صيام عاشوراء(4)

لا تعليق
خواطر حوزوية
97
0

معالجة المعارضة بين النصوص:

وقد يجمع بينهما بحمل ما دل على استحباب الصوم يوم عاشوراء مطلقاً دونما تقيـيد بكونه حزناً على مصاب أبي عبد الله(ع) باستحباب صومه حزناً، بقرينة الروايات الدالة على المنع عن صومه، لأنها ناظرة للمنع من صومه إذا كان فرحاً وشكراً، لا ما إذا كان صومه حزناً وألماً، وقد جمع هذا الجمع شيخ الطائفة(ره) في الاستبصار، وقال أنه جمع شيخنا المفيد(قده).

وأورد عليه: بأن الصوم يوم عاشوراء-طبقاً للنصوص الناهية عن صومه- يعدّ بدعة ويوجب الهلكة، مما يعني عدم قابليته للصوم. مضافاً إلى أنه لم يعهد كون الحزن سبباً لاستحباب الصوم أصلاً، وإنما السبب لاستحبابه هو أيام الفرح والسرور، فلاحظ[1].

هذا وقد منع شيخنا الأستاذ(أطال الله في بقائه) من الجمع بين الطائفتين، وذكر أنه جمع تبرعي، وعلل ذلك بأن الصوم إنما يكون شكراً لله سبحانه، ولا يتصور هذا في يوم عاشوراء لأنه يوم مصيبة، فيكشف عن المنع من الزجر عن صومه، فلا يمكن جمعه مع النصوص الأخرى.
ولا يخفى ما فيه، ضرورة أن الشكر لا يتنافى والمصيبة بل هو أعم، إذ يمكن أن يكون الإنسان شاكراً لله سبحانه على ما هو فيه من مصاب، كما يمكن أن يشكر الله تعال متى تجددت له نعمة، من هنا فقد نُقض عليه(حفظه الله) بما جاء في زيارة عاشوراء: اللهم لك الحمد حمد الشاكرين لك على مصابهم.
وعن صاحب الحدائق(قده) البناء على عدم ثبوت معارضة في المقام، ضرورة أن المعارضة فرع حجية النصين المتعارضين، ولا حجية في البين لما دل على مشروعية أو استحباب صوم يوم عاشوراء، لأن هذا الحكم، أعني صوم يوم عاشوراء كان ثابتاً في صدر الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك عندما نزل الأمر بصوم شهر رمضان المبارك، تمسكاً بما جاء من أن صوم عاشوراء كان ولكن ترك برمضان[2].

ولم يرتض مقالته شيخنا الأستاذ(أطال الله في عمره)، فأورد عليه:

أولاً: إنا نمنع ثبوت النسخ لصوم عاشوراء تمسكاً بموثقة مسعدة بن صدقة المتقدمة في ما دل على الجواز، فإنها تضمنت أمر أمير المؤمنين(ع) صوم يوم عاشوراء، وأنه كفارة ذنوب سنة، وهذا يعني عدم نسخ الحكم بمشروعية الصوم، لأنه لا تشريع بعد وفاة رسول الله(ص). وكذا أيضاً خبر القداح المتقدم.
ثانياً: إن مستند صاحب الحدائق(ره) في نسخ صوم يوم عاشوراء بصيام شهر رمضان المبارك، مضافاً لضعفه السندي، هو غير تام الدلالة على المدعى، ضرورة أن أقصى ما يستفاد منه هو ترك صوم يوم عاشوراء بمعنى رفع وجوبه، لا أنه يستفاد منه عدم المشروعية.

هذا ولو جعل مستند صاحب الحدائق للنسخ التالي: سألت أبا جعفر(ع) عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: صوم متروك بنـزول شهر رمضان والمتروك بدعة[3]. وهي ظاهرة في النسخ ومن ثمّ سلب المشروعية.
أجيب عنه، مضافاً لضعف الخبر سنداً، فإنه معارض بما دل على بقاء المشروعية وأنه كفارة سنة، كخبر القداح، ولا ريب في أن خبر القداح نص في المشروعية ورواية أبي جعفر(ع) ظاهرة في عدم المشروعية، فترفع اليد عن الظاهر بمقتضى النص.

على أنه لو بني على الإجمال في لفظ الترك، إذ يحتمل أن يكون المقصود منه ترك الصيام عملاً في الخارج، مع بقاء المشروعية، أو تركه بمعنى زوال أصل المشروعية، كانت النتيجة أيضاً عدم صلوح الخبر لإثبات النسخ، مضافاً إلى أنه يمكن رفع الإجمال من خلال موثقة مسعدة، ورواية القداح.

أقول: لا يخفى أن ما أفاده شيخنا الأستاذ(دامت أيام بركاته) جارٍ على وفق القواعد، ذلك لأن موثقة مسعدة، ومروية القداح مستجمعة لشرائط الاعتبار بتوفرها على الأصالات الثلاث، إلا أن هذا لا يجري على وفق مبناه(دامت أيام بركاته) فإنه قد قرر أنه لن تصل النوبة للتعارض حتى لو قلنا بأن أخبار المنع غير تامة سنداً كما عن بعض الأعاظم(ره)، لانتفاء أصالة الجهة في نصوص الاستحباب أو المشروعية، وذلك لأن متون هذه الروايات موافقة للنصوص المتظافرة الواردة في صحيح مسلم، كما أنها موافقة للعنوان الفقهي الوارد في كتبهم الفقهية. ثم إنه لما كانت هذه النصوص موافقة للمتون الفقهية المسلمة عند العامة، فهذا يسلب منها أصالة الجد، للشك فيها، فلا تجري أصالة الجد حينئذٍ، فإنها أصل عقلائي لبي، يقتصر فيه حال الشك على خصوص القدر المتيقن. وطبقاً لذلك لن يكون في البين ما يدل على المشروعية فضلاً عن الاستحباب كما لا يخفى.

ولا يخفى أن شيخنا الأستاذ(دامت أيام بركاته) يشير بهذا البيان إلى أن تحقق موجب الشك في توفر أصالة الجهة، لأنه يقرر أن النصوص الدالة على الاستحباب أو المشروعية موافقة لما عند العامة، فيكون ذلك موجباً لحصول الشك في أصالة الجهة فيها، لأننا نشك عندها في صدورها بداعي الجد كما هو واضح.
وبالجملة، مقتضى ما ذكرنا أن إيراده(دامت أيام بركاته) غير وارد على صاحب الحدائق(ره)، اللهم إلا أن يدعى أنه ناظر إلى إلزام صاحب الحدائق(قده) بما يلتـزم، لا بما يلتزم به هو(أطال الله في بقائه)، فتأمل[4].

والمتحصل، أنه لا مجال للجمع العرفي بين الطائفتين، بل إن المعارضة مستقرة بينهما، ولا موجب لرفع اليد عن اللجوء للمرجحات، وقد تكرر في كلمات الأصحاب حمل روايات الجواز على التقية، فقد حملها المحقق القمي(ره) في غنائم الأيام على ذلك[5]، وكذلك الشيخ التقي الشيخ محمد تقي المجلسي(قده) في كتابه روضة المتقين[6]، وكذا المجلسي(قده) في ملاذ الأخيار[7]، وكذا في مرآة العقول[8]. وبالتالي تبقى النصوص الدالة على حرمة صوم يوم عاشوراء من دون معارض، فيحكم بحرمة صيامه.

إلا أن في النفس شيئاً من هذا الحمل، فإن النصوص الدالة على الجواز والمشروعية تضمنت حكاية ذلك عن رسول الله(ص)، وعن أمير المؤمنين(ع)، ولا يخفى أنه لو كانت الحكاية منحصرة في خصوص ما صدر عن رسول الله(ص)، أمكن الحمل على ذلك، إلا أن الكلام في اشتمالها على الحكاية لذلك عن أمير المؤمنين(ع)، وقد جاء في مروياتنا أن القوم كانوا يعمدون لخلاف ما يفعله علي(ع)، فكيف تكون الحكاية عن أمير المؤمنين(ع) لفعل أو لقول يوافق التقية. على أن الملاحظ أن نصوص الجواز قد نقلت عن غير واحد من الأئمة(ع)، وهذا بنفسه يوجب التوقف كثيراً في صدورها تقية كما لا يخفى، مضافاً إلى أن الموجب للحمل على التقية غير واضح في البين، إذ لو كان المقصود هو موافقة الفقيه ذا السلطة العلمية في ذلك العصر، وسلمنا أنه أبو حنيفة أو مالك أو كلاهما، فإننا نجد أنهما لا يلتـزما بالاستحباب، وإنما يلتـزما بأن صومه سنة، ويفرقان بين كون العمل سنة وبين كونه مندوباً، فلا معنى لأن يتقي منه(ع).
وبالجملة، الحمل على التقية للنصوص الدالة على الجواز والمشروعية يحتاج وقفة تأمل للجزم بذلك.

ثم إنه مع التوقف في الحمل على التقية، فلابد من البحث عن مرجح آخر، فقد يستند عندها إلى الشهرة الروائية على أساس أن المستفاد من المقبولة هو الترجيح بالمشهور روائياً، فتقدم الطائفة المستجمعة لذلك.
إلا أن الإنصاف، أنه لا مجال للركون لهذا المرجح، إذ أن الطائفتين من النصوص، ما دل منها على المشروعية والجواز، وما دل منها على المنع يتوفر فيه البناء على الشهرة الروائية، فلاحظ.

هذا ولو قيل بأن المستفاد من المقبولة هو الترجيح بالشهرة الفتوائية، وليس المقصود منها الترجيح بالشهرة الروائية، كما بنى على ذلك بعض الأعلام(ره)، وبعض المعاصرين(حفظه الله)، فتقدم النصوص الموافقة للشهرة الفتوائية، ولا ريب أنها نصوص المنع، لما عرفت عند استعراض كلمات الأصحاب في مطلع البحث.
وهذا وإن كان بحسب الصغرى تام، إلا أن المشكلة تكمن في الكبرى، إذ تقرر منا في الأصول عدم ظهور الشهرة الواردة في المقبولة في الشهرة الفتوائية، بل هي ظاهرة في الشهرة الروائية، فتدبر.

هذا وقد يقال: بأنه لا معنى للقول باستقرار المعارضة، لأن النصوص الدالة على الحرمة معرض منها من قبل الأصحاب، إذ لم يلتـزم بها أحد من القدماء، بل كلماتهم وفتواهم على البناء على استحباب الصيام في يوم عاشوراء، كما أن هناك دعوى إجماع على ذلك كما عن صاحب الغنية، وفي الجواهر أنه لم يجد في ذلك خلاف، وعليه تبقى النصوص الدالة على المشروعية أو الاستحباب من دون معارض فلا تحمل على التقية.

قلت: إن الإعراض على فرض تحققه في المقام، فهو من الإعراض الصناعي الذي لا يسلب الحجية عن الخبر كما فصل في محله.
وبعدما فقد ما يوجب الترجيح، فلا محيص عن البناء على التساقط، فإن كان في البين عام فوقاني يصلح أن يكون مرجعاً للبناء على مشروعية صيام يوم عاشوراء، كان هو المحكم، وإلا فالمرجع عندها إلى الأصل العملي.

والظاهر أنه لا يوجد في المقام عام فوقاني يمكن الرجوع إليه للبناء على مشروعية صيام يوم عاشوراء، فيتعين الرجوع للأصل العملي، لمعرفة حكم صيام يوم عاشوراء، ومقتضاه البناء على عدم المشروعية، إما تمسكاً باستصحاب العدم الأزلي، أو تمسكاً باستصحاب العدم النعتي، ولا يمكن الرجوع للبراءة، لأن البحث ليس في ثبوت التكليف وعدمه، بل هو في أصل المشروعية وعدمها، فتعين على هذا المنع من صيام يوم عاشوراء، نعم يـبقى ما أشير له في كلمات شيخنا الأستاذ(أطال الله بقائه) من أن البناء على الحرمة بنحو الفتوى مع كون فتوى الأصحاب على الاستحباب كما عرفت مما يصعب الجزم به، فيتنـزل الفقيه في مقام الفتوى إلى الاحتياط الوجوبي حذراً من مخالفة المشهور، والله سبحانه وتعالى العالم العاصم[9].
 

[1] ورد هذا الكلام في رسالة شيخنا الفقيه آية الله العظمى الشيخ أحمد آل طعان البحرني القديحي، المعروفة بالرسالة العاشورائية.
[2] الحدائق الناضرة ج 13 ص 376.
[3] وسائل الشيعة ب 21 من أبواب الصوم المندوب ح 5.
[4] اعتمدنا في عرض كلمات شيخنا الأستاذ(دامت أيام بركاته) على ما استفدناه من تقرير درسه الشريف  بقلم الشيخ نجم الدين الطبسي في كتابه صوم عاشوراء بين السنة النبوية والبدعة الأموية.
[5] غنائم الأيام ج 6 ص 76.
[6] روضة المتقين ج 3 ص 230.
[7] ملاذ الأخيار ج 7 ص 116.
[8] مرآة العقول ج 16 ص 246.
[9] تركنا الحديث عن الملاحق، وسوف نعمد إلى عرضها في بحوث مستقلة إن شاء الله تعالى.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة