بعث الله سبحانه وتعالى النبي محمد(ص) هادياً وبشيراً ونذيراً، ليخرج الأمة الإنسانية من الضلال إلى الهدى، وأشرق نور الهداية في أرض مكة المكرمة، ليكون نبراساً يضئ لكافة أنحاء المعمورة، لكن متى كان ذلك، وفي أي شهر منه من شهور السنة، وأسئلة أخرى تتكرر كلما مرت هذه الذكرى المباركة تدور حولها.
ومن الطبيعي أنه لا يتسنى لنا الإجابة على جميع تلك الأسئلة من خلال بحث واحد يلقى أو يكتب، وهذا يعني أننا نقتصر على الإجابة على شيء منها، ونتمنى التوفيق للإجابة على البقية في مجالات أخرى، مضافاً إلى أننا نأمل توفيق القارئ العزيز على الإحاطة عليها من جهات أخرى.
تاريخ البعثة:
أختلف مؤرخو المسلمين في تحديد وقت البعثة النبوية، وأنها وقعت في أي شهر من أشهر السنة، فاتفق علماء الشيعة على وقوعها في شهر رجب الأصب، في السابع والعشرين منه، وأشتهر بين علماء السنة أنها كانت في شهر رمضان المبارك، والذي أوجب قول السنة بذلك لزوم وجود المعجزة عند النبي المرسل من قبل الله تعالى حتى يكون مصدّقاً في دعواه، وقد تقرر أن المعجزة الخالدة لرسول الله(ص) هي القرآن الكريم، وعليه فلابد وأن يصاحب بعثته الشريفة تزويده بالقرآن الكريم كمعجزة تكون شاهد صدق على صحة دعواه النبوة، وبالعودة إلى القرآن الكريم نجد أن أول نزول له كان في شهر رمضان المبارك، وفقاً لقوله تعالى:- (شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن)[1]، وقوله تعالى:- (إنا أنزلناه في ليلة مباركة)[2]، وكذا قوله سبحانه:- (إنا أنزلناه في ليلة القدر)[3]، فإن هذه الآيات تفيد نزول القرآن الكريم في ليلة القدر المباركة في شهر رمضان المبارك، وهذا أول نزول له، فيكون مصاحباً لبعثة النبي(ص)، فيثبت كونها في شهر رمضان المبارك.
والحاصل، إن الموجب الذي دعى القائلون بكون البعثة الشريفة كانت في شهر رمضان المبارك هو ملاحظة الآيات الشريفة التي أشير إليها، والتي تضمنت نزول القرآن الكريم في شهر رمضان، ومن الطبيعي أن هذا النـزول كان مصاحباً للبعثة، فيكون ذلك دليلاً وشاهداً على أنها فيه كما لا يخفى، فلاحظ.
وما ذكر من لزوم تزويد النبي المرسل(ص) بالمعجزة، ووجودها لديه حق لا كلام فيه، إلا أن ما يستحق البحث والدراسة، هو أن وجودها هل يكون ابتدائياً وبنحو الإطلاق، بمعنى أن تكون موجودة عنده ويبدأ بعرضها على قومه المرسل إليهم من دون أن يكون هناك تحدياً منهم، ومطالبة إياه بإثبات صحة دعواه، وإقامة البرهان على كونه مرسلاً من قبل الله تعالى سبحانه، أم أن وجودها يتوقف على وجود تحدٍ من قبل قومه، يستوجب إظهارها وإقامتها؟
الظاهر من تعريفها هو الثاني، وهذا يعني إمكانية بعث الرسول وإرساله في البداية دون تزويده بالمعجزة، كما لا يخفى. على أنه لم يثبت انحصار معجزة النبي الأكرم محمد(ص) في خصوص القرآن الكريم حتى يقال بلزوم اقتران بعثته المباركة(ص) بنـزول القرآن الكريم، فقد ذكر المؤرخون وأرباب السير وجود معاجز أخرى له(ص) أبرزها أمام قومه. نعم الثابت تأريخياً هو نزول بعض آيات سورة العلق في ابتداء البعثة الشريفة، كما لا يخفى.
وإن كان يعارضه رأي ذكره بعض المحققين يفيد أن نزول القرآن الكريم كان بعد انقضاء الدعوة السرية، والتي استغرقت ثلاث سنين فلاحظ.
ومقتضاه الالتـزام بتحقق البعثة الشريفة، لكن من دون نزول شيء من القرآن عليه(ص) خلال مدة من الزمن، إلا أن هذا لا يعني فقدانه لوجود معجزة أخرى تدل على صحة مدعاه لو طلب منه الإثبات، فتدبر.
ومع رفع اليد عما ذكرنا، والالتـزام بالاستدلال المذكور، أعني نزول شيء من آيات سورة العلق في ابتداء البعثة النبوية الشريفة، إلا أن ذلك لا يجدي أيضاً في البناء على أن ابتدائها كان في شهر رمضان المبارك، لما عرفت من أن هذا القول يعتمد تماماً على الظهور المستفاد من الآيات التي سبقت الإشارة إليها، وهذا يعني أنه متى ما كانت تلك الآيات ظاهرة في خلاف ما أشير إليه وذكر، أوجب ذلك كونها أجنبية عن المدعى، فلا تصلح أن تكون شاهداً ودليلاً عليه.
هذا وقد ذكر غير واحد من المفسرين في بيان دلالة الآيات الشريفة، أنها ناظرة إلى وجود نزولين للقرآن الكريم، أحدهما هو النـزول الدفعي، والثاني هو النـزول التدريجي، ونقصد بالنـزول الدفعي هو نزول القرآن الكريم دفعة واحدة على قلب رسول الله(ص)، وقد كان ذلك في ليلة القدر المباركة من شهر رمضان المبارك قبل بعثته إلى قومه. أما النـزول التدريجي فنعني به نزول القرآن طيلة ثلاث وعشرين سنة، وهي مدة البعثة الشريفة بحسب المقتضيات والحاجة، والآيات المشار إليها في الاستدلال المذكور ناظرة إلى النـزول الدفعي، وليست ناظرة إلى النـزول التدريجي، بينما يصلح الاستدلال المذكور لو كان نزولها في النـزول التدريجي دون الدفعي كما لا يخفى.
ويؤيد ما ذكرنا، بل يدل عليه قوله تعالى:- (لا تحرك به لسانك لتعجل به إنا علينا جمعه وقرآناه)[4]، فقد ذكر أنه(ص) كان يقرأ القرآن مع جبرئيل الأمين(ع) حين كان ينـزل عليه بالقرآن، وما ذلك إلا لكونه كان مطلعاً عليه من قبل. وكذا قوله تعالى:- (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه)[5].
فتحصل إلى هنا عدم تمامية الاستدلال، وعليه يكون قول أبناء السنة والجماعة بتحديد بداية البعثة الشريفة في شهر رمضان المبارك دونما دليل يدل عليه، أو شاهد يستند إليه.
وأما مختار الشيعة الإمامية، فيدل عليه نصوص عديدة وردت عن أئمة الهدى الأطهار(ع)، يمكن ملاحظتها في ما ذكره غواص بحار الأنوار العلامة المجلسي(ره) في موسوعته المباركة، فقد نقل نصوصاً عنهم(ع) تفيد أن مبعثه(ص) الشريف كان في يوم السابع والعشرين من شهر رجب الأصب[6].
شريعة النبي قبل بعثته:
وقع الخلاف بين الباحثين في الشريعة التي كان يتعبد عليها رسول الله(ص) بعد بعثته الشريفة، فقال بعضهم أنه كان يتعبد على شريعة من الشرائع السماوية السابقة عليه، بينما ألتـزم آخرون بنفي ذلك بتاتاً.
ولا ريب في أنه(ص) بعد البعثة كان يخبر بما يوحى إليه، وهذا ينفي وجود فائدة لكونه متعبداً بشريعة من قبله أو لا، إذ المدار على إتباع ما يوحى إليه ليس إلا.
نعم قد ثبت تاريخياً أنه(ص) كان يخلو في كل عام شهراً في غار حراء، ينقطع فيه إلى الله سبحانه وتعالى، يعبده ويــــــبتهل إليه، والظاهر أن تلك الخلوة لم تكن مجرد تفكر وتفكير وتأمل في الآيات الكونية بقسميها الآفاقية والأنفسية، بل كانت خلوة تشتمل على العبادة والتنسك، فما هي الشريعة التي كان يعبد الله سبحانه وتعالى عليها، وهو بعدُ لم يتلقَ الوحي، هل كانت تلك الشريعة التي يعبد الله سبحانه وتعالى عليها واحدة من الشرائع السماوية السابقة، أم أنه كان يتعبد على شريعته الخاصة به(ص)، أم غير ذلك؟ احتمالات، وأقوال، إذ قد وقع الخلاف بين المؤرخين والمتكلمين في ذلك على أقوال ستة:
الأول: الالتـزام بوجود عبادة له(ص) إلا أن تلك العبادة لم تكن مستندة لشرع أصلاً.
الثاني: الالتـزام بكونه متعبداً بشريعة واحد من أنبياء الله سبحانه وتعالى الذين كانوا مبعوثين قبله. وقد اختلف أصحاب هذا القول على عدة آراء، فبعضهم جعل الشريعة التي كان يتعبد عليها هي شريعة شيخ الأنبياء نوح(ع)، وقال آخرون أنها كانت الحنفية السمحاء، شريعة خليل الرحمن إبراهيم(ع) وهي التي كان يتعبد عليها آبائه، وأجداده(ع)، وقال ثالث بأنها شريعة الكليم موسى بن عمران(ع)، ورابع بنى على أنها كانت على شريعة المسيح عيسى(ع).
وبالجملة، إن هذا القول يقرر كونه متعبداً بشريعة من شرائع نبي من أنبياء أولي العزم، وإن كانوا يختلفون في تحديد ذلك النبي، فلاحظ.
الثالث: البناء على أنه كان يتعبد بكل ما كان ثابتاً أنه شرع.
الرابع: القول بأنه(ص) كان يعمل في عباداته وطاعته بما كان يوحى إليه، سواء أكان مطابقاً لشرع من كان قبله من الأنبياء والمرسلين، أم لم يكن.
الخامس: أنه(ص) كان يعمل بشرع نفسه.
السادس: التوقف وعد القول بشيء مما تقدم.
ولا يخفى أنه إنما يصار للقول السادس بعد فقدان القدرة على إقامة الدليل على واحد من الأقوال الخمسة، وإلا فمع المصير إلى برهانية واحد منها، وإمكانية إثباته والاستدلال له، لن يكون هناك موجب للتوقف والالتـزام بعدم وضوح الشريعة التي كان يتعبد عليها. كما أن الأقوال الثلاثة الأخيرة من الأقوال الخمسة، يمكن إرجاعها لقول واحد، وهو أنه لم يكن متعبداً على وفق شريعة سماوية من شرائع من سبقه من الأنبياء، بل كان يتعبد على ما ثبت لديه من أنه شرع، ويبقى كيفية إحراز كون ذلك الشيء شرعاً، هل يعود لإعماله عقله الشريف(ص)، فيلتـزم عندها بأنه كان يتعبد بما كان يحكم العقل بلزوم إيجاده خارجاً من المستقلات العقلية، حسناً وقبحاً، ليكون ما حكم به العقل، يحكم به الشرع أيضاً، أم غير ذلك.
هذا ولا يخفى أن القبول بكونه متعبداً بشريعة واحد من الأنبياء السابقين عليه يتوقف على توفر أمور في تلك الرسالة ليصح ما ذكر، وتلك الأمور هي:
أولاً: لابد وأن يثبت أن رسالة الأنبياء من أولي العزم الذين سبقوه رسالات عامة لكافة البشرية، من دون تحديد بزمان ومكان، فيلزم جميع أبناء البشر بالعمل على وفقها. وهذا غير ثابت، بل ما عليه الدليل أن تلك الرسالات كان أصحابها مرسلين لأقوام محددين، مما يعني انحصار الأمر بالتعبد بتلك الشريعة والإلزام في خصوص من أرسل ذلك النبي إليهم دون غيرهم.
ويشهد لهذا أنه لم يصرح بعمومة أي واحدة من الرسالات السماوية، وعالميتها سوى رسالته(ص)، وما قد يظهر منه من آيات شريفة تفيد عمومية لرسالة غيره من الأنبياء(ع)، قابل للمناقشة والمنع، كما ذكر في محله.
ثانياً: إن عمله(ص) بواحدة من تلك الرسالات يتوقف على إطلاعه عليها، وعندها لابد من تحديد الجهة التي زودته وأطلعته على تلك الرسالة، والمحتمل أمران، فإما أن يكون إطلاعه عليها من خلال الوحي، فيكون قد أوحي إليه بما جاء في تلك الرسالة، ليتعبد على وفقه، وإما أن يكون إطلاعه عليها من خلال مخالطته لأهل الكتاب الذين قد بعث النبي إليهم، وطولب بالتعبد بالشريعة المذكورة.
ولا يخفى أنه لو كان إطلاعه عليها من خلال الوحي، لا معنى لأن يقال بأنه يتعبد برسالة من كان قبله، بل اللازم البناء على أنه يتعبد وفقاً لما يوحى إليه، فإنه قد استند كما عرفت للوحي، وكون ما يوحى إليه مطابقاً لما أرسل به من سبقه من الأنبياء لا يستوجب القول بتعبيته له.
وأما الثاني، وهو العلم بها من خلال المخالطة، فإنه يكذّبه التأريخ المتفق عليه من قبل أرباب السير، فقد ذكروا جميعاً عدم اختلاطه(ص) طيلة تلك الفترة قبل البعثة الشريفة بأحد من أهل الكتاب، فضلاً عن أن يكون مرتبطاً بأحد منهم.
ثالثاً: لا يخفى أنه يعتبر في التعبد بشريعة من الشرائع أن تكون سارية المفعول، ومما يعمل بها، فلا تكون منسوخة بشريعة بعدها، وعليه فمقتضى عالمية الرسالة اللاحقة يستوجب نسخ الرسالة التي سبقتها، أو أن يلتـزم بعدم عالمية الرسالة اللاحقة، وبالتالي لا معنى لها بعد عالمية الرسالة السابقة.
وبالجملة، إن القول بكونه(ص) كان متعبداً برسالة من سبقه يستوجب أن يكون متعبداً بشريعة منسوخة.
نعم هذا الأمر يكون في الجملة لا بالجملة، بمعنى يتصور لو كان تعبده بغير رسالة المسيح(ع)، وكذا لو بني على أن الرسائل السماوية السابقة كانت عامة، أما لو قيل بعدم عموميتها، واختصاصها بأقوام محددين، فالظاهر عدم ثبوت النسخ حينئذٍ، فتأمل.
وعلى أي حال، لا يخفى أن القول بكونه(ص) قد كان يتعبد بشريعة سماوية منسوخة أشدّ فساداً من غيره من الأقوال، فتدبر.
رابعاً: لا يختلف أحد وفقاً لما قام عليه الدليل من أنه(ص) كان أفضل الخلق، وهذا يمنع من أن يكون متعبداً بشريعة أحد من الأنبياء السابقين عليه، إذ مقتضى التعبد المذكور يستوجب تبعية منه(ص) لمن كان متعبداً بشريعته، ولا ريب في كون المتبوع أفضل من التابع، فكيف يكون(ص) هو أفضل الخلق، وفي نفس الوقت يكون هناك من هو أفضل منه لتبعيته إليه؟!
والحاصل، إن مقتضى كونه أفضل الخلق، يمنع من أن يكون متعبداً بشريعة أحد من السابقين عليه، وإلا لم يكن كذلك.
ومع عدم توفر الأمور المذكورة، سوف يكون هذا القول فاقداً للاعتبار وبالتالي لا مجال للقول به، والبناء على ثبوته، فلاحظ.
والصحيح أنه كان(ص) يعبد الله سبحانه على وفق شريعته ورسالته، فإنه(ص) كان نبياً قبل أن يبعث بالرسالة إلى قومه، ويدل على ذلك نصوص عديدة، كالمأثور عن أمير المؤمنين(ع) في نهج البلاغة، من أنه(ص) من لدن كان فطيماً كان مؤيداً بأعظم ملك يعلمه مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب[7].
ومن المعلوم أن من يقرن به أعظم ملك من ملائكة الله سبحانه ليس شخصاً عادياً، بل لابد وأن يكون ذا منـزلة ومكانة مرموقة ومتميزة عند الله تعالى، وليس ذلك إلا أفضل الخلق محمد(ص)، وهو نبيه(ص).
هذا وقد استدل شيخنا المجلسي غواص بحار الأنوار(ره) بدليل آخر، وهو يتركب من مقدمتين:
الأولى: لقد ثبت بالأدلة المعتمدة والمعتبرة أن الله تعالى لم يعط أحداً من الأنبياء فضيلة من الفضائل، أو كرامة من الكرامات، إلا وقد أعطاها نبينا محمد(ص).
الثانية: لقد ثبت عندنا أن نبيـين من أنبياء الله تعالى أعطيا النبوة في الصغر، وهما المسيح عيسى، ويحيى(ع).
وجمع هاتين المقدمتين يستوجب أن تثبت النبوة لرسول الله(ص) في صغره، كما كانت ثابتة لهذين النبيـين(ع)، فيستكشف أنه(ص) كان نبياً قبل أن يبعث للناس، وهذا يعني أنه كان متعبداً على وفق نبوته وشريعته، وهو المطلوب[8].
الهداية بعد الضلال:
هذا وقد يشكل على القول بكونه(ص) كان متعبداً في غار حراء بقوله تعالى:- (ووجدك ضالاً فهدى)[9]، لظهوره في هدايته(ص) بعد ضلاله، وهذا يعني أنه كان ضالاً ثم هداه الله تعالى، ومن المعلوم أن الضلالة تعني عدم الإيمان، فيستكشف أنه(ص) لم يكن مؤمناً قبل بعثته، وهداه الله تعالى بالبعثة.
ولا يخفى أن هذا الإدعاء المذكور مبني على حصر تفسير الضلال والهدى الوارد في الآية الشريفة في خصوص ما ذكر، أما لو ألتـزم بوجود معاني أخرى متصورة لهما ويحتمل حمل الآية عليهما، فذلك يعني عدم تمامية الاستدلال المذكور.
وعلى أي حال، عند الرجوع للغويـين نجد أنهم يذكرون معاني ثلاثة للضال:
الأول: أن يكون الضال مأخوذاً من الضلالة، وهو ضد الهداية والرشاد.
الثاني: أن يكون الضال مأخوذاً من الضياع وفقدان المعرفة بالدرب والطريق، فيقال: ضل البعير طريقه، فلم يعرفه ولم يهتد إليه.
الثالث: أن يكون الضال مأخوذاً من ضؤل الشيء إذا خفي ذكره، وضؤل وقل وجوده.
ولا يخفى أن الإشكال المذكور إنما يتم حال انحصار معنى الآية الشريفة في خصوص المعنى الأول، أما لو أمكن حملها على أحد المعنيـين الآخرين، فلا ريب أنها لن تكون صالحة لدلالة على المدعى أصلاً.
هذا وقد بنى غير واحد من المفسرين على أن المقصود من الضال هو المعنى الثالث، أي يا محمد لقد كنت شخصاً عادياً في قومك قد خبؤ ذكرك وقل، فلست بالشخصية المعروفة بينهم، حتى بعثك الله سبحانه رسولاً لهم، فكان ذلك سبباً إلى ارتفاع شأنك وعلو مكانك.
وبنى آخرون على الثاني منهم، بلحاظ أنك كنت كثير التفكير في الوصول إلى الطريق الذي يمكنك من خلال هداية قومك، حتى هداك الله إلى ذلك.
على أنه يمكن البناء على أن المقصود بالضلال في الآية هو المعنى الأول لكن بلحاظ أن الهداية لا يقصد منها الهداية العادية، بل قد ذكر في محله أن الهداية قسمان هداية عامة وهداية خاصة، ونفس الخاصة ليست لكل أحد، فالمقصود بهدايته(ص)، إعطائه الهداية الخاصة الخاصة، والتي لا تعطى لكل أحد، فيكون جعل الضلالة قسيماً لها من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، ويشهد لهذا الاحتمال فقدان متعلق الهداية والضلال، فلا تغفل، وتأمل.
ناسخية الرسالة للرسائل السابقة:
اشتهر بين أعلامنا أن شريعة النبي محمد(ص) ناسخة لما تقدمها وسبقها من الشرائع السماوية السابقة، ولسنا بصدد الحديث عن تمامية هذه الكبرى، وإنما نود أن نتحدث عن المقصود بناسخيتها، فهل يقصد من ذلك أن جميع الأحكام الفرعية الثابتة في الشرائع السماوية السابقة، قد نسخت بمجئ الإسلام، وهذا يعني أننا نحتاج تشريعاً جديداً للأحكام سوف يكون ذلك التشريع بنحو التدريج، وعليه يتحدث عندها عن تأريخ تشريع كل حكم من الأحكام الإلهية، فيبحث عن تأريخ تشريع الصلاة، وعن تأريخ تشريع الصوم، وعن سنة تشريع الحج، وهكذا. أم يلتـزم ويبنى على أن هناك أحكاماً رئيسية تشترك فيها جميع الأديان السماوية، لا تطالها يد التغيـير والنسخ، إنما تجري عليها بعض التعديلات والإضافات ليس إلا، وتكون تلك التعديلات والإضافات بمثابة المكملات، وهذا يعني أنه لن يكون البحث عن تأريخ تشريع الأحكام السماوية في الإسلام، وإنما سوف يكون الحديث والبحث عن تأريخ إلزام المسلمين بها، فيقال: متى ألزم المسلمون بالصلاة، ومتى كان إلزام المسلمين بالحج، وفي أي سنة ألزم المسلمون بالصوم، وهكذا؟ احتمالان، بل قولان:
بنى جملة من أعلامنا على أن المقصود من النسخ للشرائع السماوية السابقة هو المعنى الأول، وقد استند في مدعاه ومختاره إلى ثلاثة أمور:
1-تأخر تشريع كثير من مهمات الفرائض، كالصلاة والزكاة، والصوم، مع وجود نظائرها في الشرائع السابقة، ويدل على ذلك أنه لم ينقل لنا المؤرخون وكتاب السير أن المسلمين قد عملوا بتلك الفرائض في أول البعثة، فالصوم مثلاً كان مجعولاً في الأمم السابقة وفي الشرائع الماضية بمقتضى القرآن الكريم، إلا أنه لم ينقل لنا أن أحداً من المسلمين في بداية البعثة الشريفة قد صدر منه ذلك.
2-خبر محمد بن سالم المروي في كتاب الكافي -في حديث طويل- عن أبي جعفر(ع) أنه قال: ثم بعث الله محمداً(ص) وهو بمكة عشر سنين، فلم يمت بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً(ص) رسول الله، إلا أدخله الله الجنة بإقراره….وتصديق ذلك أن الله عز وجل أنزل عليه في سورة بني إسرائيل بمكة:- (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً)، أدب وعظة وتعليم ونهي خفيف، ولم يعد عليه ولم يتواعد على اجتراح شيء مما نهى عنه، وأنزل نهياً عن أشياء وحذر عليها، ولم يغلظ فيها ولم يتواعد عليها…فلما أذن الله لمحمد(ص) في الخروج من مكة إلى المدينة بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً(ص) عبده ورسوله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصيام شهر رمضان، وأنزل عليه الحدود وقسمة الفرائض، وأخبره بالمعاصي التي أوجب الله عليها وبها النار لمن عمل بها[10].
وقد تضمن أموراً ثلاثة:
الأول: إن الدين في أوائل البعثة كان منحصراً في خصوص الإقرار والاعتراف بالشهادتين فقط، فلا يلزم المسلم لينطبق عليه عنوان المسلم وتكون له ما للمسلمين إلا بذلك فقط، ولا يلزم بسواهما.
الثاني: قد كانت هناك دعوة في بداية البعثة إلى الالتـزام بمكارم الأخلاق الارتكازية، وتحبيب إلى تقيد الإنسان بها من باب الندب، لا من باب الإلزام.
الثالث: صراحته في كون تشريع الأحكام الفرعية كان بعد الهجرة النبوية.
ولا ريب في أن ما ذكر يستوجب نسخ جميع أحكام الشرائع السماوية السابقة الإلزامية، ونحوها من الأمور التعبدية.
3-ما جاء في إسلام أبي ذر عن أبي بصير عن أبي عبد الله(ع) أنه لما أتى النبي في مكة وأسلم على يده قال له: يا أبا ذر، انطلق إلى بلادك، فإنك تجد ابن عم لك قد مات فخذ ماله وكن بها حتى يظهر أمري.
إذ يلحظ أنه(ص)لم يأمره بأداء شيء من الواجبات ولم ينهه عن ارتكاب شيء من المحرمات.
وقد أجيب عن مثل هكذا استدلال في كلمات غير واحد من أعلامنا بعدة إجابات نشير لبعضها:
منها: إن لازم القول بكون شريعة النبي(ص) ناسخة لما سبقها من شرائع، يستلزم حلية المحرمات التي كانت ثابتة الحرمة في الشرائع السماوية السابقة إلى حين تشريع تحريمها من جديد، فيلتـزم مثلاً بحلية أكل لحم الخنـزير الذي كان محرماً في الشرائع السابقة بمقتضى نسخ رسالة النبي(ص) لذلك، حتى يأتي الحكم بتحريمه من جديد، وكذا حلية شرب الخمر حتى يأتي الحكم بحرمة شربه من جديد، وكذا الكلام في الربا أيضا، والزنا، واللواط وهكذا. ولا ريب في أن الالتـزام بذلك ممالا يمكن القبول به أبداً، فلاحظ.
ومنها: إن النصوص الشريفة قد دلت على أن كل ما كان محرماً من قبل الله تعالى، فإنه لا يحكم بحليته، وقد ذكرت لذلك نموذجاً وهو الخمر، فقد ورد في خبر أبي بصير عن أبي جعفر(ع) قال: ما زالت الخمر في علم الله وعند الله حراماً، وأنه لا يبعث الله نبياً ولا يرسل رسولاً إلا ويجعل في شريعته تحريم الخمر، ولا حرم الله حراماً فأحله من بعد إلا للمضطر، ولا أحل الله حلالاً ثم حرمه[11].
وعن أبي جعفر(ع) قال: ما زالت الخمر في علم الله وعند الله حراماً وأنه لا يبعث الله نبياً ولا يرسل رسولاً إلا ويجعل في شريعته تحريم الخمر، وما حرم الله حراماً فأحله من بعدُ إلا للمضطر ولا أحل الله حراماً ثم قط حرمه.
وعن زرارة قال أبو عبد الله(ع) قال: ما بعث الله عز وجل نبياً قط إلا وفي علم الله تبارك وتعالى أنه إذا أكمل له دينه كان فيه تحريم الخمر ولم تزل الخمر حراماً، إنما الدين يحوّل من خصلة إلى أخرى، ولو كان ذلك جملة قطع بهم دون الدين[12].
ودلالتها على التدريج في تبليغ الأحكام واضحة، فإن قوله(ع): إنما الدين يحوّل…إلخ…يدل على ذلك لكي لا ينفروا من الدين.
وأما رواية إسلام أبي ذر، فإن أقصى ما يستفاد منها أنه(ص) لم يبلغه بشيء من الأحكام، لا أنها تفيد عدم التشريع، ولعل عدم إبلاغه بذلك يعود لمصلحة اقتضت التأخير، فتأمل.
وأما خبر محمد بن سالم المروي في الكافي، فهو ضعيف سنداً، كما أنه يمكن أن يتمسك به لإثبات القول الثاني، فلا يصلح دليلاً على القول الأول، فلاحظ قوله(ع): وأنزل نهياً عن أشياء حذر عليها.
[1] سورة البقرة الآية رقم 185.
[2] سورة الدخان الآية رقم 1.
[3] سورة القدر الآية رقم 1.
[4] سورة القيامة الآية رقم 16.
[5] سورة طه الآية رقم 114.
[6] بحار الأنوار ج 18 ص 189.
[7] الخطبة القاصعة رقم 187.
[8] بحار الأنوار ج 18 ص 279.
[9] سورة الضحى الآية رقم 7.
[10] الكافي ج 2 ص 29.
[11] مستدرك الوسائل ج 16 ص 202 ح 7.
[12] الكافي ج 6 ص 395.