من مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات المندوب إليها كثيراً في النصوص المعصومية الواردة عن أهل البيت(ع)، والوارد الحث عليها كثيراً في كلمات علماء الأخلاق والسير والسلوك، مسألة الإنصاف ولو من النفس.
وهي مسألة مهمة، ذلك لكونها تعدّ أحد الأمور التي ينبغي مراعاتها أثناء المعاشرة بين الإخوان والأخلاء.
لكن المشكلة تكمن في من هو الذي يقوم بمراعاتها، وأدائها بما هو حقها، حيث أن الكثيرين هم الذين يحملون هذا الطرح، ويؤكدون على هذا الفكر، لكنهم لا يجعلون ذلك إلا في مقام التنظير، وطرح الشعارات، وعندما يحين التطبيق وإبداء الحقائق، تراهم يحيدون عن ذلك كما يحيد الجاهل عن طريقه الذي ينبغي عليه أن يتبعه، ويتخبطون كما يتخبط الأعمى في دربه.
وهذا يكشف عن حقيقة هؤلاء، وافتقارهم إلى أبرز الصفات التي ينبغي الالتفات إليها، وعدم أدائهم لأبسط الحقوق المطلوب من المؤمن، بل العاقل تنفيذها.
وعلى أي، لما لهذه المسألة من أهمية، لا بأس بتسليط الضوء عليها بصورة عجلة، تذكرة لي، ولإخواني المؤمنين والمؤمنات.
حقيقة الإنصاف:
المستفاد من كلمات أهل اللغة، أن الإنصاف يعني العدالة، ولعل هذا المضمون ورد في بعض كلمات أمير المؤمنين(ع)، ومن الواضح أن هذا المقدار من المعنى للإنصاف يشير إلى كون هذا الموضوع من الأمور العرفية الواضحة التي لا تحتاج إلى مزيد بيان، ذلك لأن العدالة في المقام لا تعني العدالة الاصطلاحية التي ينص عليها الفقهاء في كتبهم الفقهية، سواء كانت بمعناها الأخص، وهو التشيع، أم كانت بمعناها الأعم، وهو عبارة عن فعل الواجبات وترك المحرمات، بل المراد من العدالة هنا بمعنى إعطاء كل ذي حق حقه، فيقال: أعطى فلان النصف من نفسه، أو يقال: أنصف فلاناً الآخرين، إشارة إلى أنه قد قام بإعطاء كل ذي حق حقه، من دون يمنعه شيئاً له، أو يسلبه شيئاً منه.
ولا يخفى على أحد أن هذا الاهتمام كما سيظهر من النصوص التي نعرضها في بيان أهمية الإنصاف يشير إلى أن هذا العمل يستبطن روح الأخوة والاحترام بين أفراد المجتمع الإنساني، بل الإسلامي أيضاً.
ومن الواضح أن هذه الصفة هي أبرز صفات الأنبياء والأوصياء وعباد الله الصالحين، والمقربين.
بل قد ورد في الحديث الشريف عن النبي(ص أن الإنصاف من علائم الإيمان، حيث ورد أنه(ص) قال: من واسى الفقير وأنصف الناس من نفسه فذاك المؤمن حقاً.
بعض ما ورد في الإنصاف:
ولنشر إلى بعض النصوص الواردة عن أهل البيت(ع) في مسألة الإنصاف، وبيان مدى أهميتها، كما ذكرنا، فمن ذلك ما ورد عن أمير المؤمنين(ع)، في غرر الحكم أنه قال: الإنصاف أفضل الفضائل[1].
لا ريب في حسن كل فضيلة، كما لا ريب في أن كل واحدة من الفضائل تحوي أثراً معنوياً كبيراً على النفس البشرية، فما بالك بما هو أفضل الفضائل.
ومنها: قوله(ع): الإنصاف أفضل الشيم[2].
ومنها: قوله(ع): الإنصاف شيمة الأشراف[3].
ومنها: قوله(ع): تاج الرجل عفافه، وزينه إنصافه[4].
ومنها: ما جاء عن أبي جعفر الباقر(ع) قال: لا عدل كالإنصاف.
انصف من لم ينصفك:
ومن الأمور المهمة في مسألة الإنصاف، وقد رأينا شيئاً من النصوص الحاثة عليه، وسمعنا ما له من أهمية لكونه خلق الأنبياء والأولياء والصالحين، إنصاف من لم يكن منصفاً معك، ولا يخفى أن هذا يعدّ من أبرز المجاهدات التي يعيشها المرء مع نفسه، لأنه في مثل هكذا مورد تبدأ النفس اللوامة بالعمل، ويـبدأ الشيطان بالوسوسات، فتميل النفس بطبعها إلى مجاراة الطرف الآخر، فكما أنه لم يعمد إلى إنصافك تسول لك نفسك عدم إنصافه، ويـبدأ الخلل في البنية الأخلاقية للمجتمع الإسلامي.
لكن هذا المعنى ترفضه النصوص الصادرة من الأئمة(ع) حيث أنها تضمنت التوصية بأنه عليك أن تنصف من لم ينصفك، ولا ينبغي لك أن تجاريه في عدم إنصافه، فمن ذلك ما ورد عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: المؤمن ينصف من لا ينصفه[5].
وجاء عنه(ع): أعدل الناس من أنصف من ظلمه[6].
ومنها: قوله(ع): إن من فضل الرجل أن ينصف من نفسه، ويحسن من أساء إليه[7].
وإذا كان الحث على إنصاف من لم يكن منصفاً معك، فما بالك بمن كان منصفاً معك، أيعقل أن تكوم مسيئاً له!!!.
مرض اجتماعي:
ومع ما لي هذا الخلق الحسن من أهمية قصوى في حياة الفرد، ولا أظن أحداً لا يتلفت إلى أهميته، إلا أن هناك بلاء يعانيه المجتمع الإسلامي مردّه إلى عدم انتشار هذا الخلق النبوي بين أفراده إلا على مساحات قليلة وضيقة، بحيث يغلب على الطبقة الإسلامية عدم التناصف والإنصاف بين الأفراد.
بل الأكثر من ذلك أن ترى من يوصي الآخرين بالإنصاف ويفتقر هو إلى ذلك، فعندها تكون المشكلة أشدّ وأخطر، لأن من الواضح أن هذا يجعل المرض يتغلل في الوسط الإسلامي، ويصيـبه بحالة من الشللية.
ويعجبني أن أنقل في المقام رواية وردت في أصول الكافي عن عبد الأعلى بن أعين قال: كتب بعض أصحابنا يسألون أبا عبد الله عن أشياء وأمروني أن أسأله عن حق المسلم على أخيه المسلم، فسألته فلم يجبني، فلما جئت لأودعه، قلت: سألتك فلم تجبني؟ فقال: إني أخاف أن تكفوا، إن من أشدّ ما افترض الله على خلقه ثلاثاً: إنصاف المرء من نفسه حتى لا يرضى لأخيه من نفسه إلا بما يرضى لنفسه منه، الحديث[8].
من لا ينتصف منه:
هذا وقد تعرضت النصوص إلى أن هناك بعض الأفراد لا يمكن أن ينصفوا الآخرين، بمعنى أنه لا مجال لأن ينـتصف منهم، ولم تـتعرض النصوص لبيان النكتة والعلة في عدم إمكانية الانتصاف منهم، ولعل منشأ ذلك يعود لافتقارهم لمقومات أداء موجبات الإنصاف، إذ عرفت أن الإنصاف موجبه الإيمان والارتباط بالله عز وجل، ذلك أنه خلق الأنبياء والصالحين، كما عرفت أن موجبه الإحساس بروح الأخوة الإيمانية، وما شابه ذلك، وعلى أي حال، فقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة أبداً: العاقل من الأحمق، والبر من الفاجر، والكريم من اللئيم.
وورد عنه(ع) أيضاً: لا ينتصف البر من الفاجر، لا ينتصف العالم من الجاهل.
——————————————————————————–
[1] غرر الحكم رقم 805.
[2] المصدر السابق رقم 971.
[3] المصدر السابق رقم 570.
[4] المصدر السابق رقم 4495.
[5] غرر الحكم رقم 1410.
[6] المصدر السابق 3186.
[7] المصدر السابق 3171.
[8] أصول الكافي ج 2 ح 3.