جاء النبي الأكرم محمد(ص) يحمل رسالة الإسلام، وقد سعى إلى أن يقيم المجتمع الصالح، وتحقيقه على الأرض، وبسط نفوذه وإقراره لنظمه وتعاليمه، ومن المعلوم أن أحد أبرز العوامل الموجبة لتحقق ذلك، وجود السلوك الصحيح عند الأفراد، لأنه السبيل لبلوغهم أعلى درجات الكمال، والقرب من الله تعالى.
ولما كان السلوك أحد مقومات المجتمع الصالح، والأركان التي يقوم تحققه خارجاً عليها، فيلزم أن يحدد المقصود منه، من خلال بيان حقيقته، وعرض القيود اللازم توفرها فيه.
تعريف السلوك:
عرّف السلوك في كلمات عدة من الباحثين، بأنه: التصرف الذي يقوم به الفرد في ظروف محيطه البيئي والاجتماعي في شكلهما العام، تنشأ من حالة نفسية داخلية جعلت الانسان يتصرف ذلك التصرف.
ويستفاد من التعريف المذكور، أن السلوك يتقوم بعنصرين:
أحدهما: العامل المحيط: وهو الظروف البيئية والاجتماعية التي يحيى فيها الفرد البشري، وأن لهذه الظروف والعوامل مدخلية في صبغته السلوكية، فمن يحيى في بيئة متعلمة، يتفشى العلم بين جميع أفرادها، من الطبيعي جداً أن يكون شخصاً متعلماً، محباً للعلم والقراءة، ويسعى للتنمية الفكرية والثقافية، وعلى العكس تماماً من يتواجد في مجتمع أمي، جاهل، سوف تسيطر عليه الخرافة، ويتحكم فيه الجهل، وقلة الوعي، ولن يرى أي أهمية للكتاب، أو للبناء الثقافي والمعرفي، وهكذا.
ثانيهما: العامل النفسي: وهو ما يتوفر عليه من صفات نفسانية توجد عنده، فاتصاف شخص ما بصفة العدوانية، ناجم عما كان عنده من صفة نفسانية تمثلها، وكذا وجود صفة الخوف عند فرد من الأفراد، أو وجود صفة الشجاعة، وهكذا.
أقسام السلوك:
وقد قسم الباحثون وأهل الاختصاص السلوك إلى قسمين، إلى سلوك سوي، وسلوك شاذ، واختلفت نظرياتهم في بيان الميزان الذي يحدد السلوك السوي، أو الشاذ، فذكرت عدة نظريات في بيان الميزان الذي يحكم من خلاله على سلوك بأنه شاذ[1]، ومن الطبيعي أن يكون المقابل له عندها هو السلوك السوي كما لا يخفى:
منها: نظرية الاتجاه الذاتي في تحديد الشذوذ:
وتقوم هذه النظرية على أن الحكم على شذوذ سلوك يقوم على مقايسته لأفكار الشخص المتصدي لعملية التشخيص والتحديد، فزيد مثلاً عندما يود الحكم على سلوك بكونه سلوكاً شاذاً، أو سلوكاً سوياً، يقيس ذلك السلوك بالنظر إلى أفكاره وتصرفاته وتصوراته، فإن كانت موافقة لما كان لديه من أفكار وتصورات، حكم عليه بأنه سلوك سوي، أما لو كانت تلك الأفعال مخالفة لما عنده من أمور، فإنه يحكم عليها بأنها سلوك شاذ، وهكذا.
وبالجملة، إن المعيار في وصف سلوك بأحد الوصفين، يقوم على أساس عرضه على أفعال الآخرين خارجاً، وبمقدار ما يتوافق وتلك الأفكار الموجودة لديهم، يحكم عليه بكونه سوياً، ومخالفته توجب وصفه بكونه شاذاً.
