الرحـمة:
هذا هو العطاء الثاني الذي ذكره النبي(ص) في هذا الشهر المبارك، فأشار إلى أنه أقبل على الناس بالرحمة، وهذا يدعون إلى البحث في البداية عن حقيقة الرحمة، ومن ثمّ التعرض بعد ذلك إلى بيان أقسامها، حتى يتسنى لنا التعرف على معنى مجئ شهر رمضان المبارك بالرحمة.
معنى الرحمة:
الرحمة، وهي ضد القسوة، وقد عُرّفت كما في مفردات الراغب[2]: بأنها رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم. وهي تستعمل على نحوين:
الأول: في الرقة المجردة عن الإحسان.
الثاني: في الإحسان المجرد عن الرقة.
ولا يخفى أن استعمالها في الباري سبحانه وتعالى، لا يتناسب مع النحو الأول، وعليه يكون استعمالها فيه، من النحو الثاني.
هذا ومنشأ رفضنا للنحو الأول في حق الباري سبحانه وتعالى، لكونه يمثل حالة من الشعور الوجداني والنفسي والقلبي الذي يحاول من خلاله الشاعر السعي لسد النقص عند الآخرين. وهذا لا يستقيم في حقه سبحانه لأنه:- ( ليس كمثله شيء)
وعلى هذا يمكننا القول بأن الرحمة عند الله سبحانه وتعالى عبارة عن فيض يفيضه لسدّ حاجات ونواقص الموجودات التي بحسب ذاتها تكون فقيرة ومحتاجة إلى الكامل المطلق.
وبناءاً على هذا سوف تكون الرحمة صفة من الصفات الفعلية للذات المقدسة، كالخلق والرزق، يوجدها حيث يشاء.
أقسام الرحمة الإلهية:
هذا وقد ذكر القرآن الكريم لرحمته تعالى قسمين، وهما: الرحمة الرحمانية، والرحمة الرحيمية.
فالرحمة الرحمانية لا تختص بشيء دون شيء، وبحال دون حال، وبجهة دون جهة. فهي عبارة عن إفاضة الوجود على الأشياء وإبقائها وإكمالها بالكمالات اللائقة بفطرتها. ومن الواضح أن هذا أمر عام لجميع الأشياء، دنيوية أم أخروية.
أما الرحمة الرحيمية، فإنها إفاضة الكمالات الاختيارية المرضية على فئة خاصة مختارة من الأنس، والجن.
وبعبارة ثانية، إن كلمة الرحمن لا تختص بفرد دون فرد، بل تشمل المحسن والمسيئ، والصالح وغير الصالح، والمؤمن والكافر، أما كلمة الرحيم، فإنها تشير إلى رحمة مختصة بفئة خاصة من الناس دون غيرهم، فلا شمولية فيها لجميع الأطراف، بل هي مختصة بالمؤمنين فقط دون غيرهم. ويؤيد هذا ما روي عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: والله إله كل شيء الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بالمؤمنين خاصة.
عمومية الرحمة:
ولكي يتضح ما ذكرناه من عمومية في رحمة الله سبحانه، نشير إلى ذلك وفقاً لما جاء في القرآن الكريم من مصاديق:
منها: الرحمة في مقام التكوين والخلق، قال تعالى:- (أهم يقسمون رحمة ربك)، وقوله تعالى:- (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب)، وقوله سبحانه:- (يختص برحمته من يشاء)، وقوله عز من قائل:- (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار)
ومنها: الرحمة في مقام الهداية:، قال تعالى:- (هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة)، وقال سبحانه:- (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، وقال عز من قائل:- (وأدخلني برحمتك في الصالحين).
ومنها: الرحمة في مقام إيجاد ما يلزم في الحياة، قال تعالى:- (خلق لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل بينكم مودة ورحمة)، وقال سبحانه:- (ويستخرجا كنـزهما رحمة من ربك).
ومنها: الرحمة في رفع الموانع، قال تعالى: -(لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم)، وفي خصوص رفع الموانع الروحية، قال سبحانه: -(إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي).
ومنها: في مقام التفضل، قال تعالى: -(ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم)، وقال سبحانه: -(ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم).
والمتحصل من جميع ما ذكر أن الرحمة فيض إلهي واسع، يشمل جميع الموجودات في السماء والأرض، وأن نورها كنورا لوجود، وفي كل مورد وجد نور الوجود الإلهي، فإنه يلازمه نور الرحمة الإلهية[1].
نعم يتفاوت الأفراد من حيث انبساط نور الرحمة الإلهية عليهم بحسب ما يملكون من استعدادات وقابليات، فليسوا في هذه الناحية سواء، بل هم متفاوتون كتفاوتهم في نور الوجود الإلهي، فبعضهم قد يصل إلى درجة فوق الاستفادة، وهو مقام الصالحية، فيدخلهم الله سبحانه وتعالى في رحمته الرحيمية الخالصة، وبعضهم يصل إلى مستوى من الضعف والنـزول، فلا يستفيد إلا من الرحمة الرحمانية العامة. فلاحظ.
بقي أن نشير إلى أن إفاضة الله سبحانه وتعالى للرحمة، لا يحتاج سبباً من المخلوق، بل هو مقتضى ربوبيته سبحانه وتعالى، فلا يحتاج إفاضتها إلى عمل من العبد مثلاً، ولذا عبروا بأن اقتضاء الرحمة اقتضاء ربوبي.
إقبال رمضان بالرحمة:
بعد وضوح حقيقة الرحمة، وبيان قسميها، ووضوح أنها اقتضاء ربوبي، يتضح لنا معنى إقبال شهر رمضان بالرحمة، لأنها مصداق من مصاديق الرحمة الرحمانية التي يفيضها الله سبحانه على عباده تفضلاً.
وما ذكرناه يتناسب وما سبق منا من أن الخطاب النبوي عام وشامل لجميع أفراد العنصر البشري، وليس مختصاً بالمسلمين خاصة.
نعم يمكن للمؤمن أن يجعل الرحمة الحاصلة في هذا الشهر الشريف رحمة رحيمية، وهي الخاصة المفاضة من قبله سبحانه وتعالى لمن يشاء من عباده المتقين، وذلك متى ما استفاد من هذا الشريف، واستثمر وقته فيه.
ومنه يتضح الفرق بين المؤمن وغيره بالنسبة لهذه الرحمة، ذلك لأنه قد يتصور البعض أنه ووفقاً لما بنينا عليه من أن الرحمة المقصودة في الخطبة النبوية رحمانية، فأي فائدة يجنيها المؤمن حينئذٍ، فإنه يتضح من أن المؤمن يمكنه الوصول لنيل الرحمة الرحيمية، يجعلها صاحب امتياز على غيره من بقية العنصر البشري، فلاحظ.
——————————————————————————–
[1] التحقيق في كلمات القرآن الكريم.