معالجة المشكلة السندية:
من هنا ذكر الأصحاب وجوهاً لاعتبار النصوص المذكورة، ومن ثمّ إدخالها دائرة الحجية:
منها: ما جاء في كلمات المحقق النراقي(قده) في المستند، بقوله: لا يضر ضعف أسناد بعض تلك الأخبار، بعد وجودها في الكتب المعتبرة، مع أن فيها الصحيحة[1].
ولا يخفى أن كلامه يفيد تأسيس كبرى كلية، جعل مقامنا من صغرياتها، ومفاد تلك الكبرى: أن وجود النص في أحد الكتب المعتبرة موجب لدخوله دائرة الحجية، وكأن ذلك يعود إلى أن أصحاب الكتب المعتبرة قد شهدوا باعتبار كتبهم، والتـزموا ألا ينقلوا فيها إلا ما صح وثبت صدوره عن المعصوم(ع). وبالتالي يتشكل في البين قياس منطقي من الشكل الأول، كبراه ما ذكرنا، وصغراه نصوص المقام، على أساس أنها مما ورد في الكتب المعتبرة، فتدخل دائرة الحجية.
ولا يخفى ما في الكبرى من منع، ضرورة أن مجرد شهادة أصحاب الكتب باعتبار نصوص كتبهم لا يلزم بحجيتها، وإلا لم تكن هناك حاجة للمناقشة في أسناد شيء من الكافي، أو الفقيه، لما جاء في ديباجتيهما، فلاحظ.
ومنها: ما جاء في كلمات سيد الرياض(قده)، إذ ذكر أن نصوص المنع: تكاد تقرب من التواتر، ولأجلها لا يمكن العمل بتلك(النصوص الدالة على الجواز والمشروعية)ولو من باب المسامحة، إذ هي حيث لم تحتمل منعاً ولو كراهة، وهي محتملة من جهة الأخبار المانعة[2].
ولا ريب في أنه لو تم ما أفاده(قده) فعلاً أعني من ثبوت التواتر لنصوص المنع، لم تكن هناك حاجة لدراسة أسنادها، إذ أن ذلك علامة الصدور كما هو واضح، إلا أن الكلام في صدق عنوان التواتر في المقام، فإن النصوص المذكورة وإن كانت لا تبلغ من حيث العدد ما جرت عادة أهل الدراية على اعتباره. نعم لو كان مقصوده من التواتر ما أختاره بعض الأكابر(قده)، وبعض أساطين المحققين من المعاصرين(دامت أيام بركاته) من ملاحظة نسبة الاحتمال والمحتمل، كان لذلك وجه.
والحاصل، يصعب الجزم في البين بتحقق التواتر، وإن كان المختار في حقيقته ومعناه، ما أختاره بعض الأكابر(ره)، وبعض أساطين المحققين(أطال الله في عمره الشريف). خصوصاً بملاحظة ما ذكره بعض الأعاظم(قده) من رجوع أربع من الروايات إلى واحدة، لأن طريقها ينتهي إلى الحسن بن علي الهاشمي[3]، فيقل العدد كما هو واضح.
ومنها: ما حكي عن شيخنا الأستاذ(دامت أيام بركاته) من اعتبار أسنادها، اعتماداً على عمد الشيخ(ره) للجمع بينها وبين الطائفة الثانية، ومن الواضح أنه(قده) إنما عمد للجمع بينهما لفراغه عن حجيتهما، ضرورة أن المعارضة فرع الحجية، فلو لم تكن هذه الطائفة حجة لم يعمد للجمع بينهما، لأنه لن تكون معارضة حينئذٍ.
ويلاحظ عليه، أولاً: أن المدعى أن بين نصوص المنع ما هو معتبر سنداً، وبالتالي يكفي أن يكون في البين ولو خبر واحد حتى يصح القول بحصول المعارضة، لأن تحققها خارجاً لا يتوقف على تعدد الأخبار كما لا يخفى.
على أنه يمكن القول، بأن ما كان غير معتبر عندنا، يكون معتبراً عند الشيخ(قده).
ثانياً: إن المتابع لمنهج شيخ الطائفة(ره) في التهذيـبـين، يجد أنه يعمد في البداية إلى محاولة التوفيق والجمع العرفي بين الطائفتين المتعارضتين، بعيداً عن المناقشة السندية فيها، فإن لم يتم الجمع عمد إلى الترجيح السندي، ولذا متى أمكن الجمع، فإنه يسكت عن اللجوء للمرجحات، ومن الطبيعي أن هذا يعني أن جمعه العرفي أعم من كونه يعتبر الخبر من عدمه، فتأمل.
ومنها: ما حكي عنه أيضا(دامت أيام بركاته) من أن نصوص المنع لما كانت موافقة لسيرة المتشرعة أوجب ذلك دخولها دائرة الحجية واعتبارها.
ولم يتضح لي منشأ تقوية سيرة المتشرعة للنصوص الضعيفة، إذ لو كان الأستاذ يريد أن النصوص الموجودة في المقام مجبورة، والكاشف عن تحقق الجابرية هو سيرة المتشرعة، فإن ذلك مردود، بأن وجود سيرة المتشرعة في المقام تمنع من تحقق جبر في مقام العمل، كما فصل في محله. وإن كان نظره إلى أن النصوص المذكورة كاشفة عن السيرة المستمرة، فلن تصلح السيرة لدعم النصوص وتقويتها، وإلا كان المقام مصادرة بينة.
أدلة القائلين بالجواز:
هذا وقد تمسك القائلون بجواز الصوم يوم عاشوراء بجملة من النصوص:
منها: موثقة أبي همام عن أبي الحسن(ع) قال: صام رسول الله(ص) يوم عاشوراء[4]. ودلالتها على المدعى واضحة، ضرورة أنه لا يتصور صدور الفعل من المعصوم(ع)، مع كونه غير مشروع، فإتيان المعصوم(ع) فعلاً من الأفعال دليل مشروعيته، بل رجحانه واستحبابه، لما نعتقده نحن الشيعة من أن المعصوم، لا يرتكب مكروهاً، ولا يترك مستحباً.
ولو تأمل في دلالة الموثق، لكونه فعلاً، وليس لساناً، والفعل دائماً وأبداً مجمل، لتردده بين الاستحباب والمشروعية.
دفع، بأن المدعي للجواز، لا يريد إثبات استحباب صيام يوم عاشوراء، وإنما أقصى ما يسعى إليه هو إثبات مشروعيته وجوازه، وهذا يكفي في الدلالة على المدعى، فتأمل.
ومنها: خبر جعفر بن محمد بن عبيد الله بن ميمون القدّاح، عن أبي جعفر، عن أبيه(ع)، قال: صيام يوم عاشوراء كفارة سنة[5].
أقول: راوي الحديث لم تثبت وثاقته، هذا وقد أختلف ما ذكره في الوافي عما ذكره في الوسائل، ذلك أن صاحب الوافي جعل الراوي المباشر عن الإمام(ع) هو القداح[6]، بينما الوارد في الوسائل أن المباشر للرواية هو جعفر بن محمد، وما في الوافي هو الموافق لما في التهذيب[7]. وأما من حيث الدلالة، فهو واضح في المدعى، إذ أن جعل صيامه كفارة سنة كافٍ عن محبوبية صيامه، والندب إليه، فلاحظ.
ومنها: ما رواه كثير النواء عن أبي جعفر(ع) قال: لزقت السفينة يوم عاشوراء على الجودي فأمر نوح(ع) من معه من الجن والإنس أن يصوموا ذلك اليوم. وقال أبو جعفر(ع): أتدرون ما هذا اليوم؟ هذا اليوم الذي تاب الله عز وجل فيه على آدم وحواء، وهذا اليوم الذي فلق الله فيه البحر لبني إسرائيل فأغرق فرعون ومن معه، وهذا اليوم الذي غلب فيه موسى(ع) فرعون، وهذا اليوم الذي ولد فيه إبراهيم(ع)، وهذا اليوم الذي تاب الله فيه على قوم يونس(ع)، وهذا اليوم الذي ولد فيه عيسى بن مريم(ع)، وهذا اليوم الذي يقوم فيه القائم(ع)[8].
وليس في سنده من يتوقف فيه سوى كثير النوا، وسيأتي الحديث عنه في الملاحق، فأنتظر.
ودلالته على المدعى واضحة جداً، خصوصاً وأن الخبر قد تضمن الإشارة إلى ما وقع في هذا اليوم من بركات، حتى أنه كان يوماً مباركاً في جميع الأمم السابقة على أمة نبينا محمد(ص).
إلا أن شيخنا المجلسي غواص بحار الأنوار(قده)، حمله على التقية، بقرينة ما رواه الصدوق(ره) في الأمالي وغيره: أن وقوع البركات في هذا اليوم من أكاذيب العامة، ومفترياتهم[9].
وكذا ناقش في صحة وقوع هذه الأحداث في يوم عاشوراء المحقق القمي(ره) في غنائم الأيام أيضاً، فذكر أن رواية كثير النوا من حيث المضمون مخالفة لسائر الأخبار في ولادة عيسى(ع)، لأن المعروف أنها في ذي الحجة، وتوبة قوم يونس(ع) ورد أنها كانت في شوال، وتوبة آدم(ع) ورد أنها كانت في يوم الغدير، وغير ذلك. وأما ذكر قيام القائم(ع)، فلعله من جهة تخليطه حتى لا يكذب في سائر ما ذكره[10].
هذا ولو رفعنا اليد عما تقدم، فإنه يمكن المنع من دلالة الخبر على مشروعية صيام يوم عاشوراء، فضلاً عن استحبابه، لأن أقصى ما يفيده الخبر المذكور الحديث عن وقوع جملة من الأحداث في هذا اليوم، إلا أنه لا ظهور له من قريب أو بعيد في مشروعية الصيام فضلاً عن محبوبيته، وبالتالي البناء على ثبوت ذلك يحتاج إلى مؤونة، كما يحتاج إلى تمامية كبرى كلية، أنه في كل يوم وقعت جملة من الأحداث والكرامات، فإنه يحكم باستحباب صومه، ومحبوبية ذلك، والظاهر عدم ثبوت ذلك، فتأمل.
ومنها: ما رواه مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله، عن أبيه(ع) أن علياً(ع) قال: صوموا العاشوراء التاسع والعاشر، فإنه يكفر ذنوب سنة[11].
ودلالته على المدعى تامة، كما أنه لا مجال للخدشة في سنده، حيث ذكرنا في بحث حجية البينة أنه لا مانع من رواية هارون بن مسلم عن مسعدة، كما أننا استقربنا هناك اتحاد مسعدة بن صدقة مع مسعدة بن زيادة لعدة قرائن، فلاحظ.
ومنها: خبر حفص بن غياث عن جعفر بن محمد(ع) قال: كان رسول الله(ص) كثيراً ما يتفل يوم عاشوراء في أفواه أطفال المراضع من ولد فاطمة(ع) من ريقه ويقول: لا تطعموهم شيئاً إلى الليل، وكانوا يروون من ريق رسول الله(ص). قال: وكانت الوحش تصوم يوم عاشوراء على عهد داود(ع)[12].
قال الفيض الكاشاني(قده): كأن الوجه في ذلك ما روي أن الوحش كانت تحضر وعظ داود(ع) وتذكيره لحسن صوته، وإعجاب كلامه، فلعلها سمعت منه(ع) من ذلك شيئاً أو أوقع الله في نفوسها في ذلك اليوم حزناً فتركت الأكل[13].
ولا يخفى أن الخبر المذكور أجنبي عن المقام تماماً، إذ لا يتضمن من قريب أو بعيد الإشارة إلى مشروعية الصيام في يوم عاشوراء، فضلاً عن استحبابه، فلاحظ. اللهم إلا أن يدعى أن ما صدر منه(ص) في شأن أطفال الزهراء(ع) يكشف عن أن بقية أهل الدار من البالغين كانوا صائمين، فتأمل.
ومنها: خبر الزهري عن علي بن الحسين(ع) قال: أما الصوم الذي صاحبه فيه بالخيار…صوم عاشوراء[14].
ودلالة الخبر على المشروعية واضحة بمقتضى التخيـير، وفي الزهري خلاف بين الرجاليـين، في أنه من العامة المحبين، أم أنه من الشيعة، يطلب من محله.
ومنها: خبر الجعفريات عن أبي عبد الله الصادق(ع) عن أبيه، قال: كان علي(ع) يقول: صوموا يوم عاشوراء التاسع والعاشر احتياطاً فإنه كفارة للسنة التي قبله، وإن لم يعلم به أحدكم حتى يأكل فليتم صومه[15].
وهو تام الدلالة على المدعى، إلا أن المشكلة فيه من الناحية السندية كما فصلنا ذلك في غير هذا الموضع، وذكرنا عدم إمكانية الاستناد للكتاب المذكور، فلاحظ.
ومنها: خبر دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد(ع) أنه قال: أوفت السفينة يوم عاشوراء على الجودي، فأمر نوح من معه من الإنس والجن بصومه، وهو اليوم الذي تاب الله فيه على آدم(ع)، وهو اليوم الذي يقوم فيه قائمنا أهل البيت(ع)[16].
وهو أيضاً كالنصوص السابقة عليه من حيث الدلالة كما لا يخفى.
والمتحصل من هذا العرض أن في البين نصين قد تما سنداً ودلالة، وهما موثقة أبي همام، وموثقة مسعدة، وقد تقرر منا في محله أن اعتبار وثاقة مسعدة إنما هي صناعية، لا يجزم بها في مقام العمل، ووفقاً لذلك وبناءً على عدم تمامية ما دل على المنع من صوم يوم عاشوراء، يلتـزم باستحباب صيامه دونما تقيـيد بكونه على وجه الحزن، بل بالاستحباب المطلق.
ولا يخفى أنه ووفقاً لما تقدم من تمامية ما دل على المنع من صوم يوم عاشوراء، فعندها تحصل المعارضة بين ما دل على الجواز، وبين ما دل على المنع، فلابد من العمد إلى العلاج، إما من خلال جمع عرفي، أو يعمد إلى الترجيح.
[1] مستند الشيعة ج 10 ص 492.
[2] رياض المسائل ج 5 ص 467.
[3] مستند العروة ج 2 ص 304.
[4] وسائل الشيعة ب 20 من أبواب ح 1.
[5] وسائل الشيعة ب 20 من أبواب صوم ح
[6] الوافي ج 11 ص 75 ح 10442.
[7] تهذيب الأحكام ج 4 ح 907.
[8] وسائل الشيعة ب 21 من أبواب ح 5.
[9] ملاذ الأخيار ج 7 ص 116.
[10] غنائم الأيام ج 6 ص 73.
[11] وسائل الشيعة ب 20 من أبواب ح 2.
[12] وسائل الشيعة ب 20 من أبواب ح 4.
[13] الوافي ج 11 ص 74.
[14] وسائل الشيعة ب 20 من أبواب ح 6.
[15] جامع أحاديث الشيعة ب 18 من أبواب ح
[16] مستدرك الوسائل ب 16 من أبواب ح 1.