قال تعالى:- (ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه)[1].
مدخل:
لكل فرد من الأفراد حرمة خاصة مقدسة في نظر الإسلام،فليس لأي شخص اقتحام حياته الخاصة دون حصول رضى منه بذلك،كما ليس لأحد الحق في الاعتداء عليه دون إذن مسبق منه،كل ذلك حفاظاً على كرامته وحريته التي قررها القرآن الكريم واحتراماً لها.
فالإنسان يملك حق ممارسة ذلك والمحافظة عليه،دون تدخل من أحد في شيء من شؤونه.
ولعل ما ذكرناه يوحي إلى إحدى المصالح في تحريم التجسس،لكونه اعتداء على حريات الآخرين.
كما نهى الشارع الحنيف أيضاً عن التحقق من الظنون المتعلقة بشخص ما،في أي جانب من جوانب حياته،لكون ذلك عدواناً على حياته الخاصة،دون ضرورة تدعو إلى ذلك.
في رحاب الآية:
وفي ضوء الآية المباركة نجدها تتعرض لأحد الدروس التـربوية في الناحية الاجتماعية،عندما تشير إلى إحدى الحرمات الاجتماعية العامة التي يتوخى منها تقييد حرية الإنسان في التحدث عما يعرفه من عيوب الآخرين الخفية.
لأنه قد عرفت أن الله جعل للمؤمن حقاً في حماية نفسه من ذلك،وعليه تكون المعرفة أمانة شرعية ليس له الحق في تحريكها إعلامياً،ما لم يأذن صاحبها،أو يكون هناك مسوغ شرعي لذلك.
الغيبة:
ومن خلال ما تقدم نتوصل إلى أنه لا يسوغ لنا التحدث عن الناس وهم غائبون،بما هو معروف عندنا من عيوبهم والنقائص الموجودة لديهم.
وقد صور القرآن الكريم هذا الأمر بذكر ما تنفر منه النفس البشرية بطبعها وفطرتها،إذ قال أن المتكلم جالس يقطع لحم أخيه الميت ويأكله.
فالسكين هي الكلمات،والجثة هي الشخصية والسمعة والكرامة،فكما أن لجسد المؤمن حرمة،فشخصيته وكرامته لهما حرمة أيضاً،ولهما نفس الحقوق التي للجسد،فكما أن نهش الجسد بالتهام قطع اللحم مرفوض،فكذا نهش كرامته بذكر عيوبه كذلك أيضاً.
ولا علاقة للدوافع السيئة،وقصد الانتقاص بالغيبة،بل حتى لو خلت عن ذلك دخلت تحت مفهومها.
وبعبارة أخرى:لا يعتبر في تحقق مفهومها،كون المتحدث قاصداً استنقاص المذكور والنيل منه وتحقيره وإهانته.
بل المسألة حالة اجتماعية الغرض منها حماية الإنسان من اعتداء الآخرين على حياته الداخلية،بفضح أسرارها،وإظهار ما فيها من نقاط ضعف،كما يقصد منها حماية المجتمع من أجواء السوء والفحش.
مواجهة الإنسان بعيوبه:
وبناء على ما تقدم،قد يقال بإغلاق باب النصح والإرشاد والتوجيه،فلا ينصح أحد أحداً،ولا يقوم بتوضيح عيوبه وأخطائه،حذراً من الوقوع في الغيبة وارتكاب الحرام.
وهذا فهم ساذج،لأن الغيبة ذكر أخاك المؤمن بعيب يكرهه في غيبته،فلو كان حاضراً يسمع لم يصدق عليه عنوان الغيبة.
كما أن هناك استثناءات يذكرها الفقهاء من الغيبة المحرمة،من ضمنها نصيحة المؤمن،فتجوز الغيبة حينئذٍ بقصد النصح إذا كانت النصيحة متوقفة على ذلك،مثلاً لو استشار شخص شخصاً آخر في الزواج من امرأة،ولم تكن المرأة عفيفة مثلاً فله الحق أن يظهر عيبها.
من هنا نعرف أن عنوان تعريف الآخرين بعيوبهم ليس أمراً ممنوعاً،بل وردت النصوص عن أهل البيت(ع)تحث عليه وتؤكده.
لكن نحتاج بداية أن نشير لشيء وهو أن مواجهة الشخص بعيوبه تختلف باختلاف دوافع الإنسان التي تدفعه لتلك المواجهة.
فربما كان الدافع هو التعيـير والتحقير،أو كان الإيذاء والإهانة من أجل تحطيم شخصيته.
وقد يكون الدافع هو النصح والإرشاد،والتوجيه من أجل تصحيح الإنسان موقفه الخاطئ أو تغيـير طريقه المنحرف.
ونجد الشرع المقدس يرفض المواجهة بالنحو الأول،فليس للإنسان هذه الحرية،بل رفضتها النصوص الواردة عن أهل البيت(ع)فعن أبي عبد الله الصادق(ع) قال:من أنب مؤمناً أنبه الله عز وجل في الدنيا والآخرة.
وقال(ع)أيضاً:من عير مؤمناً بذنب لم يمت حتى يرتكبه.
وعن أبي جعفر الباقر(ع):إن أقرب ما يكون العبد إلى الكفر أن يواخي الرجل الرجلَ على الدين فيحصي عليه زلاته ليعنفه بها يوماً ما.
نعم شجع الإسلام على النحو الثاني،لأن ذلك يأخذ بيد الشخص المواجه بالنقد إلى جهة الحق والصواب ويبعده عن الانحراف.
وهذا يمثل أسلوباً عملياً للتعاون ما بين المؤمنين بعضهم مع بعض في سلوك الاتجاه الصحيح،عملاً بما ورد عنهم(ع):لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
مضافاً إلى الآثار السلبية التي يتركها انحراف الفرد على المجتمع لكونه أحد أفراده المرتبطين به.
من هنا نرى تركيز النصوص على عملية النقد في هذا الجانب بنحويين:
أولهما:أن تكون الغاية من النقد البناء،لا الهدم فيكون النقد عملية نصح وتوجيه تأخذ الطابع الإيجابي،فلا تنطوي على شيء من النواحي السلبية.
ثانيهما:اتخاذ أسلوب يجعل الشخص المنـتقَد يقابل النقد بقبول ويحس بالامتنان لناقده،فلا يظهر له النقد بصورة الامتهان والإهانة،أو التحقير والإذلال.
لأنه يشعر أن إخوانه وجهوه لعيوبه ليقوم بإصلاحها،كما يجدهم يخبرونه بحسناته ليستزيد منها.
ثم إن ما ذكرناه يتضح من النصوص الواردة عن مدرسة أهل البيت(ع)فقد جاء عن النبي(ص)أن للمسلم على المسلم ثلاثين حقاً،وعدّ منها:أن يديم نصيحته.
ولا يخفى أن النصيحة إنما تكون بالتوجيه للموقف الصحيح وترك الخاطئ،على هذا تكون النصيحة نحواً من أنحاء التـوعية لكونها قد وضحت الخطأ الموجود عند الشخص.
ومثل ذلك النصوص التي جعلت المؤمن مرآة لأخيه المؤمن،فعن النبي(ص) أنه قال:المؤمن مرآة أخيه يميط عن الأذى.
فوظيفة المرآة أن تضعه وجهاً لوجه أمام العيب ليتولى بعد ذلك إصلاحه،ويقوم بتهذيب ما هو بحاجة إلى ذلك وتقويم ما يحتاج التقويم.
ومما يشير إلى أسلوب النقد وأثره على المنـتقد والناقد الحديث المأثور:رحم الله من أهدى إليّ عيوبي.
فإنه يشير إلى العلاقة التي تكون بيننا وبين من انتقدنا،فنشعر له بالامتنان والفضل لكونه أدى لنا هذا العمل.
بل نجد الإمام زين العابدين(ع)يتـرقى فيقول في دعاء مكارم الأخلاق:ووفقني لطاعة من سددني ومتابعة من أرشدني[2].
فهو يشير إلى أن النقد والتغيـير حاجة روحية،ولذا سأل ربه عز وجل التوفيق إلى تحقيق ذلك وتطبيقه.
النقد سبيل التكامل:
فالنقد التوجيهي والإرشادي والإصلاحي،شيء حسن،ومطلوب كما عرفت من خلال ما قدمناه فيما جاء عن أهل البيت(ع).
لكن ما هو النقد؟….وما هي الغاية منه؟….
النقد من الألفاظ التي ذكر لها في كتب اللغة معانٍ عديدة،لكن الذي يرتبط بحديثنا معنيان:
الأول:النقد بمعنى التميـيز بين الجيد والردئ،فيقال:نقدت الدراهم وانتقدتها،إذا أخرجت الزيف منها،وأبقيت الجيد فقط.
الثاني:النقد بمعنى العيب والثلم والتجريح،فيقال:نقدت رأسه بإصبعي إذا ضربته،فيكون هناك إعابة له نتيجة الضرب.
هذا والشائع بين الناس،المعنى الثاني،لأن كلمة النقد شاع استعمالها في تتبع الآخرين،وإحصاء الأخطاء والعثـرات عليهم،وإذاعتها بقصد التشهير أو التعليم.
ومن هنا كان النقد في كثير من المجتمعات من مظاهر العداوة والبغضاء لأنه وسيلة من وسائل التحقير والتشهير.
ولذا صار المتعارف أن الغاية من النقد إنما هي عملية الاستنقاص والامتهان للآخرين،وإظهارهم بصورة هزيلة،غير مقبولة ولا مرضية.
وهذا يعني أن النقد تحول في المجتمعات الإسلامية إلى منهج سلبي لا يستفاد منه،ولا يعول عليه في الرقي والتقدم والتطور لما فيه صلاح المجتمعات الإسلامية وازدهارها.
ولذا صارت النظرة لعملية الانتقاد في هذه المجتمعات نظرة سلبية،فلا نرى أحد يتقبل الانتقاد،كما لا نجد شخصاً يفكر في النقد،كل ذلك يعود للفكرة الموجودة في الذهنية الإسلامية بنحو غالب.
وعلى أي حال الذي يظهر أن المعنى الأول من المعنيـين السابقين للنقد أنسب،لتضمنه صورة إيجابية، تنجم من خلال الفحص والتميـيز والموازنة والحكم.
وعلى هذا فالنقد دراسة الأمور وتفسيرها وتحليلها وموازنتها بغيرها من الأمور المشابهة لها أو التي تقابلها،ثم الحكم عليها ببيان قيمتها ودرجتها.
وهذا الأمر يحتاجه الفرد الرسالي،لأن دراسة طبيعة أفراد المجتمع هو السبيل الأمثل للحركة الواعية في الحياة.
وقد تعرضت النصوص الدينية إلى تأكيد جانب النقد في حياة الإنسان فأشارت إلى أسلوبين:
1-ما تعرض لنقد الفرد الذي يحكي واقعاً غير واقعه،أي أنه يظهر بمظهر يوحي بشيء،وإذا بحقيقته تنكشف بخلاف ذلك،قال تعالى:- (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على عقبيه خسر الدنيا والآخرة ألا ذلك هو الخسران المبين)
فهذا شخص يعرف الإيمان حين الرخاء،ومتى انتفى ذلك لم يعرف الإيمان أصلاً،فمتى وقع في مشكلة،أو واجه مصيبة،نسى الإيمان الذي كان يسكن قلبه.
ومثل ذلك قوله تعالى:- (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام.وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد.وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد).
2-النصوص الواردة في التـريث قبل إصدار حكم على الآخرين،فعن أميـر المؤمنين(ع)قال:لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصيامهم وكثرة الحج والمعروف وطنطتهم بالليل،انظروا إلى صدق الحديث واداء الأمانة.
وعن الإمام الصادق(ع):لا تغتـروا بكثرة صلاتهم وبصيامهم فإن الرجل ربما لهج بالصلاة وبالصوم حتى لو تركه استوحش،ولكن اختبروهم بصدق الحديث واداء الأمانة.
فليس تقييم إيمان الشخص ودينه بكثرة صلاته وصيامه،إذ ربما كان ذلك ناشئاً من العادة،لا من أساس ديني عميق،بل لابد من اتباع مقياس آخر لا يخطئ غالباً،وهو صدق الحديث وأداء الأمانة.
وهذا الأسلوب والأسلوب السابق عليه يوضحان لنا المنهج الإيجابي في عملية النقد،من خلال إبرازهما لها بنحو يهدف إلى عملية التغيير والإصلاح مما يجعل النقد عملية إيجابية تسلك بالشخص إلى سبيل الرقي والتكامل والصعود إلى أفضل المراحل،خصوصاً وأنه قد تعرف على أخطائه،وانكشفت له عيوبه فعليه أن يقوم بإصلاحها
————————————————-
[1] سورة الحجرات الآية رقم 12.
[2] الصحيفة السجادية ،دعاء مكارم الخلاق.