مصرف مجهول المالك:
بعد هذا يقع الكلام في مصرف مجهول المالك فنقول وعلى الله التوكل:
للأصحاب في هذه المسألة أقوال خمسة:
1-أن يحفظ عند واجده ما دام حياً ويوصي به بعد مماته.
2-أن يتملكه واجده بوضع يده عليه.
3-أن يبقى عند واجده ويعمل فيه ويخرجه صدقة قليلاً قليلاً حتى يخرج.
4-أن يكون ملكاً للإمام (ع).
5-أن يتصدق به وهذا هو القول المشهور.
أدلة قول المشهور:
ولكل واحد من هذه الأقوال دليله الذي تمسكه به القائل به، كما أن المخالف ناقش الاستدلال المذكور، ويطلب ذلك من الكتب التخصصية، وإنما نقصر العرض على خصوص قول المشهور ببيان الوجه فيه، فنقول:
استدل لقول المشهور، وهو التصدق بالمال المجهول مالكه بجملة من النصوص:
منها: صحيحة يونس بن عبد الرحمن سُئل أبو الحسن الرضا (ع) وأنا حاضر فقال له السائل: جعلت فداك رفيق كان لنا بمكة فرحل منها إلى منـزله ورحلنا إلى منازلنا فلما انصرفنا في الطريق أصبنا متاعه معنا فأي شيء نصنع به؟..قال: تحمله إلى الكوفة . قال: لسنا نعرفه ولا نعرف بلده ولا نعرف كيف نصنع؟..قال: إذا كان كذا فبعه وتصدق بثمنه. قال له على من جعلت فداك؟..قال : على أهل الولاية1.
ومنها: خبر علي بن أبي حمزة قال: كان لي صديق من كتاب بني أمية فقال لي: أستأذن لي على أبي عبد الله (ع) فاستأذنت له فأذن له فلما أن دخل سلم وجلس ثم قال: جعلت فداك إني كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً وأغمضت في مطالبه فقال أبو عبد الله (ع): لولا بني أمية وجدوا لهم من يكتب ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقنا ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلا ما وقع في أيديهم. فقال الفتى: جعلت فداك فهل من مخرج منه؟..قال: إن قلت لك تفعل؟..قال: افعل. قال له: فأخرج من جميع ما كسبت في ديوانهم فمن عرفت منهم رددت عليه ماله ومن لم تعرف تصدقت به وأنا أضمن لك على الله الجنة فأطرق الفتى طويلاً ثم قال له: لقد فعلت جعلت فداك3.
أقول: هذه الرواية كصحيحة يونس محمولة على صورة عدم الظفر بصاحب المال واليأس من تحصيله فتكون دالة على المدعى نعم هي ضعيفة السند لاشتمالها على علي بن أبي حمزة البطائني وإبراهيم بن الأحمر فلا تصلح إلا للتأييد.
ومنها: صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) في رجل ترك غلاماً له في كرم يبيعه عنباً أو عصيراً فأنطلق الغلام فعصر خمراً ثم باعه . قال : لا يصلح ثمنه . ثم قال : إن رجلاً من ثقيف أهدى إلى رسول الله (ص) راويتين من خمر فأمر بهما رسول الله (ص) فأهريقتا . وقال : إن الذي حرم شربهما حرم ثمنهما . ثم قال أبو عبد الله (ع) : إن أفضل خصال هذه التي باعها أن يتصدق بثمنها2.
ومنها: خبر أبي أيوب قال : قلت لأبي عبد الله (ع) رجل أمر غلامه أن يبيع كرمه عصيراً فباعه خمراً ثم أتاه بثمنـه . فقال : إن أحـب الأشياء إلي أن يتصدق بثمنه1.
أقول: إن في النفس من دلالتها على الإلزام شيئاً لعدم معهودية استخدام مثل هذه التعبـير (أحب) في الإلزام ولـذا لا يبعد أن يكون المستفاد منهـا هو الاستحباب فتأمل والله سبحانه وتعالى أعلم .
ومنها: موثقة إسحاق بن عمار قال: سألت أبا إبراهيم (ع) عن رجل نزل في بعض بيوت مكة فوجد فيه نحواً من سبعين درهماً مدفونة فلم تزل معه ولم يذكرها حتى قدم الكوفة كيف يصنع؟..
قال: يسأل أهل المنـزل لعلهم يعرفونها . قلت : فإن لم يعرفونها؟..قال : يتصدق بها2.
وهي واضحة الدلالة على المقصود حيث لا شبهة في أن وجود مال في بيوت مكة التي هي مورد ورود الحاج من بلدان متفرقة في سنوات متعددة يوجب اليأس من الظفر بصاحبها وعليه فتفيد أن الأمر بالتصدق على اليد الضامنة ومع إلغاء الخصوصية يمكن أن يستفاد من ذلك التعدي لكل مورد.
لزوم الإجازة من الحاكم الشرعي:
ثم إنه بعدما عرفنا أن مصرف مجهول المالك هو التصدق، فهل أن ذلك مشروط بإذن الحاكم الشرعي، أم أنه لا يتوقف التصدق به على إجازة منه، خلاف بين أعلامنا على أقوال:
ولا ريب أن مقتضى الاحتياط هو الالتـزام بأن التصدق به لابد وأن يكون بإجازة من الحاكم الشرعي، فلابد لمن أراد أن يتصدق به عليه أن يراجع الحاكم الشرعي أو وكيله حتى يجيز له التصدق به، وإلا فلا.
وقد بررت الحاجة إلى أخذ الإجازة من الحاكم الشرعي في التصدق بمجهول المالك بأمور:
الأول: أن الحاكم الشرعي هو ولي الغائب، فيكون هو ولي المال فيأذن ليتصدق بالمال حينئذٍ.
الثاني: لا يخفى أن الحاكم الشرعي هو أعرف من غيره من المكلفين بموارد التصرف والاستحقاق، وعليه يكون الأمر منوطاً به، وتحت إدارته وتصرفه.
الثالث: رواية داود بن أبي زيد عن أبي عبد الله(ع) قال رجل: إني قد أصبت مالاً وإني قد خفت فيه على نفسي، ولو أصبت صاحبه كنت دفعته إليه وتخلصت منه؟ فقال له أبو عبد الله(ع) والله أن لو أصبته كنت دفعته إليه؟ قال: إي والله، قال: فأنا والله ما له صاحب غيري، قال: فاستحلفه أن يدفعه إلى من يأمره، قال: فحلف، قال: اذهب فقسمه في إخوانك ولك الأمن مما خفت منه، قال: فقسمته بين إخواني[1].
فإن قوله(ع): ما له صاحب غيري، يفيد أن صاحب مجهول المالك هو الإمام المعصوم(ع)، أي أن له عليه ولاية شرعية، فيكون معنى الخبر ما له ولي غيري، وفي زمن الغيبة المظلمة تكون الولاية للفقيه الجامع لشرائط الفتوى، فيثبت المطلوب.
على من التصدق: هذا ولو كنا ومقتضى صحيحة يونس المتقدمة لالتـزم بأن التصدق يكون على مطلق المنتسبين لأهل الولاية، ولا يكون مختصاً بالفقراء، خصوصاً وأنها مطلقة من هذه الناحية، إلا أن الإنصاف، عدم البناء على مثل هكذا إطلاق، إذ أن في البين انصرافاً إما يمنع من انعقاد ظهور للفظ فيه، أو لا أقل من أنه يمنع من حجيته بعد انعقاده، فلاحظ.
تعدد مجهول المالك:
ثم إن ما تقدم من بيان لحكم مجهول المالك وأنه التصدق به على الفقراء، إنما هو إشارة إلى فرد من مصاديق مجهول المالك، وذلك لأن مجهول المالك له عدة مصاديق، يمكن تحديدها في ثلاثة أنواع:
وما يهمنا في البين المربوط بمحل البحث والحديث وهو المال المأخوذ من البنك الحكومي-بناءً على القول بعدم ملكية الدولة-فالفرض أنه مال مجهول المالك، وعليه فهل يكون حكمه هو عين الحكم السابق أي يتصدق به على الفقراء، أو كما سيأتي في بعض الموارد أنه يتصدق بنصفه على الفقراء، أم ماذا؟ في مقام الإجابة نقول:
إن المبلغ المأخوذ من البنك الحكومي على أنه مجهول المالك، لا يتصدق بشيء منه أصلاً، وذلك لأن المفروض أنه يقبضه على أنه مال مجهول المالك، ثم يتملكه بأخذ من الفقيه المجيز له أن يتصرف في المال مجهول المالك، والفقيه يشترط عليه أنه يجيز له أن يتصرف فيه شرط أن يدفع عوضه للبنك مرة أخرى، وهو سداد المبلغ وإلا فلا.
إصلاح القرض البنكي:
ثم إن المكلف لما كان سوف يقبض المال المأخوذ من البنك الحكومي بعنوان مجهول المالك بعد بطلان قبضه بعنوان القرض لما عرفت من عدم ملكية الدولة، وقد عرفنا أن المال المجهول المالك يحتاج إلى إجازة من الحاكم الشرعي حتى يسوغ لآخذه أن يتصرف فيه، فهذا يعني أن المكلف بأخذه هذا المال عليه أن يراجع الحاكم الشرعي حتى يصلح له المال ليتمكن من التصرف فيه، ومعنى إصلاحه المال يعني تسويغه له التصرف في المال، لأنه قبل هذا التسويغ لا يجوز له التصرف فيه، ولو تصرف فيه كان من التصرف في ما لا يملك، ويكون طريق الإصلاح الذي يتخذ الحاكم الشرعي من خلال وسيلتين:
الأولى: أن يقبضه المكلف، ثم يسلمه للحاكم الشرعي لوكالته عن الفقير ثم يهب الحاكم الشرعي المكلف المال مرة أخرى بعدما تملكه عن الفقير.
الثاني: أن يجعل المكلف تملكه للمال عوضاً له من باب الأجرة على عملية الاستنقاذ التي قام بها والتخليص للمال المجهول مالكه لإيصال المال إلى الفقير، فيأخذ الجزء الأكبر ويدفع الجزء الأقل للفقير.
1 وسائل الشيعة ب 7 من أبواب اللقطة ح2
3 وسائل الشيعة ب 47 من أبواب ما يكتسب به ح 1
2 وسائل الشيعة ب55 من أبواب ما يكتسب به ح 1
1 المصدر السابق ح 2.
2 وسائل الشيعة ب 16 من أبواب الصرف ح 1
[1] وسائل الشيعة ب 7 من أبواب اللقطة ح 1.