الهجرة النبوية

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
129
0

عانى الرسول الأكرم محمد(ص) من مشركي مكة وعتاتها، شتى أصناف الإساءة والتعذيب، في شخصه الكريم، أو في شخص أصحابه، وبأساليب مختلفة ومتعددة، وقد كان القرآن الكريم، يسليه ويدعوه للصبر والتحمل بعرض صور مشرقة من معاناة الأنبياء الذين سبقوه وما كانوا يلاقونه من أذى أقوامهم، وكيف أنهم واجهوا ذلك بالصبر والثبات، فلاحظ قوله تعالى:- (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار)[1]، حيث تضمنت أمراً له(ص) بالصمود والصبر على ما يلاقيه وتحمل ذلك، كما كان سلفه من الأنبياء(ع) الذين هم أولوا العزم، فإنهم صمدوا أمام مخالفيهم، وواجهوا ذلك بقوة.

ولقد قدم النبي(ص) صوراً رائعاً في الصبر والتحمل، إلا أنه قد يتوهم أن هجرته المباركة، وتركه إلى أرض مكة المكرمة، بالخروج إلى المدينة المنورة يمثل مخالفة لهذا الأمر الموجه إليه بالصبر والصمود؟

ولا يخفى أن تمامية ما ذكر، تقوم على تحديد المقصود من الصبر الذي ورد في الآية الشريفة، بعد الفراغ عن كون الأمر فيها أنه إرشادي وليس مولوياً، فتدبر.

حقيقة العزم ومعناه:

وحتى يتسنى تحديد المقصود من الصبر، لابد أولاً أن نحيط بمن وصفوا به، أعني أولي العزم، حتى نعرف بعد ذلك الصبر الذي كان عندهم.

ولا يذهب عليك أنه لم يرد هذا التعبير في القرآن الكريم إلا في مورد واحد، وهو الآية التي ذكرناها، كما أنه لم يتضمن القرآن الكريم بياناً للمقصود منهم، وتحديدهم بأسمائهم، ما يعني أنه يتوقف الإحاطة بالمقصود بهم على معرفة معنى العزم الذي جعل وصفاً لهم، ومن ثمً تلحظ كلمات المفسرين لتكون متطابقة والتفسير المذكور، كما تنظر الروايات الشريفة في المقام.

وعلى أي حال، فقد فسرت كلمة العزم في كلمات أهل اللغة، إما بالقطع، أو بعقد القلب، أو بالقصد الجازم، ولا يبدو أن بين التفسيرات المذكورة اختلاف، ذلك أن القطع يعني عقد القلب، كما أنه يفيد معنى القصد الجازم، خصوصاً مع التوجه إلى أن القصد من المفاهيم المشككة، وبالتالي لا يقصد منه مطلقه، الذي يتحقق بأي فرد من الأفراد، وإنما يراد منه خصوص ما كان بعنوان الجزم والقرار، فلاحظ.

وبالجملة، يستفاد من كلمات أهل اللغة، أن المقصود من العزم، عبارة عن القطع وعقد القلب، والقصد الجازم، فلاحظ.

ولا يبدو أن للقرآن الكريم استعمالاً آخر يغاير ما يظهر من كلمات اللغويـين، فإن المتابع لاستعمالات القرآن لهذه المفرد في آياته، يصل إلى أن المقصود منها ما يظهر من كلمات أهل اللغة. فلاحظ قوله تعالى:- (فإذا عزمت فتوكل)[2]

وطبقاً لما قدم، سوف يكون المقصود من أولي العزم، هم الذين يتصفون بالصفات التالية:

1-وجود القطع والتصميم لديهم.

2-امتلاكهم للإرادة الثابتة.

3-توفر القصد المؤكد عندهم الذي لا ينفك عن العمل والسعي في سبيل الله تعالى.

إلا أن الرجوع للنصوص الشريفة التي تعرضت للحديث عن أولي العزم يفيد أنه لا يقصد من العزم في الآية المباركة معناه اللغوي، ما يعني استعماله في معنى آخر يغاير الاستعمال اللغوي، فقد ورد في موثقة ابن فضال عن الإمام الرضا(ع) في سبب تسمية أولي العزم بذلك، قال: إنما سمي أولو العزم أولي العزم لأنهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع[3]. وهذا يعني أن تسميتهم أخذت من خلال ما أعطوه، ذلك أنهم أصحاب شرائع.

اللهم إلا أن يدعى أن المستفاد من الموثق لا يغاير ما ورد في كلمات أهل اللغة، لأن المقصود من كونهم أصحاب العزائم، يعني أصحاب التصميم القطعي والإرادة الثابتة والقصد المؤكد، وفي نفس الوقت هم أصحاب الشرائع، فيكون الموجب لتسميتهم بذلك الأمرين معاً، فتأمل.

نعم في البين احتمال ذكره بعض المفسرين، وهو حمل العزم في الآية المباركة على الصبر، لقوله تعالى:- (ولمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأمور)[4].

ومقتضى هذا القول، أن يكون للعزم استعمال آخر في القرآن الكريم، وبالتالي لن يكون متوافقاً مع ما جاء في كلمات أهل اللغة كما لا يخفى.

نعم التفسير المذكور بعيد غايته، لأن المقصود من العزم في الآية المباركة هو ما يستفاد من كلمات أهل اللغة، وبالتالي يكون ما ذكر فيها من مواصفات ينسجم مع وجود التصميم القطعي، والإرادة الثابتة، فلاحظ.

وقد تحصل مما تقدم، وجود ثلاثة أقوال متصورة في حقيقة العزم:

أحدها: المعنى اللغوي، وهو عبارة عن عقد القلب والقصد الجازم، الموجب لوجود التصميم القطعي، والإرادة الثابتة.

ثانيها: المعنى القرآني، وهو أصحاب الشريعة والأحكام.

الثالث: معنى قرآني آخر، وهو من كان متصفاً بصفة الصبر والتحمل، فلاحظ.

وقد عرفت المناقشة في ثالثها، وإمكانية ضم ثانيها لأولها ليكونا قولاً واحداً، فتدبر.

أولوا العزم:

ثم إنه بعد تحديد المقصود بهم من حيث المفهوم، بقي أن يحددوا من حيث المصداق خارجاً، بتطبيق ما ذكر مفهوماً لأولي العزم على الأفراد الخارجيـين، وهذا كما عرفت يكون بالرجوع لكلمات المفسرين، والنصوص الشريفة.

ومن الطبيعي جداً أنه يمكن القول بأن المفسرين قد بنوا ما اختاروه تحديداً لحقيقة أولي العزم اعتماداً ما ألتـزموا به في معناه وحقيقته، وهذا وإن لم يوجد في كلماتهم، إلا أنه يمكن تصيده منها، فتأمل.

وكيف ما كان، فإنه عند ملاحظة كلمات المفسرين، نجد أنهم قد اختلفوا في تحديد المقصود بهم، وذكرت في البين أقوال متعددة:

منها: إن المقصود بأولي العزم، هم جميع المرسلين الذين قد بعثوا إلى شرق الأرض وغربها، جنها وأنسها.

ولا يذهب عليك أن هذا القول يقوم على أن تكون كلمة(من) الواقعة في الآية الشريفة بيانية، وليست تبعيضية، لأن مقتضاه البناء على اتصاف جميع المرسلين بهذا الوصف من دون تخصيص لجماعة دون أخرى، فتدبر. كما أن مقتضاه أنه لا يفرق بين كون الرسول صاحب شريعة، أو أنه رسول تبليغي، فتدبر.

وقد عورض هذا القول، بأنه يستلزم القول بعالمية جميع الرسالات السماوية، وعدم تحدديها برسالة النبي الأكرم محمد(ص)، مع أن الدليل عندنا منعقد على اختصاص العالمية برسالة النبي(ص) دون غيره من الأنبياء.

والمعارضة المذكورة غريبة، ذلك أن القائل لم يلتـزم بما يشير للعالمية من قريب أو بعيد، بل أقصى ما يفيد قوله التقسيم إلى أنبياء ومرسلين، ويختص الوصف بأولي العزم بالمرسلين دون الأنبياء، ولم يلحظ أنهم أصحاب رسالة عالمية، أم أن رسالتهم مختصة بالمجتمع الذي قد بعثوا إليه، فلاحظ.

نعم يبقى الكلام في أن(من)بيانية، وهذا ما سيتضح في ما يأتي إن شاء الله تعالى.

ومنها: يقصد من أولي العزم، جميع المرسلين الذي بعثهم الله سبحانه وتعالى إلى أقوامهم، والسر في ذلك يعود إلى أنه تعالى لا يبعث رسولاً إلا ويكون ذا عزم راسخ وإرادة ومحكمة في طريق تبليع الرسالة. ويؤيده قوله تعالى:- (وإذ أخذنا من النبيـين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً)[5]، على أساس أن العمل بالميثاق الغليظ يتوقف على وجود العزم الراسخ، والإرادة القوية، مع توفر صفة الصبر.

ولن يختلف حال هذا القول عن سابقه في أنه يقوم على القول بكون كلمة(من) في الآية الشريفة بيانية، وليست تبعيضية، وهذا يعني أنه ينهدم لو ثبت خلاف ذلك.

ولا يظهر وجود فرق بين القول الأول والثاني، خصوصاً مع البيان الذي أشرنا إليه في توضيح القول الأول، من أنه مختص بالمرسلين دون الأنبياء، وهذا يعني أن عدّه في كلمات الباحثين قولاً قسيماً لسابقه في غير محله، فلاحظ.

هذا وقد أشكل على المؤيد المذكور في التقريب، بأن أخذ الميثاق لا يثبت وجود العزم على العمل بالميثاق، ويشهد لذلك أنه سبحانه وتعالى قد أخذ الميثاق على جميع البشر، فقال تعالى:- (وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا)[6].

إلا أنه لم يقم أكثر الناس بذلك، ولم يلتـزموا بأدائه.

والظاهر أن في البين خلطاً، ذلك أن قياس المرسلين، وهم أصحاب العصمة، بالعنصر البشري مطلقاً مع الفارق، وهذا يعني أن القائل عندما أيدّ القول بأخذ الميثاق لحظ أن هناك جهة امتياز للمرسلين على بقية البشر، تدعوهم إلى الالتزام بما أخذ عليهم، والعمل على وفقه، وإلا أشكل وجود عنصر العصمة عندهم. على أن الوارد في كلمات القائلين بهذا القول وفقاً لما حكي عنهم التأيـيد له بأخذ الميثاق، وليس عله دليلاً، ولا يخفى مدى الفرق بين الموردين، فتدبر.

ومنها: إن المقصود بأولي العزم في الآية الشريفة، هم خصوص الأنبياء الذين ورد ذكرهم في سورة الأنعام قوله تعالى:- (وتلك حجتنا آتينها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم* ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين* وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين* وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاً فضلنا على العالمين)[7]. وذلك لأن الأمر بالصبر الذي ورد في آية أولي العزم، هو نفسه الاقتداء بهديهم الذي أمر به النبي(ص)، في قوله تعالى:- (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)[8].

ومقتضى هذا القول حصر أولي العزم في خصوص ثمانية عشر نبياً هم الذين ورد ذكرهم في الآيات السابقة، ما يجعله أخص من القولين السابقين.

وكيف ما كان، فإن تمامية هذا القول تعتمد على إحراز أن المقصود من الصبر في الآية الشريفة، هو عبارة عن اتخاذ منهج الأنبياء المذكورين(ع) في الهداية بالسير على وفقه. مضافاً إلى أن يكون المقصود من الأمر بالصبر على نحو الاقتداء والتبعية، وليس المقصود به شيئاً آخر.

ولا يخفى أن هذا يستوجب مشكلة تبعية الفاضل للمفضول، لأنه لا ريب في أفضلية النبي الأكرم محمد(ص) على الأنبياء كافة، فكيف يتخذهم قدوة وأسوة؟! ومثل ذلك يجري أيضاً بالنسبة للاقتداء بهم في الهداية، فلا تغفل.

وأجيب عن هذا المعنى بجواب آخر، حاصله، إن التقريب المذكور يتم لو كان الأمر بالاقتداء بهديهم منحصراً في خصوص الأنبياء(ع) المذكورين في الآيات الشريفة، إلا أن ملاحظة الآيات المباركة، يفيد أن الأمر بالاقتداء بهديهم ليس منحصراً فيهم، بل هو شامل أيضاً لآبائهم وذرياتهم، وإخوانهم، ومن المعلوم أن هؤلاء ليسوا جميعاً بأنبياء، فلا يعقل أن يأمر النبي(ص) بالاقتداء بهم، فلاحظ[9].

وحاصل هذا الإشكال، إن في المقام قرينة مانعة من كون الخطاب الوارد في الآية الشريفة موجهاً للنبي(ص)، وإنما هو من خطابات إياك أعني واسمعي يا جارة، لأن المخاطب غيره، لكنه في صورته وشخصه(ص)، ويشهد لذلك طلب جعل القدوة والأسوة الأنبياء السابقون وأقاربهم.

ومنها: ليس المقصود بأولي العزم في الآية جميع الأنبياء، ولا جميع المرسلين، وإنما يقصد بهم فئة خاصة منهم، وهم الذين توفروا على صفة الصبر والتحمل كثيراً في طريق تبليغ الرسالة، فكانوا كالطود الشامخ أمام المصاعب والآلام، وأساليب التكذيب، وتحملوا ما وقع عليهم من الأذى وصبروا عليه.

وبالجملة، إن المقصود بأولي العزم، هي الطائفة التي امتلكت صفة الصبر والتحمل للأذى جراء قيامها بمسؤولية الرسالة السماوية، وأدائها، فتدبر.

ووفقاً لهذا القول، يلزم أن تكون كلمة(من) الواقعة في الآية الشريفة تبعيضية، وليست بيانية، حتى يكون مفادها الإشارة إلى بعض مرسلين، وليس جميعهم.

ثم إن القائلين بهذا القول، اختلفوا في ما بينهم، بحيث حصر بعضهم أولي العزم في خصوص خمسة، وهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى ومحمد(ص)، بينما زاد آخرون ليشمل كل ما صبر من الأنبياء على أمر ما، فأضاف يعقوب لأنه صبر على فراق يوسف، ويوسف لأنه صبر، وهكذا.

ولا يخفى أن موجب الاختلاف عدم وضوح المقصود من الصبر والتحمل في مقام أداء الرسالة، فهل ينحصر في خصوص ما يكون مرتبطاً بمقام التبليغ، أو أنه يشمل ما يقع على النبي في مقام قيامه بمسؤولياتها، وإن لم يكن مرتبطاً بمورد التبليغ؟ فلو بني على الاثنين، كان مقتضاه هو الالتـزام بالسعة في العدد، والزيادة، وعدم الحصر في الخمسة، بينما لو كان البناء على الأول، فلازمه حصر العدد في خصوص الخمسة، فلاحظ.

ومنها: إن المقصود من أولي العزم الذين أشير إليهم في الآية القرآنية، هم خصوص الأنبياء أصحاب الشرائع السماوية، والتي تتولى كل واحدة منها نسخ الشريعة السابقة عليها، وهم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد(ع)، وقد عبر عنهم في بعض النصوص بسادة النبيـين، وعليهم دارت رحى المرسلين.

ولا يذهب أن هذا الرأي يلتقي وأحد رأيي القول السابق، وهو الذي حصر أولي العزم في خصوص الخمسة، فلاحظ.

ويتوقف الالتزام بهذا الرأي على كون كلمة(من)الواقعة في الآية الشريفة تبعيضية، أما لو بني على كونها للبيان، فإنه يصعب الالتزام بهذا الرأي، فلاحظ.

هذا ويدل على هذا الرأي النصوص الواردة عن أهل البيت(ع):

منها: معتبرة سماعة بن مهران قال: قلت لأبي عبد الله(ع) في قول الله عز وجل:- (فاصبر كما صبر أولي العزم من الرسل) فقال: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد(ص)، قلت: كيف صاروا أولي العزم؟ قال: لأن نوحاً بعث بكتاب وشريعة، وكل من جاء بعد نوح أخذ بكتاب نوح وشريعته ومنهاجه، حتى جاء إبراهيم(ع) بالصحف وبعزيمة ترك كتاب نوح لا كفراً به، فكل نبي جاء بعد إبراهيم أخذ بشريعته ومنهاجه وبالصحف حتى جاء موسى بالتوراة وشريعته ومنهاجه حتى جاء المسيح(ع) بالإنجيل وبعزيمة ترك شريعة موسى ومنهاجه، فكل نبي جاء بعد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه حتى جاء محمد(ص) فجاء بالقرآن وبشريعته ومنهاجه، فحلاله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، فهؤلاء أولو العزم من الرسل(ع)[10]. ودلالتها على أن المقصود من أولي العزم هم خصوص أصحاب الشرائع واضحة جداً، حتى أنه لو كان احتمال حملها على الجري والتطبيق متصوراً في صدرها، إلا أن الحصر الذي جاء في ذيلها بقوله(ع): فهؤلاء أولوا العزم من الرسل، يمنع من ذلك.

