الدعاء وسيلة العبد إلى ربه التي يعود من خلالها إليه، وهو القرآن الصاعد كما أن كتاب الله تعالى هو القرآن النازل.
موانع القبول بالدعاء:
لم يختلف الدعاء عن بقية الموضوعات الدينية التي تم التعاطي معها بأساليب مختلفة، بحيث تباينت الرؤى والتوجهات تجاهها، فبينما نجد من يؤمن بالالتزام به بصورة مطلقة دون تردد، ويعول عليه بصورة كلية، نجد أن هناك من يمنع من القبول به والتعويل عليه، وما بين الإفراط والتفريط الذي تضمنته الرؤيتان السابقتان، وجدت رؤية وسطية، فلم تلتـزم بالتعويل على الدعاء بصورة مطلقة كلية كما لم ترفض الدعاء بصورة مطلقة.
والحاصل، إن هناك أقوالاً ثلاثة يمكن ذكرها بالنسبة للتعامل مع الدعاء:
الأول: الالتزام بالدعاء بقول مطلق، دون أن يقبل فيه أي مناقشة أبداً.
الثاني: الذين يرفضون الدعاء رفضاً قاطعاً.
الثالث: الذين يتخذون الطريق الوسط فلم يقبلوا بالدعاء على اطلاقه، كما أنهم لم يرفضوه مطلقاً، وإنما قبلوه بنحو الوسطية، فصار قبولهم له في الجملة كما سيتضح.
ومن الطبيعي أنه لا يمكن القبول بأية واحدة من الأفكار الثلاث، أو الأقوال الثلاثة، إلا بعد أن يلحظ الدليل الذي استند له القائلون بتلك الفكرة ومحاكمته قبولاً وعدما. ومن خلال عرض دليل القولين الأول والثاني، يتضح منشأ القول الثالث ودليله، ومن ثم يظهر ما يمكن الالتزام به من الأقوال الثلاثة وما لا يمكن.
قبول الدعاء مطلقاً:
أما أصحاب القول الأول، القائلون بقبول الدعاء مطلقاً، فهم يعدون الدعاء مبدأً أساسياً لكل شيء يود الإنسان فعله في حياته، ولذا نجد بعض الأفراد يجعل وسيلته لتحقيق آماله والحصول على أغراضه من خلال بعض الأذكار والأوراد والرياضات النفسية التي يقوم بالمداومة عليها، وممارستها. فيتكل عليها مثلاً في النجاح في التجارة، أو ما شابه ذلك.
ويتمسك أصحاب هذا القول ببعض الآيات القرآنية التي يظهر منها بدواً ما ذكر، مثل قوله تعالى:- (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب)[1]، فإن المستفاد منها أن تمام المدار للحصول على المتطلبات، وتحقيق الرغبات هو وجود عنصر التقوى، فهي تمثل العلة التامة لذلك.
ومثل ذلك قوله تعالى:- (والله يرزق من يشاء بغير حساب)[2]، فإنها تدل على أن الرزق بيده سبحانه وتعالى، وهو الذي يعطي ويمنع وليس لأحد يد في ذلك. ولا ريب أنه كل ما كان الإنسان قريباً من الله تعالى كان ذلك سبباً لأن يرزقه وينعم عليه، ومن المعلوم أن أقرب الطرق إليه سبحانه وتعالى هو التقوى.
والحاصل، إن دلالة الآيتين على أن هناك علة تامة هي المتحكمة في حصول الرزق والتوفيق والنجاح، وما شابه ذلك، وهو عنصر التقوى.
وهذا يعني استغناء الانسان عن كل شيء، فلا يحتاج أن يجهد نفسه أو يتعبها، بقيامه بأي جهد، أو عمل، لأن الدعاء سوف يكفل له تحصيل ذلك كله.
ولا ينحصر الأمر في جانب استجلاب الخيرات والمنافع، بل يجري ذلك أيضاً في دفع المضار، لقوله تعالى:- (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً)[3]، فيكفي الإنسان لدفع الأخطار، أن يتوكل على الله سبحانه من خلال الدعاء، دون حاجة منه إلى إعمال الفكر، أو تفعيل الشجاعة لدفع الأعداء وردهم.
وكما أن الدعاء يجلب المنافع، فإنه يدفع الأعداء والأخطار، فإنه طريق شفاء الأمراض، فلا حاجة إلى مراجعة الأطباء، وتناول الأدوية، لقوله تعالى:- (وإذا مرضت فهو يشفين)[4]، فليس على المريض إلا أن يتوجه لله تعالى بالدعاء، والله سبحانه سوف يشفيه دون حاجة لمراجعة الطبيب أو تناول الدعاء.
وبالجملة، إن أصحاب هذا القول يتكلون وبصورة دائمية مطلقة على الدعاء، ويقررون أنه لا سبيل لشيء آخر سواه في تحقيق جميع الاحتياجات والأغراض المرتبطة بالإنسان.
ولا يختلف اثنان في أن الباري سبحانه وتعالى هو مصدر كل شيء في هذا الكون، فهو الذي يعطي من يشاء وهو الذي يمنع من يشاء، وهو الذي يهيئ الأسباب لحكمة منه في هذا الإجراء، فالرزق بيده والشفاء بيده، والإحياء والإماتة بيده، فهو تعالى قادر مثلاً على أن يرزق جميع البشر وهم جالسون في بيوتهم من دون بذل أي جهد أو القيام بأي عمل، كما أنه قادر سبحانه على دفع جميع الأمراض والعلل عن جميع الموجودات. إلا أن المشيئة الإلهية قد اقتضت أن لا يترك الانسان إتكالياً دون أن يقوم بأي دور أو جهد، وهذا يظهر هذا من عدة آيات قرآنية، كقوله تعالى:- (فاسعوا في مناكبها وكلوا من رزقه)[5]، فقد دلت على لزوم السعي والعمل، وأن ذلك هو طريق الأكل من رزقه تعالى، وكأن الرزق متوقف على السعي والعمل، ولا يحصل ذلك بمجرد أن يتكل الإنسان على أن الله تعالى هو الرزاق، وغير ذلك من الآيات.
والحاصل، إن مقتضى ضم الآيات القرآنية بعضها مع بعض يفيد أن الله سبحانه وتعالى مصدر الوجود، وعلة الإيجاد لكل شيء، إلا أن ذلك لا يعني الاتكال على هذا، وعدم قيام الإنسان بأي عمل، بل لابد عليه من القيام ببعض الأعمال التي تعدّ بمثابة الأسباب الموجبة للتوفيق لنيل العطاء الإلهي.
ويظهر من بعض النصوص وجود هذا التوجه من الفهم الخاطئ للآيات القرآنية والتعويل على الإتكالية في عصر المعصومين(ع)، وقد قاموا(ع) بمحاربته والوقوف أمامه،
فقد صرح رسول الله(ص) بأنه لا يستجاب دعاء لأمثال هؤلاء، قال(ص): إن أصنافاً من أمتي لا يستجاب لهم دعاؤهم، وعدّ من هؤلاء : ورجل يقعد في بيته، ويقول: رب ارزقني، ولا يخرج ولا يطلب الرزق، فيقول الله عز وجل: عبدي ألم أجعل لك السبيل إلى الطلب، والتصرف في الأرض بجوارح صحيحة، فتكون قد أعذرت، فيما بيني وبينك، في الطلب لاتباع أمري، ولكيلا تكون كلاً على أهلك[6].
وعن عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد الله(ع): رجل قال لأقعدن في بيت، ولأصلين، ولأصومن، ولأعبدن ربي فأما رزقي فسيأتيني، فقال أبو عبد الله: هذا أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم، قلت: ومن الأثنين الآخران؟
قال: رجل له امرأة يدعو الله أن يريحه منها، ويفرق بينه وبينها، فيقال له: أمرها بيدك خل سبيلها، ورجل له حق على إنسان لم يُشهد عليه، فيدعو الله أن يرد عليه فيقال له: قد أمرتك أن تشهد وتستوثق فلم تفعل[7].
ولو كان الإتكال على الدعاء فقط كافياً لنيل الأماني وتحقيق الرغبات، لما قام المعصومون(ع) بالعمل بأيديهم، وحثوا أصحابهم على ذلك، فقد حفلت سيرة أمير المؤمنين(ع)، بالجهد والكفاح، وهو أزهد الناس وأبعدهم عن الدنيا، وهذا الإمام الباقر(ع) يخرج ليعمل بيده في حقل له، وهكذا، مع أنه كان في مقدرو هؤلاء وهم أصحابا لدعوة المستجابة أن يسألوا الله تعالى، وسوف يستجيب سبحانه وتعالى دعوتهم، لأنه قد كفل لهم الإجابة.
ولا ينحصر الأمر في خصوص الرزق، بل يجري ذلك في الدفاع عن النفس، ودفع الأعداء والأخطار والبليات، وتطبيب المرضى، كما يشهد لذلك سيرة النبي الأكرم(ص)، وأهل بيته(ع).
وقد تحصل أن الإيمان بقدرة الله تعالى المطلقة، ومالكيته التامة لهذا الوجود، لا تمنع أن يقوم الإنسان بتوفير الأسباب وتهيئة المقدمات لتحقق الإرادة والمشيئة الإلهية، وهذا يحتاج توفيقاً منه سبحانه وتعالى، فعلى العبد تحصيل أسباب التوفيق.
رفض الدعاء مطلقاً:
ونجد هذا القول وهو رفض الدعاء بقول مطلق عند الماديـين والعلمانيـين، كما يروج له اليوم من قبل أصحاب الحداثة، فلا يقبل هؤلاء بالدعاء أبداً، وهم على عكس أصحاب القول الأول تماماً، لأن هؤلاء كما عرفت يجعلون الدعاء مصدراً أساسياً لكل شيء وسبيلاً لتحصيل كل غرض، وأصحاب هذا القول يرفضون هذا المعنى ولا يقبلون به، وقد اختلفت مشاربهم بسبب اختلاف دليل كل جماعة لرفض الدعاء، فتعددت أدلته:
منها: إن الدعاء من الأمور التي لا تقرها القوانين الكونية، فإن الحكمة الإلهية قد اقتضت بناء هذا العالم وما يجري فيه على الأسباب والمسببات، فلا توجد المسببات بدون أسبابها، لأن ذلك يؤدي إلى اختلال النظام الكوني، كما أن لازم حصول المسببات وحدها نقض الغرض، ذلك أن الشارع المقدس وجه جملة من التكاليف للبشر وألزمهم امتثالها فعلاً وتركاً، فلو جعل الدعاء سبباً لتحقيق الغرض أمكن العاصي بمخالفة هذه التكاليف أن يعتمد عليه لدخول الجنة، من دون أن يمتثل الأوامر والنواهي الإلهية، وهذا مستلزم لنقض الغرض من جعل تلك التكاليف وتشريعها.
ومثل ذلك بالنسبة للرزق، فقد جعل سبحانه السعي سبباً للحصول عليه، فلو كان الدعاء موجباً لتوفره لزم من ذلك اختلال النظام الكوني بنقض أغراضه، وكذلك الأمر للشفاء من الأمراض، ودفع الأعداء والأخطار، وهكذا.
وجواب هذا الدليل، أن يقال: إن الشبهة التي وقع فيها القائلون بهذا القول اعتقادهم وجود تناف بين فكرة الدعاء وقانون الأسباب والمسببات الكوني، مع أن الصحيح أنه لا يوجد أدنى منافاة بينهما، فإن من المسلمات أن المسبب لا يتخلف عن سببه متى حصل، إلا أن ذلك لا يمنع أن يكون للدعاء تأثير، لأن السبب على نحوين:
1-السبب التكويني، وهو مثل النار للحرارة، أو الشمس لوجود النهار، أو لوجود الضوء.
2-السبب التشريعي، ويمثل إليه باستحقاق العقاب الذي رتبه الشارع المقدس على صدور الذنب من المكلف.
وهما مشتركان في أنه لا يتخلف عنه حصول السبب، نعم هما يختلفان من حيث أن السبب في الأول تكويني، وهو في الثاني تشريعي. والحاصل، إن الترتب حاصل في كليهما لا محال، ولا مجال لتخلفه.
