القسم الرابع
عرفنا العديد من البحوث التي ترتبط بمسألة السفر،وما يتعلق بذلك من أحكام سواء القصر منها وموارده،أو البقاء على التمام،وعدم جواز التقصير للإنسان في بعض الموارد،متى كانت هناك مجموعة من الشروط التي تستدعي ذلك،كما سبق وفصلناه في البحوث السابقة.
حد الترخص:
ونود الحديث الآن عن المحل الذي يسوغ للإنسان فيه أن يبدأ التقصير،وبعبارة أخرى،إن المسافة كما سبق وعرفنا يبدأ المسافر حسابها من آخر بيوتات البلد،لكنه هل يجوز له التقصير،أو الإفطار بمجرد بداية الحساب للمسافة،أو أن ذلك إنما يسوغ له إذا وصل إلى مكان محدد وبلغ ذلك المكان،فلا يمكنه التقصير قبل الوصول إلى ذلك المكان؟
هذا ما نود أن نتحدث عنه في هذه الناحية في البداية،فنقول:
لا يبدأ حكم المسافر بمجرد خروجه من آخر بيت من بيوتات بلده،بل عليه أن ينتظر حتى يبلغ حرم ذلك البلد،وهو الذي يصطلح عليه الفقهاء بعنوان(حد الترخص)فيبدأ القصر متى وصل له،والمراد من حد الترخص هو:
دائرة يـبدأ شعاعها من آخر بيوت البلد،وينـتهي عند النقطة التي يتوارى فيها المسافر عن البيوت،وحده أن يـبتعد عنها حتى يتحول في عين الناظر إليه من نقطة البداية إلى شبح غير مميز المعالم،سواء غابت بيوت البلد عن عينه أم ظلت واضحة المعالم،لأن المعيار بغياب المسافر عن الرؤية،لا غياب البلد عن عينه هو.
ثم إن تقدير غياب المسافر لابد أن يكون في الأرض المنبسطة التي يـبقى فيها الشخص ظاهراً حتى يتحول تدريجياً إلى شبح،فلا عبرة بالغياب الذي ينـتج من هبوط المسافر في وادٍ،أو دخوله في نفق،بحيث لولا دخوله في هذا النفق،أو هبوطه هذا الوادي لكان واضحاً للناظر إليه.
وعلى هذا إذا خرج المسافر وتجاوز عن بلدته وتجاوز بيوتها يـبقى على التمام حتى يخرج من حريمها،وبعدها يرتب أثر السفر فيقصر.
س:كان الكلام السابق حول الذهاب،فهل أن هذا يجري أيضاً في الإياب والعودة،بمعنى أن المسافر يبقى على القصر حتى يصل إلى حريم بلده المسمى بحد الترخص،وبعد ذلك لا يسوغ له التقصير بل وظيفته تكون هي التمام؟…
ج:هذه المسألة خلافية بين علمائنا،حيث يذهب بعضهم إلى أنه لا فرق بين الذهاب والعودة،فكما أنه إذا وصل حريم البلد في الخروج فعليه التقصير،فكذلك إذا ووصل حريم البلد في الدخول والعودة فعليه الإتمام في الصلاة،وذهب قسم آخر من العلماء إلى أن هناك فرقاً بين الذهاب والخروج وبين الدخول والعودة،ففي الذهاب وظيفتهم هي الوصول إلى حريم البلد،وحد الترخص،فلا يسوغ لهم التقصير قبل ذلك،لكن في الدخول لا يكفي الوصول إلى حريم البلد،بل لابد من الدخول إلى داخل البلد،بل الأفضل أن يصلوا إلى نقطة الانطلاق التي انطلقوا منها،ولنفرض أنها بـيت المسافر،فالأفضل أن يصلوا إليه.
س:هل يضر اتصال البلاد ببعضها من اعتبار حد الترخص،أو لا يضر ذلك؟…
ج:لا يضر اتصال البلاد ببعضها من اعتبار حد الترخص،بل يعتبر حينئذٍ وكأن الأرض فارغة،لا تحتوي بناءاً،ويقدر حد الترخص بالبيان الذي سبق وذكرناه،وترتب عليه الآثار.
هذا وقد ينـتهي حد الترخص على هذا التوضيح في أول البلد المجاور،أو في وسطها،حسب انتهاء مسافة الحد فيها.
س:هل يمنع انتشار بيوت القرى وتوزعها عن معرفة حد الترخص وتحديد مبتداه؟…
ج:إن انتشار بيوت القرى وتوزعها غير مانع من اعتبار آخر بيت من البلد هو آخر البلد،حتى لو كان ذلك البيت منعزلاً،أو كان بعيداً عن غيره من البيوت بعداً بحيث لا يخرج عن كونه أحد بيوت هذا البلد عرفاً.
س:هل أن حد الترخص،وما يتعلق به من أحكام يخـتص بخصوص السفر من الوطن والعودة إليه،أو أنه يجري في مبتدأ كل سفر وفي كل منتهاه؟…
ج:وقع الخلاف بين العلماء في هذه المسألة،حيث قال بعضهم باختصاص حد الترخص في الذهاب والعودة بخصوص السفر من الوطن و العودة إليه،فلا يشمل المقيم في غير وطنه عشرة أيام،كما لا يشمل الشخص الذي بقي متردداً في بلد ثلاثين يوماً،بل وظيفتهما هي القصر بمجرد الخروج من هذين المكانين،دون حاجة منهما للوصول إلى حد الترخص.
وقال آخرون بإلحاق محل الإقامة والمكان الذي بقي فيه متردداً مدة ثلاثين يوماً بالوطن،فمتى أراد السفر منهما فعليه،أن يلحظ حد الترخص،كما أنه متى وصل لهما فعليه ملاحظة ذلك أيضاً.
س:إذا صلى المسافر صلاته قصراً لكونه يعتقد أنه تجاوز حد الترخص،ثم تبين له أنه لم يتجاوزه بعد،فما هو حكم صلاته في هذه الحالة؟…
ج:إذا اعتقد المسافر أنه قد تجاوز حد الترخص،فصلى قصراً،ثم تبين له أنه لم يتجاوز حد الترخص بعد،فعليه حينئذٍ أن يعيد صلاته التي صلاها قصراً،فإن كان لم يتجاوز منطقة حد الترخص كان الواجب عليه أن يعيدها تماماً،أما لو خرج من منطقة حد الترخص فعليه أن يعيدها قصراً.
وإذا لم يقم بإعادتها في الوقت كان الواجب عليه قضاؤها خارج الوقت،بحسب ما فاتت منه،فإن كانت قد فاتت منه قصراً قضاها كذلك،وإن كانت قد فاتت منه تماماً فليقضها تماماً.
س:بناءا على رأي بعض العلماء القائلين بوجود حد الترخص في الرجوع كما في الخروج،إذا اعتقد المسافر العائد إلى وطنه أنه وصل حد الترخص ودخل فيه،فصلى تماماً،ثم تبين له أنه لم يصل لحد الترخص بعد،فما هو حكمه؟…
ج:إذا صلى المسافر العائد إلى وطنه تماماً لكونه يعتقد أنه قد وصل إلى حد الترخص،فعليه أن يعيد الصلاة التي صلاها تماماً قصراً،نعم إذا دخل في حد الترخص فعليه أن يعيدها تماماً،فإن لم يقم بإعادتها وجب عليه قضاؤها كما فاتت منه،فإن كانت قد فاتت منه داخل حد الترخص،كان عليه أن يعيدها تماماً،أما لو كانت قد فاتت منه قبل وصوله إلى حد الترخص لزمه أن يقضيها قصراً.
س:إذا شك المسافر في أنه هل وصل إلى حد الترخص ليقصر في ذهابه،أو أنه لم يصل إليه بعد،فماذا يفعل؟…
ج:لابد للمسافر من تحصيل العلم بكونه قد بلغ حد الترخص،فإذا كان خارجاً من وطنه مثلاً،فلابد أن يحصل له العلم بكونه قد توارى عن بيوت البلد،فإذا كان شاكاً في بلوغه حد الترخص،فحينئذٍ يـبقى على التمام،حتى يحصل له العلم ببلوغه إلى حد الترخص.
وكذلك لو كان راجعاً من سفره،بناءاً على قول من يعتبر حد الترخص في الرجوع من العلماء،فلو كان شاكاً في وصوله إلى حد الترخص فعليه أن يحصل العلم بوصوله إليه،وإلا بقى على القصر.
س:بعدما عزم الشخص على السفر،ووصل إلى حد الترخص،حصل له أمر استدعى منه أن يرجع فيدخل من جديد في حد الترخص،فكيف يصلي قبل حد الترخص إذا أراد الصلاة؟…
ج:إذا حصل للمسافر ما يستدعي أن يعود فيدخل في حد الترخص،بعدما خرج منه فعليه أن يصلي تماماً إذا أراد الصلاة حتى يخرج منه من جديد فوظيفته حينئذٍ هي القصر.
الخلل في صلاة المسافر:
قد يحصل خطأ من قبل بعض المسافرين حين إتيانهم بصلاتهم أثناء السفر،فيأتي بها قصراً مكان التمام،أو العكس يأتي بها تماماً مكان القصر،ولهذا نشير هنا لبعض موارد الخلل التي تحصل بشيء من التوضيح:
س:إذا صلى المسافر تماماً مكان القصر،فماذا عليه؟…
ج:بعدما وجبت على المسافر الصلاة قصراً،فقام وصلى تماماً فعندنا عدة حالات:
الأولى:أن يكون المسافر حينما صلى تماماً مكان القصر متعمداً وملتفتاً إلى أن وظيفته هي القصر،لكنه أراد المخالفة فصلى تماماً مكان القصر،ففي هذه الحالة تبطل صلاته،ويجب عليه إعادتها.
الثانية:أن يكون قد صلى تماماً مكان القصر جهلاً منه بأن وظيفته هي الصلاة قصراً،حيث لا يعلم بوجود تقصير في الشريعة المقدسة.
وهذا صلاته التي صلاها بهذه الكيفية في مثل هذا الفرض يحكم بصحتها.
الثالثة:أن يكون المسافر على معرفة بأن وظيفة المسافر هي الصلاة قصراً،لكنه يتخيل أن السفر الذي يوجب القصر غير شامل له،كما لو كان عازماً على قطع المسافة ذهاباً وإياباً،فيقطع نصفها في الذهاب ونصفها في الإياب،فاعتقد أن من كان سفره بهذه الكيفية لا يشمله عنوان السفر فلا يجوز له التقصير.
وهذا أيضاً يحكم بصحة صلاته التي صلاها تماماً مع أن وظيفته هي الصلاة قصراً.
الرابعة:أن يحصل للمسافر غفلة عن سفره الذي هو فيه،ويخيل إليه أنه لا زال متواجداً في بلده،فيصلي تماماً،ثم بعد الفراغ يتذكر أنه في سفر،فهنا عليه أن يعيد الصلاة إذا كان الوقت باقياً،أما لو استمرت الغفلة عنده حتى انقضى وقت الصلاة فلا يجب عليه قضائها.
الخامسة:أن تحصل الغفلة للمصلي عندما قام لأداء الصلاة،فهو لم يغفل عن كونه مسافراً،وإنما غفل عن أن حكمه هو القصر،فهذا عليه إعادة الصلاة أيضاً إذا كان الوقت باقياً،لكن لا يجب عليه قضائها إذا انتهى الوقت.
السادسة:أن يتوجه المسافر إلى بلدة معينة ويتخيل أنها قريـبة من بلده بحيث لا تبلغ المسافة إليها مسافة شرعية،فيصلي صلاته تماماً،ثم يعرف بعد ذلك أن البلد التي قصدها تبلغ المسافة إليها مسافة شرعية،فيجب عليه إعادة الصلاة التي صلاها تماماً إذا كان الوقت باقياً قصراً،كما يجب عليه قضائها إذا خرج الوقت.
س:شخص خرج من بلده إلى بلد قريب فصلى قصراً،ظناً منه أن المسافة إليها تبلغ مسافة شرعية،ثم انكشف له أنها ليست كذلك،فما هو حكم صلاته؟…
ج:إذا وجبت على المسافر الصلاة تماماً فصلى قصراً،كانت صلاته باطلة ووجبت عليه إعادتها،سواء حصل له العلم ببطلانها أثناء الوقت أم حصل له ذلك بعد انقضائه.
س:مسافر نوى الإقامة في بلد عشرة أيام،فصلى قصراً بدل أن يصلي تماماً،جهلاً منه بأن وظيفته هي التمام فما حكم صلاته؟…
ج:إذا أقام المسافر في بلدٍ عشرة أيام وصلى قصراً جهلاً منه بأن المسافر إذا نوى الإقامة في بلد وجب عليه الصلاة تماماً،فصلاته صحيحة.
س:إذا سافر المسافر سفر معصية فصلى قصراً،جهلاً منه بأن وظيفته هي التمام،فما هو حكم صلاته؟…
وكذا إذا سافر للصيد اللهوي فصلى قصراً جهلاً منه بأن وظيفته هي التمام فما هو حكم صلاته؟…
ج:لا يبعد الحكم بصحة صلاتهما في هذين الموردين.
س:قد يدخل وقت الفريضة على المكلف وهو بعدُ في بلده لم يسافر كما أنه لم يصلِ،فإذا أراد بعد ذلك الصلاة لكن بعدما سافر سفراً شرعياً،وكان وقتها لا زال باقياً،فكيف يصليها،هل يصليها قصراً أو يصليها تماماً؟…
ج:في مثل هذه الحالة ما دام أن الوقت لا زال باقياً،فيجب عليه أن يصليها قصراً.
س:إذا دخل وقت الفريضة على المكلف وهو مسافر ولم يصلِ،وعاد إلى وطنه ووصل إليه قبل أن ينقضي وقت الصلاة،فكيف يصلي الصلاة التي عليه؟…
ج:في مثل هذه الحالة عليه أن يقوم بالصلاة تماماً لأنه قد رجع إلى وطنه.
س:إذا دخل وقت الصلاة على المسافر وهو بعدُ في بلده،ولم يصلِ حتى انقضى الوقت،ثم سافر وأراد الصلاة فكيف يصلي؟…
وإذا كان المسافر في السفر وصار وقت الصلاة لكنه لم يصلِ حتى انتهى الوقت ثم دخل إلى وطنه فكيف يصلي حينئذٍ؟…
ج:إذا فاتـته الصلاة في الحضر بمعنى أنه قد انـتهى وقتها وهو في بلده ثم سافر،فعليه أن يقضيها تماماً حتى لو كان سيقضيها في السفر.
وإذا فاتـته الصلاة في السفر بحيث انقضى وقتها ولم يصلِ فعليه أن يقضيها قصراً حتى لو عاد إلى وطنه.
كل ذلك لأن المدار في القضاء على الحالة التي يكون عليها المسافر عندما فاتت منه الصلاة،لا على حالته حين قضائها.
س:شخص مسافر دخل في الصلاة يريد الصلاة تماماً غفلة منه عن أن وظيفته هي القصر،وانـتبه إلى نفسه بعد دخوله في ركوع الركعة الثالثة فما حكم صلاته؟…
ج:إذا حصل له الانتباه بعد الدخول في ركوع الركعة الثالثة،فقد بطلت صلاته،أما لو حصل له الانتباه قبل الدخول في الركوع فعليه أن يهدم القيام الزائد ويسلم بعد الركعتين من دون تشهد لكونه قد تشهد من قبل، وتكون صلاته صحيحة،وعليه سجود السهو للقيام الزائد.
التخيـير في المواضع الأربعة:
يتخير المسافر في أربعة مواضع بين القصر والتمام،فله أن يختار أيهما،فيجوز له الصلاة تماماً فيها حتى لو لم يكن قد نوى الإقامة عشرة أيام،فضلاً عن جواز القصر كما هو واضح،وتلك الأماكن الأربعة هي:
1-مكة المكرمة.
2-المدينة المنورة.
3-الحائر الحسيني في كربلاء المقدسة.
4-مسجد الكوفة.
س:بالنسبة إلى التخيـير في هذه الأماكن،هل هو بنحو مطلق،بمعنى أنه يجوز للإنسان أن يتخير فيها بين القصر والتمام في أي مكان منها،أو أن ذلك مخصوص في بعض الأماكن؟…
ج:التخيـير في هذه الأماكن يختلف من محل لآخر،فالتخيـير في الحائر الحسيني يختص بخصوص المكان الذي يكون داخلاً في عنوان الحائر،والظاهر أنه خصوص المكان الذي يكون تحت القبة الشريفة.
وأما مسجد الكوفة فيختص التخيـير به دون غيره،فكل ما صدق عليه أنه مسجد الكوفة شمله التخيـير،ومعالمه لمن زاره واضحة ومعلومة.
وأما مكة المكرمة والمدينة المنورة،فالقدر المتفق عليه بين علمائنا هو كل ما صدق عليه مكة والمدينة القديمتين،فيسوغ التخيـير فيهما.
ووقع الخلاف بالنسبة لمكة والمدينة الحديثـتين اللتين حصلتا نتيجة التوسع العمراني،فهل يشملهما التخيـير أو لا؟…
حيث قال جماعة بأنه يجري التخيـير في كل ما صدق عليه مكة والمدينة،دون فرق بين كونهما القديمتين،أو الجديدتين،وقال آخرون بأن التخيير مخصوص بمكة والمدينة القديمتين،فلا يـبنى على حصول التخيـير في مكة والمدينة الجديدتين.
خاتمة:
يستحب للمسافر أن يقول بعد كل صلاة صلاها قصراً،ثلاثين مرة:سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر،وتسمى هذه التسبيحات بتسبيحة الجبر.