والحاصل، لا كلام في تمامية دلالتها على كون المقصود بأولي العزم في الآية المباركة، هم خصوص أصحاب الشرائع الخمسة، فلاحظ.

ومنها: موثقة ابن فضال عن الإمام الرضا(ع) قال: إنما سمي أولو العزم أولي العزم لأنهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع، وذلك أن كل نبي كان بعد نوح(ع) كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل(ع)، وكل نبي كان في أيام إبراهيم(ع) وبعده كان على شريعة إبراهيم ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن موسى(ع)، وكل نبي كان في زمن موسى(ع) وبعده كان على شريعة موسى ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى أيام عيسى(ع)، وكل نبي كان في أيام عيسى(ع) وبعده كان على منهاج عيسى(ع) وشريعته وتابعاً لكتابه إلى زمن محمد(ص)، فهؤلاء الخمسة أولو العزم وهم أفضل الأنبياء والرسل وشريعة محمد(ص) لا تنسخ إلى يوم القيامة ولا نبي بعده إلى يوم القيامة، فمن أدعى بعده نبياً، أو أتى بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكل من سمع ذلك منه[11]. ولا تقصر دلالتها على المدعى عن سابقتها بتحديد المقصود بأولي العزم في خصوص أصحاب الشرائع السماوية دون غيرهم من الأنبياء والمرسلين. كما أنها تضمنت أيضاً بياناً لموجب التسمية بهذا الاسم، فتدبر.

هذا ويستفاد من هذين النصين وغيرهما، أن الشريعة اللاحقة تنسخ الشريعة السابقة، وتحل محلها، ولا يقصد من النسخ انتهاء أمد ما جاءت به الشريعة السابقة من الأحكام، وحلول الشرعية لخصوص الأحكام الجائية في الشريعة الجديدة، فإن في ذلك محذوراً أشرنا إليه في بعض البحوث، وحاصله، لأن مقتضى التدريج في تبليغ الأحكام يستوجب القول بحلية بعض المحرمات في الشريعة المحمدية مثلاً حتى يرد التبليغ بتحريمها، فشرب الخمر مثلاً بناء على القول بكون تحريمه كان في المدينة المنورة، يلزم القول بكون شربه محللاً في مكة إلى وقت نزول تحريمه، وهكذا غيره من المحرمات، وهذا ما لا يمكن القول به.

والصحيح أنه لا يقصد من النسخ ما ذكر، وإنما يقصد به أنه تجعل جملة من الأحكام الإلهية لتكون مناسبة ومقتضى الحياة التي يعيشها الإنسان، وما وصل إليه من تقدم وتطور حياتي لتكون مناسبة وذلك الوضع الذي يعيش فيه، مع التوجه إلى أن بعض الأحكام تكون عناصر ثابتة في كل شريعة وكل رسالة، لا تغير ولا تتبدل، ما يعني أن التبدل والتغيـير يكون جزئياً وفي بعض الأمور، وهذا هو المقصود من النسخ، فلاحظ.

وما ذكرناه بياناً للمقصود من النسخ، يدفع القول بعدم ثبوت نسخ كل شريعة لاحقة لما تقدمها، ويشهد لذلك أن المسيح عيسى(ع) لم يكن ناسخاً لرسالة الكليم موسى(ع)، لأن القرآن الكريم بيّن أن الغاية من بعثته هي القضاء بين بني اسرائيل وفك الخصومات، حيث قال سبحانه:- (قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه)[12] ، فإن معنى ذلك أن المسيح(ع) جاء مبيناً وليس ناسخاً لما تقدمه من الشرائع. نعم لو حمل النسخ على تجديد الأحكام، ورفع القيود والأغلال التي كانت موجودة، أمكن التسليم بثبوته، وإلا فلا. فلاحظ[13]. حيث اتضح المقصود من النسخ، وليس هو الإزالة التامة كما يظهر من لكلام السابق، كما لا يقصد به التجديد في الأحكام، بل عرفت أنه نحو تأسيس لمجموعة من الأحكام التي لم تكن موجودة، وإزالة الأحكام قد انتهى أمدها، ولم تعد صالحة للعمل بها. وأما الاستشهاد بالمسيح عيسى(ع)، وبالآية الشريفة، فيمنعه ملاحظة الآية الكريمة تامة، قال تعالى:- (ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه)[14]، فإن التعبير بالبينات إشارة إلى ما جاء به(ع) من الآيات والمعجزات التي تثبت نبوته، من جهة، كما أن ما تضمنته الآية بعد ذلك إنما هو إشارة إلى شيء من هذه الرسالة التي جاء يحملها، لا أنها تمام الرسالة، كما لا يخفى. وهذا يعني أنه لا يمنع أن يكون أحد الأدوار المناطة به(ع) القضاء بين بني إسرائيل، وفك الخصومات، فتدبر.

هذا وقد يجعل أحد الشواهد المساعدة على تحديد المقصود بأولي العزم، وأنهم خصوص أصحاب الشرائع السماوية الخمسة(ع)، من خلال الاستناد إلى قوله تعالى:- (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى)[15]. على أساس أن المقصود من كلمة شرع، الشريعة وهو يشير إلى وجود اتفاق بين الشرائع السماوية الموحاة من قبله تعالى إلى أصحاب الشرائع الخمس، وقد خصهم سبحانه وتعالى بالذكر دون غيرهم[16].

ولا يخفى ما فيه، ضرورة أن هذه الآية وإن تعرضت إلى وجود اتحاد بين الشرائع السماوية النازلة من الباري سبحانه تعالى إلى أصحابها، وسلمنا بأن ذكر الأنبياء الخمسة(ع) فيها يشير إلى الاختصاص بهم، لكنه لا يستفاد منها تحديد المقصود بأولي العزم، إذ أن تحديد ذلك في من عرفت، إنما يتم من خلال الرجوع للنصوص، وهذا يعني أنه بعد الفراغ عن كون المستفاد من النصوص هو ما ذكر، سوف تكون الآية المذكورة موافقة للمعنى.

