كما تحدثت النصوص الشريفة عن مبدأ وجود الطاهرة السيدة الزهراء(ع)، وأنها كانت نوراً قبل أن توجد في عالم الخلق، فقد تضمنت أيضاً الحديث عن كيفية انتقالها من عالم الأمر إلى عالم الخلق، من خلال الإشارة إلى مصدر تكون نطفتها، وكيف تحقق ذلك الانتقال.
وقد اختلفت النصوص في بيان مصدر النطفة التي خلقت(ع) منها، وعليه تم من خلالها انتقالها إلى صلب النبي(ص)، لتستقر بعد ذلك في رحم السيدة الجليلة خديجة(ع)، والنصوص في المقام على طوائف، وسوف نقصر الحديث على خصوص النصوص الخاصة التي تضمنت الحديث عن مصدر نطفتها، ولن نتعرض للنصوص العامة التي تضمنت الحديث عن مصدر نطفة المعصوم(ع)، فإن ذلك يستوجب طولاً في البحث.
وكيف ما كان، فإن النصوص على طوائف:
الأولى: ما تضمن أن نطفتها قد انعقدت من جميع طعام الجنة دون تحديد لنوع من أنواعه، فعن ابن عباس(رض) قال: كان النبي(ص) يكثر القبل لفاطمة، فقالت له عائشة: إنك تكثر تقبيل فاطمة؟ فقال(ص): إن جبرائيل ليلة أسرى بي أدخلني الجنة فأطعمني من جميع ثمارها فصار ماءاً في صلبي فحملت خديجة بفاطمة، فإذا اشتقت لتلك الثمار قبلت فاطمة فأصبت من رائحتها جميع تلك الثمار التي أكلتها[1].
وقد دلت على أن مصدر تكوين نطفتها مجموعة من الأطعمة التي في الجنة، وأن ذلك كان ليلة أسري بالنبي(ص)، والظاهر أن المقصود بالإسراء هو اسرائه الأول، لأنه الذي كان بروحه وجسده، ويشهد لذلك ما يظهر من النص من أنه(ص) قد طاف بالموجودات في العالم الآخر من الجنان والنيران، وما شابه، فلاحظ. كما أنه تضمن أن تناوله(ص) للطعام كان في العالم الآخر، وليس في نشأة الدنيا، كما لا يخفى.
الثانية: ما تضمنت أن نطفتها قد انعقدت من سفرجلة جاء بها جبرائيل(ع)، فعن سعد بن مالك، قال: قال رسول الله(ص): أتاني جبرائيل(ع) بسفرجلة من الجنة فأكلتها ليلة أسري بي فعلقت خديجة بفاطمة، فكنت إذا اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رقبة فاطمة[2].
ومع أن هذا النص قد اختلف ونصوص الطائفة الأولى في مصدر تكون النطفة، إلا أنه قد اتفق وإياها أن ذلك كان في ليلة الإسراء، نعم قد أختلف النص محل البحث عن النص السابق في أنه لم يحدد موضع تناوله(ص) للطعام، وأنه كان في عالم الدنيا، أم كان في النشأة الآخرة، إذ يحتمل أنه(ص) قد تناولها في العالم الآخر، كما يحتمل أن يكون تناوله لها بعدما عاد إلى عالم الدنيا، فإن قوله(ص): أتاني جبرائيل، يحتمل الأمرين، فلاحظ.
الثالثة: أن نطفتها قد تكونت من رطب الجنة، فقد روى عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله(ص) لما أن مات ولدي من خديجة أوحى الله إليّ أن أمسك عن خديجة وكنت لها عاشقاً، فسألت الله أن يجمع بيني وبينها، فأتاني جبرائيل في شهر رمضان ليلة جمعة لأربع وعشرين ومعه طبق من رطب الجنة، فقال لي: يا محمد، كل هذا وواقع خديجة الليلة، ففعلت فحملت بفاطمة فما لثمت فاطمة إلا وجدت لريح ذلك الرطب وهو في عترتها إلى يوم القيامة[3].
وقد اختلف النص المذكور مع ما تقدمه في أمور:
الأول: في مصدر تكون النطفة، وأنه رطب من الجنة، بينما كان الأول منها يشير إلى أن مصدره طعام الجنة منوعاً، والثاني تضمن تحديد ذلك بالسفرجل.
الثاني: أن تناوله(ص) للرطب كان في عالم الدنيا، وليس في النشأة الآخرة، وهذا خلاف ما جاء في الحديث الأول فإن المستفاد منه أنه(ص) قد تناول ذلك في العالم الآخرة، وهو غير بعيد في الخبر الثاني، فلاحظ.
الثالث: أن الزمان الذي تناوله فيه(ص) لم يكن ليلة أسري به إلى السماء، وإنما كان في زمان لم يحدد بتلك المناسبة، بل حدد بكونه شهر رمضان المبارك، فلاحظ.
وقد اشتملت بعض نصوص هذه الطائفة توصيف الرطب بأنه ألين من الزبد وأطيب من رائحة المسك وأحلى من العسل، فعن ابن عباس قال: دخلت عائشة على رسول الله(ص) وهو يقبل فاطمة، فقالت له: أتحبها يا رسول الله؟ قال: أما والله لو علمت حبي لها لإزددت لها حباً، إنه لما عرج بي إلى السماء الرابعة أذّن جبرائيل وأقام ميكائيل-إلى أن قال-ثم تقدمت أمامي، فإذا أنا برطب ألين من الزبد وأطيب رائحة من المسك وأحلى من العسل، فأخذت رطبة فأكلتها فتحولت الرطبة نطفة في صلبي، فلما أن هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسية، فإذا اشتقت إلى الجنة شممت رائحة فاطمة[4].
إلا أن المشكلة تكمن في أن النص المذكور أختلف ونصوص الطائفة محل البحث في ناحيتين:
الأولى: في مكان تناول الرطب، فإنه يفيد أن ذلك كان في الجنة، بينما قد سمعت دلالة غيره على أن ذلك كان في عالم الدنيا.
الثانية: في زمان تناوله(ص)، لذلك الرطب، إذ أن رواية ابن عباس حددت ذلك بليلة أسري به، بينما لم يشتمل غيره على تحديد ذلك، وإنما كان في شهر رمضان المبارك، فلاحظ.
هذا وقد يحاول التغلب على مشكلة الزمان، بمحاولة التوفيق بين النصين، من خلال ما هو المعروف بين الإمامية، من أن حادثة الإسراء، قد وقعت في السابع عشر من شهر رمضان المبارك، وهذا يستدعي أن يكون الخبران متفقين في أن الرطب الذي تناوله النبي(ص) كان في ليلة الإسراء.
ويمنع من قبوله، أن المعروف بينهم أنه كان في ليلة السابع عشر من شهر رمضان المبارك، بينما تضمن النص الأول، أن ذلك كان في ليلة الرابع والعشرين منه، فلاحظ.
الرابعة: أن نطفتها قد تكونت من تفاحة من تفاح الجنة، وهذه النصوص صنفان:
الأول: ما يتضمن أن ذلك كان في الجنة، أو في العالم الآخر، مثل ما ورد عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله مالك إذا جاءت فاطمة قبلتها حتى تجعل لسانك في فيها كأنك تريد أن تلعقها عسلاً؟! قال: نعم يا عائشة إني لما اسري بي إلى السماء أدخلني جبرائيل الجنة فناولني منها تفاحة فأكلتها فصارت نطفة في صلبي، فلما نزلت واقعت خديجة ففاطمة من تلك النطفة، وهي حوراء انسية، كلما اشتقت إلى الجنة قبلتها[5].
وقد توافق الخبر المذكور مع الأولين في أن تناوله الطعام كان ليلة أسري به، كما أنه توافق والخبر الأول في أن مكان ذلك كان في الجنة، نعم أختلف مع النصوص الثلاثة السابقة في أن الطعام تفاحة، وليس شيئاً آخر.
الثاني: ما تضمن أنه(ص) قد تناول التفاحة في الدنيا على الأرض، مثل ما ورد في موثقة سدير الصيرفي، عن أبي عبد الله الصادق عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله(ص): خلق نور فاطمة عليها السلام قبل أن يخلق الأرض والسماء، فقال بعض الناس: يا نبي الله فليست هي إنسية؟ فقال: فاطمة حوراء إنسية، قالوا: يا نبي الله وكيف هي حوراء إنسية؟ قال: خلقها الله عز وجل من نوره قبل أن يخلق آدم إذ كانت الأرواح فلما خلق الله عز وجل آدم عرضت على آدم. قيل يا نبي الله وأين كانت فاطمة؟ قال: كانت في حقة تحت ساق العرش، قالوا: يا نبي الله فما كان طعامها؟ قال: التسبيح والتقديس والتهليل والتحميد، فلما خلق الله عز وجل آدم وأخرجني من صلبه وأحب الله عز وجل أن يخرجها من صلبي جعلها تفاحة في الجنة وأتاني بها جبرئيل(ع)، فقال لي: السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا محمد! قلت: وعليك السلام يا حبيبي جبرئيل، فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام، قلت: منه السلام وإليه يعود السلام، قال: يا محمد إن هذه تفاحة أهداها الله عز وجل إليك من الجنة. فأخذتها وضممتها إلى صدري، قال: يا محمد يقول الله جل جلاله كلها ففلقتها فرأيت نوراً ساطعاً وفزعت منه[6].
ودلالتها على المدعى لظهور قوله(ص): أتاني بها جبرائيل…ألخ…في أنه(ص) كان في الدنيا على الأرض، وقد جاء بها الأمين جبرائيل(ع) إليه بها، فلاحظ.
الخامسة: أنها قد تكونت من زغب جبرائيل وعرقه، ففي تفسير فرات الكوفي معنعناً عن أبي عبد الله جعفر بن محمد بن علي(ع) عن أبي، عن جده، قال: قال رسول الله(ص): معاشر الناس تدرون لما خلقت فاطمة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: خلقت فاطمة حوراء إنسية لا إنسية، وقال: خلقت من عرق جبرائيل ومن زغبه، قالوا: يا رسول الله استشكل ذلك علينا تقول: حوراء إنسية لا إنسية، ثم تقول: من عرق جبرائيل(ع) ومن زغبه. قال: إذا أنبئكم أهدى إلي ربي تفاحة من الجنة أتاني بها جبرائيل(ع) فضمها إلى صدره فعرق جبرائيل(ع) وعرقت التفاحة فصار عرقها شيئاً واحداً، ثم قال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. قلت: وعليك السلام يا جبرائيل، فقال: إن الله أهدى إليك تفاحة من الجنة فأخذتها وقبلتها ووضعتها على عيني وضممتها إلى صدري.
ثم قال: يا محمد، كلها، قلت: يا حبيبي جبرائيل هدية ربي تؤكل؟ قال: نعم، قد أمرت بأكلها فأفلقتها فرأيت منها نوراً ساطعاً ففزعت من ذلك النور، قال: كل فإن ذلك نور المنصورة فاطمة. قلت: يا جبرائيل، ومن المنصورة؟ قال: جارية تخرج من صلبك واسمها في السماء منصورة، وفي الأرض فاطمة، فقلت: يا جبرائيل ولم سميت في السماء منصورة وفي الأرض فاطمة؟ قال: سميت فاطمة في الأرض لأنه فطمت شيعتها من النار وفطموا أعداؤها عن حبها، وذلك قول الله في كتابه:- (ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله)، بنصر فاطمة(ع)[7].
وقد تضمنت أن مصدر تكون النطفة لم ينحصر فقط في التفاحة التي جاء بها الامين جبرائيل(ع) من الجنة، بل قد اجتمع معها شيء من عرقه(ع)، ومن زغبه، ويقصد من الزغب الشعيرات الصغرى على ريش الفرخ.
وقد فسر شيخنا المجلسي(ره) معنى كون نطفتها تكونت من زغب جبرائيل(ع)، بأحد أمرين:
1-أن تكون التفاحة في زغب جبرائيل، وعرقت من بينها.
2-أن تكون منفصلة عنه، إلا أنها قد التصق بها بعض ذلك الزغب، وأكلها النبي(ص)، والزغب معها[8].
والظاهر أن التفاحة قد أنزلت إليه(ص) حيث كان على الأرض، وقد تناولها وهو على الأرض، فلاحظ.
السادسة: أن نطفتها(ع) قد تكونت من طعام أكله النبي(ص) من شجرة طوبى، ليلة أسري به، فعن أبي عبيدة عن أبي عبد الله(ع) قال: كان رسول الله(ص) يكثر تقبيل فاطمة(ع)، فأنكرت ذلك عائشة، فقال رسول الله(ص): يا عائشة إني لما أسري بي إلى السماء دخلت الجنة فأدناني جبرائيل من شجرة طوبى وناولني من ثمارها، فأكلته فحول الله ذلك ماء في ظهري فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة فما قبلتها قط إلا وجدت رائحة شجرة طوبى منها[9].
وقد تضمن هذا النص تحديد مصدر النطفة الطاهرة، وأنه من ثمار الجنة دون تحديد لنوعية ذلك الثمر، كما أنه تضمن أيضاَ تحديد زمان التناول، وأنه كان في ليلة الإسراء، ومكان التناول، وهو الجنة، فلاحظ.
السابعة: أن نطفتها(ع) قد تكونت من رطب وعنب الجنة، فقد جاء في حديث مرسل، أن جبرائيل الأمين(ع) هبط على النبي(ص) في صورته العظمى وقد نشر أجنحته حتى أخذت من المشرق إلى المغرب، وأبلغه عن الله تعالى أن يعتزل السيدة خديجة(ع)، وقد أقام النبي(ص) أربعين صباحاً يصوم النهار ويقوم الليل، فلما كان كمال الأربعين هبط جبرائيل(ع) فقال: يا محمد! العلي الأعلى يقرئك السلام، وهو يأمرك أن تتأهب لتحيته وتحفته.
قال النبي(ص): يا جبرائيل! وما تحفة رب العالمين؟ وما تحيته؟ قال: لا علم لي. قال: فبينا النبي(ص) كذلك إذ هبط ميكائيل ومعه طبق مغطى بمنديل سندس، أو قال: استبرق فوضعه بين يدي النبي(ص) وأقبل جبرائيل(ع)، وقال: يا محمد! يأمرك ربك أن تجعل الليلة إفطارك على هذا الطعام-إلى أن يقول-وخلا النبي(ص) بالطعام وكشف الطبق، فإذا عذق من رطب وعنقود من عنب، فأكل النبي(ص) منه شبعاً[10].
وقد أتفق الحديث المذكور مع جملة من النصوص السابقة في جانب وأختلف وإياها في جوانب أخرى، فمن موارد الاتفاق مع بعضها أن مكان تناول الطعام كان في عالم الدنيا، وليس في الجنة، إلا أنه أختلف وإياها في تحديد نوعية الطعام الذي كان مصدر تكون النطفة، كما أنه لم يتضمن تحديداً لزمان اعتزاله(ص) للسيدة خديجة(ع)، وبالتالي تحديد زمان تناوله(ص) لهذا الطعام.
ولنكتفي بسرد هذه الطوائف من النصوص، وربما يجد القارئ طوائف أخرى تضمنت الحديث عن مصدر تكون نطفة السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء(ع).
وقد تحصل من العرض السابق، أنه يمكن تصنيف النصوص بحسب ما تضمنته من موضوعات إلى أصناف ثلاثة:
الأول: تصنيفها بحسب مكان تناول الطعام الذي انعقدت منه النطفة الشريفة للسيدة الزهراء(ع)، وهما طائفتان:
الأولى: ما تضمنت أن مكان التناول كان في عالم النشأة الآخرة، وبالتحديد في الجنة.
الثانية: ما تضمن أنه(ص) قد تناول هذا الطعام عندما كان في الأرض، وبالتحديد في مكة المكرمة.
الثاني: تصنيفها بحسب زمان تناول الطعام الذي كان مصدر انعقاد النطفة المباركة، وهما طائفتان:
الأولى: ما تضمنت أن ذلك كان ليلة أسري بالنبي(ص).
الثانية: ما لم تحدد ذلك بليلة الإسراء، أو تضمنت تحديده بغيرها.
الثالث: تصنيفها بحسب نوعية الطعام المكون للنطفة الطاهرة، ويمكن إرجاع الطوائف السبعة التي ذكرنا، إلى طائفتين:
الأولى: ما تضمنت أن نطفتها(ع) انعقدت من طعام من الجنة، من دون تحديد لنوعية الطعام الذي قد انعقدت منه.
الثانية: ما تضمنت تحديد نوعية خاصة من الطعام التي كانت مصدراً لتكونها.
والإنصاف، أن المعارضة في الأصناف الثلاثة مستحكمة، الموجب لمحاولة علاج ذلك، خصوصاً عندما يلحظ أن المعروف بين أعلامنا أن ولادتها كانت في السنة الخامسة من البعثة الشريفة، وأن الإسراء كان في السنة الثالثة منها، فكيف يمكن التوفيق بين أن النبي(ص) قد تناول مصدر تكون النطفة ليلة أسري به، وأن ولادتها كانت كما عرفت.
ولعل أول ما يخطر في البال، ملاحظة توفر أصالة الصدور من خلال النظر في أسناد نصوص الطوائف السابقة، إذ ربما أدى ذلك إلى سقوط جملة منها لضعف أسنادها، ما يوجب ضيق دائرة المعارضة، وعليه يسهل الأمر كثيراً في مقام المعالجة.
وما ذكر وإن كان تاماً، إلا أن موجبات الوثوق بالصدور حتى لما كان منها خبر آحاد متوفرة، ويكفي أن يلتفت إلى أن كثيراً منها قد نقله أبناء العامة في مصادرهم، بل قد عرفت أن جملة غير قليلة كان رواته من المخالفين، والفضل ما شهدت به الأعداء.
محاولات العلاج:
هذا ويمكن عرض صور لمعالجة المعارضة المتصورة بين النصوص:
الأولى: أن يعمد إلى علاج المعارضة المذكورة من خلال الالتـزام بتعدد التناول من النبي(ص) لطعام الجنة، وأنه لم يكن مرة واحدة، فقد تناول شيئناً من موجبات تكون النطفة الطاهرة ليلة أسري به في السنة الثالثة، وبعد ذلك أتحف بشيء من طعام الجنة في عالم الأرض، وكان جميع ذلك مصدراً لتكون نطفتها المباركة.
وبعبارة أخرى، إنه لا مانع من العمل بجميع الطوائف المذكورة، وأن جميع ما تضمنته النصوص يعد مصدراً لتكون نطفتها المباركة، بهذا البيان:
إن تكون النطفة الطاهرة للسيدة الزهراء(ع) لم يكن دفعة واحدة، وإنما كان على مراحل، وقد دخل في تكوينه مجموعة من ثمار الجنة، وقد كان تناول النبي(ص) لتلك الأطعمة والثمار على مراحل متعددة، ولم يكن دفعة واحدة، فقد تناول شيئاً منها ليلة أسري به، كما تناول شيئاً منها على الأرض لما أمر باعتزال السيدة خديجة، وقد تنوعت الأطعمة، كما تنوع زمان التناول، فلاحظ.
وهذا التوفيق بين النصوص، يعتمد على أن يكون الصادر من النبي(ص) في بيان مصدر تكون نطفتها المباركة، ليس على نحو البيان من جميع الجهات، وحصر مصدر التكوين في خصوص ما ذكر، بل سوف يكون ذكره من باب المثال ليس إلا.
والإنصاف، أنه خلاف الظاهر، إذ أن الظاهر من النصوص، كون الحديث ببيان مصدر التكوين غايته فضلاً عن الإشارة لمصدره، هو التأكيد على أهمية النوع، وربما دخالته فلاحظ.
الثانية: أن يبنى على العمل بجميع النصوص السابقة، وذلك لأن الموضوع الذي هدفت الحديث فيه ليس هو خصوص بيان مصدر النطفة الطاهرة، فإنها ليست في مقام البيان من هذه الجهة، وإنما الغاية التي يسعى لبيانها من خلال هذه النصوص، هو بيان مقام من المقامات الثابتة لسيدتي الزهراء(ع)، وبالتالي ليس ذكر الطعام الذي تخلقت منه النطفة الطاهرة إلا بمثابة العنوان المشير لغرض بيان أنها تكونت من طعام الجنة، وقد كان ذلك يقرب من خلال ذكر أمثلة من الأطعمة المذكورة في النصوص، لأن السامع قد لا يتصور طعام الجنة، فكان(ص) يعرض ذلك بصور متعددة، مرة أنه سفرجل، أو تفاح، أو رطب، أو عنب، وهكذا[11].
ويقوم الوجه المذكور على أنه لا خصوصية لذكر نوعية الطعام الذي تكونت منه النطفة الطاهرة، بل كما عرفت في تقريبه أنها عناوين مشيرة للوصول إلى بيان أنها تكونت من طعام الجنة، وبالتالي التأكيد على خصوصية لها لم تثبت لغيرها.
وهو بهذا المعنى وإن عالج مشكلة تعدد النصوص من حيث نوعية الطعام، إلا أنه لم يعالج المشكلتين الأخريـين، وهما زمان التناول، ومكان التناول، فلاحظ.
الثالثة: أن يلتـزم بأن العناوين المذكورة للطعام ليس بينها أدنى معارضة أو منافاة، لأن الموجب لتصور المعارضة هو ملاحظة هذه النصوص بالنسبة لعالم الدنيا، والذي تكون فيه لكل شيء حقيقة واحدة، ولا يمكن أن يتصور الشيء بصورة أخرى مخالفة لصورته، إلا أن المستفاد من النصوص المتضمنة لبيان مصدر نطفتها المباركة(ع) أن الطعام كان من طعام الجنة، وقد تقرر في محله أن الأمور التي ترتبط بعالم الآخرة يمكن أن تكون له صور متعددة، ولا تنحصر في صورة واحدة، وعليه يكون ذكر النبي(ص) لتلك العناوين ليس إلا من باب تعدد الصور التي للطعام، وإلا فهو شيء واحد، فتنتفي المعارضة المتصورة بين النصوص، حينئذٍ[12].
ويقوم الجمع المذكور على أن الأشياء في الآخر لا يكون لها ارتباط إلا بخصوص الوجود دون شيء آخر، فلا كيف ولا غيره.
وهذا المعنى، وإن سلم في نفسه، إلا أنه يبقى لا يعالج المشكلتين الأخريين أعني مشكلة زمان التناول، ومكانه.
مع أن البناء على ما ذكر خلاف الظاهر، لأن جملة من النصوص كانت تتحدث عن أن التناول كان في عالم الدنيا، وهذا يوجب أن يكون الطعام مرتبطاً بهذا العالم، وهذه النشأة، فلاحظ.
الرابعة: البناء على سقوط النصوص التي تضمنت تحديد زمان تناول الطعام في ليلة الإسراء، وذلك لمخالفتها للقاعدة العقلائية، فإن هناك مانعين يمنعان من القبول بها:
أحدهما: مخالفتها لما ثبت تاريخياً، فإن مقتضى العمل على وفقها أن تكون ولادتها قبل السنة الخامسة من البعثة، فإن المعروف وقوع حادثة الإسراء في السنة الثالثة من البعثة الشريفة، والثابت تاريخياً أن ولادتها كانت في السنة الخامسة منها، فلاحظ.
والاعتذار لذلك بتعدد حادثة الإسراء، قد عرفت جوابه في ما تقدم، من أن الظاهر من نصوص المقام، أن المقصود بها الحادثة الأولى، والتي قد اشتملت على كافة التفاصيل، فتأمل.
ثانيهما: مخالفتها للقوانين العلمية الثابتة، لأن مقتضى أن نطفتها المباركة قد انعقدت ليلة أسري بالنبي(ص) في السنة الثالثة من البعثة، وأن ولادتها(ع) كانت في السنة الخامسة منها، أن تكون مدة حملها سنتين، وهذا ما يخالف القوانين العلمية، ولم يثبت أن هذا من خصوصياتها(ع)، وبالتالي تسقط النصوص المذكورة عن الحجية والاعتبار، لمخالفتها للقاعدة العقلائية في نقد متن الخبر.
والمحاولة المذكورة تتم لو أمكننا الجزم بتحديد تاريخ واقعة الإسراء والمعراج، إلا أن المعروف بين المؤرخين الاختلاف حتى في تحديد وقت وقوع الحادثة الأصل، فقيل أن ذلك كان بعد البعثة بستة أشهر، وقيل أن ذلك كان بعد ثلاث سنين منها، وقيل غير ذلك.
والحاصل، إنه مع عدم كون تاريخ الحادثة المذكورة محدداً، فإنه يصعب الجزم بالقبول بالمانع المذكور بشقيه، فلاحظ.
الخامسة: أن يلتـزم بخصوص القدر المتيقن الثابت من النصوص، وترفع اليد عن غيره، توضيح ذلك: إن النصوص المتقدمة بطوائفها المتعددة، تتفق على أن النطفة الطاهرة للسيدة الزهراء(ع) قد تكونت من طعام الجنة، إلا أنها تختلف في منشأ هذا التكون، فتذكر مصاديق متعددة، ولما كان في البين قدر متيقن كما عرفت، وهو طعام الجنة، فإنه يلتزم بهذا المقدار، وترفع اليد عن الباقي، فيحكم بأن منشأ تخلق السيدة الزهراء(ع) كانت من طعام الجنة، إلا أن تحديد نوعية الطعام مجهولة بالنسبة إلينا، لأننا سوف نرفع اليد حينئذٍ عن النصوص في هذا الجانب، فلاحظ.
ولا يذهب عليك أن هذه المحاولة، وإن عالجت مسألة الطعام، إلا أنها لم تعالج المسألتين الأخريـين، والظاهر أنه لابد من العمد إلى رفع اليد عن أحد الأمرين، إلا أن الالتزام بكل واحد منهما له جانب مقرب وجانب مبعد، لأن البناء على أن مكان التناول كان في الجنة، يستوجب أن يكون ذلك في ليلة الإسراء، وهذا يقرب أن يكون تناول الطعام في الأرض لينسجم مع كون الولادة في السنة الخامسة من البعثة. كما أن الالتزام بأن تناول الطعام كان في الدنيا يبعده النصوص العديدة التي تضمن أن تناوله(ص) كان في الجنة، لكن يقربه نصوص أخرى.
ويمكن علاج ذلك أن عملية التناول لم تتم بأكملها في الجنة، ولم تقع بأكملها في الدنيا، فقد أعطي(ص) الطعام في الجنة، وأمر بأكله، إلا أنه لم يتناوله إلا بعد وصوله إلى الأرض، فيكون التعبير عن كونه قد أكله في الجنة من باب التجوز والتنـزل.
وهو خلاف الظاهر من النصوص العديدة التي تضمنت أن عملية التناول والأكل، قد وقعت أثناء وجوده(ص) في الجنة، حتى أن بعضها صريح في أنه(ص) قد أتم عملية التناول، ولم ينـزل إلى الأرض، إلا وقد أنهى ذلك.
وقد يعالج زمان التناول بما سبقت الإشارة إليه من عدم الاتفاق على تحديد زمان وقوعه، وعليه يمكن البناء على تزامن زمان حصوله مع زمان انعقاد نطفتها المباركة، وبه تعالج أمر المعارضة من هذه الناحية، فتأمل.
هذا ولو لم يقبل بهكذا علاج، فإنه يمكن البناء على أن تناوله للطعام في الجنة لم يكن في ليلة الإسراء الأصل، وإنما كان في إحدى مرات الأسراء الأخرى التي وقعت بعد ذلك، وقد كان لتلك الليلة خصوصيتها الخاصة التي أوجبت أن يدخل(ص) الجنة ليتناول من طعامها، وبالتالي يكون قد تناوله في النشأة الآخرة، فتأمل.
وكيف ما كان، إن المقدار الذي يمكن البناء عليه أن نطفتها الشريفة قد تكونت من طعام الجنة، كما عرفت، من دون تحديد إلى مصدر الطعام الذي انعقدت منه، كما أنه لا موجب لتحديد مكان التناول، فإن ليس لذلك كثير أثر ومدخلية في المقام، إلا أن الزمان، وهو كونه بعد البعثة الشريفة محرز على جميع المحتملات، وهو ما يمكن الالتـزام به، والله سبحانه وتعالى العالم بحقائق الأمور.
موانع القبول بنصوص النطفة:
هذا وقد يمنع من القبول بالنصوص التي تضمنت أن نطفتها المباركة، قد تكونت من طعام الجنة، على أساس أن هناك فرقاً بين النشأة المرتبطة بعالم الدنيا، وبين نشأة عالم الآخرة، وهذا يقضي بوجود جملة من الخصوصيات الثابتة لكل واحد من العالمين، ما يوجب أن لا يكون الطعام الموجودة في تلك النشأة، هو عين الطعام الموجودة في النشأة الدنيا، وبالتالي لا ينسجم هذا وما تضمنته النصوص من أن النطفة المباركة قد تكونت من طعام الجنة، فلاحظ.
وبيان الحق في المقام، يستوجب الإشارة إلى حقيقة النشأة الآخرة، وهل أنها تتوافق وعالم الدنيا، أم أن بينهما اختلافاً، ومع أن هذا البحث موكول للبحوث الكلامية، لأنه يبحث عنه في أصل المعاد، وأن المعاد جسماني، أو روحاني، أو جسماني روحاني، إلا أننا سوف نعرض لشيء مما يكون مرتبطاً بمحل بحثنا، فنقول:
اختلف المتكلمون والفلاسفة في تحديد أن النشأة الآخرة هي عين النشأة الدنيا أو لا، على آراء، نشير لاثنين منها، ويطلب الأكثر من البحوث التخصصية:
الأول: الالتـزام بأنه لا يوجد فرق بين عالم الدنيا، وعالم الآخرة، فكل ما يراه الإنسان في عالم الدنيا، سوف يتكرر مرة أخرى وبنفس الأنظمة والخصوصيات، ولا فرق بين العالمين إلا في أن الدنيا هي المرتبة الأولى لوجود العالم والموجودات، والآخرة، هي المرتبة الثانية لوجودها.
الثاني: إن الآخرة نشأة أخرى وراء هذه النشأة، والموجودات التي في ذلك العالم موجودات عينية جوهرية موجودة، ومحسوسة لكنها ليست محسوسة بهذه الحواس الظاهرية، كما أنها ليست موجودة في هذا العالم الهيولاني، بل هي موجودة في عالم الآخرة، ومحسوسة بحواس أخروية[13].
ولا يذهب عليك أنه سواء ألتـزم بالرأي الأول، أم ألتـزم بالرأي الثاني، أو اختير رأي ثالث، أو غير ذلك، فإنه لا يوجد ما يمنع من البناء على أن النطفة الطاهرة للسيدة الزهراء(ع)، قد تكونت من طعام الجنة، وأن أصلها كان منه، إذ أن جميع الآراء التي تتحدث عن عالم الآخرة، وعن تلك النشأة لا تمنع من ذلك، حتى لو قلنا بأن الوجود في عالم الآخرة هو وجود مثالي، فتأمل جيداً.
طعام الجنة:
وأما الاعتراض الثاني، وهو عدم الإحاطة بحقيقة الطعام الذي سوف يكون في الجنة، وهل أنه من الطعام المادي، أو أنه من الطعام المعنوي. فيدفعه، إن المستفاد من الآيات الشريفة، عدم مغايرة اللذائذ الموجودة في الجنة عن النعم واللذائذ الموجودة في الدنيا، بمعنى كما توجد في الدنيا لذائذ مادية، ولذائذ معنوية، فإنه يوجد في الجنة كلا النوعين من اللذائذ أيضاً، وقد أشير لكليهما في قوله تعالى:- (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم)[14]، فإن الجنات والمساكن نعم ولذائذ مادية، ورضوان الله تعالى من النعم المعنوية، وعليه لا معنى لأن يتوقف في قبول النصوص التي تضمنت أن نطفتها المباركة كان مصدرها طعام من الجنة لأنه وفقاً للعديد من الآيات المباركة، توجد اللذائذ والنعم المادية في الجنة، كما في عالم الدنيا، فتدبر.
ولا يذهب عليك، أن الحديث عن تخلق مولاتي الزهراء(ع) من طعام الجنة، مبني على ما هو المعروف والمشهور بين أعلامنا(رض) من أن الجنة والنار مخلوقتان، وخلافاً لما هو المعروف عن الشريف الرضي(قده) من البناء على عدم خلقهما بعد، وأنهما سوف تخلقان في المستقبل، إذ مقتضى القول بعدم خلقتهما يقتضي عدم التصديق بأنه(ص) دخل الجنة، أو أنه قد جيء له بطعام منها، فلاحظ.
[1] احقاق الحق ج 10 ص 1.
[2] المصدر السابق ص 3.
[3] المصدر السابق ص 5.
[4] بحار الأنوار ج 43 باب ولادتها وحليتها وشمائلها(ع) ح 5 ص 5.
[5] المصدر السابق ص 6.
[6] بحار الأنوار ج 43 ص 4 ح 3.
[7] بحار الأنوار ج 43 ب أسمائها وبعض فضائلها ح 17 ص 18.
[8] المصدر السابق.
[9] بحار الأنوار ج 43 باب ولادتها وحليتها وشمائلها ح 6 ص 6.
[10] بحار الأنوار ج 16 باب تزوجه(ص) بخديجة(رض) ح 20 ص 79.
[11] قد أفاد هذا التقريب للجمع بين النصوص أحد الأخوة الفضلاء(دام موفقاً) في مجلس المباحثة.
[12] أفاد هذا التصوير أحد شبابنا المثقفين من أهل الإيمان في مجلس الحوار المعرفي.
[13] المعاد رؤية قرآنية ج 1 ص 248-252.
[14] سورة التوبة الآية رقم 72.