فساد الزمان

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
91
0

قال أمير المؤمنين(ع): أيها الناس إنا قد أصبحنا في دهر عنود، وزمن شديد، يعدّ فيه المحسن مسيئاً، ويزداد الظالم فيه عتواً، لا ننتفع بما علمنا، ولا نسأل عما جهلنا، ولا نتخوف قارعة حتى تحل بنا.

والناس على أربعة أصناف، منهم من لا يمنعه الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه، وكلالة حدَّه، ونضيض وفره.

ومنهم المصلت بسيفه، المعلن بشرَّه، والمجلب بخيله ورجله، قد أهلك نفسه وأوبق دينه لحطام ينـتهزه، أو مقنب يقوده، أو منبر يفرعه، ولبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمناً، ومما لك عند الله عوضاً.

ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامن من شخصه، وقارب من خطوه، وشمّر من ثوبه، وزخرف من نفسه للأمانة، واتخذ سرّ الله تعالى ذريعة إلى المعصية.

ومنهم من أقعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه، وانقطاع سببه، فقصرته الحال على حاله، فتحلى باسم القناعة، وتزين بلباس أهل الزهادة، وليس من ذلك في مراح، ولا مغدى.

وبقي رجال غضّ أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المحشر، فهم بين شريد ناء، وخائف مقموع، وساكت مكعوم، وداع مخلص، وثكلان موجع، قد أخملتهم التقية، وشملتهم الذلة فهم في بحر أجاج، أفواههم خامرة، وقلوبهم قرحة، قد وعظوا حتى ملوا، وقهروا حتى ذلوا، وقتلوا حتى قلوا، فلتكن الدنيا عندكم أصغر من حثالة القرظ، وقراضة الجلم.

واتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتعظ بكم من بعدكم، وارفضوها ذميمة، فإنها رفضت من كان أشغف بها بمنكم، فياما أغرّ خداعها مرضعة، وياما أضرّ نكالها فاطمة[1].

تمهيد:

كلمة يتعرض فيها أمير المؤمنين(ع) لوصف المجتمع الإسلامي، والحالة المأساوية التي أخذ يعيشها، ويشير إلى نتائج وآثار تلك الحالة التي أصبح المجتمع الإسلامي عليها.

فأشار فيما أشار إلى فساد الزمان، وأشار بعد ذلك إلى الآثار التي نجمت وترتبت على فساده، كما تعرض بعد ذلك إلى تصنيف الناس في ذلك العصر عند فساد الزمان، فذكر أربعة أصناف منهم يتكالبون على الدنيا، وهناك قسم خامس أبعد ما يكون عنها، طلب الآخرة طمعاً في رضى الله سبحانه وتعالى وبحثاً عن مرضاته.

عدم اختصاص الوصف بعصر الإمام:

هذا وقد يتصور أن النص الصادر من أمير المؤمنين(ع) يختص بالعصر الذي كان فيه، ضرورة أن التوصيف الذي عرضه(ع) إنما هو للحالة التي كان يعيشها في ذلك العصر، نتيجة وجود جملة من الظروف والمعطيات التي أدت إلى تحول المجتمع الإسلامي إلى هذه الحال ووصوله إلى هذا المستوى، مثل ابتعاد الأمة عن الإمام الحق الذي نصبه الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه(ص)، واختيارها قائداً آخر سواه، وما شابه ذلك.

وهذا يعني أن جميع ما ورد في كلامه(ع) لا يمكن أن يطبق من قريب أو بعيد على المجتمعات الإسلامية، وذلك لما عرفت من أن الكلام الصادر يختص بتلك الفترة الزمنية التي عايشها أمير المؤمنين(ع)، وحياً فيها.

لكن الصحيح عدم تمامية ما ذكر، بل الحق أن الكلام الصادر منه(ع) كما ينطبق على الوضع الحياتي والفترة الزمنية التي عايشها، ينطبق أيضاً على المجتمعات الإسلامية في كافة الأزمنة والأوقات والأماكن، ولا خصوصية للزمان، أو المكان في ذلك، وذلك لثلاثة أمور، يمكننا الاعتماد عليها في إثبات ما ذكرناه، وهي:

الأول: أنه لا خصوصية بنظر العرف للزمان الذي عاش فيه أمير المؤمنين(ع) على بقية الأزمنة، بمعنى أنه متى كانت الأزمنة الأخرى مشابهة من حيث الأسباب والنتائج لما كان موجوداً في عصره(ع)، كان ما صدر منه منطبقاً عليها.

نعم لو كان هناك ما يدعو إلى اختصاص ذلك العصر ببعض الأحكام، استدعى ذلك أن يحكم بالخصوصية.

الثاني: أن النصوص الصادرة منه(ع) لا تحمل على القضية الخارجية الخاصة لكي تكون مختصة بخصوص من كان حاضراً في عصره(ع)، بل تحمل على القضايا الحقيقية، إلا إذا كان في المقام ما يوجب حملها على ذلك، من قرينة أو ما شابه، وهي مفقودة في المقام.

ويمكننا صياغة هذا الوجه ببيان آخر، وهو أن الخطابات لا تختص بخصوص من كان مشافهاً بالخطاب، وحاضراً في مجلس التخاطب، بل هي شاملة لمن كان موجوداً في ذلك العصر، لكنه كان غائباً، كما أنها تشمل من لم يوجد بعدُ، وسوف يوجد.

الثالث: التمسك بما ورد عنه(ص)، من المتابعة لما كان في السابقين حذوى القذة بالقذة، والنعل بالنعل، فإنه ينطبق في المقام، بحيث يقال أنه يجري في هذه الأمة، بل في كل جيل ما كان موجوداً وجارياً في الأمم السابقة، وكذا الأجيال.

المراد من الزمان:

بعدما أتضح لنا أنه لا خصوصية للكلمة التربوية التوجيهية المباركة الصادرة من الأب الثاني للأمة، يجدر بنا أن نتعرف إلى ما جاء فيها، وقد عرفنا مما تقدم أنه(ع) أشار في هذه الكلمة مركزاً على أمر أساسي ألا وهو فساد الزمان، وهذا يدعونا في البداية إلى التعرف على الزمان، وما هو المراد منه، فنقول:

لا إشكال في أن الزمان يطلق ويراد منه الفترة الزمنية التي تقدر بقدر محدد، كما في اليوم سواء كان المقصود منه الأربعة والعشرين ساعة، أم كان المقصود منه خصوص النهار، وسواء كان النهار يعدُّ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، أم كان النهار يحدد بطلوع الشمس إلى غروبها، فإنه في جميع الحالات يقال له بأنه زمان.

وكذا يجري الكلام أيضاً بالنسبة للأسبوع، ومثله بالنسبة للشهر، وأيضاً السنة، بل حتى السنين المتعددة، فإنه يطلق على الكل لفظة الزمان.

وصف الزمان الفساد:

ثم إنه بعدما أتضح المراد من الزمان، ينبغي ملاحظة أن هذا المعنى، هل يصح أن يوصف بكونه فاسداً، فيقال فسد الزمان، أو يقال زمان فاسد، أم لا؟…

وبعبارة أخرى، هل يمكن وصف الزمان، أم أن الزمان من الأمور التي لا تقبل التوصيف؟…

الظاهر أن الزمان وإن كان مما يمكن وصفه بالحسن والقبح، وبالصحة والفاسد، فيقال زمان حسن، أو زمان قبيح، كما يقال زمان فاسد، وذلك لكون الزمان سبب من الأسباب المعدة لحصول ما يحصل في عالم الكون والفساد من الشرورة والخيرات.

نعم من الواضح أنه(ع) ليس بصدد الحديث عن الزمن بما هو زمن، وإنما هو بصدد الحديث عن أهل ذلك الزمان، كما يقال في قوله تعالى:- (وأسأل القرية)، فإن المطلوب سؤاله ليست القرية، وإنما أهلها، فهنا أيضاً يكون توصيفه(ع) للزمان بالفساد، في الحقيقة ليس توصيفاً للزمان نفسه، وإنما هو توصيف في الحقيقة لأهل الزمان، فيقرر أن أهل الزمان قد فسدوا، لا أن الزمان قد فسد.

هذا ويمكن القول بأن الفساد ملحوظ فيه للزمان، بلحاظ أنه صار مصدراً من مصادر الشرور وسبباً من أسبابها.

مفهوم فساد الزمان:

وما يهمنا في الحقيقة، ليس البحث عن أن الموصوف بالفساد هو الزمان، أم أهل الزمان، ضرورة أن النـتيجة في كليهما تؤول لباً إلى أمر واحد، بل ما ينبغي أن يصرف عنان الكلام إليه، هو ماذا يعني وصف الزمان بالفاسد، أو وصف أهل الزمان بالفساد، وإن شئت فقل: ما هو المفهوم لهذا التوصيف، ومتى يكون التوصيف متحققاً، كي ما يقال أنه زمان فاسد، وأنهم أهل زمان فاسدين؟…

من الواضح أن فساد الزمان هو لفساد أهله، وإنما يفسد أهل الزمان متى ما انهارت القيم وأندثرت التعاليم منهم، لأن من الواضح أن كل مجتمع وجوده وقوامه بما يحتوي عليه من قيم وتعاليم، وما يملك من مبادئ وأخلاقيات.

فالمجتمع المادي يتقوم بما يملك من ماديات وأموال، وقوامه بوجود النـزعات الاقتصادية بين أفراده، وحركته مبنية على ذلك، فالنشأ في هذا المجتمع يربون على مثل هذه المفاهيم، أعني المفاهيم المادية، ويغذون إياها.

بينما على العكس تماماً المجتمع الديني، فإن تغذية أفراده تكون على خط آخر مباين لهذا المعنى، ضرورة أنهم يغذون الأبعاد الروحية، والجوانب الإنسانية، وخطوط الالتـزام والتقيـيد بالدين وتعاليمه، وما شابه ذلك.

وعلى أي حال، متى ما أخذت هذه القيم في الانهيار، وبدأ المجتمع في التخلي عنها، بدأ جسد المجتمع في التآكل والاضمحلال، وبدأت أركانه في الانهيار.

هذا وقد تضمنت الآيات الشريفة الإشارة إلى نماذج من فساد الزمان نتيجة فساد أهله، قال تعالى:- (وما كان جواب وقومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون)[2].

وقال تعالى:- (ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين)[3].

وقفة:

واليوم نرى كيف أن المجتمعات الإسلامية خلعت قيمها وجرت وراء جملة من القيم الغير الإسلامية، فهذا الشباب صار يتجرد من التعاليم الدينية، بل بعضهم ربما تجرد من روح الإنسانية من خلال الممارسات التي يتم ممارساتها من قبلهم، سلوك على جانب السلوك العام أو على جانب السلوك الشخصي، والأمثلة والنماذج في ذلك كثيرة.

نسأل الله سبحانه وتعالى الهداية والصلاح للجميع بمحمد وآله الطاهرين.

نتائج وآثار فساد الزمان:

هذا وقد أشار أمير المؤمنين(ع) بعد ذلك إلى نتائج وآثار فساد الزمان، فذكر أنه يترتب على ذلك خمس نتائج مهمة جداً، وهي:

المسيئ محسن والمحسن مسيئ:

أول تلك الآثار أن يعدّ المحسن مسيئاً، ويتصور ذلك لأحد احتمالين:

الأول: أن غلبة الإساءة في الوسط الاجتماعي بسبب كثرة المسيئين، مع قلة الإحسان والمحسنين، أوجبت نظرة الناس للإحسان على أنه أمر شاذ وغير مألوف فيكون أمراً مرفوضاً ومنبوذاً، فيعامل معاملة الإساءة عند ظهورها في مجتمع لا تكثر الإساءة فيه، فكما أنها-الإساءة-تكون منبوذة في ذلك المجتمع، كذلك تكون الحسنة والإحسان في هذا المجتمع. ولعل من أوضح النماذج في هذا المجال ما جاء في القرآن الكريم في الحديث عن قصة نبي الله لوط، قال تعالى:- (وما كان جواب وقومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون)[4]. فإن الداعي إلى إخراجه(ع) والثلة المؤمنة التي كانت معه، ورفض القوم إياهم إنما هو الطهر والعفاف الذي كانوا يعيشونه مقابل ما يعيشه هؤلاء من الفاحشة، بحيث عدّ الإحسان الصادر من لوط وصحبه من الفئة المؤمنة، إساءة، وعدّ فعل هؤلاء إحساناً.

ومثل ذلك في قصة نبي الله نوح(ع)، إذا اعتبرت صفة الإيمان التي تحلى بها وهو ومن آمن معه، بأنها صفة غير حسنة، فوسموهم بالأراذل، قال تعالى:- (ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين)[5].

ازدياد الظالم عتواً:

ولا يخفى أن الظالم إنما يزداد عتوه متى ما وجد المقتضي لذلك وفقد المانع، بمعنى متى وجد الأرضية مهيأة لأن يقوم بذلك، فلا رادع ولا مانع، لأنه المتصور أن المانع بالنسبة له أحد أمرين بعدما ابتعد عن الله سبحانه وتعالى، وهما:

الأول: أن يكون ذلك متمثلاً في حكومة تمنعه عن طغيانه وتماديه في غيه وظلمه.

الثاني: أن تكون نفسه وضميره الذي يؤنبه فيمنعه عن ارتكاب ذلك.

لكن إذا لم يتوفر الأمران، فلا ريب في أنه سوف يتمادى في طغيانه، ويستشري في غيه وظلمه.

عدم الانتفاع بما يعلم:

فبدل أن يقوم العالمون بالعمل وتوجيه الناس وإرشادهم يقصرون في أداء وظائفهم، ويتقاعسون في تنفيذ المطلوب منهم وأداء المسؤولية الملقاة على عواتقهم.

عدم السؤال عند الجهل:

وكما أن هناك تقصيرنا من العالمين في عدم إبداء علمهم، هناك تقصير من الجاهلين في عدم رغبتهم في رفع الجهل عنهم، وهذا ما يمكن التعبير عنه بضياع الهوية الثقافية في المجتمعات، إذ لا نرى أن هناك طموحاً للتقدم والتطور الثقافي وتغيـير الواقع المعاش، بل على العكس تماماً نجد أن الناس إما قانعون بما هم عليه، أو أنهم يعيشون حالة من الجهل المركب إذ يعتقدون أنهم على دراية ومعرفة وهم أبعد ما يكونوا عن ذلك، ولعلنا نكتفي بذكر نموذج واحد وهو المسائل الشرعية التي لا يتصور فراغ الإنسان عنها وانفكاكه منها، ومع ذلك لا نكاد نجد من يعمد إلى رفع مستواه الثقافي فيها، ومن يرغب ذلك يظن أنه على قدرة في هذا المجال إذ يستغني عن السؤال معتمداً على قدراته هو، وهذا في بعض جوانبه يكون من أجلى مصاديق الجهل المركب، بأن يعتقد الإنسان في نفسه العلم والمعرفة، وهو ليس كذلك.

وعلى أي حال، ندب الإسلام العظيم إلى نبذ الجهل والسعي إلى إزالته من خلال الدعوة للعلم والتعلم، وعندنا في هذا المضمار العديد من النصوص الشريفة، فمنها ما جاء في كتاب الكافي لشيخنا الكليني(قده) عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال لحمران بن أعين في شيء سأله: إنما هلك الناس لأنهم لا يسألونه.

وجاء فيه أيضاً عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: قال رسول الله(ص): أف لرجل لا يفرغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه.

عدم الخوف من المصائب النازلة:

ولا أظنني بحاجة إلى الحديث كثيراً حول هذه الجهة، ضرورة أننا نرى كل يوم الكوارث التي تنـزل على المذنبين، لكننا لا نتعظ، لأننا نعتقد أن الفتنة أو العذاب ما دام لم ينـزل علينا، فلا يصبنا أبداً، وكأننا نسينا أن من حلقت لحية جاره، فليسكب الماء على لحيته، بمعنى أن عليه الاستعداد والتهيؤ لذلك، وما هذا إلا لأن الفتنة لا تختص بفرد دون آخر، كما أن العذاب متى نزل لم يكن خاصاً بفرد دون فرد، وكفانا أن نأخذ مثالاً من القصص القرآنية التي تعرضت لنـزول العذاب على الأمم السابقة، وكيف كان ذلك.

——————————————————————————–

[1] بحار الأنوار ج 75 ص 4 ح 54.

[2] سورة النمل الآية رقم 56.

[3] سورة هود الآية رقم 27.

[4] سورة النمل الآية رقم 56.

[5] سورة هود الآية رقم 27.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة