بنود الصلح

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
97
1

كلنا يعلم أن الإمام الحسن(ع) صالح معاوية، بعدما طلب منه معاوية ذلك، إلا أن الشيء الذي يحتاج بياناً ما وقع عليه الصلح، إذ أن الغالب أن يعمد عند الحديث عن الصلح إلى دراسة الأسباب التي إلى الصلح، وقد يتوسع البعض إلى الكلام شيئاً عن النتائج والآثار، إلا أننا لا نجد حديثاً عن الشروط والقيود التي وقع الصلح عليها، لأنه من الطبيعي أن يكون الصلح قد وقع على جملة من البنود، لا أنه وقع من دون شيء كما لا يخفى.

وعلى أي حال، يتكرر السؤال، ما هي الشروط والبنود التي وقع الصلح عليها، ولماذا أخذت هذه الشروط وجعلت بنوداً، وما هو الهدف من ذلك؟ ومن هو الذي وضع هذه البنود والشروط، هل أن الواضع لها هو الإمام الحسن(ع)، لكونه القابل بالصلح، وليس الطالب له فيكون في موضع القوة، أم أن الواضع لها هو معاوية لأنه الذي طلبه؟

التأريخ وبنود الصلح:

هذا وقبل الحديث حول البنود، نود الإشارة إلى شيء من المفارقات التاريخية الغريـبة، إذ يجد القارئ للمصادر التاريخية افتقارها غالباً إلى عرض بنود الصلح، أو الاقتصار على عرض بعضها دون الجميع، مما يثير الاستغراب والدهشة في ذلك، مع أنها عمدت إلى عرض جزئيات وحيثيات كثيرة حول هذا الموضوع، فعرضت للمكان الذي وقع فيه الصلح، كما عرضت لبعض من حضر، ومتى كان وقته، وما شابه ذلك.

وعند التأمل في هذا الأمر يمكننا القول أن ذلك يعود لأهمية البنود التي وقع الصلح عليها، وأنها كانت تشير إلى شيء هام، ترتبت عليه جملة من النتائج المهمة، وهذا يدعونا بصورة آكد للبحث عن تلك البنود والتعرف عليها.

وقبل عرضها، ليعلم أن واضع بنود الصلح هو الإمام الحسن(ع)، فقد ذكر المؤرخون أن معاوية أرسل إليه صحيفة بيضاء مختوم أسفلها، وكتب إليه: أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت في أسفلها ما شئت فهو لك. وقد اشترط(ع) شروطاً عديدة، وزعمت بعض المصادر أنه اقتصر على شرط أو شرطين، وهو خلاف الثابت كما لا يخفى.

بنود المعاهدة والصلح:

وكما قلنا في البداية لم يتم نقل هذه البنود، أو لم تنقل كاملة، بل يجدها المتتبع في مصادر متفرقة، وقد جمعها من مصادر متعددة العلامة آل ياسين(ره)، وعرضها بصورة مواد منسقاً إياها، فنحن نعمد إلى عرضها وفقاً لما ذكر(ره)، مع شيء من التغيـير البسيط.

المادة الأولى:

تسليم الأمر إلى معاوية، على أن يعمل بكتاب الله وبسنة رسوله(ص)، وبسيرة الخلفاء الصالحين.

المادة الثانية: وهذه المادة تتضمن أمرين:

أولهما: أن يكون الأمر للحسن من بعده، فإن حدث به حدث فلأخيه الحسين.
ثانيهما: أنه ليس لمعاوية أن يعهد بالأمر من بعده إلى أحد أبداً.

المادة الثالثة: وهي أيضاً كالمادة السابقة اشتملت على فقرتين:

الأولى: أن يترك سب أمير المؤمنين، والقنوت عليه بالصلاة.
الثانية: أن لا يذكر علياً إلا بخير.

المادة الرابعة: وقد اشتملت على مجموعة من الأمور:

الأول: استثناء ما في بيت مال الكوفة، وهو خمسة آلاف ألف فلا يشمله تسليم الأمر.
الثاني: على معاوية أن يحمل إلى الحسن كل عام ألفي ألف درهم.
الثالث: أن يفضل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس.
الرابع: أن يفرق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل، وأولاد من قتل معه بصفين ألف ألف درهم.
الخامس: أن يجعل ذلك من خراج دار أبجرد.

المادة الخامسة: وقد تضمنت أيضاً أموراً:

الأول: على أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله، في شامهم وعراقهم، وحجازهم ويمنهم.
الثاني: أن يؤمن الأسود والأحمر.
الثالث: أن يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم.
الرابع: أن لا يتبع أحداً بما مضى.
الخامس: أن لا يأخذ أهل العراق باحنة.
السادس: وعلى أمان أصحاب علي حيث كانوا.
السابع: وأن لا ينال أحداً من شيعة علي بمكروه.
الثامن: وأن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم.
التاسع: أن لا يتعقب عليهم شيئاً، ولا يتعرض لأحد منهم بسوء.
العاشر: أن يوصل إلى كل ذي حق حقه.
الحادي عشر: على ما أصاب أصحاب علي حيث كانوا.
الثاني عشر: أن لا يـبغي للحسن بن علي، ولا لأخيه الحسين، ولا لأحد من أهل بيت رسول الله غائلة، سراً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم، في أفق من الآفاق[1].

هذا وقد تضمنت بعض المصادر وجود بندين آخرين، يمكن عدهما مادة واحدة، أو بعض فقرات بعض المواد السابقة، وهما: أن لا يسمي معاوية نفسه بأمير المؤمنين، أو لا يسميه الإمام الحسن(ع) بهذا الاسم، وأن لا يقيم الإمام(ع) شهادة عند معاوية.

دواعي هذه الشروط:

وربما يتساءل الكثير عن الأسباب التي دعت الإمام(ع) إلى اشتراط هذه الشروط وجعلها في وثيقة الصلح، إذ كان بإمكانه أن يكتفي في البين بالمادتين الأولى والثانية.
والإجابة عن هذا التساؤل لا تنحصر فائدتها فقط في بيان الدوافع والغايات التي كان يسعى لها الإمام(ع)، بل إنها تكشف أيضاً عن الشخصية السياسية المحكنة والقدرة الفائقة التي كان يمتلكها الإمام الحسن(ع)، وأنه ليس كما يدعى من أنه(ع) ما كان يملك دراية بالشأن السياسي، وأنه رجل سلم وعبادة، وليس رجل حرب وسياسة.

ويتضح هذا الذي ذكرناه من خلال الانفعال الخارجي الذي حصل لمعاوية، فإن المنقول تاريخيا أنه وبمجرد أن وقع التوقيع على معاهدة الصلح بين الطرفين، صعد معاوية المنبر وقال في ما قال في خطبته بأن جميع ما شرطه للحسن(ع) تحت قدمه، وقد يفهم الكثيرون من هذه العبارة استضعاف معاوية للإمام(ع)، مع أن دراسة بنود المعاهدة يعطي معنى يختلف عن ذلك، فإنه يكشف عن ضيق الخناق الذي وقع فيه معاوية وحالة المحاصرة التي أصبح فيها، ذلك أن الإمام(ع) طوقه بتلك الشروط وأفرغه عما كان يرغب فيه، ووقف حاجزاً دون تحقيق رغباته، فلم يجد بداً إلا أن يعمد إلى نقض بنود الصلح، وكان يظن أن الإمام(ع) سوف يجاريه، فينقض الصلح كما فعل هو، وفاته بما له من الدهاء والمكر والخديعة أن يحقق الإمام(ع) غايته من خلال كشف معاوية على حقيقته أمام المجتمع الإسلامي، وإبرازه بصورته الصحيحة التي هو عليها دونما زيف ولا تلميع، بأنه يغدر ويفجر.

وكيف كان، إن وضوح ذلك كله يعتمد على الإحاطة ولو في الجملة بشيء من بنود الصلح من خلال دراستها ومعرفة المغزى الذي ترمي إليه، وما يقصد منها.

دراسة بنود المعاهدة:

وسوف نعمد إلى دراسة البنود بمقدار ما يتسع المجال، وربما قصرنا الحديث حول بعض المواد وفقراتها على التعليق المختصر حذراً من الإطالة، مع أنه يمكن للقارئ العزيز المتابعة والتأمل، ليصل إلى النتيجة التي ذكرناها.

المادة الأولى:

أول ما يشد القارئ لهذه المادة هو التعبير الذي ورد فيها، إذ نجد أنها تضمنت التعبير بتسليم الأمر، ولم تتضمن التعبير بتسلم الخلافة، مع أن المفروض أن المقام مقام تنازل عن الخلافة، لأن الخلافة كانت لأمير المؤمنين(ع)، وبعد شهادته(ع) بايع المسلمون ولا أقل جملة منهم الإمام الحسن(ع) على أن يكون خليفة عليهم، ولما وقعت الهدنة حصل في البين تنازل، فلماذا عبر في وثيقة الصلح وفي مادته الأولى بالأمر، ولم يعبر بالخلافة؟ لا ريب أن الإمام الزكي(ع) كان يهدف من هذا التعبير إلى شي، لم يتفطن له معاوية إلا بعدما وقعت المعاهدة، وهذا كان أحد الأسباب التي دعته إلى المجاهرة بنقض الصلح ورفض شروطه، لأنه رأى أن ذلك يمثل أخف الضررين.

وعلى أي حال، فما هو المقصود من هذا التعبير، لكي يتضح ذلك نحتاج الإشارة إلى أن هناك مناصب ثابتة للإمام المعصوم(ع) كما كانت ثابتة للرسول الأكرم محمد(ص)، فإن المستفاد من القرآن الكريم أن المقامات والمناصب الثابتة للرسول(ص)، هي منصب النبوة، ومنصب القضاوة وفصل الخصومة، ومنصب الحكومة والسياسة. ولا يختلف اثنان في ثبوت المنصبين الثاني والثالث للأئمة(ع) بعد رسول الله(ص)، وأما المنصب الأول، فالكل مجمع على أنه كان خاصاً به(ص)، فليس لأحد النبوة بعده(ص)، نعم هناك أئمة هداة خلفاء راشدون نص النبي(ص) على خلافتهم وإمامتهم له(ص) بعد رحلته من عالم الدنيا بأمر من الله تعالى، كما هو مفصل في محله.

وما يهمنا في البين هو أن المنصبين الثاني والثالث لا يعتبر فيهما أن يكونا لخصوص المعصوم(ع)، بل يمكن أن يكونا لغيره أيضاً كما هو مقرر في محله، وهذا يعني أنه يمكن أن يكون الحاكم السياسي غير معصوم، كما يمكن أن يتصدى للقضاء شخصية غير معصومة، وذلك لأن هذين المنصبين بيد الناس، فهم الذين يعمدون لانتخاب من يرغبون تعيـينه، إلا أن ذلك لا يعني أن الله تعالى لا يعين فيه أحداً، بل من الأمور التابعة لمنصب الإمامة كما هو تابع لمنصب النبوة ثبوت هذين المنصبين للإمام(ع)، لكن لو خالف الناس فجعلوا فيه أحداً آخر، فلا إلزام على المعصوم(ع) بالمطالبة.

وبالجملة، إن هذين المنصبين هما اللذان يعبر عنهما بالأمر، وهما المقصودان بالتعبير الوارد في كلام الإمام الحسن الزكي(ع)، فهو إذاً يشير إلى أن الذي يكون لمعاوية إنما هو خصوص المنصب الحكومي والقيادة السياسة، وفصل الخصومة والقضاوة، ليس إلا، مع بقاء القيادة الدينية، والخلافة الإلهية، والإمامة السماوية بيده(ع).

ومن الطبيعي أن هذا يعني أنه ليس معاوية بخليفة شرعي معين من قبل الله تعالى، وليس حاكماً سماوياً فضلاً عن أن يكون خليفة لرسول الله(ص)، وإنما هو شخص منتخب عينه الناس واختاروه، وهذا لا يعطيه شرعية سماوية، وهذا يفسر لنا ما جاء في بعض المصادر من منعه(ع) إياه من أن يتسمى بأمير المؤمنين(ع)إذ بعيداً عن كون هذا اللقب من الألقاب المختصة بأبي الحسن علي بن أبي طالب(ع)، فإن الذي يلقب بهذا اللقب لابد وأن يملك شرعية سماوية، وأن يكون تنصيبه في القيادة السياسية والفصل في الخصومات من السماء، لا من الناس، ومنه يتضح أن المواد التي ذكرها العلامة آل ياسين(ره)، وإن لم تكن مشتملة على هذا الشرط، إلا أن التعبير بكلمة الأمر كما هو محور المادة الأولى يكفي لإحراز ذلك وفقاً للبيان الذي ذكرناه، فلاحظ. كما أنه يوضح لنا الموجب لشرطه(ع) عدم إقامته الشهادة عنده، فإنه لا يشك أحد في أن الإمام(ع) لا يكتم شهادة ولا يمنع إقامتها في محله، إلا أن إقامة الشهادة كما نعلم مشروطة بكون المشهود عنده يملك الأهلية للشهادة، من خلال كونه شخصية قضائية إلهية، فيكون حاكماً شرعياً، أما لو لم يكن كذلك، فإنه لا يجب إقامة الشهادة عنده، بل ربما كانت محرمة، وبالتالي امتناع الأمام (ع) أن يقيم شهادة يتضمن بالدلالة التضمنية أن حاكمية معاوية حاكمية غير شرعية، وبالتالي لا يمكن أن تقام شهادة عنده[2].
وأوضح من هذا كله إلزام الإمام(ع) إياه أن يفرق مبلغاً مالياً في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين(ع) يوم الجمل ويوم صفين، فإن هذا يكشف للمسلمين الخطأ الذي ارتكبه معاوية، من خلال خروجه على إمام زمانه، وأنه كان شخصاَ شاقاً لعصى المسلمين، وما كان يرعى الحدود الإلهية والأمور الشرعية النبوية، فإذا كان هذا هو معاوية، فهل يحق أن يكون خليفة للمسلمين؟!

