أشتمل القرآن الكريم على آيات عرفت بأنها آيات الأحكام، وقد نشأت تسميتها بذلك لاستنباط بعض الأحكام الشرعية منها، ومن تلك الآيات، آيات الصوم التي وردت في سورة البقرة، وسوف نتناول هذه الآيات بالبحث من ناحيتين:
الأولى: الناحية التفسيرية، فنعمد إلى عرض كلمات المفسرين، ونشير إلى ما بينهم من خلاف لو كان بينهم، وهكذا.
الثانية: الناحية الفقهية، ونقصد بذلك الأحكام الشرعية التي استفادها أعلامنا من هذه الآيات الشريفة. وأول آية من آيات الصوم التي وردت في سورة البقرة، هي قوله تعالى:-
(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)[1].
والحديث في البداية من الناحية التفسيرية، ويقع ضمن عدة محاور:
الأول: شمولية الآية لعامة المكلفين:
إن أول ما يلحظه القارئ للآية الشريفة توجيهها الخطاب لخصوص الذين آمنوا، وهذا قد يوحي باختصاص التكاليف السماوية بالمؤمنين المسلمين، دون غيرهم من الجنس البشري، فلا يكون الكافر مشمولاً بهذه التكاليف، ولا يكون ملزماً بها، أو يطالب الإتيان بها خارجاً.
والبحث المذكور أعني اختصاص التكاليف الإلهية بالمسلمين، فلا يشمل الكفار محط خلاف بين علمائنا، فبعد اتفاقهم وجميع المسلمين إلا من شذّ على أن الكفار مكلفون بأصول الدين، وقع الخلاف بينهم في أنهم مكلفون بفروع الدين أم لا، فانقسموا لقولين، فقال المشهور منهم بأن الكفار مكلفون بفروع الدين كتكليفهم بأصول الدين، وهذا يعني أن الكافر مطالب بالصلاة والصوم والحج، وهكذا بقية الفروع عمدة ما كان لو أتى بشيء من ذلك لم يصح منه، والسبب لعدم تأتي قصد القربة منه كما لا يخفى.
وقال آخرون أن التكليف للكفار يختص بأصول الدين، فهم غير مكلفين بفروعه، وعليه لا يوجد خطاب موجه لهم بالإتيان بالصلاة أو الصوم أو الحج أو الزكاة، وبقية الفروع الأخرى.
الثمرة بين القولين:
وتظهر الثمرة في موردين:
الأول: في عالم الدنيا، فلو بنينا على عدم تمامية قاعدة الإسلام يجب ما قبله، وأسلم الكافر، فبناءً على قول المشهور من علمائنا، يكون الكافر ملزماً بقضاء ما فاته من صلاة وصوم وحج وما شابه من فروع الدين، وذلك لأنه كان مكلفاً بها، وقد عصى بتركها، فيجب عليه قضائها. نعم وفقاً لتمامية قاعدة الإسلام يجب ما قبله، لا يجب عليه شيء من ذلك.
وهذا بخلاف ما لو بني على القول الثاني، وهو تخصيص تكليفهم بخصوص الأصول دون الفروع، فإنه سواء تمت القاعدة المذكورة، أم لم تتم، فإنه لا يجب عليهم الإتيان بشيء كما لا يخفى.
الثاني: في يوم القيامة، فبناءً على قول المشهور، يستحق الكافر عقابين، أولهما على مخالفته لأصول الدين، والثاني منهما على تركه لفروع الدين، فكما يستحق العقاب على إنكار التوحيد، كذلك يستحق العقاب على تركه الصلاة، وتركه الصوم، وما شابه.
وهذا بخلافه على القول الثاني، فإنه لا يكون مستحقاً إلا عقاباً واحداً، وهو نتيجة إخلاله بأصول الدين، وعدم إيمانه بها، فلاحظ.
وعلى أي حال، فقد اعتمد القائلون بالقول الثاني، أعني حصر تكليف الكفار بأصول الدين دون الفروع، على عدة آيات واحدة منها الآية محل البحث، وهي قوله تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)، وأمثال ذلك من الآيات الشريفة التي اختص الخطاب فيها بظاهره بالمؤمنين، فتكون مقيدة للإطلاق أو العموم الوارد في الآيات الأخرى التي تضمنت الخطاب للناس، مثل قوله تعالى:- (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً).
ولا يخفى أن البناء على صحة التقيـيد أو التخصيص للإطلاق أو العموم وفقاً لما أراده أصحاب القول الثاني، يعتمد على وجود منافاة بين الطائفتين من الآيات الشريفة بحيث تكون إحداهما مثبتة، والأخرى نافية، ولا ريب في عدم تحقق هذا في المقام، ضرورة أن كلتا الطائفتين مثبتة، عمدة ما كان وجهت إحداهما الخطاب لفئة خاصة، بينما وجهت الثانية منها الخطاب لجميع الفئات، ومن الطبيعي أن توجيه الخطاب لفئة خاصة قد يكون موجبه أموراً دعت لذلك.
نعم يمكن للقائلين بالقول الثاني أن يقربوا دعواهم من خلال جهة أخرى، مفادها أن ذكر الوصف في الآيات الشريفة مثل آية الصوم، إما أن يكون له معنى وأثر، أو لا فائدة فيه، فيكون ذكره لغوياً، ولا ريب في أنه لا يتصور أن يكون ذكره لغوياً، فهذا يعني أنه بصدد بيان وتحديد المطلوب، فكأنه قال: من لم يكن مؤمناً، فليس مطالباً بالصوم، وهذا هو ما يسمى في الأصول بمفهوم الوصف، وعليه فيحكم بوجود المنافاة بين الطائفتين، وذلك لأن الطائفة الأولى نصت على أن الخطاب لمطلق الجنس البشري، سواء كان مؤمناً أم لم يكن، بينما الطائفة الثانية خصصت الخطاب بخصوص المؤمن، فلا تشمل الكافر، وبالتالي تكون الطائفة الثانية منافية للطائفة الأولى، فيجمع بينهما بحمل المطلق أو الخاص منهما على المطلق، أو المقيد، فلاحظ.
وهذا التقريب وإن كان في نفسه حسناً، لكنه يعتمد اعتماداً كلياً على التسليم بمبنى يذكره علماء الأصول، وهو ثبوت المفهوم للوصف، وهو محط خلاف بينهم، إذ المعروف والمشهور بينهم البناء على عدم ثبوت هذا المفهوم، وخالف في ذلك آخرون، وبالتالي يكون البناء على القبول بهذا التقريب رهين القبول بثبوت هذا المسلك الأصولي، فلو قبل به كان ذلك مساعداً للاستناد لهذه المقالة، وإلا فلا.
سبب ذكر صفة الإيمان في الخطاب:
ثم إن القائلين بعدم ثبوت التكليف للكفار بالفروع في راحة عن سؤال يطرح، وهو لماذا وجه الله سبحانه وتعالى الخطاب للمؤمنين دون غيرهم في الآية، وموجب استراحتهم ترجع لأنهم يقررون أن المخاطبين بذلك هم خصوص المؤمنين، فلذلك يكون الخطاب موجهاً لهم.
وهذا بخلاف القائلين بثبوت التكليف بفروع الدين للكفار كثبوته للمسلمين، فإنهم يحتاجون إيجاد جواب عن منشأ التخصيص في الخطاب في الآية بالمؤمنين دون غيرهم، مع أنهم مكلفون مثلهم.
ولهذا ذكرت في البين إجابات، عمدتها ثلاث:
الأولى: إن الصوم عبادة مشروطة بنية التقرب لله تعالى، فما لم يكن الصوم مشتملاً عليها، يحكم بعدم صحته. ولا ريب في أن غير المؤمن بالله سبحانه لا يتأتى منه قصد التقرب لله عز وجل، وهذا يعني أنه حتى لو تسنى له الإتيان بهذا التكليف، لا يحكم بصحته، لعدم تحقق قصد القربة والنية منه.
الثانية: إن الموجب لتخصيص الخطاب بالمؤمنين دون غيرهم يرجع لكونه من السالبة بانتفاء الموضوع، بمعنى أن الذي سوف يمتثل التكليف الموجه هو خصوص المؤمن، أما غير المؤمن، فإنه لن يمتثل ذلك، فأي معنى إذاً في أن يوجه له الخطاب، والحال هذه.
الثالثة: إن تخصيص الخطاب بالمؤمنين من أجل تخفيف مشقة التكليف الموجه لهم، خصوصاً وأن المؤمنين يلتـذون عندما يسمعون مثل هذا الخطاب، فيمتلك هذا الخطاب كل مسامعهم وقلوبهم شغفاً وعشقاً إليه[2].
——————————————————————————–
[1] سورة البقرة الآية رقم
[2] التجديد ج 3 ص 355.