث عن رد الشمس ليوشع بن نون، نجدها تضمنت حبس الشمس، وليس ردها، ذلك أن الرد يكون بعد تحقق المغيب، أما الحبس فإنه يكون بتوقفها وعدم غروبها. فإنه قد طلب منها أن تمسك، فوقفت، ولم تتحرك، فلم تكمل مسيرتها إلى المغيب، حتى قضى يوشع ما في يده، وهذا ما يعبر عنه بالولاية التكوينية، أو نوع من أنواع التصرف في الكون..
ومن الطبيعي أن يكون هذا ليوشع(ع)، فإن من هو دونه في المرتبة أعني آصف بن برخيا، قد امتلك القدرة على مثل هذا الأمر، يقول تعالى:- (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك)[3].
وقد وقعت حادثتا رد الشمس لهذين الوصيـين موضع قبول عند المسلمين، إلا من أشرب في قلبه المرض والبغض لأمير المؤمنين(ع)، فصار ذلك سبباً لإنكار ثبوتها.
3-أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع):
وقد ردت له الشمس مرتين، الأولى، في حياة النبي الأكرم محمد(ص)، وقد نص على ذلك غير واحد من الصحابة، حيث جاء ذلك في كلماتهم.
والثانية، يوم رجوعه من غزوة صفين في منطقة يقال لها بابل، وقد ذكر(ع) أن هذه أرض لا يصلي فيها نبي ولا وصي نبي، لأنها ملعونة، أو لأنها أرض أنزل الله فيها العذاب على أهلها. وقد التفت أمير المؤمنين(ع) إلى الشمس وهو(ع) وأصحابه مشغولون بنقل الجياد، وخاطبها أن ترد، وقد كان معه شخص صار يقول: إن علياً يدعي أنه يتصرف في الكون، فالتفت إليه(ع)، وقال له: نعم، وسترى الآن أن علياً يتصرف في الكون، ولما خطى(ع) إلى البر أشار إلى الشمس فعادت.
وبالجملة، إن حادثة رد الشمس بعد غروبها أو حبسها عن سيرها الطبيعي المعتاد لفترة من الزمن حدثت في العالم مكرراً على فترات متباعدة لدواع خاصة يجمعها جميعاً أنها معجزة مشتركة لأوصياء ثلاثة من الأنبياء(ع).
رد الشمس لأمير المؤمنين(ع):
قد عرفت في ما تقدم، أن الشمس قد ردت له(ع) مرتان، وقد أجمع المسلمون على الحادثة التي حصلت في عصر النبي(ص). وقد كان ذلك في أرض خيبر في منطقة الصهباء، وقد نقل الرواية غير واحد، منها ما جاء في كتاب البداية والنهاية، لابن كثير بسند ينتهي إلى أسماء بنت عميس، أنها قالت: أقبل علي بن أبي طالب ذات يوم وهو يريد أن يصلي العصر مع رسول الله(ص)، فوافق رسول الله(ص) قد انصرف ونزل عليه الوحي، فأسند رسول الله(ص) إلى صدره، وهو يوحى إليه، ولما أفاق(ص) ، قال لأمير المؤمنين(ع): أصليت العصر يا علي؟ قال: جئت والوحي ينـزل عليك فلم أزل مسندك إلى صدري حتى الساعة، فاستقبل رسول الله(ص) القبلة وقد غربت الشمس، وقال: اللهم إن علياً كان في طاعتك فأرددها عليه، قالت أسماء: فأقبلت الشمس ولها صرير كصرير الرحى حتى كانت في موضعها وقت العصر، فقام علي متمكناً فصلى فلما فرغ رجعت الشمس ولها صرير كصرير الرحى فلما غابت اختلط الظلام وبدت النجوم.
ودلالة الرواية واضحة في إثبات كرامة جلية واضحة للنبي محمد(ص)، ولوصيه أمير المؤمنين(ع).
رواة حديث رد الشمس:
قد سمعت رواية غير واحد من الصحابة لحادثة رد الشمس، فمنهم:
1-أمير المؤمنين(ع)، فقد احتج بذلك أمير المؤمنين(ع) يوم الشورى.
2-الإمام الحسين(ع).
3-ابن عباس.
4-أبو هريرة[4].
5-أبو رافع.
6-جابر بن عبد الله الأنصاري.
7-أبو سعيد الخدري.
8-أسماء بنت عميس.
9-أنس بن مالك.
أدلة المنكرين:
وقد أشكل ابن تميمية على حادثة رد الشمس، بأن الروايات المتعرضة لحادثة رد الشمس لأمير المؤمنين(ع) متنافية من وجوه، وهذا يكشف عن كذب الواقعة، وتلك الوجوه:
الأول: دلالة بعضها على طلوع الشمس حتى وقعت على الجبال، وعلى الأرض وبعضها توسط السماء وبعضها حتى بلغت نصف المسجد. وهذا يدل على أن ذلك بالمدينة المنورة، مع أن كثيراً من الأخبار يدل على أن علياً كان بالصهباء في غزوة خيبر.
الثاني: إن بعض نصوص الحادثة يدل على أن النبي(ص) كان يوحى إليه، بينما تضمن بعضها أنه(ص) كان نائماً، ثم استيقظ.
الثالث: لقد تضمنت بعض نصوص الواقعة أن علياً(ع) كان مشغولاً بالنبي(ص)، وبعضها أنه كان مشغولاً بتقسيم الغنائم. إلى غير ذلك من الخصوصيات المتنافية.
ومع وجود هذا التنافي بين مداليل النصوص المتعرضة للحديث عن الحادثة، فلا مناص من تساقطها جميعاً، فلا تثبت الحادثة المذكورة.
وينبغي قبل العمد للإجابة عما ذكره من أمور مانعة من الاستناد لنصوص رد الشمس، من تقديم مقدمة ترتبط بالاختلاف الحاصل في النصوص، فإنه على نوعين:
الأول: أن يكون الاختلاف واقعاً في أصل الحادثة التي يراد إثباتها، بحيث تكون النصوص المتعرضة لذلك متنافية في أصل المؤدى والحدث، مثل صلاة أبي بكر بالمسلمين في مرض النبي(ص)، فإن هناك نصوصاً ثلاثة:
إحداها: أن النبي(ص) أمر أن يصل بالناس أبو بكر.
ثانيها: أن عائشة قالت: قولوا للناس أن يصلي بهم أبو بكر.
ثالثها: أن المسلمين اجتمعوا في المسجد، وقدموا أبا بكر.
ومع اختلاف النصوص في المقدم لأبي بكر وهو الحدث الأساس الذي يراد إثباته، ذلك أن المقصود ليس إثبات تقدم أبي بكر، بل المقصود هو إثبات تقديم النبي(ص) لأبي بكر، فإن ذلك يكون مانعاً من القبول بها، لتعارضها.
ومثل ذلك الخبر المنقول في بعض المصادر من أن أمير المؤمنين(ع) قد خطب بنت أبي جهل، فإن الاختلاف الحاصل في أصل الحادث في النصوص، مانع من القبول به.
الثاني: أن لا يكون الخلاف الحاصل في النصوص مرتبطاً بأصل الحدث الذي يراد إثباته، بل إن النصوص متفقة على وقوعه وتحققه، إلا أنها تختلف في ذكر بعض التفاصيل المرتبطة به والخصوصيات ذات العلاقة بالموضوع، مثل الحديث النبوي المشهور: أنت مني بمنـزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي. فمع اتفاق المحدثين على صدور الحديث المذكور عن النبي(ص)، إلا أنهم يختلفون في وقت صدوره، فذكر أنه قد صدر عن النبي(ص) يوم خروجه إلى غزوة تبوك، وقد كان رسول الله(ص) راكباً على فرسه، وكان علي(ع) ماشياً، وقيل أنه صدر من النبي(ص) في المسجد، وقد كان رسول الله(ص) جالساً في المسجد، وقيل أنه قد صدر منه(ص) عندما كان يطرق باب أمير المؤمنين(ع)، وقيل أن النبي(ص) قد قال ذلك وهو على المنبر. فإن النصوص كلها تتفق على أن النبي(ص) قد قال هذا الحديث، لكنها تختلف في تحديد زمان القول، ومكان القول، وبعض الخصوصيات الأخرى التي لا ربط لها بأصل الحديث والحدث.
ومثل ذلك أيضاً حادثة الإسراء والمعراج، فإن المسلمين متفقون على أنه قد أسري بالنبي(ص) من مكة المكرمة إلى بيت المقدس إلى السماء، ومع ذلك نجد اختلافاً في النصوص المتعرضة للحديث عن إسرائه(ص) إلى بيت المقدس، إلا أن هذا الاختلاف واقع في الجزئيات وبعض الخصوصيات التي لا تمنع من ثبوت أصل الحادثة، ولهذا لم نسمع أن أحداً من المسلمين قد أنكرها مع وجود هذا الاختلاف.
ومثل ذلك أيضاً حادثة شق القمر للنبي الأكرم محمد(ص)، فإن أصل الحادثة موضع اتفاق بين المسلمين، إلا أن الرجوع لمروياتهم عنها يفيد اختلافاً في بعض جزئياتها، إذ جاء في بعضها أنه شق إلى فلقين، وكان كل شق على جبل، وبعضها تضمن أنه بوعد بين الشقين، وغير ذلك.
والحاصل، إنه لابد من التفريق بين الاختلاف الحاصل في أصل الحدث المراد إثباته، فيكون ذلك مانعاً من الاستناد للنصوص المتعارضة، وبين ما إذا كان الاختلاف في الجزئيات والحيثيات المرتبطة بالحدث المراد إثباته، فإن وجود الاختلاف فيها لا يعد مانعاً من الاستناد إليها، فضلاً عن أنه لا يوجب كذبها.
ولا يختلف اثنان في أن الاختلاف الحاصل في نصوص حادثة رد الشمس من النوع الثاني، الذي لا يوجب رفع اليد عنها، وتكذيبها. لأن تعدد النقل إليها، مع اختلاف الناقلين، وكون النقل بالمعنى، وتفاوت الناقلين في الدقة، يوجب هذا الاختلاف الجزئي.
على أنه يمكن الإجابة عن الوجوه التي ذكرها واحداً واحداً:
أما الأول: فالمقصود هو رجوع الشمس إلى وقت صلاة العصر، نعم وقعت المبالغة في بعضها أنها توسطت السماء، وهذا ليس عزيزاً في الكلام.
وأما الثاني، فأي منافاة في أن اختلاف النصوص في الحالة التي كان عليها رسول الله(ص) وقت وقوع الحادثة، لأن المقصود هو بيان حالة الغشية التي تصيبه(ص) وقت نزول الوحي عليه، ولذا تضمنت بعض النصوص التعبير بأنه(ص) استيقظ من غشوة الوحي، ولعل هذا ما دعى تصور بعضهم أنه(ص) كان نائماً، والأمر سهل جداً. ومنه تعرف الجواب عن الثالث.
بعض الإشكالات على حادثة رد الشمس:
بقي أن يشار إلى أنه ربما ذكرت بعض الإشكالات على أصل الواقعة، بأن الحديث المتضمن للحديث عن أصل الواقعة مخالف لما من هو مسلم عندنا من العقيدة، لأن الحديث المذكور ينافي العصمة الثابتة لأمير المؤمنين(ع)، وتوضيحه أن يقال:
إن الالـتزام بتحقق رد الشمس لأمير المؤمنين(ع)، وإن كان كرامة للنبي محمد(ص)، ولوصيه(ع)، إلا أنه يستوجب ارتكاب أمير المؤمنين(ع)، للمعصية، ذلك أنه(ع) قد ترك الصلاة حتى انتهى وقتها، وهذا يتنافى والقول بأن علياً(ع) معصوم.
ويمكن أن يستفاد من جواب الإشكال الذي أثاره ابن تيمية على مسألة تصدق أمير المؤمنين(ع) بالخاتم، في قوله تعالى:- (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)[5]، وكيف أنه(ع) قد خرج من عبادة إلى عبادة، فلا يوجد أدنى منافاة.
وهذا بنفسه يجري في المقام، ذلك أن أمير المؤمنين(ع)، كان في عبادة، وهذا يمنع من أن يكون قد خالف أمر الله تعالى، فضلاً عن أن يلتـزم بصدور معصية منه(ع).
وبعبارة أوضح، إن لنا جوابين عن الإشكال المذكور:
الأول: إنما يستحق المكلف العقوبة بارتكابه المعصية، ولا يكون الإنسان عاصياً حال كونه معذوراً، فمتى كان له عذر في ما أقدم عليه من فعل، كان ذلك مانعاً من صدق عنوان العاصي عليه، ولا ريب في معذورية أمير المؤمنين(ع)، في تركه للصلاة، لأنه(ع) كان مشغولاً بالنبي(ص)، وهذا يمنع من كونه عاصياً بتركه للصلاة، فلا يكون مستحقاً للعقوبة.
إن قلت: من المعروف أن الأعذار نوعان:
أحدها: ما يكون العذر سبباً لسقوط التكليف من أصل، كما لو عرض على المكلف الجنون، أو كان مجنوناً منذ البداية، فإن ذلك يوجب انتفاء التكليف عنه وسقوطه.
ثانيها: ما لا يكون العذر موجباً لسقوط التكليف، وإنما ينتقل المكلف للإتيان بالتكليف ناقصاً، وهو ما يعبر عنه بتكليف المعذور، كما لو كان المكلف عاجزاً عن الإتيان بالصلاة من قيام، فإن عجزه عن القيام لا يوجب سقوط الصلاة عنه من رأس، وإنما ينتقل للإتيان بالصلاة جالساً، وهكذا.
ومن الواضح أن العذر الموجود لأمير المؤمنين(ع) من النوع الثاني، وهذا يمنع من سقوط الصلاة عنه، فيكون مطالباً بأدائه، وتركه إياها مانع من عدم صدق فعل المعصية عليه، المنافي للعصمة.
قلت: إن من المحتمل جداً، لو لم يكن مطمئناً به، أنه(ع) قد صلى بالإيماء، والنبي(ص) على صدره، ولا يوجد ما يمنع من ذلك، وعدم تعرض النصوص الناقلة للحادثة هذا الأمر لكونه أمراً خاصاً به(ع)، وليس ملزماً أن يطلع أحد عليه، خصوصاً وأنه لم يجد من اعترضه بأنه قد ترك الصلاة.
الثاني: إننا نمنع أن تكون الصلاة قد فات أمير المؤمنين(ع)، وإنما الشيء الثابت، أنه قد فاته وقت الفضيلة ليس إلا، بمعنى أن الشمس كادت أن تغيب، ففات وقت الفضيلة، وأمير المؤمنين(ع) لا يصلي خارج وقت الفضيلة، لذلك أمر النبي(ص) الشمس أن تعود إلى وقت الفضيلة حتى يصلي أمير المؤمنين(ع) صلاته في وقت فضيلتها، ثم بعد ذلك عادت الشمس إلى موضعها الطبيعي.
[1] سورة ص الآيات رقم 30-33.
[2] وليس بين القول الأول المنتخب في دلالة الآية الشريفة، ومسلك العصمة الثابت للأنبياء والمرسلين(ع)، أية منافاة، كما يفصل ذلك في محله.
[4] وقد صحح الألباني رواية مرفوعة السند لأبي هريرة ينفي فيها حادثة رد الشمس لأمير المؤمنين(ع)، ويدعى أنها لم تقع إلا لرجل واحد من البشر، وهو يوشع بن نون.
[5] سورة الآية رقم