لا يقال: إنه(ع) قد شرط أن يكون المال المفرق من خراج أبجرد، وسيأتي منشأ جعله منها، وهو يعني عدم النتيجة المدعاة؟

فإنه يقال: إن الموجب لجعل المال من خراج أبجرد لا ينفي النتيجة التي ذكرنا، وإنما غايته الترفع عن المشتبه فضلاً عن الحرام، كما سيظهر عند الحديث عن خراج أبجرد، فأنتظر.
فأتضح من خلال ما قدمنا البعد السياسي للإمام(ع) من خلال هذه المادة، إذ أنه فوت على معاوية ما كان يرغب إليه من أخذ الشرعية الدينية من الجهة المعينة من السماء في تحقيق غايته، وكونه خليفة للمسلمين، فأعطاه الإمام(ع) أنه حاكم سياسي فقط على خصوص من رضي به وأختاره، وبالتالي ليس له الحق على غيرهم.

المادة الثانية:

وقد عرفنا فيما سبق تضمنها فقرتين، كانت الأولى أن يعود الأمر بعد هلاك معاوية للإمامين الحسنين(ع)، بحسب الترتيب الطولي، فإن كان أبو محمد(ع) في عالم الدنيا، كان الأمر له، وإلا فالأمر عندها يكون للمولى أبي عبد الله(ع)، ولا كلام لنا في هذه الفقرة لما تقدمت الإشارة إليه في المادة الأولى، ومعرفتنا بالمقصود من الأمر، فلاحظ.

إلا أن الكلام في الفقرة الثانية، إذ أن التوجه إليها يفيد أنه(ع) قد حدد العمر الزمني للدولة الأموية، وجعلها منحصرة في خصوص حياة معاوية، وهذا يعني أنه وبمجرد هلاكه، فإنه ليس للأمويين من حق ولا سلطان، بل إنه يلزمه أن يكون منقادين للإمامة الإلهية الحقة والخلافة الربانية المحمدية، وهذا يعني أنه(ع) قد وضع أول مسمار في نعش حكم معاوية، وقد ساعده معاوية على ذلك بقبوله بهذا الشرط، كما أن الإمام(ع) ضمن للمسلمين جميعاً حقاً شرعياً مفاده أن كل من رفض بيعة شخص آخر بعد معاوية غير الحسنين لا يعدّ خارجاً على حاكم زمانه، ولا يعدّ شاقاً لعصى المسلمين، فضلاً عن أن المسلمين غير ملزمين ببيعة لأحد سوى الإمام الحسن والإمام الحسين(ع).

ولا يخفى أن هذه الفقرة فضلاً عن أنها تضيق الخناق على معاوية كما عرفنا، فإنها سوف تعرّف المجتمع الإسلامي حقيقته عندما يعمد إلى العهد إلى شخص آخر، ويحرف الأمر عمن قبل أن يكون له من بعده، وبالتالي تعرى معاوية، ويظهر على حقيقته أمام المجتمع الإسلامي، وأنه شخصية غير جديرة بمنصب قيادة الأمة، لأنه يغدر ويفجر.

المادة الرابعة:

ولما كان الحديث عن المادة الثالثة يطول، فضلاً عما له من الأهمية التي تستوجب أن تفرد لها دراسة مستقلة تتضمن الحديث بداية عن دوافع السب، ومتى بدأ، وكيف كان موقف المسلمين من ذلك، وما يرتبط بذلك من معطيات، لدى ننتقل للحديث حول المادة الرابعة، ولن أتعرض لجميع ما جاء فيها من فقرات، وإنما أركز على بعضها فقط، ولنبدأ بما جاء في آخرها، إذ نجد أنه(ع) جعل جميع ما طلبه من المال الذي يعطاه، ويرفع إليه من قبل معاوية، وكذا المال الذي يفرق في أولاد أصحاب أمير المؤمنين(ع) من شهداء الجمل وصفين من خراج أبجرد، ولم يختر بلداً آخر من البلدان الإسلامية، فلماذا أختار(ع) هذا البلد دون غيره، أهل كان لخراج هذا البلد امتياز يفضل به على بقية البلدان الإسلامية، لذلك أختاره(ع)، أم أن هناك نكتة هي التي دعت إلى ذلك؟

إن معرفة ذلك تدعونا للتعرف على مدينة أبجرد وكيف كان دخول المسلمين إليه، فنقول:
أبجرد بلد من بلاد فارس، وهي منطقة تقرب من الأهواز كما ذُكر، ولم يدخلها المسلمون فاتحين، وإنما صالح أهلها المسلمين على أن يدفعوا لهم الجزية، أو يعطوهم مقداراً من المال وقع الاتفاق عليه مقابل أن يقوم المسلمون بحمايتهم، وهذا يعني أن أبجرد مثلها مثل فدك، مما لم يوجف عليه لا بخيل ولا ركاب، وبالتالي تكون أبجرد من الفيء مقابل ما يكون من الغنائم، إذ نعلم أن القرآن الكريم تحدث عن أن هناك ثلاثة عناوين مالية، فهناك الغنائم الحربية، والأنفال، والفيء، ولسنا بصدد الحديث عن كل واحد منها، فإن ذلك يطلب من الفقه، وإنما يقصد من الغنائم الحربية ما يتحصل عليه المقاتلون نتيجة خوضهم المعركة الحربية، أما الفيء فهو ما يحصله المسلمون دون دخول في معركة أي أن أهل البلد يصالحون المسلمين مباشرة، والمقرر فقهياً أن الفيء يكون للنبي(ص)، ومن بعده للإمام(ع)،ولذا أنحل رسول الله(ص) فدك وأعطاها إياها، لأنها له(ص)، فكذلك أبجرد تكون للإمام(ع) وليست لمعاوية، لأنها من الفيء وأموالها تكون ملكاً له، لذلك جعل(ع) الأموال التي طلبها من خراج أبجرد دون غيرها، كما لا يخفى.

ولو سألنا عن السبب الذي دعاه(ع) لخصوص أبجرد، وعدم قبوله أخذ شيء من الأموال التي في بيت مال المسلمين مما يكون تحت يد معاوية، كان جوابه، أنه(ع) كان يود الترفع عن الأموال التي حصل عليها معاوية ولا يحرز شرعيتها، لأن الحروب التي خاضها معاوية وكذا من قبله لم تتصف بصفة الشرعية، فهي ليست بإذن من الإمام المعصوم(ع)، وبالتالي لا تكون الأموال المستفادة منها من غنائم حربية مملوكة لآخذيها، فضاً عن أنه قد خولف الشرع في كيفية تقسيم الغنائم، فإن المقرر شرعاً أن الغنائم تقسم بين المقاتلين، لكن عمر سنّ بدعة فصار يأخذها يوزعها في المسلمين جميعاً، ولا يختص بها المقاتلون مخالفاً في ذلك أمر الله ورسوله(ص)، وقد كان القوم بعده على ذلك بما فيهم معاوية، وهذا يعني أن أموال بيت المال ما كانت أموالاً شرعية للجهتين اللتين ذكرنا، فلاحظ.

ومن خلال عرضنا لبيان شيء من حقيقة هذه المادة يتضح لك أن التهم التي وجهت من بعض المرتزقة للمولى أبي محمد(ع) من أن هذه الأموال إنما هي ثمن تنازله عن الأمر لطاغية عصره معاوية، وأنه باع حق الأمة بثمن بخس، إذ أتضح مما قدمنا أنه (ع) إنما أخذ حقاً قد ثبت له بنص القرآن الكريم، والسنة الشريفة، وعرفه المسلمون، فتدبر.

وأما استثناء ما في بيت مال الكوفة، فمن الطبيعي أن لا يسلم لمعاوية، لعدم الشرعية عنده كما عرفنا عند الحديث عن المادة الأولى، فلا نعيد، وبالتالي يكون الأمر فعلاً بيد الخليفة الشرعي، هو الذي يتولى إنفاقه في موارده ومصارفه، فلا تغفل.

نعم وربما شكك البعض في بلوغ المبلغ المالي حينها هذا المقدار في بيت مال الكوفة، لكنه يندفع بملاحظة ما جاء في سيرة أمير المؤمنين(ع) من قيامه برد جميع الصلات والعطايا والإقطاعات التي حصلت في عصر الرجل الثالث لبني عمومته وقرابته ولم تتصف بالصفة الشرعية، وجعلها في بيت مال المسلمين[3].

هل وفى معاوية:

هذا وبعد الحديث شيئاً حول بعض مواد المعاهدة، من الطبيعي أن السؤال الوارد في ذهن القارئ هو مقدار وفاء معاوية بما عاهد عليه، فهل وفى معاوية بجميع ما عاهد الإمام(ع)، ولا أقل ما هي المواد أو الفقرات التي ألتـزم بها معاوية ووفى للإمام(ع) بها؟

ولا أظن أن القارئ لا يعلم جواب سؤاله قبل أن يسأله، لأن التأريخ قد صم الآذان بحقيقة معاوية، وأنه يكذب ويفجر ويغدر، وهذا يعني أنه لن يفي للإمام(ع) بشيء من بنود هذه المعاهدة وموادها، وهذا هو الذي حصل فعلاً فلم يف معاوية بشيء من ذلك.
ولو قيل، إذ كان الأمر كذلك، ولا ريب في أن الإمام(ع) كان يعلم بهذا الأمر، إذاً لماذا أقدم(ع) على اشتراط هذه الشروط، وذكر هذه المواد.

إن هذا التساول ناجم عن رؤية ضيقة للقضية السياسية في ذلك العصر، وعن جهل بالدوافع والأهداف التي كان ينشدها الإمام الزكي(ع)، وقد أشرنا شيئاً ما لذلك في مطلع البحث، فذكرنا أنه(ع) كان بصدد فضح معاوية وتعريف المجتمع الإسلامي بحقيقته من خلال لسان معاوية نفسه، وليس من خلال لسان الإمام(ع)، فضلاً عن أن الإمام(ع) كان يخطط لأمر إلهي أبعد وأكب يتمثل في نهضة الإمام الحسين(ع)، ولذا لابد من ربط الأمرين بعضهما مع بعض، إذ أن جملة من مواد المعاهدة له ارتباط وثيق جداً بنهضة الإمام الحسين(ع) المباركة[4].

ولنختم المقام بكلمة رائعة جداً للعلامة آل ياسين(ره) في المقام، يتعرض فيها للتعريف بمن هو الإمام الحسن(ع) من خلال المعطى السياسي، قال(قده): ومن الحق ن نعترف للحسن بن علي(ع)-على ضوء ما أثر عنه من تدابير ودساتير هي خير ما تتوصل إليه اللباقة الدبلوماسية لمثل ظروفه من زمانه وأهل زمانه-بالقابليات السياسية الرائعة التي لو قدر لها أن تلي الحكم في ظرف غير هذا الظرف، وفي شعب أو بلاد رتيبة بحوافزها ودوافعها، جاءت بصاحبها على رأس القائمة من السياسيـين المحنكين وحكام المسلمين اللامعين.

وإنك لتلمح من بلاغة المعاهدة بموادها الخمس، أن واضعها لم يعالج موضوعه جزافاً، ولم يتناوله تفاريق وأجزاء، وإنما وضع الفكرة وحدة متماسكة الأجزاء متناسقة الاتجاهات، وتوفر فيها على تحري أقرب المحتملات إلى التنفيذ عملياً، في سبيل الاحتياط لثبوت حقه الشرعي، وفي سبيل صيانة مقامه ومقام أخيه[5].

ثم أخذ(ره) في عرض موجز لأهداف الإمام(ع) التي توخاها من ذكره لمواد هذه المعاهدة، فليراجعه القارئ لما فيه من فائدة.

[1] صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين ص 259-261.
[2] ومن خلال هذا الأمر أفتى فقهاؤنا بأن هناك شروطاً معتبراً في من يتصدى للقضاء، وأنه ليس لكل أحد التصدي لذلك، وعليه ما لم يكن الشخص المتصدي للقضاء متصفاً بتلك الصفات، فإنه لا ترتب آثار القاضي عليه، كما هو مفصل في البحوث الفقهية، فلتراجع.
[3] الإمام الحسن في محنة التاريخ ص 302.
[4] أشير لهذا المعنى وبتأكيد شديد في كتاب تمهيد الحسن وقيام الحسين لفضيلة الشيخ عبد العزيز المصلي.
[5] صلح الحسن ص 264-265.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة