الحديث الثالث:
عن حبيب الخثعمي قال:سمعت أبا عبد الله(ع)يقول:عليكم بالورع والاجتهاد
واشهدوا الجنائز وعودوا المرضى واحضروا مع قومكم مساجدكم وأحبوا الناس ما تحبون لأنفسكم،أما يستحي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه ولا يعرف حق جاره.
أقول:تضمن الحديث الشريف توجيهاً تربوياً،يوضح المنهج الأخلاقي الذي يربي أهل البيت(ع)أصحابهم عليه.
فذكر(ع)صفات لابد من توفرها في أصحابه وهي:
1-الورع في الدين بفعل الطاعات وترك المنهيات والتمسك بالآداب الشرعية
والآثار المعصومية.
2-الاجتهاد لله سبحانه في العلم والعمل وإصلاح النفس وإرشاد الخلق.
3-أن يحبوا للناس ما يحبوا لأنفسهم،لأن ذلك هو مقتضى الإنصاف التابع
للاستقامة في القوة الشهوية والعقلية والغضبية.
ولعل المراد من الناس في هذا الحديث خصوص الفرقة الناجية،لأن المحبة التي هي أمر قلبي غير مطلوبة بالنسبة إلى غيرهم.
نعم المطلوب مع غيرهم حسن المعاشرة بحسب الظاهر دفعاً للضرر وتكميلاً
وحفظاً للنظام.
4-أداء حق الجار،خصوصاً إذا كان الجار مراعياً لحق جاره،لأن معاملة
الإحسان بالإحسان أحسن وأتم،ومعاملته بالإساءة أقبح وألوم.
الورع:
وسوف نوقع حديثنا فعلاً عن أول هذه الصفات وهو الورع،لكونه من الصفات التي أهتم الأئمة الطاهرون(ع) بها،اهتماماً كبيراً جداً،ولنشر لبعض الأحاديث
الواردة عنهم في هذا المجال:
فعن أبي عبد الله(ع) قال:اتقوا الله وصونوا دينكم بالورع.
وقال أبو جعفر الباقر(ع):أشد العبادة الورع.
وقال أبو الصباح الكناني لأبي عبد الله(ع):ما نلقى من الناس فيك؟فقال أبو
عبد الله(ع):وما الذي تلقى من الناس فيّ؟فقال:لا يزال يكون بيننا وبين
الرجل الكلام فيقول:جعفري خبيث،فقال:يعيركم الناس بي؟فقال له أبو
الصباح:نعم،قال:فقال:ما أقل والله من يتبع جعفراً منكم،إنما أصحابي من اشتد ورعه،وعمل لخالقه،ورجا ثوابه،فهؤلاء أصحابي.
وعن أبي عبد الله(ع)قال:إنا لا نعد الرجل مؤمناً حتى يكون بجميع أمرنا
متبعاً مريداً،ألا وإن من إتباع أمرنا وإرادته الورع،فتـزينوا به يرحمكم الله
وكبدوا أعدائنا به ينعشكم الله.
وعن ابن أبي يعفور قال:قال أبو عبد الله(ع):كونوا دعاة للناس بغير
ألسنتكم،ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير،فإن ذلك داعية.
معنى الورع:
بعد هذا نحتاج أن نتعرف على معنى الورع،فنقول:
الورع:هو الاجتناب والابتعاد عن جميع المعاصي بتركها،مع التمسك بالآداب
الشرعية،وفعل الطاعات،بل التوقي حتى من الشبهات حذراً من الوقوع في الحرام. وهذا المعنى الذي ذكرناه للورع يستفاد من عديد من النصوص الواردة عن الأئمة(ع)فعن أمير المؤمنين(ع):الورع اجتناب،وعنه(ع):أصل الورع تجنب الآثام،والتـنـزه عن الحرام.
وقال(ع)في تعريفه أيضاً:إنما الورع التحري في المكاسب،والكف عن
المطالب،وعنه(ع):إنما الورع التطهر عن المعاصي.
هذا ولا يوجد تنافٍ بين هذه النصوص التي تعرضت لتعريف الورع،لكون كل واحدة منها تشير لإحدى المميزات التي يتحقق الورع عند الشخص بامتلاكها.
الورِع:
تعرضت النصوص الواردة عنهم(ع)إلى تعريف الورِع،وبيان الحدود التي من
خلالها يتم التعرف عليه،فقد جاء عن أبي عبد الله(ع):الورع الوقوف عند الشبهة، أبي عبد الله(ع)قال-لما سئل عن الورِع من الناس-الذي يتورع عن محارم الله عز وجل.
وعنه في هذا الصدد أيضاً:الذي يتورع عن محارم الله ويجتنب هؤلاء،وإذا لم
يتق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه.
هذا وقد أشارت روايات أخرى إلى أورع الناس،فعن النبي(ص)قال:كف عن محارم الله تكن أورع الناس.
وعن أمير المؤمنين(ع):لا ورع كالوقوف عند الشبهة.
وعن أبي جعفر الباقر(ع)قال:قال الله عز وجل:يا بن آدم،اجتنب ما حرمت عليك تكن من أورع الناس.
وعن أبي عبد الله الصادق(ع):لا ورع أنفع من تجنب محارم الله عز وجل،والكف عن أذى المؤمنين واغتيابهم.
درجات الورع:
ذكر أرباب القلوب أن للورع خمس درجات،نشير لها:
الأولى:وهي ورع العادلين،وهو ترك الفسوق،واجتناب كل ما اقتضت الفتوى
تحريمه مما يدخل في مداخل الحرام.
الثانية:ورع الصالحين،وهو ترك ما يحتمل التحريم،حتى مع كون الشارع قد رخص
في تناوله بناء على الظاهر كطعام الملوك وعمالهم.
ومن أمثلته العملية في حياتنا اليومية اليوم، اللحم المشكوك التذكية،فإن
الحكم في البداية هو عدم جواز أكله لأننا لم نحرز تذكيته، لكنه لما كان
يباع في سوق المسلمين،فإن الشارع قد أحل لنا أكله،وتوضيح هذا الأمر:
أنه يوجد عندنا لحاظان،لحاظ أخلاقي تربوي روحي،ولحاظ فقهي تكليفي،فمتى وجد المكلف لحماً يشك في حليته وكونه مذكى،يباع في سوق المسلمين يرتب عليه أثر كونه محللاً ومذكى،فيحل أكله،لكن الآثار الوضعية التي تترتب على الناحية الأخلاقية تبقى على حالها،فلو كان هذا اللحم واقعاً ميتة،فإنه لما أكله
استناداً لقاعدة سوق المسلمين لا يكون مرتكباً لحرام،لكنه لا يستطيع دفع
الآثار الوضعية التي تترتب عليه لكونه قد أكل الميتة،وهذا هو معنى ورع
الصالحين،الذين يحاولون الاجتناب عن كل شيء ينطوي على شبهة حتى لو كان محللاً من الشارع المقدس من الناحية الظاهرية،لا من الناحية الواقعية.
وقد يقال:مادام الحكم الشرعي قد أعطى الإباحة والجواز فلماذا نتعب أنفسنا
بالالتزام بالورع،خصوصاً وأن في الالتزام شيئاً من كلفة.
قلت:إن الحكم التكليفي الفقهي الدال على حلية الأكل، يمنع كما ذكرنا
العصيان واستحقاق العبد العقاب من الله سبحانه وتعالى،لكنه لا يمنع الآثار
الوضعية المترتبة على أكل هذا الشيء المشتبه لو ثبت كونه ميتة،إذ ربما وقع
الرجل على أهله وكان نتيجة ذلك نطفة،فتكون قد تكونت من حرام،فأنظر أنت إلى آثار ذلك،عندما تكون النطفة متكونة من الحرام.
الثالثة:ورع المتقين،وهو ترك ما ليس في حليته شبهة خوفاً من أن يؤدي إلى
المحرم،أو يؤدي إلى الشبهة.
وقد حكي عن بعضهم أنه كان له عند رجل مائة درهم فحملها إليه،فأخذ تسعة
وتسعين،وتورع عن استيفاء الكل خيفة الزيادة.
وكان بعضهم يتحرز،فكل ما يستوفيه يأخذه بنقصان حبة،وما يعطيه يوفيه بزيادة حبة،ليكون ذلك حاجزاً من النار.
ومن هذه الدرجة الاحتراز عما يتسامح به الناس،فإن ذلك حلال من الناحية
الشرعية،لكنه يخاف منه فتح باب ينجر إلى غيره.
الرابعة:ورع الصديقين،وهو ترك ما ليس في حليته شبهة،ولا يخاف من أن يؤدي
إلى المحرم،أو يؤدي إلى شبهة،لكونه أمراً غير متعلق بالدين،كالمباحات،أو
لكونه متصلاً بمن يكره اتصاله به.
كما نقل عن ذي النون المصري،أنه لما سجن لحقه جوع وهو مسجون، فأرسلت له امرأة صالحة بطعام على يدي السجان،فأبى أن يأكله،واعتذر بأنه وصل إليه يدي ظالم. يعني أن القوة التي قد أوصلت الطعام إليه لم تكن طيبة.
ويحكى عن بعض العرفاء،وقيل أنه بشر الحافي أنه كان لا يشرب الماء من
الأنهار التي قام بحفرها الأمراء،فالماء وإن كان مباحاً،لكنه رأى أن النهر قد
حفر بأجرة دفعت من مال حرام.
وبالجملة فالصديقون يرون أن الحلال هو كل ما لا تتقدم في أسبابه معصية، ولا يستعان به على معصية،ولا يقصد منه في الحال والمآل قضاء وطر،بل يتناول لله سبحانه وتعالى فقط،وللتقوي على عبادته،واستبقاء الحياة لأجله،ولذا يرى هؤلاء أن كل ما ليس لله تعالى حراماً.
ثم إن هذه الرتبة رتبة الموحدين المتجردين عن حظوظ أنفسهم،المنفردين لله
تعالى بالقصد.
وقد حكي عن بعضهم أنه شرب الدواء،فقالت له امرأته:لو تمشيت في الدار
قليلاً حتى يعمل الدواء،فقال هذه مشية لا أعرفها،وأنا أحاسب نفسي منذ ثلاثين
سنة.
فكأنه لما لم يحضره نية في هذه المشية تتعلق بالدين،لم يجز لنفسه الإقدام
عليها.
الخامسة:ورع المقربين،وهو صرف القلب عن الاشتغال بما سوى الله سبحانه
وتعالى.
ثمرة الورع:
يعتبر الورع أحد الأسباب الرئيسية في صلاح النفس والسيطرة على الغرائز
الموجودة فيها،كما أنه طريق لصلاح دين الإنسان،لكونه يعتبر حاجزاً يحول بينه وبين اقتـراف السيئات وارتكاب المعاصي والذنوب.
فعن أمير المؤمنين(ع):ثمرة الورع صلاح النفس والدين،وعنه(ع):الورع يحجز عن ارتكاب المحارم،وقال(ع)أيضاً:الورع أساس التقوى،وجاء عنه(ع):بالورع يكون
التنـزه من الدنايا،وقال(ع):الورع يصلح الدين،ويصون النفس،ويزين
المروءة،وقال(ع)أيضاً:من زاد ورعه نقص إثمه.
ويكفينا ثمرة للورع،النصوص التي تعرضت إلى أنه لا خير في العبادة ما لم
يكن فيها ورع،مما يوضح لنا دور الورع وأهميته حتى في العبادة.
فعن رسول الله(ص)قال:لو صليتم حتى تكونوا كالأوتار،وصمتم حتى تكونوا
كالحنايا،لم يقبل الله منكم إلا بورع.
وعن الإمام زين العابدين(ع):الورع نظام العبادة،فإذا انقطع ذهبت
الديانة،كما إذا انقطع السلك أتبعه النظام.
تحذير:
ذكر أهل الفن وأرباب القلوب،أن الورع قد يصل في بعض الموارد إلى
الوسواس،فالحذار من وصول الشخص المتورع إلى مثل هذه الحالة بدعوى أن ذلك من أفراد
الورع،إذ شتان بين الموردين،فلا تغفل.