ومنها: نظرية الاتجاه الطبيعي في تحديده:
وتقوم هذه النظرية منذ البداية على نقطة أساسية تمثل كبرى، مفادها أن الطبيعة تملك الكمال، وهذا يلزم أن تكون المقايسة على وفق هذا الكمال الموجود، بمعنى أن كلما يكون موافقاً لقوانين الطبيعية سوف يكون سوياً، وكل ما يكون مخالفاً لقوانين الطبيعة سوف يكون شاذاً. مثلاً لو أردنا أن نقيس تصرف طفل من الأطفال، فإننا سوف نجعل الميزان هو الطبيعة الإنسانية، فإنها هي التي تحدد أن هذا التصرف والسلوك سوي أو شاذ، ونقرب ذلك بمثال: المعروف أن تناول الطفل للطعام يكون بعد مضي عدة أشهر من ولادته، ولا يكون ذلك بمجرد خروجه من بطن أمه، فالطفل الذي يتناول الطعام خلال تلك الفترة يكون طفلاً طبيعياً، ويكون تصرفه المذكور سوياً، إلا أننا لو وجدنا طفلاً يتناول الطعام في شهره الأول من ولادته، فإنه يكون على خلاف الطبيعة الانسانية، وهذا يوجب أن يكون شخصاً شاذاً، ويكون سلوكه وتصرفه المذكور سلوكاً شاذاً، وهكذا.
وكذا إن الطبيعة الإنسانية، توجب انجذاب الرجل للمرأة، وهذا يعني أن وجود رابطة الزواج بينهما تعتبر أمراً طبيعياً، وتكون سلوكاً سوياً، فإذا وجدنا رجلاً ينجذب لمثله، فإن سلوكه يكون شاذاً، لكونه على خلاف الطبيعة الإنسانية، وهكذا.
وبالجملة، إن المدار على وصف سلوك بكونه سلوكاً سوياً، أو شاذاً مدى موافقته للطبيعة وانسجامه معها، فالمنسجم والموافق لها يكون سوياً، والمخالف لها يكون شاذاً، فلاحظ.
ومنها: نظرية الاتجاه الاجتماعي في تحديده:
ويتبنى هذه النظرية علماء الاجتماع، وهم يجعلون الميزان في كون السلوك شاذاً مخالفته لثقافة المجتمع الذي يفعل ذلك السلوك فيه، بينما يكون السلوك بنظرهم سوياً على أساس انسجامه وموافقته لتلك الثقافة، وقد انطلقوا في هذا الميزان من خلال ما يكون لكل مجتمع من المجتمعات من ثقافة خاصة به تنشأ من مخزونه الاجتماعي المعتمد على ما لديه من أفكار وقيم وعادات وتقاليد، تحكمه، وتتحكم فيه. فإذا كان السلوك موافقاً لتلك العادات والقيم والأفكار، فإنه يكون سلوكاً سوياً، وعلى العكس تماماً يكون سلوكاً شاذاً، فكيفية حجاب المرأة في بلادنا اليوم، لما أخذ أسلوباً يختلف وما عليه ثقافة هذا المجتمع من التركيز على أهمية العفة والحياء، فإن الكيفية المذكورة تمثل سلوكاً شاذاً، بينما بقاء الكيفية المتوافقة مع عادات المجتمع وتقاليده، تمثل سلوكاً سوياً، وكذا ما يجري في أيام المناسبات السعيدة التي تتضمن مواليد المعصومين(ع) من أفعال في المجتمع، لما كانت مخالفة لما عليه هذا المجتمع من انتماء عقدي وديني، فإنها تكون من السلوكيات الشاذة، وهكذا.
هذا ولا يذهب عليك، أنه وفقاً لهذه النظرية لن تكون هناك ضابطة كلية عامة مطردة تجري في جميع الأماكن والأزمان، وبصورة واحدة، لأن المجتمعات تختلف في ثقافتها، وفي عاداتها وتقاليدها وأفكارها، كما أن للزمان مدخلية أساسية في التغيـير والتبدل، لأن من الممكن أن تكون العادات والثقافات في الزمان السابق مختلفة تماماً عما عليه في هذا الزمان، وهذا يعني أن السلوك الذي يوصف بكونه سلوكاً شاذاً بالأمس، يمكن أن يوصف اليوم بكونه سلوكاً سوياً، كما أن السلوك الذي قد يكون في بلد ما سلوكاً شاذاً، قد يكون في بلد آخر سلوكاً سوياً.
ومنها: نظرية الاتجاه النفسي الموضوعي:
وتقوم هذه النظرية على ملاحظة الدوافع التي جعلت الإنسان يقدم على الفعل الذي صدر منه، والسلوك الذي قام به، فإن كان ذلك الدافع مألوفاً ومتعارفاً، فإنه يبنى على كون السلوك المذكور سلوكاً سويا، أما لو كانت دوافعه أموراً غير متعارفة، حكم عليه بكونه سلوكاً شاذاً. فإعطاء الفقير الصدقة، إن كان بقصد الشفقة ومدّ يد العون كان سلوكاً سوياً، لأنه مألوف ومتعارف، أما لو كان بقصد الرياء، أو بقصد الإهانة والإذلال، فإنه يكون سلوكاً شاذاً، لكونه على خلاف المتعارف، وهكذا.
ولا يخفى أن الدوافع التي تحرك الفاعل متى كانت دوافع غير متعارفة، كشفت عن وجود اضطراب نفسي عند الفاعل، وأوجبت أن يحكم بكون سلوكه سلوكاً شاذاً، فلاحظ.
ومنها: الاتجاه الإسلامي في تحديد الشذوذ:
جعلت النظرية الإسلامية الميزان في وصف سلوك بكونه شاذاً أو بكونه سوياً، بمقدار ما يكون متوافقاً مع القوانين الإلهية، والتعاليم السماوية، فأي فعل من الأفعال كان موافقاً لتعاليم القرآن الكريم، ومتوافقاً مع ما جاء بها لنبي الكريم(ص)، وموافقاً لتعاليمهم، فإنه يكون سلوكاً سوياً، أما لو كان الفعل الصادر مخالفاً للأوامر الإلهية، ويمثل معصية لما أمر به النبي(ص)،فإنه يكون سلوكاً شاذاً.
وبالجملة، إن الميزان هو الطاعة للأوامر الإلهية، من خلال فعل الواجبات، والمعصية لها، بترك الواجب، أو بفعل الحرام، فالطاعة توجب اتصاف السلوك بكونه سوياً، والمعصية تجعله سلوكاً شاذاً، فلاحظ.
وطبقاً لهذا فإن كل ما كان يعدّه الشرع مخالفة للأوامر، فإنه يعد شذوذاً، فالرياء، وهو الذي لا يعدو كونه أمراً ناجماً عن دافع داخلي عند الإنسان، شذوذ وفقاً للنظرية الإسلامية، لأنه يحوي مخالفة للأوامر الإلهية، كما أن الخروج على بعض العادات والتقاليد والتي قد توجب امتهان الإنسان، أو تحقيره، وإهانته، وإسقاط كرامته، كما لو لبس الإنسان لباساً لا يليق بشأنه[2]، في وسطه الاجتماعي، أو ركب ما لا يناسب شأنه ومكانته الاجتماعية، فإن ذلك يعد شذوذاً وفقاً لنظرية الاسلام، وهكذا.
والحاصل، لا يجعل الإسلام الميزان في تحديد السلوك السوي من السوك الشاذ على وفق المعايـير الذاتية، كما لا يرضى أن يكون الميزان هو ملاحظة عنصر الغالبية، وإنما يجعل الإسلام الميزان والمعيار على الشارع المقدس، فكل ما كان موافقاً مع الشرع، كان سلوكاً سوياً، وكل ما كان مخالفاً للشرع، عدّ سلوكاً شاذاً.
منبع السلوك:
وبعد الفراغ عن تحديد حقيقة السلوك، والإحاطة بتقسيمه، وما يوجب وصف سلوك ما بأحد الوصفين، يقع الحديث في المصدر الذي يتحكم فيه، ويكون مؤثراً، فهل أن المؤثر فيه هي العوامل الوراثية، والأمزجة الخاصة، أم أن المؤثر فيه هو عنصر الرعاية والتربية؟
وبكلمة أخرى، ما هو منبع السلوك ومصدره، فهل أنه أمر يوجد عند الإنسان منذ ولادته، مثله مثل بقية الصفات الوراثية التي يكتسبها من أبيه مثلاً، أم أنه قضية اكتسابية، وليست ذاتية، فيتحصل عليها الإنسان بعد ولادته، ويبدأ اكتسابها تدريجياً؟ هناك نظريتان حول هذا الأمر:
الأولى: وهي التي تقرر أن السلوك عبارة عن مجموعة من الصفات الوراثية التي يتحصل عليها الإنسان من أبويه، ولا يمكن أن يؤثر فيه شيء من المؤثرات الخارجية، كالقوانين والنظم والأخلاق والتربية، ولا يغيره لأنه جزء من الانسان مجبول بجبلته، حتى وإن حاول ذلك.
الثانية: أن السلوك عنصر يخضع للتربية، وأنها هي التي تتحكم فيه، ومن خلالها، يمكن أن يكون الإنسان صاحب سلوك سوي، كما أنه بسببها يكون الإنسان ذا سلوك شاذ.
والصحيح من هاتين النظريتين، هي النظرية الثانية، ويظهر ذلك من خلال ملاحظة العوامل التي تتحكم في السلوك.
عوامل التحكم في السلوك:
يتحكم في السلوك دائماً وأبداً عناصر أربعة:
الأول: الشوق.
الثاني: شدة الشوق.
الثالث: الإرادة.
الرابع: الاختيار.
ومن المعلوم أن العاملين الأولين، عاملان غير اختياريـين، لا يملك الإنسان فيهما أمراً، فليست لديه القدرة على التحكم في رغباته، بأن يجبرها على ما تحب أو تشتهي، أو تبغض، كما ليس لديه القدرة على السيطرة على عواطفه، لتحب من يشاء، وتبغض من يشاء، فإن هذه أمور خارجة عن دائرة قدرته واختياره، نعم يمكنه من خلال عوامل مساندة أن يكبح شيئاً من جماحها، ويقلل من سطوتها، كما سيتضح، إن شاء الله تعالى.
وعلى العكس تماماً، فإن العاملين الأخيرين، خاضعان تماماً لقدرة الإنسان يتصرف فيهما كيف ما شاء، ويتحكم فيهما بالصورة التي يريد.
ومع أن السلوك الإنساني يخضع بصورة أساسية للتربية، وأنها التي تتحكم فيه، إلا أن ذلك لا يمنع من أنه يتبع جملة من العوامل توجب تأثره بها، وتأثيرها فيه، ومن تلك العوامل:
1-القيم: وهي قسمان، لأنها قد تكون قيماً بشرية، يضعها أبناء المجتمع لتمثل معيار الأخلاق في مجتمعهم، وقد تكون قيماً ربانية، من خلال ما تنادي به الشريعة السماوية من صنع الباري سبحانه وتعالى، ويراد من خلالها رقي المجتمع البشري.
2-الوراثة: ولا يختلف أثنان في ما لها من بصمة واضحة في الفرد، ومدى تأثيرها عليه، لكن ليس بصورة كلية مطلقة بحيث لا يمكن أن يغاير أو يتخلف عنه.
3-العوامل السايكولوجية: فإن من أهم العوامل التي يتأثر بها الفرد الانفعالات النفسية، ولهذا يختلف السلوك الذي يكون عند الشخص الذي يعاني حالة من الاكتئاب، عن الشخص الذي يعيش حالة من الاستقرار النفسي، كما أن السلوك الذي يملكه الشخص الذي يعيش القلق من الطبيعي أن يكون مختلفاً عن سلوك الشخص الذي يعيش استقراراً وهدوءاً، ومثل ذلك وجود حالة الغضب، وحالة الخوف، وغيرها مضافاً للانهيارات النفسية، فلاحظ.
4-التربية: و أظن أننا لسنا بحاجة للحديث عن دورها، وما له من أهمية في البين، كما لا يخفى.
تقويم السلوك:
ومع أننا قد ذكرنا أن العاملين الأولين من العوامل التي تتحكم في السلوك الإنساني، غير إراديـين، ولا يخضعان لاختيار الإنسان، فلا الشوق، ولا شدته يمكنه السيطرة عليهما، إلا أن ذلك لا يعني عدم إمكانية علاج ذلك، فإنه يمكنه أن يقوم بعملية تحديدهما، بل يتسنى له من خلال هذا المنهج، كبح الجماح فيهما، كما يمكنه الوصول للسيطرة عليهما، وذلك من خلال عدة موجبات تؤدي إلى ذلك، وهي، عناصر ثلاثة:
الأول: التربية[3]:
ويمكنها أن تتحكم في شوق النفس، من خلال سيطرتها على مقدمات حصوله، لتكون تلك المقدمات منسجمة تماماً، مع القيم والأخلاق، والشرع.
ولا يذهب عليك، أن هذا العنصر يمرّ بمراحل متعددة، تبدأ من المنهج الوقائي التي يلزم على الأبوين اتخاذه قبل الزواج، وذلك بانتخاب العنصر الآخر المكون للأسرة سواء كان الرجل أم كانت المرأة على وفق المعطيات الشرعية، فلا يكون جلّ اهتمام الرجل عند البحث عن نصفه الآخر ملاحظة العنصر الجمالي، والشكل والمظهر دونما نظر منه إلى الجوهر، وما تحويه المرأة من قيم وأخلاقيات، وتعاليم دينية، وكذا لا ينبغي أن ينصب جلّ اهتمام المرأة على المكانة الاجتماعية للزوج، والمبلغ المالي الذي يتحصل عليه، فضلاً عن مظهره الخارجي، دونما اعتناء منها بما يملك من مقومات وقيم وأخلاقيات، ودراية بالجوانب الدينية.
ولعل هذا يبرز لنا سرّ اهتمام الشارع المقدس بأهمية انتخاب الزوج والزوجة، لأن هذا يمثل عنصر الوقاية منذ البداية في تكوين اسرة لا تملك سلوكاً سوياً، إذ من الطبيعي أن الأبوين متى كانا سويـين، فإنهما سوف ينجبان ولداً سوياً من خلال تربيتهما له بالصورة الصحيحة، وتحكمهما في شدة الشوق لديه، وعلى العكس يكون خلاف ذلك.
وتكون المرحلة الثانية بعد انعقاد النطفة، وملاحظة المادة الغذائية الداخلة في تكوينها، والمساعدة على نموها، وهو عبارة عن نوعية الطعان الذي تتناوله الأم خلال هذه المرحلة، من مرحلة ما قبل الحمل، مروراً بها إلى حين الولادة، فإن للقمة المشتبهة تأثيراً كبيراً جداً على سلوك المولود، فضلاً عن اللقمة الحرام. كما أن للحالة النفسية التي تعيشها الأم خلال فترة الحمل أبرز الأثر على الجنين، وعلى استقراره وتقويم سلوكه، فلاحظ.
وتكون المرحلة الأخيرة ما بعد الولادة، وهنا يزداد الدور أهمية، وخطورة، لأنه كلما نما هذا الطفل ونشأ بدأت المسألة تزداد حساسية، ويتضخم الدور التربوي في السيطرة على شدة الشوق الموجود عند هذا المولود، حتى يتسنى للأبوين أن يحولاه لصاحب سلوك سوي، ومن الواضح جداً أن الأسرة التي تعيش حالة من الهدوء والاستقرار يتسنى لها السيطرة على مثل هذا، ويمكنها أن تسير بالطفل إلى بر الأمان، لأنها تملك القدرة على تهيئة البيئة الصالحة لتربيته وفق تعاليم الدين، فيبدأ في الاستجابة لتكاليفه الشرعية، ويلتـزم بالقيم والأخلاقيات.
ومن الطبيعي أن القيام بهذه العملية التربوية الكبرى، للوصول للنتيجة التي ذكرنا، تحتاج إلى الاستعانة بوسائل في عملية خلالها:
منها: أن يعلم الطفل المربى بقيمة العمل، والموقف وأثر كل ذلك على الإنسان.
ومنها: أن يستخدم المربي، سواء كان أباً، أم كانت أماً، أسلوب العقاب بوضع حد لكل ما لا يكون صحيحاً ويكون خارجاً عن موازين الشرع.
ومنها: أن يعمد الأبوان خلال عملية التربية للسيطرة على شوق النفس، إلى الاستفادة من قانون المحفزات والجوائز والهدايا، للتشجيع على العمل الصالح.
ومنها: الاستعانة بقانون الإيحاء إليه، وهو الذي يعبر عنه بالعقل الجمعي.
الثاني: المنهج الوراثي:
ولا يقصد من الوارثة في المقام، وراثة الصفات الجينية والوراثية من العمودين، لأن المقرر عندهم في محله، أن الأمور المكتسبة لا تورث، وعليه سوف يكون المقصود من الوراثة في البين، وراثة الصفات المكتسبة، بمعنى ما ينشأ عليه الأجيال السابقة، حتى يتحول إلى مثل الحالة الثابتة في الوجود الخارجي لهؤلاء الأفراد، وأنه بمثابة الجزء الذي لا يتجزأ من وجودهم، فضلاً عن ثقافتهم، فيتوارثونه كما يتوارثون الصفات الأخرى، من الكرم أو البخل، أو الجبن، والشجاعة، وهكذا. ويساعد على هذا ما يذكر في علم التربية، من أن السلوك الوراثي يعود في حقيقته إلى منشأ سيكلوجي أو تربوي غير مقصود، ونتيجة الظروف التي يمر بها الإنسان، يتحول عنده إلى سلوك كما أشرنا لذلك قبل قليل.
وهذا النوع من الوراثة الذي ذكرناه، يطلق عليه عندهم بالوراثة الحكمية، مقابل الوراثة الحقيقة، فلاحظ.
الثالث: مبدأ الدين:
وهو أهم عنصر في مسيرة الانسان وسعادته، فهو الذي ينظم علاقته بربه، وينظم علاقته بمجتمعه، وعلاقته بنفسه، كما أنه الوسيلة التي تضع الانسان على طريق الاستقرار ومسار الاطمئنان، ليتقدم في ميادين الحضارة والرقي.
ويتمثل دور الدين في جعل الإنسان ذاكراً لربه سبحانه وتعالى دائماً، فلا يعيش حالة الغفلة عنه، ولا منه، إذ أن العقل يجعله أمامه، حتى يتفاعل الإنسان ويعيش مع كافة أحكام الشريعة، ومقرراتها، ومفرداتها، فتتحول الأحكام إلى عادة حسنة وسلوك سوي يعيشه دائماً وأبداً في كل حيثيات حياته وشؤونه الخاصة والعامة[4].
العوامل المؤثرة على السلوك:
لما كان الإنسان مخلوقاً يقبل التأثر بكل ما يحوطه من أمور، أحتاج إلى ما يعبر عنه بالوسائل الوقائية التي تحميه من أن يتأثر بما حوله، حتى لا يوجب تأثره بها إلى تحويله لشخص ذي سلوك شاذ في الرؤية الإسلامية. وتمثلت تلك الوسائل في عناصر وقائية تحول دون الإصابة، وعناصر علاجيةـ تؤدي إلى الشفاء والخلاص منها.
والعوامل التي تؤثر على السلوك الإنسان، أمران:
1-الفطرة: وهي الميل في النفس نحو الكمال، لأنها تشعر بالنقص فتسعى لبلوغ الكمال دائماً، فإن الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان ميالاً للكمال، وزوده بمجموعة من الغرائز الفطرية التي لها تأثير على سلوكه وتعامله مع الآخرين، وهذه الغرائز ليست على نمط واحد، واستقرار دائم، بل إنها تشتد تارة وتضعف أخرى، والعنصر الذي يتحكم في شدتها وضعفها هو مستوى الوعي والذكاء الموجود عند الإنسان وفاعلية العقل عنده.
ومن هنا يتضح أن عنصر الفطرة عامل مؤثر في السلوك الإنساني، خصوصاً وأن الغريزة التي زود الإنسان بمجموعة منها تعتبر المحرك الأساس لسلوكه، وأنها الأساس في العملية التربوية.
ومن الغرائز التي تتحكم في السلوك الإنساني، وقد تجعله سلوكاً شاذاً غريزة حب المال، وغريزة حب الذات، فإن هاتين الغريزتين لو تحوتا إلى غريزتين متطرفتين، جعلت الإنسان منحرفاً ومبادراً إلى الجريمة، ما يوجب اتصافه بالسلوك الشاذ كما عرفت.
2-الأمراض النفسية: لقد ركز علم النفس وعلم الاجتماع على أهمية العامل النفسي في السلوك الإنساني، وأكدا على أن سلامة السلوك من الشذوذ تحتاج إلى توفر الصحة النفسية، وهذا يتوقف على توفر الظروف البيئية المناسبة، والبنية السليمة الموروثة، فإذا وجد المنـزل الصالح، والمدرسة المتضمنة لكافة جوانب التعليم والتربية السليمة، وكان المجتمع يتعاطى على وفق الميزان الشرعي، وتنطلق معطياته وأفكاره من خلال القيم الدينية والتعاليم السماوية، كان ذلك موجباً لحصول الاستقرار النفسي للفرد، وأصبح السلوك عندها طبيعياً، متى جاء منسجماً مع التقاليد والعادات المقرة من قبل الله سبحانه وتعالى، أو القانون السليم، وأما لو كان الإنسان خلاف ذلك فإنه يعد إنساناً شاذاً[5].
[1] مجلة المنهاج العدد 25 ص 149.
[2] مثل لباس الشهرة، فإن جملة من الفقهاء يفتي بحرمة لبسه.
[3] ونود أن نؤكد على أن المقصود من التربية، ليس مجرد التعاليم والتأديبات التي يعطاه الطفل خلال مرحلة التأديب والتربية، بل إن للعلم والمعرفة التي يتحصل عليها الطفل أبرز الأُر أيضاً في تقويم سلوكه، ولهذا يعتبر عنصر التعليم دخيلاً في العملية التربوية، وليس أمراً خارجاً عنها، ولا ينحصر ذلك في خصوص التعليم الديني، بل يشمل كافة نواحي التعليم، فلاحظ.
[4] محاضرات أخلاقية ص 195-203(بتصرف)
[5] محاضرات أخلاقية ص 210-218(بتصرف).