وبالجملة، إن أقصى ما يمكن أن يقال كون الآية المذكورة صالحة للتأيـيد، لا الدليلية، فتأمل جيداً[17].

وقد تحصل مما تقدم، أن المتعين من هذه الوجوه هو آخرها، استناداً لما جاء في تفسيره عن أهل بيت العصمة(ع).

كلمة من للتبعيض:

ثم إنه حتى لا يمنع من القبول بالخبرين، ويحملان من باب التأويل على الجري والتطبيق، مع أن ظاهرهما على خلاف ذلك، لابد وأن يكون معنى كلمة(من) للتبعيض، وليس للبيان، لأنه لو كانت للبيان، فسوف يعمد إلى تأويل النصين، وما شابههما من النصوص.

هذا وقد ذكر الزمخشري إمكانية الاحتمالين فيها، التبعيض والبيان، دون ترجيحه منه لأحدهما على الآخر[18].

والصحيح أنها للتبعيض، ويشهد لذلك أمران:

الأول: إن حمل كلمة(من) في الآية على البيانية، يستوجب لغوية الوصف المذكور فيها، وهو أولو العزم، لأن ذكره كما لا يخفى يفيد التنويع في الأفراد، ويقسمهم إلى قسمين:

1-من يمتلك الوصف المذكور، وأنه من أولي العزم.

2-من لا يمتلك الوصف المذكور.

ومن الطبيعي أنه لما كان المستفاد من الآية المباركة هو التنويع، فإنه يستدعي كون(من)تبعيضية، وليست بيانية، فلاحظ.

الثاني: إن ملاحظة التفسير الذي ذكرناه للمقصود من كلمة العزم في الآية، وبالتحديد ما هو المستفاد من النصوص، وتحديد أن المقصود به أصحاب الشريعة والحكم، يقضي أن لا تكون بيانية، لأنه ليس جميع الأنبياء أصحاب شريعة وحكم، بل إن الثابت اختصاص ذلك بفئة محددة من الأنبياء، وهم الخمسة(ع).

الأمر بالصبر والهجرة النبوية:

هذا وقد تضمنت الآية الشريفة أمر النبي(ص) بالصبر كما صدر ذلك من أولي العزم، وهذا يثير عدة تساؤلات، ونحن نركز على خصوص ما هو مرتبط بمحل البحث، وحاصله: هل أن إقدام النبي(ص) على الهجرة النبوية، وترك مكة المكرمة، ينافي ما ورد إليه من أمر في الآية المباركة من الصبر؟

ولا يذهب عليك أنه لابد وأن يحرز أن الأمر بالصبر في الآية القرآنية هل هو مولوي، بحيث يكون مؤداه الإلزام، ما يجعل مخالفته إرتكاباً لمعصية، أو أنه لا يخرج عن دائرة الأمر الإرشادي، وبالتالي لا يكون في تركه محذور[19].

ولا ريب أن الجواب عن التساؤل السابق من حيث تصور المنافاة للهجرة النبوية مع الأمر بالصبر في الآية، يتضح بمعرفة المقصود من الصبر فيها، وعليه، نقول: قد يتصور البعض أن المقصود من الصبر في البين هو الصبر على المعاناة والأذى، والذي يكون بمعنى التحمل، وقد ورد الحث عليه في نصوص قرآنية ومعصومية كثيرة، لكن الظاهر كون المقصود به صبراً آخر، وهو صبر الإمهال وعدم الاستعجال، ذلك أن القرآن الكريم في حديثه عن الأنبياء(ع)، قسمهم إلى قسمين:

أحدهما: الذين استعجلوا وقوع العقاب والعذاب على أقوامهم بعدما قاموا بإبلاغ رسالات السماء، ولم يلقوا منهم تجاوباً واستجابة، فعمدوا إلى الدعاء عليهم بنـزول العذاب والعقاب الإلهي، وأمثلة ذلك كثيرة.

ثانيهما: الذين صبروا وتحملوا الأذى في سبيل تبليغ الرسالة، ولم يقوموا بالدعاء على أقوامهم وبطلب نزول عقاب الله عز وجل عليهم، كما في خليل الرحمن إبراهيم(ع).

ولا يخفى أن الأمر بالصبر في تحمل الأذى في سبيل الدعوة في الآية الشريفة محمول على الثاني، وليس الأول، ولا ينافي ذلك نزول العقاب منه تعالى على أمة نوح(ع)، فإن ملاحظة المدة الزمنية التي قضاها في دعوتهم والأساليب التي أتخذها في سبيل ذلك كفيل بإحراز أنه من الذين صبروا صبر الإمهال وعدم الاستعجال، ومثل ذلك الكليم موسى(ع)، فإن قراءة ما كان يلقاه من بني اسرائيل كفيلة بجعل القارئ يطمأن إلى توفر ذلك الصبر لديه، وهذا يجري في شأن المسيح عيسى(ع)، وقد فاقهم جميعاً نبينا الأكرم محمد(ص)، فإنه على ما كلنا يلقاه من الأذى والعذاب وبشتى أصنافه وألوانه، إلا أن لسانه لم يكن يفتر عن ترديد: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.

ومن خلال ما تقدم، يظهر أن هجرة النبي(ص) لم تكن مخالفة للأمر بالصبر، بل إنها من أجلى مصاديق تحقيق الصبر المطلوب في الآية المباركة، لأنها قد أدت إلى تأخير نزول العذاب والعقاب على أهل مكة، علهم يهتدون ويرشدون، ويؤمنوا بالله سبحانه وتعالى.

الهجرة النبوية:

هذا وقد انجرّ الحديث لهجرة النبي(ص)، والمعروف أنها كانت في شهر ربيع الأول، وأن النبي(ص) قد قدم المدينة في الأيام الأولى منه، وقد نصت المصادر التاريخية على تفصيل هذا الأمر، ويمكن للقارئ العزيز الرجوع إليها، ومعرفة التفاصيل المرتبطة بذلك، وأنه متى كان خروجه(ص)، ومن كان معه، ومن الذي بات مكانه في فراشه، وما الذي دعاه إلى الخروج وترك مكة المكرمة.

إلا أننا نود التركيز على نقاط أساس، يثار التساؤل فيها بين فينة وأخرى، وهي:

1-من الذي وضع التاريخ الهجري، وجعل هجرة النبي(ص) مبتدأ لتاريخ المسلمين، هل أن واضع ذلك هو النبي(ص)، أم أن واضعه أحد غيره؟

2-ما هي الأسباب التي دعت النبي(ص) يتخذ المدينة المنورة داراً لهجرته؟

3-ما هي الأعمال التي قام بها النبي(ص) عندما جاء إلى المدينة؟

جعل التاريخ الهجري:

المشهور أن أول من أرخ بالتاريخ الهجري هو عمر بن الخطاب وبمشورة من أمير المؤمنين(ع)، في قضية مشهورة تذكرها المصادر التاريخية، ذلك أن رجلاً كان له على رجل آخر دين يحل في شهر شعبان، فرفع أمره إلى عمر بن الخطاب، فسأله: أي شعبان؟ أمن هذه السنة، أم التي قبلها، أم التي بعدها؟

فجمع عمر على أثرها أصحاب النبي(ص)، وطلبوا منهم أن يضعوا للناس تاريخاً يعرفون به حلول ديونهم، وعندها أختلف الصحابة في الرأي، وتعددت أراءهم، فقال بعضهم يؤرخ كما عليه الفرس بملوكهم، كلما هلك ملك أرخوا من تاريخ ولاية الذي بعده، فكرهوا ذلك. وقال آخرون يؤرخ من زمان الاسكندر، فكرهوا ذلك لطوله، وأختار ثالث أن يكون التاريخ من مولد النبي(ص)، وآخرون اختاروا أن يكون التاريخ من بعثته(ص)، فأشار أمير المؤمنين(ع) أن يكون التاريخ من هجرة النبي(ص) إلى المدينة، وعلل ذلك بكونه ظاهراً ومعروفاً لكل أحد، وهو أظهر من المولد النبوي، والمبعث، فاستحسن عمر والصحابة ذلك، فأمر عمر أن يؤرخ من هجرته(ص)[20].

ولقد كانت العرب قبل ولادة النبي(ص) تؤرخ الأحداث التي تقع وما يكون مرتبطاً بشؤونها الحياتية، بحادثة الفيل المشهورة، ولذا نسمع أنه(ص) قد ولد في عام الفيل، إِشارة إلى التأريخ بتلك الحادثة.

ولم يتضح السر في عدم استمرار المسلمين على هذا التاريخ، والسير على وفقه، والقول بأنه لا ينطوي على ما يتصل بقضية الإيمان والإسلام[21]. غريب جداً، كيف وأن في ذلك العام بالتحديد كانت إشراقة الأمل الإنساني بولادة النور المحمدي، كما سمعت، فأي قضية ترتبط بالإيمان والإسلام أعظم من بزوغ النور المبارك له(ص).

كما لم يتضح السر في جعل البعثة الشريفة مبتدأ للتأريخ الإسلامي، والتبرير بقلة عدد المسلمين، وأنهم لم يتجاوزا في ذلك اليوم ثلاثة أشخاص[22]، كما ترى.

ثم إن عدم وضوح الموجب يساعد على أن مسألة التأريخ لم تكن قضية مرتبطة بالصحابة، وأن شأنها لم يكن من شؤونهم، فإنه لو لم نقل بكونها قضية سماوية شأنها شأن بقية القضايا المرتبطة بالأمر الإسلامي، وما يتعلق بالشريعة، فلا أقل أن ذلك من مسؤوليات المناطة بالقائد، التي توجب عليه القيام بعملية التحديد، خصوصاً عندما يتوجه إلى أن هذا القائد كان بصدد إقامة دولة، وضع أسس وقواعد ترتبط بها، ومن أهم الأسس والقواعد ذات الارتباط بها تحديد الفترات الزمنية، من خلال التأريخ، فلاحظ.

وطبقاً لما سبق، فإن الصحيح ما عليه غير واحد من أعلام الطائفة ومحققيها، من أن الواضع للتأريخ الهجري، هو النبي الأكرم محمد(ص)[23].

ويساعد على ما ذكرنا من أنه(ص) أول من أرخ بهجرته الشريفة، مجموعة من كتبه ورسائله التي صدرته وقد تضمنت الإشارة إلى التأريخ ابتداء من هجريته المباركة:

منها: ما ورد من أن سلمان وأخاه ماه بنداذ طلبا من النبي(ص) أن يكتب لهما ولأهلهما وصية مفيدة ينتفعوا بها، فاستدعى رسول الله(ص) عليا(ع) وأملى عليه أموراً كتبها، ثم جاء في آخر تلك الوصية: وكتب علي بن أبي طالب بأمر رسول الله(ص) في رجب سنة تسع من الهجرة[24].

ومنها: ما روي عن الزهري من أن رسول الله(ص) لما قدم المدينة مهاجراً أمر بالتأريخ، فكتب في ربيع الأول[25].

ومنها: ما رواه الحاكم النيسابوري عن عبد الله بن عباس أنه قال: كان التاريخ في السنة التي قدم فيها رسول الله(ص) المدينة، وفيها ولد عبد الله بن الزبير[26].

ومثل ذلك قد رووا عن أنس بن مالك، من أن واضع التأريخ هو النبي(ص)، وأنه قد أرخ من هجرته المباركة، فتدبر.

يبقى الكلام في أنه إذا كان التأريخ كان من رسول الله(ص)، وأنه هو من حدده، فلماذا إذاً نسب ذلك إلى عمر بن الخطاب؟

إن السؤال المذكور لا يختلف عن غيره من الأسئلة التي تكثر حول مجموعة من القضايا التاريخية التي لا يجد الباحث لها جواباً في المصادر، غير ما هو المتفق عليه من مأجورية كتاب التأريخ، وأنه كتب بغايات خاصة، تدخلت فيه، وراعت أهدافاً وغايات محددة سعت للوصول إليها.

والقول بأن المتداول في عدة مصادر تاريخية من أن واضعه هو عمرـ يرجع إلى تجديد العمل به من قبله بعدما فقد رميته، وترك العمل به من قبل المسلمين[27]، ليس وجيهاً، لأنه لم يمض على المسلمين كثير عهد وابتعاد، حتى يتصور النسيان والترك، فلاحظ.

ولا يذهب عليك أن المقصود بجعل التأريخ ابتداء من الهجرة النبوية، عدّ السنين من ذلك الوقت كما لا يخفى، وهذا يعني أن مبتدأ السنة هو شهر ربيع الأول، وليس محرم الحرام، نعم وجد في بعض كلمات أعلامنا[28] التحديد لبداية السنة بشهر محرم الحرام، فلاحظ.

اختيار المدينة:

قد يغفل الكثير عن السر الذي دعى النبي(ص) أن يتخذ المدينة المنورة داراً لهجرته، ومحلاً لإقامته، من أنه قد نصح أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، وعلل ذلك بأن فيها ملكاً عادلاً لا يظلم أحد عنده، فلماذا لم يتخذ الحبشة دار هجرة له، خصوصاً وأن النجاشي قد أحسن استقبال جعفر بن أبي طالب(ع) وضيافته، بل قد اعتنق الدين الإسلامي حتى قام قومه بالانقلاب عليه، وأظفره الله تعالى بهم. ولماذ لم يتخذ النبي(ص) اليمن مهجراً ودار إقامة، بحيث يقصدها ويقيم فيها؟

ربما يتصور البعض أن هذا يعود إلى ما جرى من بيعتي العقبة الأولى والثانية، وأن الأمر ينحصر فقط في تقدم المدنيـين متمثلين في بعض الأوس والخزج في دعوته(ص) والاستعداد لنصرته.

ونحن وإن كنا لا ننكر أن لذلك مدخلية في المقام، إلا أنه من الصعب قصر الأمر على ذلك، خصوصاً عندما يلتفت إلى أنه(ص) كان عازماً على إقامة دولة، وهذا يستوجب أن يكون محيطاً بمجموعة من المعطيات لها أكبر الأثر والمدخلية في تحقق ذلك، بدءاً من البعد الجغرافي للمنطقة التي سوف يستقر فيها، ويقيم دولته فيها، مروراً بالبعد الاقتصادي لذلك البلد المتخذ لإقامة الدولة، وحتى المعطيات الاجتماعية، فإن لها دخالة في ذلك.

ولو أردنا التدقيق، فإننا لا نجد هذه الأمور متوفرة جميعاً إلا في خصوص المدينة المنورة[29] دون غيرها من المناطق الأخرى، فمن الناحية الجغرافية، وإن كانت المدينة المنورة تشترك مع الحبشة في بعد كليهما عن مكة المكرمة، ما يجعل النبي(ص) ودولته الفتية في مأمن من أي هجوم مباغت أو غارة تقوم بها قريش للقضاء عليها، إلا أن في المدينة نقطة تفتقر إليها الحبشة، وهي أن طريق تجارة قريش إلى الشام يمر من خلالها، وهذا يعطي النبي(ص) القدرة على التحكم في مصير قريش من خلال السيطرة على تجارته، وقطع سبل المواصلة لهم في ذلك. ومن الطبيعي أن هذا سوف يشكل ضغطاً اقتصادياً بل وسياسياً وحتى عسكرياً على قريش، كما لا يخفى.

ولا ريب أن القائد المحنك هو الذي يسعى إلى الاستفادة من جميع الجوانب التي تكفل له القوة من جهة، كما تكفل له سبل الانتصار على أعدائه والسيطرة عليهم، ولا أقل من توفر سبل الإضعاف إليهم، أو جعلهم يعمدون إلى طلب الصلح.

مضافاً إلى أن النبي(ص) لم يكن يرغب أن يجعل مركز دولته بعيداً عن نقطة الالتقاء للمسلمين وهي الكعبة الشريفة.

وأما من الناحية الاقتصادية، فإنه يتوفر في المدينة المنورة الموارد الاقتصادية التي تكفل لها استمرار الحياة فيها وإن تعرضت إلى حصار اقتصادي دون أدنى مشقة، فالأراضي الزراعية والتربة الخصبة التي تتوفر فيها يعطيها هذا الامتياز على غيرها من المناطق الأخرى.

ومن الطبيعي أن القائد عندما يود أن يقيم دولة لابد وأن يكون آخذاً في تخطيطه أنه ربما تعرض إلى حصار اقتصادي يسعى من خلاله السيطرة على دولته والإحاطة بها، وهذا يستوجب أن يكون آخذاً بنظر الاعتبار ملاحظة توفر الموارد الاقتصادية التي تكفل لدولته المقاومة والقدرة على الاستمرار والصمود، فتدبر.

كما أن الوضع الاجتماعي الذي كان موجوداً في المدينة وحالة التشرذم الذي كان يعيشه شعبها متمثلاً في القبيلتين الأوس والخزرج وما كانوا يعانوه من أزمة تتمثل في الحروب الطاحنة والمستمرة والتي كان اليهود المجاورين لهم طرفاً فيها، يساعد على توفر الأرضية لإقامته(ص) فيها دون غيرها من البلدان، لأن المجتمع المدني كان يتطلع إلى شخصية ذات بعد قدسي مميز يمكنه جمع شرائح المجتمع حوله واجتماعهم عليه، ليزيل عنهم كل أبعاد العصبية ويخلق لهم جواً أخوياً متحاباً.

وقد كان هذا الجو مساعداً لأن يتقبل المجتمع المدني شخصية رجل يتولى زمام الأمر ويكون قائداً عليهم، فيوحد كلمتهم، ويجمع شملهم، ويجتمعون عليه.

ونضيف إلى ذلك الاستقلال السياسي الذي كانت تنعم به المدينة المنورة، فإنها لم تكن محسوبة لأي من الدولتين العظميـين في ذلك الوقت، فلا حلف بينها وبين الروم، ولا عهد بينها وبين الفرس، وهذا يعطيها استقلالياً في القرار السياسي، وحرية في التعبير.

ثم إن ملاحظة ما ذكرنا، يظهر المانع من توجه النبي(ص) للحبشة، أو اليمن وجعلهما دار مهجر له، فإن هناك موانع تمنع من اتخاذ الحبشة مثلاً مهجراً له، لأنه لن يتسنى له أن يقيم فيها دولته المباركة، لأنها دولة تتضمن ملكاً وحكومة قائمة، كما أنها لا تمكنه من السيطرة على أعدائه، خصوصاً مع ملاحظة أنه(ص) لم يكن عازماً أن يبدأ القوم بحرب وقتال. مضافاً إلى أن شعب الحبشة لم يكن على استعداد لأن يخضع للنبي(ص) ويتبع دعوته، لتكون مقاليد الأمور بيده، فتدبر.

وأما اليمن فيكفي أن يلتفت إلى أنها كانت تابعة للحكومات القائمة، وأن بينها وبين الروم صلحاً وعهداً يمنع من أن يكون للنبي(ص) فيها دولة تستقل في قرارها السياسي وما شابه.

ما بعد الهجرة:

ولما وصل النبي(ص) إلى المدينة المنورة، لم يخلد للراحة والاسترخاء، بل عمد إلى القيام بأعمال مهمة جداً له أبرز الأثر في إعداد كيان الدولة التيك ان بصدد إقامتها، وقد تمثل ذلك في عدة مهام قام بها، نذكر بعضاً منها:

منها: تأسيس المركز الثقافي والمعرفي للمسلمين، وقد تمثل ذلك في بنائه للمسجد بمجرد أن استقر في أرض المدينة المنورة، ليكون نقطة الالتقاء واللقاء في الجوانب العلمية والمعرفية والتعليمية، ومنه تنبعث حركة العلم والمعرفة، كما يكون مركزاً يصدر عنه القرارات المفصلية في شأن الدولة وشأن أفرادها.

ومنها: خلق روح الأخوة بين أفراد الدولة، فإنهم شعبان مختلفان مهاجرون وأنصار، مكيون ومدنيـين، كما أن المدنيـين أوس وخزرج، وقد كان بينهما ما ذكره التأريخ، وهذا كله يستدعي أن يخلق بينهم لحمة ومحبة وألفة، حتى يمثلوا صفاً واحداً.

ومنها: السعي لبناء جيش لحماية الدولة، يكفل صد الهجمات المتوقعة لأعدائها في أي وقت، ويكون على أتم الاستعداد للدفاع عنها.

——————————————————————————–

[1] سورة الأحقاف الآية رقم 35.

[2] سورة آل عمران الآية رقم 159.

[3] عيون أخبار الرضا(ع) ج 2 ب 32 ح 13. تفسير نور الثقلين ج 7 ص 23.

[4] سورة الشورى الآية رقم 43.

[5] سورة الآية الأحزاب آية رقم 7.

[6] سورة الأعراف الآية رقم 172.

[7] سورة الأنعام الآيات رقم 83-86.

[8] سورة الأنعام الآية رقم 90.

[9] الفكر الخالد في بيان العقائد ج 1 ص 178.

[10] أصول الكافي ج 2 ، تفسير نور الثقلين ج 7 ص 21.

[11] عيون أخبار الرضا(ع) ج 2 ب 32 ح 13. تفسير نور الثقلين ج 7 ص 23.

[12] سورة الزخرف الآية رقم 63.

[13] الفكر الخالد في بيان العقائد ج 1 ص 177.

[14] سورة الزخرف الآية رقم 63.

[15] سورة الشورى الآية رقم 13.

[16] الكاشف ج 7 ص 57.

[17] إن القول بالتأيـيد أيضاً لا يخلو عن شيء، فلاحظ.

[18] الكشاف ج 4 ص 313.

[19] مع تمام التحفظ على القبول بتصور مخالفة الأمر الإرشادي في شأن النبي(ص)، بل الذي نعتقد أنه(ص) لا يمكن أن يخالف الأمر الإرشادي أيضاً.

[20] البداية والنهاية ج 7 ص 73-74 وغيره.

[21] سيد المرسلين ج 1 ص 605؟

[22] المصدر السابق.

[23] سيد المرسلين ج 1 ص 606-608. الصحيح من سيرة الرسول الأعظم(ص) ج 5 ص 46.

[24] أخبار أصفهان ج 1 ص 52.

[25] تأريخ الطبري ج 2 ص 288. صحيح البخاري ج 7 ص 208.

[26] مستدرك الحاكم ج 3 ص 13-14.

[27] الفكر الخالد في بيان العقائد ج 2 ص 413.

[28] السيد عبد الأعلى السبزواري(قده) في كتابه مواهب الرحمن.

[29] مجلة المنهاج العدد 54 ص 188.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة