العصمة قانون إسلامي

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
99
0

العصمة قانون إسلامي

 

المعروف عن الشيعة الإمامية البناء على ثبوت العصمة المطلقة للأئمة الأطهار(ع)، والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(ع)، فهم معصومون كعصمة الأنبياء(ع). وقبل عرض الأدلة التي تمسكوا بها، نشير إجمالاً لحقيقة العصمة والمقصود منها.

حقيقة العصمة ومعناها:

العصمة في اللغة تعني المنع والإمساك، وامتناع الإنسان له حالتان:

 

الأولى: أن يكون الممتنع مجبوراً على ما امتنع عنه لقيام شخص بإجباره على ذلك.

الثانية: أن يكون امتناعه بمحض إرادته واختياره، نتيجة توفر بعض المقدمات، وإلى هذا يشير ابن فارس: ويقول العرب: أعصمت فلاناً، أي هيأت له شيئاً يعتصم به بما نالته يده أي يلتجي ويتمسك به.

نعم هناك من ذهب إلى أنها تعني وسيلة المنع وليست المنع نفسه، فالحبل الذي يكون سبباً لنجاة الغريق مثلاً يكون هو العاصم له.

 

والحاصل، إن المستفاد من كلام أهل اللغة وجود معنيـين للعصمة، وهما المنع، أو وسيلته، وهما قريبان.

وأما في الاصطلاح، فإن المقصود منها: الأمان والحفظ الخاص من الوقوع في الذنوب والخطأ للأنبياء، والأئمة والطاهرة فاطمة(ع).

 

نظريات في العصمة:

وقد وقع الخلاف بين الأعلام في هذا المقام الروحي الذي يتصف به المعصومون، فوجدت عدة نظريات:

 

منها: اللطف الإلهي:

حيث فسر جملة من الأعلام كابن أبي الحديد، والمقداد السيوري، هذا المقام المعنوي بأنه لطف إلهي خاص بالنسبة للمعصومين(ع).

وقد ذكر الفاضل المقداد(ره) الأسباب الموجبة لحصول هذا اللطف:

 

أحدها: اتصافهم بملكة تمنعهم من الإقدام على المعصية.

ثانيها: علمهم بعواقب الأعمال الحسنة والسيئة.

ثالثها: الخوف من المؤاخذة على ترك الأولى.

 

ومنها: عدم خلق الذنب:

لما كان الأشاعرة ينسبون جميع الأفعال إلى الله سبحانه وتعالى دون واسطة، فقد فسر بعضهم العصمة بأنها تعني عدم خلق الله سبحانه وتعالى الأفعال القبيحة في المعصومين.

ولما كان التعريف المذكور يوجب كونهم مجبورين عليها، أضاف بعضهم قيداً وهو: مع بقاء قدرته واختياره.

 

ومنها: القدرة على الطاعة:

وفسرها بعض الأشاعرة بأنها: خلق قدرة الطاعة، أي أنه تعالى جعل فيهم القدرة على الطاعة فقط، وهم عاجزون عن المعصية.

 

ومنها: ملكة نفسانية:

وهو ما أختاره مشهور الفلاسفة وبعض المتكلمين من أنها ملكة وصفة نفسانية راسخة تمنع الانسان من الوقوع في الذنب ولا تسلبه القدرة على ارتكابه.

والملاحظ في التعريفات السابقة حصرها العصمة عن الذنب والمعصية، مع أنها أوسع دائرة من ذلك فهي تشمل موارد الفهم وعدم الخطأ وهكذا، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

 

مبدأ نشوء العصمة:

ادعى بعضهم أن الاعتقاد بالعصمة من الأمور التي ظهرت أخيراً وليس لها وجود من قبل عند المسلمين الأوائل ولا بين أصحاب الأئمة الأطهار(ع).

والصحيح أن الاعتقاد بها كان شائعاً بين المسلمين منذ ظهور الإسلام، نعم قال بعضهم أن أول ظهورها كان عند نشوء علم الكلام كما هو الحال في بقية الاصطلاحات الكلامية الأخرى يعني في عصر الإمام الصادق(ع).

نعم ربما كان منشأ التشكيك في ثبوت هذا المفهوم في البحث العقدي، يعود إلى خلو الآيات القرآنية من هذا المفهوم، وصار ذلك سبباً لاعتباره ثابتاً في المرحلة الزمنية المتأخرة.

ومع أننا سوف نعرض لدراسة تاريخية للعصمة، لكن أشير لبعض الشواهد الدالة على وجودها في المرحلة الأولى من الإسلام:

 

منها: ما ورد على لسان أبي بكر في بداية خلافته في وصفه رسول الله(ص) بقوله: كان معصوماً من الخطأ. وهذا يكشف عن كون هذا المصطلح رائجاً بين الصحابة في صدر الإسلام وإلا لما قاله.

ومنها: ما جاء عن أمير المؤمنين(ع) في كتاب سليم بن قيس، بقوله: وإنما أمر بطاعة أولي الأمر، لأنهم معصومون مطهرون لا يأمرون بمعصية.

ومنها: ما جاء على لسان أمير المؤمنين(ع) أيضاً في وصفه للإمام الذي يستحق الإمامة وبيان علاماته: فمنها أن يعلم أنه معصوم من الذنوب كلها، صغيرها وكبيرها، لا يزل في الفتيا ولا يخطئ في الجواب ولا يسهو ولا ينسى.

مع أن المتتبع للآيات والنصوص يقف على كلمات مرادفة لمفهوم العصمة، مثل: المخلص: المنـزه من كل دنس وخطأ.

 

الحركة التاريخية للعصمة:

عند اليهود:

مع أن اليهود قد نسبوا كثيراً من الذنوب والمعاصي للأنبياء في التوراة المحرفة، إلا أنهم يعتقدون بعصمة الأنبياء(ع) عن الخطأ في الوحي والتبليغ.

 

عند النصارى:

لم يحصر النصارى العصمة في خصوص المسيح عيسى بن مريم(ع)، بل أثبتوها أيضاً إلى أشخاص آخرين كمدوني الكتاب المقدس والأناجيل المتداولة، بل ألتـزمت الكنيسة الكاثوليكية بعصمة البابا.

 

العصمة في الإسلام:

وقد تضمنت النصوص الصادرة عن النبي الأكرم محمد(ص) الحديث عن هذا القانون، نذكر بعضها:

منها: ما جاء عن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله(ص) يقول: أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطرون معصومون.

ومنها: ما جاء عنه(ص) أيضاً، أنه قال: فإنهم خيرة الله وصفوته وهم المعصومون من كل ذنب وخطيئة.

 

ويمكن تأيـيد ذلك بالشواهد التاريخية الصادرة من الصحابة في عصره(ص) المشيرة لهذا المفهوم، ويمكن أن نقف على اعتقاد الصحابة بالعصمة من خلال عدة مواقف حدثت:

أولها: المشاورات حول معركة بدر:

ويظهر هذا من خلال موقفي المقداد بن الأسود الكندي، وسعد بن معاذ، عندما استشار رسول الله(ص) أصحابه في حرب قريش.

قال المقداد: وقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه معك.

 

وقال سعد بن معاذ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله(ص) إنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله، فمرنا ما شئت وخذ من أموالنا بما شئت واترك منه ما شئت-إلى أن قال-والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك.

ولا يخفى أن هذا التسليم المطلق والانقياد منهما لما يصدر عن رسول الله(ص)، واتباعه دون حاجة إلى نظر أو تأمل، مبني على ما يعتقداه من أنه(ص) معصوم لا يخطأ.

 

ثانيها: خزيمة ذو الشهادتين:

فإنه يروى أن رسول الله(ص) ابتاع فرساً من أحد الأعراب يدعى سواء بن قيس، فأنكر الأعرابي المعاملة، وشهد خزيمة لرسول الله(ص)، مع أنه لم يكن حاضراً في الحادثة، فقال له رسول الله(ص): بم تشهد ولم تكن معنا؟ فقال: يا رسول الله، أنا أصدقك بخبر السماء ولا أصدقك بما تقول[1]. ومن الواضح أن موجب التصديق الحاصل عند خزيمة(رض) راجع لما يعتقده من عصمة النبي(ص)، وإلا لا معنى أن يصدقه في شيء لم يكن حاضراً فيه.

 

ثالثها: ما صدر من أبي بكر يوم الحديبية:

لما قرر رسول الله(ص) عقد صلح الحديبة مع أهل مكة، لم ترض البنود عمر بن الخطاب، فجاء لأبي بكر معترضاً، وقال: أليس هو برسول الله؟ أولسنا بالمسلمين؟ أوليسوا بالمشركين؟ ثم قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟

فقال أبو بكر: إنه رسول الله(ص)، وليس يعصي ربه[2].

ويستفاد من هذه الحادثة أن قانون عصمة النبي(ص) كان شائعاً ومعروفاً بين الصحابة خلال تلك الفترة، ولذا لم يميز أبو بكر بين النبوة والعصمة، وأما عمر فقد كان منشأ اعتراضه تشكيكه في النبوة، وليس نفياً لمبدأ العصمة.

 

رابعها: تقسيم غنائم حنين:

بعدما فرغ رسول الله(ص) من غزوة حنين عمد إلى تقسيم غنائمها، وقد قسمها في قريش، فأعطى المؤلفة قلوبهم كأمثال أبي سفيان زيادة في السهم، وقد أثارت طريقة التقسيم استغراب بعض الأنصار وأغضبهم، لأنهم الذين استقبلوا المسلمين وقت العسرة بمنتهى الإيثار والمحبة عندما كانوا يقاسون المصاعب والآلام من كفار مكة وعلى رأسهم أبي سفيان، وكيف يقوم رسول الله(ص) بعد هذا بتخصيص السهم الأكبر لهؤلاء الأعداء كأبي سفيان بعدما تغلب عليهم.

 

وحتى يقضي رسول الله(ص) على هذه الفتنة في مهدها، أمر الأنصار أن يجتمعوا في مكان حتى لا يقعوا تحت تأثير المثيرين للفتنة، فذكرهم بنعمة الهداية وباقي النعم المعنوية التي أفاضها الله سبحانه عليهم عن طريقه، فصدقوا كلامه(ص)، ثم سألهم قائلاً: أم لو شئتم لقلتم: وأنت قد كنت جئتنا طريداً فآويناك، وجئتنا خائفاً فآمناك، وجئتنا مكذباً فصدقناك. فارتفعت أصواتهم بالبكاء، وقام شيوخهم وساداتهم إليه، فقبلوا يديه ورجليه، ثم قالوا: رضينا بالله وعنه، وبرسوله وعنه، وهذه أموالنا بين يديك، فإن شئت فاقسمها على قومك. ثم قالوا: وإنما قال من قال منا على غير وغر[3] صدر وغل في قلب، ولكنهم ظنوا سخطاً عليهم وتقصيراً بهم، فاستغفر لهم يا رسول الله. فقال النبي(ص): اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار[4].

 

ولو لم يكن الأنصار معتقدين عصمة رسول الله(ص) عن الخطأ والسهو والاشتباه، فكيف يـبدون الرغبة والاستعداد في بدل أموالهم بين يديه حتى يقسها في قومه لو أراد وأحب.

وأما المعترضون على الفعل الصادر منه(ص)، مع أنه منصوص عليه في القرآن الكريم وهو إعطاء المؤلفة قلوبهم، فيحتمل جداً أنهم فئة من المنافقين، ولو لم يكونوا فيمكن عدهم فئة من المسلمين ضعاف الأيمان، ومن المعلوم تفاوت الناس في المعرفة[5].

 

 

 

[1] طبقان ابن سعد ج 4 ص 379-380.

[2] السيرة الحلبية ج 3 ص 19.

[3] وغر الصدر هو الضغن والعداوة.

[4] الإرشاد ص 76-77.

[5] دراسات في العصمة ص 27-35(بتصرف).

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة