قال تعالى:- (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)[1].
تضمنت الآية الشريفة الإشارة إلى وقوع أربعة أحداث، وهي: يأس الكفار من دين المسلمين، وإكمال الدين، وإتمام النعمة، وقبول الله سبحانه وتعالى بالإسلام ديناً ختامياً لكل البشرية.
وقد أشارت إلى أن هذه الأمور الأربعة وقعت في يوم، إلا أن الكلام في أن اليوم الذي وقعت فيه هذه الأمور الأربعة هو يوم واحد، أم أنه يومان؟
يوم واحد أم يومان:
إن النظر البدوي في الآية الشريفة ربما يفيد أن الأحداث الأربعة وقعت في يومين، وليس في يوم واحد، بقرينة تكرر ذكر اليوم فيها، فإن ذلك يفيد اختلاف الزمان للأحداث المذكورة، بحيث يقال: بأن يأس الكفار من دين المسلمين، كان في يوم، والأحداث الثلاثة الأخرى، من إكمال الدين، وإتمام النعمة، والرضى بالإسلام ديناً ختامياً كانت في يوم آخر.
وما ذكر لا يصلح أن يكون قرينة لتعدد الزمان، حتى يقال بأن الأحداث الأربعة وقعت في يومين، إذ من الممكن جداً أن تكرر ذكر اليوم، من أجل بيان أهميته، والإشارة إلى جسامة الحدث، وخطورته، فيكون تكراره من باب التنبيه على ذلك، فضلاً عن أن الظاهر ترابط الأحداث الأربعة بعضها مع بعض، بحيث يظهر أن يأس الكفار من دين المسلمين إنما هو أمر مترتب بصورة جلية واضحة على إكمال الدين وإتمام النعمة، بحيث لولا تحقق هذين الأمرين، لم يتحقق يأس الكفار من دين المسلمين، ووفقاً لهذا لن يكون هناك تعدد في الزمان، وإنما مباشرة بعد أن يتحقق إكمال الدين، وإتمام النعمة، فإنه سيترتب يأس الكفار من دين المسلمين، كما لا يخفى.
وبالجملة، لا مجال للقول بأن الزمان متعدد، بل الحق أن يقال: بأن هذه الأحداث الأربعة كلها قد وقعت في يوم واحد، كما هو واضح.
وعليه، يتركز البحث في تحديد ذلك اليوم الذي حصلت فيه هذه الأحداث الأربعة، فلابد من تحديده، وأنه أي يوم هو.
وقوع الآية في سياق حكم تشريعي:
هذا وقد يدعى أنه لا حاجة للبحث عن تحديد ذلك اليوم، فضلاً عن تسليط الضوء عليه، ضرورة أن الرجوع للآية الشريفة محل البحث يشير إلى أنها لا تدل على أكثر من حكم تشريعي، إذ أن المقطع المفتـتح به البحث إنما هو جزء من آية تضمن صدرها الحديث عن بيان محرمات الطعام، وجاء في ذيلها الإشارة إلى بيان حكم المضطر من حيث جواز أكل ما حرم من الأطعمة، قال تعالى:- (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم)[2].
ومقتضى ذلك أن اليوم المشار إليه في الآية إنما هو يوم تحريم ذلك الطعام، ويوم تحليله، وعليه فلا حاجة لمزيد بحث عنه[3].
ولا يخفى أن ما ذكر يؤول لباً للتمسك بوحدة السياق، وبالتالي ما دامت الآية الشريفة واقعة في سياق الحديث عن حكم تشريعي، فمن الطبيعي أن ذلك سوف يمثل قرينة صارفة لها عن الظهور في أي أمر آخر يخالف هذا المعنى.
وما ذكر في نفسه صحيح، إذ أننا نسلم أن للسياق مدخلية أساسية في ظهور بعض المضامين والمعاني، وهذا بحسب الكبرى، لا غبار عليه، ولا مناقشة فيه، إلا أن البحث والحديث في الصغرى، إذ أننا نقرر بأن التمسك بالسياق فرع إحرازه في أي مورد من الموارد، فما لم يحرز لن يصح التمسك به والاستناد إليه في صرف ظهور لفظ عما هو ظاهر فيه، ومقامنا من هذا القبيل، إذ أننا لا نحرز أن الآية الشريفة قد نزلت مع صدرها وذيلها دفعة واحدة، وهذا لا يخفى على كل من كان مطلعاً على كيفية نزول القرآن الكريم، وأنه نزل على رسول الله(ص) نجوماً طيلة مدة بعثته الشريفة حسب مقتضيات الحالة. ومجرد وقوعها في سياق هذه الآية لا يعني أنها نازلة معها في آن واحد، إذ أن جعلها في هذا الموضع قد يكون لحكمة ومصلحة اقتضت ذلك، وكان ذلك بأمر من الله سبحانه وتعالى لنبيه الكريم محمد(ص)، وسوف نشير لما يمكن تصوره في المقام.
والحاصل، إن مجرد وقوع الآية الشريفة في سياق آية أو مقطع من آية لا يوجب رفع اليد عن ظهورها فيما هي ظاهرة فيه، استناداً إلى وحدة السياق، وذلك لا للتشكيك في أصل الكبرى كما ذكرنا، وإنما لعدم إحراز الصغرى في كل مورد مورد، فلا تغفل.
هذا وقد ذكر بعض أعلام المفسرين توجيهاً آخر لوقوع هذا المقطع القرآني في الآية الشريفة، حاصله: لقد جرت عادة القرآن الكريم أنه متى أراد بيان أمر من الأمور التي لها أهمية خاصة أدرجه في ضمن الآيات الكريمة لحكم متعددة، ويعتبر ذلك أسلوباً بلاغياً مستحسناً عند البلغاء والفصحاء.
وذكر شاهداً على صحة ما ذكر وقوع آية التطهير النازلة في أهل بيت العصمة والطهارة(ع) في سياق الحديث عن زوجات النبي(ص)، مع أن الموضوع مختلف، قال تعالى:- (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفاً خبيراً)[4]. قال(ره): إن الآيات الشريفة نزلت في نساء النبي(ص)، إلا أن قوله تعالى:- (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس)جملة معترضة ذات دلالة مستقلة لا تتوقف على بقية الآية الشريفة، تبين قضية مهمة، وهي عصمة أهل بيت النبي الذين قرن الله طاعتهم بطاعته.
وفي المقام، يدل صدر الآية الشريفة على حرمة الميتة وبقية محرمات الطعام، وذيلها يدل على حليتها حال الاضطرار والمخمصة، فمجموع الصدر والذيل له وحدة دلالية كاملة متناسقة لا تتوقف على شيء آخر، نظير قوله تعالى:- (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فإن الله غفور رحيم)[5]، فيكون قوله تعالى:- (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)كلاماً معترضاً أقحم في الآية الكريمة، ولا تتوقف دلالة إحداهما على الأخرى، فكل واحد منهما له دلالته الخاصة ويـبينان أمرين، أحدهما محرمات الطعام، والثاني كمال هذا الدين وتمامه وظهوره على الشرك كله، وأنه لا مطمع لأعداء هذا الدين في زواله.
وجعل مؤيداً لما ذكره(ره) النصوص الواردة في سبب نزول الآية، إذ ذكر أن أغلبها على كثرتها، تخص المقطع الذي افتـتحنا به المقام بالذكر، دونما تعرض منها لصدر الآية المباركة، ولا لذيلها، مما يفيد نزولاً مستقلاً لهذا المقطع عن نزول الآية الشريفة، فيبقى عندها موجب وضعه في هذا الموضع، فلعله كان لحكمة من الحكم[6].
وختم كلامه(ره) بالإشارة إلى اعتراض لم يعرض لذكره، وإنما أجاب عنه، بأنه لا مجال للقول بأن هذا يتم لو قيل أن القرآن الكريم قد جمع من قبل الصحابة، ولم يكن بأمر من الله سبحانه وتعالى لنبيه، أو لم يكن بأمر من رسول الله(ص)، وتحت إشرافه، فذكر بأنه لا فرق بين أن يكون الواضع لهذا المقطع في هذا المكان الباري سبحانه وتعالى، أم النبي محمد(ص) بأمر من الله تعالى، أو كتاب الوحي بأمر من رسول الله(ص)[7].
وما أفيد من البيان في نفسه حسن، إلا أن للمناقشة فيه مجالاً، ولذا يكفي أن يذكر ما تقدم منا من جواب، فلاحظ.
بقي أن نشير في ختام هذا الأمر إلى ما يتصور من حكمة دعت إلى وضع هذا المقطع القرآني من الآية في هذا الموقع، مع أنها أجنبية عنه، إذ يمكن تعليله بأن الموجب لوضع هذا المقطع في هذا الموقع غايته هو صيانة هذا الموضوع من أن تصل إليه يد التحريف أو الحذف أو التغيـير، والموجب لاتخاذ هكذا إجراء وقائي وجود الحساسية المفرطة عند جملة من الصحابة تجاه خلافة رسول الله(ص)، ومن يتولى هذا المنصب من بعده، ويتضح ذلك جلياً يوم حيل بين رسول الله(ص) وبين كتابته وصيته، حتى قال قائل القوم: إن النبي يهجر[8].
وكيف كان، ينبغي أن يصرف الحديث كما ذكرنا إلى تحديد اليوم الذي وقعت فيه الأحداث الأربعة، ومعرفته، لما لذلك من أهمية كبرى، خصوصاً بملاحظة الأحداث الواقعة فيه، فإن النظر في كل واحد منها يكشف عن مدى أهمية هذا اليوم.
وينبغي لنا قبل الحديث عن تحديد ذلك اليوم ومعرفته، أن نحدد المقصود من اليوم، وفقاً لاستعمالات القرآن الكريم، حتى يكون ذلك بمثابة القرينة المعينة لنا في بيان المقصود منه مما ذكر في كلمات المفسرين.
اليوم في القرآن الكريم:
عندما نعود للآيات الشريفة، ونتأمل القرآن الكريم نجد أنه قد استعمل لفظة اليوم في خمسة معان تقريـباً، مع كثرة ورود هذه اللفظ فيه، وتلك المعاني الخمسة هي:
الأول: الآيات الشريفة التي تضمنت تحديد اليوم وتفسيره بأنه ما بين طلوع الشمس إلى غروبها، فيكون المقصود من اليوم هو هذه الفترة الزمنية الواقعة ما بين هذين التحديدين، قال تعالى:- (سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً)[9].
وقد عرف هذا المقدار من التحديد الزمني لليوم في الاصطلاح الفقهي باليوم الإجاري، ولذا بنى فقهاؤنا على أنه لو استأجر شخص شخصاً ما ليقوم له بعمل ما، ولم يتفقا على تحديد مدة العمل من حيث المقدار، فإن المرجع عندها إلى أن اللازم عليه هو العمل من طلوع الشمس إلى غروبها، لأنه هو المقصود من اليوم الإجاري.
الثاني: ما تضمنته جملة من الآيات الشريفة من تحديد اليوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، قال تعالى:- (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام)[10].
وهذا التحديد الزمني لليوم عرف في الفقه باليوم الصومي.
ولا يخفى الفرق بين هذا المعنى لليوم والمعنى الأول، ضرورة أن المعنى الأول أضيق دائرة من المعنى الثاني، كما لا يخفى.
الثالث: ما عرف اليوم بأنه عبارة عن مجموع الليل والنهار، أعني مدة الأربع والعشرين ساعة، قال تعالى:- (ويذكروا اسم الله في أيام معدودات)، وهذا المعنى مستعمل في الفقه أيضاً في الموارد التي يعتبر فيها توالي الأيام وتتابعها، كما في خيار الحيوان وأنه ثلاثة أيام، إذ يذكر الفقهاء أن اليوم وإن كان يعني النهار دون الليل، إلا أنه لا يتصور تحقق التوالي إلا من خلال دخول الليلتين المتوسطتين، وكذا أيضاً في أن أقل الحيض ثلاثة أيام، فإن المقصود منه هو النهار دون الليل، إلا أنه لما لم يكن التوالي متصوراً إلا بدخول الليلتين المتوسطة قرر دخولها فصار المقصود تقريـباً المدة الزمنية المحددة بأربع وعشرين ساعة، فتأمل.
والفارق بين هذا المعنى لليوم وسابقيه بيّن، إذ أنه أوسع دائرة منهما كما لا يخفى.
الرابع: الآيات التي يستفاد منها أن اليوم يستعمل ويقصد منه المدة الزمنية الخاصة، والتي تعد جزءً من النهار مثلاً، وليس تمام النهار، وبالتالي يكون هذا الاستعمال مختلفاً عن الاستعمالات الثلاثة السابقة، ضرورة أن أولها كان يحدد اليوم بالمدة الزمنية المقدرة ما بين طلوع الفجر وغروب الشمس، وثانيها حدده بمدة أقل إذ جعل ابتداءه من طلوع الشمس، وإن وافقه في الانتهاء بغروبها، بينما كان مفاد الثالث مدة زمنية أوسع لإدخاله الليل فيه حقيقته.
والحاصل، إن هذا المعنى يحدد اليوم بمدة زمنية خاصة، قد تكون قصيرة أو طويلة، قال تعالى:- (خلق السماوات والأرض في ستة أيام)[11].
الخامس: ما جاء في الآيات الشريفة من استعمال اليوم في يوم القيامة، قال تعالى:- (فاليوم لا تظلم نفس شيئاً)[12].
ولا يذهب عليك، أنه وفقاً لما تقدم، إما أن يلتـزم لليوم معنى واحد، واستعماله في بقية الموارد الأخرى سوف يكون مجازاً، وبالتالي يكون في كل واحد منها مستنداً إلى قرينة أوجبت استعماله في هذا المعنى، أو أن يـبنى على أن اليوم من الألفاظ المشتركة، فيجوز استعماله في كل واحد من المعاني القابل الانطباق عليها، مع إيجاد قرينة صارفة له في المعنى المراد استعماله فيه.
ولا يخفى أن الاستعمال الخامس أجنبي عن المقام، ضرورة أنه لا يوجد في الآية الشريفة ما يشير إلى أن الحديث عن ما بعد عالم الدنيا من قريب أو بعيد، بل إن مقتضى ما تضمنته من الأحداث، يأس الكفار، وإكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضى الرب بالإسلام ديناً أن يكون ذلك في عالم الدنيا، لأنه بمثابة بيان لنصر الإسلام، وغلبة الرسول محمد(ص)، وظهور الرسالة النبوية كما لا يخفى.
كما أن الظاهر أنه لا يوجد موجب لحمل لفظ اليوم على أي واحد من المعاني الثلاثة الأول، ضرورة أن الأحداث الأربعة التي تضمنت الآية الشريفة وقوعها في ذلك اليوم، لا تحتاج إلى كل هذه المدة الزمنية، بل يمكن أن تتحقق في أقل من ذلك، فيكون هذا قرينة صارفة لظهور اللفظ فيها.
ووفقاً لما تقدم، من عدم ظهور لفظ اليوم في واحد من المعاني الأربعة، ينحصر الأمر حينئذٍ في خصوص المعنى الخامس، وهو الرابع في ما ذكرناه، وفقاً للقسمة الحاصرة، فيكون المقصود باليوم في الآية هو المدة الزمنية المحددة، والتي تمثل مقداراً من الزمان، سواء كان ذلك الزمان قصيراً، أم كان طويلاً.
اليوم في كلمات المفسرين:
ثم إنه بعدما اتضح لنا المقصود من اليوم في الآية الشريفة، وأنه تلك المدة الزمنية المحددة، فإنه يمكننا حينئذٍ النظر في جملة من الآراء التفسيرية لتحديده مما ورد في كلمات المفسرين، حيث أن المفسرين مختلفون في بيان المقصود منه، وقد ذكرت في تحديده أقوال:
منها: أنه زمان ظهور الإسلام، ببعثة سيد الأنبياء وخاتم المرسلين محمد(ص)، ودعوته إلى التوحيد، ونبذ الأنداد، ووفقاً لهذا القول سوف يكون معنى الآية الشريفة أن الله سبحانه وتعالى قد أنزل إليكم الإسلام، وأكمل لكم الدين، وأتم عليكم النعمة، ويأس الكفار من دينكم فلا تخافوهم بعد ذلك.
ولا يخفى أن هذا التفسير لليوم بما ذكر، مضافاً إلى أنه لا شاهد عليه من القرآن ولا من النصوص الشريفة، ولا القرائن الخارجية، يلزم منه البناء على أن للمسلمين قبل بعثة النبي محمد ومجيئه بالإسلام ديناً، كان المسلمون يخشون عليه من الكفار، وقد أيأس الله الكفار من ذلك بإكماله الدين وإتمامه النعمة على المسلمين، وهو باطل بالضرورة، فإنه لم يكن هناك للمسلمين دين قبل الإسلام، محل طمع الكفار، وأكمله الله تعالى، وأتم نعمته عليهم. على أن البناء على هذا اللازم خلاف ظاهر الآية الشريفة.
ومنها: أنه ما بعد فتح مكة، ذلك أن يوم فتح مكة هو اليوم الذي أبطل الله فيه كيد المشركين، وأذهب شوكتهم وهدم بنيانهم، وبالتالي انقطع رجاؤهم من النيل بدين المسلمين، وأصبح المسلمون لا يخافونهم لا على دينهم، ولا على أنفسهم.
وتمامية هذا القول تتوقف على حصول كمال الدين بعد فتح مكة، فيثبت أنهم لم تصدر تشريعات سماوية بعد فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة لحين رحلة النبي محمد(ص) عن عالم الدنيا في السنة الحادية عشر، أما لو ثبت لدينا أن التشريعات السماوية لم تتوقف عقيب فتح مكة، بل استمرت لحين رحلة رسول الله(ص) من عالم أو قريب من ذلك التأريخ، فلا ريب أن هذا سوف يكون مانعاً من جعل اليوم الذي أكمل الله تعالى فيه الدين، وأتم النعمة، هو يوم فتح مكة، كما لا يخفى.
هذا والثابت تاريخياً أن التشريعات السماوية لم تتوقف بفتح مكة، بل استمرت إلى عودة رسول الله(ص) من حجة الوداع، يعني في السنة العاشرة من الهجرة، فقد ورد أن سورة المائدة وهي سورة أحكام نزلت في آخر عهد رسول الله(ص) بالدنيا، وهذا يمنع من القبول بهذا التفسير.
على أن هناك أمراً آخر في البين، وهو أياس الكفار، إذ أن التاريخ يحدثنا عدم تحقق ذلك بمجرد فتح مكة، بل بقيت جملة من العادات السيئة، والشرائع الفاسدة بين الكفار، حتى بعث النبي(ص) من أبطلها.
ومنها: أن المقصود من اليوم هو ما بعد نزول سورة براءة من الزمان، فإنه بعد نزولها انبسط الإسلام على جزيرة العرب، وعفيت آثار الشرك، وماتت سنن الجاهلية، فما عاد المسلمون يخشون كيد أحد على الإسلام، وأبدلهم الله سبحانه بعد خوفهم أمناً.
ولا يخفى أن هذا التفسير لا يختلف عن سابقه، فيأتي ما قدمنا ذكره هناك، من أن لازمه انقطاع حبل التشريع السماوي بتبليغ سورة براءة في السنة التاسعة من الهجرة حتى يصح القول بأن الدين قد كمل، كما لا يخفى.
ومنها: أن المقصود من اليوم في الآية الشريفة هو يوم عرفة، وهذا هو التفسير المعروف بين أبناء السنة، وجاءت به عدة روايات.
وأول ما ينبغي أن ينقح في هذا القول ملاحظة الحدث الأول الذي تضمنه هذا اليوم، إذ قد عرفت في مطلع البحث أن هذا اليوم قد أشتمل على أربعة أحداث، أولها هو يأس الكفار من دين المسلمين، ولذا ينبغي معرفة الكفار الذين يأسوا من دين المسلمين، إذ فيهم احتمالات:
1-أن يكون المقصود من الكفار مشركي قريش، ومعنى يأسهم منه هو يأسهم من الظهور عليهم، حيث انتصر النبي(ص) عليهم.
2-أن يكون المقصود من الكفار مشركي العرب، فما عاد لهم القدرة على الظهور على الإسلام أيضاً.
3-أن يكون المقصود من الكفار هو جميع الكفار، فيشمل اليهود والنصارى والمجوس، وغيرهم، تمسكاً بإطلاق الآية الشريفة.
ولا ريب في أن الاحتمالين الأولين أجنبيـين عن المقام، ضرورة أن أولهما انتفى يوم فتح رسولا لله(ص) مكة المكرمة، فآيس عندها كفار قريش، كما أن الثاني انتفى يوم بلغ أمير المؤمنين(ع) سورة براءة في السنة التاسعة، فحصل اليأس عند كفار الجزيرة العربية.
والثالث أجنبي عن مقامنا، لأن اليهود والنصارى والمجوس أساساً ما كانت لهم شوكة في الجزيرة العربية حتى يحصل عندهم اليأس، إذ هم من البداية آيسين من الظهور على المسلمين لما عرفت من عدم شوكتهم، فكيف يخبر الباري سبحانه وتعالى عن حصول يأس عندهم!.
على أننا لو رفعنا اليد عما ذكرنا، وجئنا لنتأمل بأن القرآن الكريم أخبر بأنه في ذلك اليوم قد أكمل الدين، وأتمت النعمة، فما هو الفعل الذي حصل وصدر من رسول الله(ص) يوم عرفة في حجته بحيث قيل عنه بأنه قد كمل الدين، وقد تمت النعمة؟ ذكر القائلون بأن اليوم هو يوم عرفة عدة تأويلات للإجابة عن ذلك:
أحدها: أن يكون المقصود هو إكمال أمر الحج بحضور النبي(ص) بنفسه الشريفة، وتعليمه الناس تعليماً قولياً وعملياً في آن واحد.
وهذا وجه حسن، لكن إنما يثبت إكمالاً للحج، وليس إكمالاً للدين، إذ الدين ليس منحصراً في خصوص الحج كما هو واضح، ولو سلم هو إكمال الحج، فإنه يلزم منه مخالفة ظاهر الآية الشريفة، إذ الظاهر منها أن ما صدر في ذلك اليوم موجب لكمال الدين كله، وسبب لانقطاع رجاء الكفار في هذا الدين والنيل منه.
ثانيها: أن يقصد منه نزول ما تبقى من الأحكام المرتبطة بأمور الحلال والحرام في يوم عرفة، وعليه فلا حلال ولا حرام بعد ذلك اليوم، وبانتهاء ذلك حصل اليأس عند الكفار، وانقطع رجاؤهم عن هذا الدين.
ولا يخفى أنه تقدم عند مناقشة بعض الأقوال التفسيرية في تحديد المقصود من اليوم بيان عدم تمامية هذا المعنى، إذ الثابت تأريخياً نزول جملة من الأحكام الشرعية ذات الارتباط بالتحليل والتحريم بعد يوم عرفة، كحكم الربا على سبيل المثال.
وقد يعمق هذا الوجه بأن البيان كان بإيضاحها بصورة تفصيلية في هذا اليوم بعدما كانت معروضة بصورة مجملة في أول بعثة النبي الأكرم محمد(ص).
وجوابه واضح، يتضح مما تقدم، فلا حاجة للإعادة.
على أنه لو كان القائل به يود التنظير للمقام بما ورد في التدريج في تحريم الخمر، قيل بمنع ذلك، كما لا يخفى، لأن آية التحريم التي هي محل البحث لم تأتِ بشيء إضافي على الآيات الأخرى التي تضمنت الحديث عن التحريم، فلا وجه لتصور التدريج أصلاً، ويتضح هذا من خلال الرجوع للآيات التي تضمنت بيان ما يحل ويحرم من الأطعمة، الواردة في سورة البقرة، وسورة الأنعام، وسورة النحل، نعم اختلفت هذه الآية عن الآيات الأخرى في أنها تعرضت لبيان أفراد الميتة، وهذا بنفسه لا يعدّ اختلافاً يتصور فيه التدريج في تبليغ الحكم، حتى يقاس على مسألة تحريم الخمر.
ثالثها: أن يكون المقصود من إكمال الدين في ذلك اليوم، أعني يوم عرفة بتخليص بيت الله الحرام من رجس الوثنية، وبراثن الشرك، وإجلاء المشركين عنه، وخلوصه لعبادة الله وحده لا شريك له.
ويتضح الجواب عنه مما تقدم في الإجابة عن وجوه مضت، إذ أن هذا قد تحقق يوم فتح رسول الله(ص) مكة المكرمة، فلاحظ.
رابعها: أن يكون المقصود هو سد باب التشريع، فيقصد من إكمال الدين يعني أن باب التشريع قد سدّ، فلم ينـزل حكم آخر بعد نزول هذه الآية الشريفة في يوم عرفة.
وهذا أيضاً كسوابقه من الوجه الإجابة عنه تقدمت في الإجابة عن ما تقدمه، فلاحظ.
فتحصل إلى هنا أن شيئاً مما ذكر في كلمات مفسري القوم لبيان المقصود من اليوم، وتحديده لا ينهض في إثبات المراد، فيبقى المقصود منه غير واضح بناءً على ما ذكروه.
بيان المقصود من اليوم:
هذا ولابد لتحديد اليوم الذي حدثت فيه الأحداث الأربعة التي تضمنتها الآية الشريفة، لابد من أن نلاحظ التالي:
أولاً: إن الكفار كان يتربصون الأمر والدوائر برسالة النبي محمد(ص)، وكانوا يمنون النفس بموت رسول الله(ص)، وهم القائلون أنه أبتر، فبموته ينقطع ذكره، وتنتهي رسالته، وهذا يستدعي أن يأس الكفار لابد وأن يكون من خلال وجود عقب أو خليفة يواصل الحفاظ على الرسالة المحمدية ويتولى صيانتها ورعايتها، بحيث يكون وجوده سبيلاً إلى تسرب اليأس لنفوس الكفار، لأن ما كانوا يرجونه لن يتحقق لهم أصلاً.
ثانياً: إن كمال الدين، إنما يكون بوجود شخصية تكون امتداداً للرسول محمد(ص) بحيث تتصدى لإدارة الشأن التشريعي للأمة من جهة، والشأن الإداري والسياسي من جهة أخرى، فتكون ممثلة لرسول الله(ص)، في كل شيء، وامتداداً حقيقياً له.
وبالجمع بين هذين الأمرين، يتحصل عندنا أن المقصود من اليوم هو اليوم الذي أقام فيه النبي(ص) شخصية تتولى خلافة الأمة من بعده، وعمد إلى نقل كافة الصلاحيات إليها، فما كانت من الصلاحيات الشرعية التي لرسول الله(ص) تم انتقالها لتلك الشخصية في ذلك اليوم.
وعندما نعود للتأريخ لنتعرف على اليوم الذي كمل فيه الدين، وتمت فيه النعمة، ويأس الكفار من الإسلام، نجد أنه ينحصر في خصوص يوم الغدير، يوم أقام رسول الله(ص) أمير المؤمنين علماً هادياً وخليفة من بعده، له كافة ما كان لرسول الله(ص) فانتقلت له الصلاحية الشرعية عدا الوحي، فإنه لا وحي بعد نبينا(ص)، فحل منصب الإمامة محل منصب النبوة في قيادة الأمة والقيام بكافة مسؤولياتها.
ويؤيد ذلك بل يدل عليه النصوص الواردة في شأن نزول الآية الشريفة والمتضمنة أنها قد نزلت في غدير خم، وفي شأن نصب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) خليفة وهادياً.
ثم لا يخفى عليك أنه لا يرد شيء من الإشكالات السابقة على هذا الوجه، ضرورة أن ورود بعض التشريعات السماوية لا تنفي تحقق إكمال الدين وإتمام النعمة، إذ قد عرفت أن كمال الدين لا يعتبر فيه أن يكون كمالاً من حيث تمامية التشريعات، وإنما المعتبر فيه كماله من حيث الحفاظ عليه، وقابليته للاستمرار والبقاء من دون أن تناله يد أياً ما كانت تلك اليد، فلاحظ، وتدبر.
ولا يخفى أن هناك فرقاً بين التعبير القرآني بإكمال الدين، وإتمام النعمة، ضرورة أن الإكمال يفيد معنى، كما أن الإتمام يفيد معنى آخر، إلا أننا نعرض عن الحديث عن ذلك مخافة الإطالة، ونرجئ الحديث عنه إلى بحث آخر، نسأل الله أن يوفقنا لذلك[13].
[1] سورة المائدة الآية رقم 3.
[2] سورة المائدة الآية رقم 3.
[3] تلوح هذه الدعوى من كلمات الآلوسي في كتابه روح المعاني.
[4] سورة الأحزاب الآيات رقم 32-34.
[5] سورة البقرة الآية رقم 173.
[6] مواهب الرحمن ج 10 ص 341، الميزان ج 3 ص 167.
[7] المصدر السابق.
[8] الأمثل في تفسير القرآن المنـزل ج 3 ص 531.
[9] سورة الحاقة الآية رقم 7.
[10] سورة البقرة الآية رقم 196.
[11] سورة يونس الآية رقم 3.
[12] سورة يس الآية رقم 54.
[13] من مصادر البحث: مواهب الرحمن الرحمن ج 10 ص 340-355، الميزان في تفسير القرآن ج 5 ص 167، الأمثل في تفسير كتاب الله المنـزل ج 3 ص 525، التفسير الكبير للفخر الرازي، تفسر روح المعاني للآلوسي، تفسير القرطبي، في ظلال القرآن لسيد قطب.