ومن خلال البيان السابق يظهر أن في البين مغالطة عمد إليها القائلون بالقول الثاني، لأنهم قد اعتبروا المسبب المترتب على صدور الذنب نفس العقوبة، وهذا دعاهم إلى التوقف في الأخذ بفكرة الدعاء والقبول بها، لأن السبب الذي هو الذنب متى حصل فلابد من حصول العقاب، فلا يبقى بعدها للدعاء أي تأثير كما لا يخفى.
والصحيح أن المسبب على صدور الذنب هو استحقاق العقاب، وليس نفس العقاب، فإن المكلف إذا أذنب كان جزاؤه ما رتب على ذلك الذنب من عقوبة، أما نفس العقوبة الفعلية فهي متأخرة رتبة عن مرحلة الاستحقاق، وما بين مرحلة الاستحقاق، ومرحلة التحقق والحصول، يأخذ الدعاء مكانه، فيتضرع المذنب إلى خالقه، ويبتهل إليه، رغبة في إيقاف تأثير الاستحقاق ليمنع من حصول التحقق، من خلال تهيأت المانع عن التأثير، وباستحصال إرادة الله تعالى للعفو عنه.
والحاصل، إنه بدعائه يطرق باباً لعله يفتح من خلاله ما يوجب حصوله على غايته. وهو في نفس الوقت لم يتخذ طريقاً مغايراً لما أمره تعالى باتخاذه.
ومنها: إن المستفاد من بعض الآيات القرآنية أن الجزاء يدور مدار السعي والعمل، وأنه ليس للدعاء تأثيراً أصلاً، قال سبحانه:- (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة)[8]، فقد دلت على أن الإنسان يوفى أجره يوم القيامة، ولا يكون ذلك إلا على خصوص ما عمله من عمل يرضي الله سبحانه وتعالى. وقال عز وجل:- (اولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب)[9]، فإن ما كسبوه يعني ما عملوه من عمل، وإعطائهم نصيبهم مما كسبوه، لأنه موافق لمرضاة الباري سبحانه. وقال تعالى:- (فاستجاب لهم ربهم أني لا اضيع عمل عامل منكم من ذكر أو انثى)[10].
والحاصل، إن المستفاد من جملة من الآيات الشريفة، أن الله لا يضيع أجر عامل من العاملين، بل يوفيه إليه سبحانه، قال تعالى:- (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)[11].
ويجاب عن هذه الآيات، بأنه لا ينبغي أن تقرأ الآيات القرآنية منفردة وعلى حدة، بل يلزم أن تضم بعضها لبعض، لأن القرآن الكريم يشتمل عاماً وخاصاً، كما يشتمل مطلقاً ومقيداً، وناسخاً ومنسوخاً، ولابد عندما يود الاستفادة من شيء من آياته أن ينظر إلى الآيات جميعاً، ومقامنا من هذا القبيل، إذ كما توجد آيات يظهر منها بدواً تعليق الجزاء على العمل والسعي، وأنه لا يؤثر شيء غيرهما في تحصيل الأجر، إلا أن هناك آيات أخرى أيضاً قد تضمنت الدعوة إلى استعمال الدعاء كسلاح يفيد العبد، ويعطي تأثيراً، قال تعالى:- (وقال ربكم ادعون استجب لكم)[12]، وقال سبحانه:- (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب اجيب دعوة الداعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون)[13].
ودلالة هاتين الآيتين واضحة جداً على ما للدعاء من تأثير، فقد تضمنتا وعداً إلهياً بالاستجابة منه تعالى لمن دعاه، ومعنى ذلك وجود التأثير للدعاء، وأنه لا ينحصر الأمر في خصوص السعي والعمل، وهاتين الآيتين تصلحان لتقيـيد ما يتصور من اطلاق في تلك الآيات الشريفة، نعم ما لا ينكر هو منع دلالة الآيتين على أن مجرد الدعاء بما هو مؤثر ليقوم مقام السعي والجزاء، بل لابد كما عرفت في الجواب عن القول الأول من إيجاد الأسباب والمقدمات الموجبة لتحصيل الإرادة والمشيئة الإلهية.
ومنها: إن الملتزمين بالدعاء يعتقدون تأثيره في تغيـر الواقع، وليس الأمر كذلك، بل إن الأمور إما لا يعلم ما سيكون الحال فيها، أو أنها كانت سائرة إلى ذلك وفق التخطيط الإلهي والتقدير السماوي، فليس حصول الأثر خارجاً ناشئاً من خلال الدعاء، فالمذنب مثلاً عندما يسأل الله تعالى أن يغفر له ذنوبه، هو لا يعلم إن كانت سوف تغفر أو لا. ولو غفرت قد يكون ذلك من المصادفات الطبيعية، وليس من باب إجابة دعائه. وكذا الحامل التي تسأل ربها أن يجعل حملها ولداً، فتدعوه، فترزق الولد، ليس من الضروري أن يكون بسبب دعائها، بل قد يكون ما اقتضته الحكمة الإلهية والتقدير الإلهي، ومثل ذلك يجري بالنسبة للمريض، فليس ضرورياً أن يكون منشأ شفائه من مرضه هو دعائه، بل من الممكن جداً أن التقدير الإلهي قد تدخل، لأن هناك مدة زمنية محددة للمرض، وقد انتهى وقتها، وكذا عودة المسافر، وهكذا.
وبالجملة، إن التغيـير الذي يحصل بالنسبة للعبد ليس ناشئاً من الدعاء، وإنما يعود لأسباب طبيعية عادية، صادف تحققها ملازمة الدعاء معها، أو لأسباب إلهية نجمت من خلال التقدير.
وقد تضمن هذا الدليل المانع من الحاجة إلى الدعاء، التفريق بين الدعاء الذي يصدر رغبة لأمر أخروي، وهو ما كان يتضمن طلب مغفرة الذنوب، وبين ما يكون صادراً لرغبة دنيوية، مثل طلب الولد، أو كونه ذكراً، أو العودة من السفر بالسلامة، أو الرزق، أو زيادته، وهكذا.
فذكر في شأن الأول، أن الداعي لا يعلم إن كان دعائه سوف يأتي بنتيجة أم لا، ولذا لن يكون لدعائه أي أثر أو فائدة، وأما في الثاني، فإن ذلك قد يعود للقضايا التقديرية.
وجواب هذا، أن يقال: أما بالنسبة للأمر الثاني، فإن من المعروف أن التقدير الإلهي خاضع لحكمة، وأنه قائمة على توفر الأسباب والمسببات، كما أشير لذلك في ما تقدم، وأي ضير في أن يجعل الدعاء أحد الموجبات لحصول الأسباب وتوفر المسببات، وبكلمة، إن الله تعالى ولعلمه بما سيكون من عبده، وأنه سوف يدعوه، ويسأله قد أوجد هذا السبب وهيأه، وهذا يعني أنه لولا الدعاء لما كان الأمر بهذه الكيفية، وإن كان الدعاء في وقت متأخر، إلا أن العلم الإلهي، هو الذي أوجد الأثر.
وأما الأول، فإن الوعد الإلهي الصادق، مانع من أن لا يكون العبد مجاب الدعوة، نعم حتى تكون دعوته مستجابة، فهو بحاجة إلى توفر مقومات وشروط الإجابة، ومتى لم تتوفر، فلن يكون مجاب الدعوة.
والحاصل، إن ما ذكر من دليل للمنع من الحاجة للدعاء، لا يصلح أن يكون مانعاً منه.
ولا تنحصر أدلة القول الثاني في خصوص ما ذكرنا، بل توجد أدلة أخرى، ذكرت متناثرة في المصادر المتعرضة لمثل هكذا موضوع، يمكن للقارئ العزيز أن يلحظها، وقد أعرضنا عن ذكرها حذراً من الإطالة.
المنهج الوسطي في الدعاء:
وقد عرفت عند عرض الأقوال، أن أصحاب هذا القول، هم الذين يخالفون القولين السابقين في إطلاقهما، فهم لا يقررون القبول بالدعاء بقول مطلق، فيأخذون به في كل شيء وفي كافة المجالات، كما أنهم لا يرفضون الدعاء بقول مطلق، فلا يرون له أي تأثير ولا قيمة أبداً. وإنما يتخذون حدّ الوسطية بين القولين، فهم يلتـزمون بأن الكون والوجود يقوم على مجموعة من الأسباب والمسببات، وأن هناك عوامل عديدة ذات دخالة وتأثير فيه، فيحتاج العبد إلى تحصيل جميع تلك العوامل المؤثرة حتى يتمكن من تحصيل ما يود تحصيله، فالرجل الذي لا ينجب، لا يكفيه لتحصيل الولد أن يقتصر على الدعاء فقط رغبة منه في بلوغ مناه بالإنجاب، بل يلزمه مراجعة الطبيب وتناول الدواء، ثم يضم إليهما الدعاء والابتهال إلى الله تعالى، لتحقيق رغبيته وأمنيته، وكذا من يطلب الرزق، يحتاج أن يعمل ويسعى بجد، ومن ثم يقوم بسؤال الله تعالى ودعائه، كي ما يوفقه لنيل الرزق، وتحصيل العطاء، وهكذا.
ولو تأملنا لوجدنا أن النصوص الدينية، سواء الآيات القرآنية، أم الروايات المعصومية مشيرة إلى هذا المعنى، خصوصاً وقد عرفت في ما تقدم، أنه ينبغي أن يتعاطى مع الدليل بملاحظة جميع ما ورد، فلا يقتصر على شيء من آيات القرآن، بل لابد من ضم الآيات بعضها إلى بعض، بل لابد من ملاحظة النصوص الشريفة، لأنها قد تتضمن تخصيصاً لما تضمنه الكتاب العزيز من عموم.
والحاصل، إن الدليل الشرعي، يساعد على القبول بالقول الثالث في التعامل مع الدعاء، ورفض القولين الآخرين[14].
شروط الدعاء:
يمكن تقسيم شروط الدعاء من خلال اللحاظات إلى ثلاثة أقسام:
الأول: شروط صحة الدعاء.
الثاني: شروط كمالا لدعاء.
الثالث: شروط استجابة الدعاء.
وغالباً ما يركز على ذكر القسمين الأول والثالث، ولا يتعرض للقسم الثاني، وكأن ذلك لاندراجه في أحد القسمين، إما الأول، أو الثالث.
فمن شروط صحة الدعاء، الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والإخلاص في الدعاء، وحسن الظن بالله عز وجل في الإجابة، واليأس من كل أحد غير الله تعالى.
ومن شروط كمال الدعاء، الكون على طهارة حال الدعاء، وأن يعمد إلى الدعاء بالمأثور عن المعصومين(ع)، دون الأدعية المخترعة، وهكذا.
ولعل الحديث عن هذين القسمين من الواضحات، بحيث أنه لا يحتاج بياناً، لذا سوف نقصر الكلام في خصوص القسم الثالث من الأقسام، وهو شروط الاستجابة للدعاء.
ومن المعلوم أنه حتى يستجاب الدعاء، لابد وأن يكون الدعاء صحيحاً، بمعنى أن أحد الشروط الأساس الموجبة للاستجابة الصحة، فلو لم يكن الدعاء صحيحاً، فلن يكون مستجاباً، ولهذا نحتاج في الحقيقة أن نبحث عن الأسباب التي تجعل الدعاء صحيحاً، كي ما يكون مستجاباً.
الأول: معرفة الله تعالى والإيمان به:
فلابد من حضور المدعو في وجدان وقلب السائل له، فإذا كان جاهلاً بالله تعالى، افتقر إلى الإجابة، أما لو كان دعائه بمعرفة، ضمن الإجابة، قال رسول الله(ص): لو عرفتم الله حق معرفته لزالت لدعائكم الجبال. وليس المقصود من المعرفة معرفة الذات، فإن ذلك مستحيل، وإنما المقصود هو معرفته بصفاته واسمائه الحسنى، وبمقدار المعرفة تكون مساحة الدعاء وحقيقته.
الثاني: الانقطاع عما سواه:
وهذا يستوجب أن يكون القلب خالياً من كل أحد سواه سبحانه وتعالى، فلو كان القلب مملوءً بشيء كان ذلك مانعاً من الانقطاع له سبحانه، ويلزم فراغ القلب من كل أحد. نعم قد لا يقوى الإنسان على تحقيق فراغ القلب في جميع الأوقات، فلا أقل من أن يكون القلب فارغاً حال الدعاء.
الثالث: حسن الظن بالله تعالى والرضا بما يكون:
وهذا الشرط يتضمن أمرين، أحدهما أن يحسن العبد ظنه بالله سبحانه وتعالى، في أنه يستجيب دعائه ويحقق له سؤاله، وهذا الأمر يكشف عنه دعاء العبد، فإن إقدامه على الدعاء، يفيد أنه يحسن الظن بمن دعا، وأنه يستجيب لدعائه، وقد أشير لهذا في النصوص، فعن الإمام الصادق(ع) أنه قال: إذا دعوت فأقبل بقلبك وظن حاجتك بالباب[15].
ثانيهما، أن يكون قانعاً بما يعطيه الله تعالى إياه، فلا يشترط عليه أمراً من الأمور، وأنه متى توفرت شروط الاستجابة كاملة، فالله تعالى قد كفل له الإجابة. وقد أشير لهذين الأمرين، في كلام الإمام الرضا(ع)، حيث قال: أحسن الظن بالله، فإن الله عز وجل يقول: أنا عند ظن عبدي المؤمن بي، إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً[16].
الرابع: التذلل والخضوع:
من خلال استحضار العبد للعبودية والخضوع بين يدي الله تعالى، فيقوم بين يديه مقام العبد بين يدي سيده، وتكون هيئته في ذلك الموقف كهيئة العبد.
الخامس: أن يقترن العمل بالدعاء:
فلا يقتصر الداعي على الدعاء فقط في تحصيل ما يصبو إليه، بل لابد أن ينضم للدعاء عمل أيضاً، فلو كان يطلب الهداية والصلاح، لزمه أن يقوم بترك المعاصي واجتناب السيئات، والمداومة على فعل الحسنات. وقد أكدت النصوص الشريفة على أهمية ضم العمل للدعاء كيما يترك أثره، فقد ورد عن النبي الأكرم محمد(ص) أنه قال لأبي ذر(رض): يا أبا ذر، يكفي من الدعاء مع البر ما يكفي الطعام من الملح، يا أبا ذر، مثل الذي يدعو بغير عمل كمثل الذي يرمي بغير وتر[17]. ولازم اعتبار العمل مع الدعاء، أن يكون لذلك تأثير في الاستجابة، فكأن الدعاء يمثل جزء علة، لا تمامها، والعمل يمثل الجزء الآخر[18].
أسلوب الدعاء:
لا يعتبر في أداء الدعاء أن يكون بكيفية معينة، بل يمكن للداعي أن يدعو بالطريقة التي يريد، ويعبر في دعائه بالأسلوب المناسب له، فالعامي الذي لا يحسن القراءة ولا الكتابة يمكنه أن يدعو الله تعالى وفق فطرته، ولغته، وإن كانت بعيدة عن المضامين العالية التي تشمل الحمد والتمجيد ومزيد الوصف للذات المقدسة بما هي أهله. والمتعلم يدعو بما يكون لائقاً ومناسباً بشأنه وموافقاً لكونه متعلماً، وكذا الفقيه أو العارف، فإنهما يدعوان على وفق ما يملكان من معرفة بالله تعالى، وهذا يستدعي أن تكون أساليب الدعاء مختلفة من شخص لآخر وفق ما يملك من معرفة ودراية بالذات المقدسة وعظمتها، فيكون دعائه متناسباً مع هذه المعرفة.
نعم هناك أسلوبان في أداء الدعاء يعتبر مراعاتهما، بحيث يستخدمهما الداعي أثناء دعائه، ولهما مدخلية في عملية الاستجابة، لكن لا بنحو العلة التامة، وإنما بنحو المقتضي، بمعنى أنهما يساعدان في حصولها، لا أنهما يضمنان تحققها، فإن الاستجابة قد تحصل من دونهما، وقد لا تحصل حتى مع توفرهما، والأسلوبان هما:
الأول: البدء والعرض الصوري الشكلي:
ويكون هذا الأسلوب من خلال مراعاة أمور:
أحدها: المدح والثناء على الباري سبحانه وتعالى، وحمده وتمجيده، فقد ورد عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: إذا طلب أحدكم الحاجة، فليثن على ربه، وليمدحه، فإن الرجل إذا طلب الحاجة من السلطان هيأ له من الكلام أحسن ما يقدر عليه، فإذا طلبتم الحاجة فمجدوا الله العزيز الجبار، وامدحوه وأثنوا عليه[19]. ويجد الداعي في الأدعية الواردة عن المعصومين(ع) في المأثور ما يتضمن أساليب المدح والثناء والتمجيد لله سبحانه وتعالى، فعليه أن يلتـزم بها. فلاحظ مثلاً ما جاء في دعاء يوم الجمعة: الحمد لله الأول قبل الإنشاء والإحياء، والآخر بعد فناء الأشياء، العزيز الذي لا ينسى من ذكره، ولا ينقص من شكره ولا يخيب من دعاه ولا يقطع رجاء من رجاه.
ثانيها: الصلاة على النبي محمد وآله(ص)، فقد روى أبو كهمس قال: سمعت أبا عبد الله الصادق(ع) يقول: دخل رجل المسجد، فابتدأ قبل الثناء على الله والصلاة على النبي(ص)، فقال رسول الله(ص): عاجل العبد ربه، ثم دخل آخر فصلى وأثنى على الله عز وجل وصلى على رسول الله(ص)، فقال رسول الله(ص): سل تعطه[20].
وقد ورد عنه(ص) أن الصلاة عليه(ص) توجب إجابة الدعاء، قال(ص): صلاتكم عليّ إجابة لدعائكم، وزكاة لأعمالكم[21].
ثالثها: الاقرار بالذنب، فبعد أن يقدم المدح والثناء لله سبحانه، ويثني بالصلاة على النبي(ص) وآله(ع)، يقر بذنبه، قبل أن يعمد إلى ذكر مسألته، وإلى هذا الترتيب يشير الإمام الصادق(ع) في قوله: إنما هي المدحة، ثم الثناء، ثم الإقرار بالذنب، ثم المسألة، إنه والله ما خرج عبد من ذنب إلا بالإقرار[22].
وليس لازماً على الداعي العمل على وفق الترتيب المذكور، بل يمكنه أن يقدم الثاني على الأول، وأن يؤخر الأول عن الثالث، بعد أن يجعل الثاني مقدماً، كما يمكنه أن يختزلها، فعوضاً أن تكون ثلاثة يقتصر على ذكر اثنين منها، وهكذا.
وبالجملة، إن المعتبر أن يلحظ مراعاة هذا الأسلوب في عملية الدعاء، رغبة في تحصيل موجبات الاستجابة.
الثاني: العرض التصديق والمعنوي:
وقد يعبر عنه بمحطات الخشوع، ويشير إليه قوله تعالى:- (ادعوا ربكم تضرعاً وخفية)[23]، فإن التضرع هو التذلل والخشوع والتواضع. وإليه يشير قول الإمام زين العابدين(ع): وأعني على التهجد لك بحسن الخشوع في الظُلم.
ولا ينبغي أن يغفل الداعون حال الدعاء عن دور التأمين بعد الدعاء، وما له من دخالة في تحقيق الإجابة، لذا يحسن أن يطلبوا من الحضور التأمين على ما يدعون به، فقد جاء عن الإمام الصادق(ع) قوله: كان أبي إذا حزنه أمر، جمع النساء والصبيان، ثم دعا وأمنوا[24].
ولا يتصور المؤمن أنه لا يستفيد من تأمينه على دعاء المؤمن، فقد أشارت النصوص إلى أنه شريك للداعي في أجره وثوابه، قال الإمام الصادق(ع): الداعي والمؤمن شريكان[25]. وربما يفهم من هذا أهمية الدعاء في وسط جماعة، ولو في بعض موارد الأدعية لا مطلقاً[26].
[1] سورة الطلاق الآية رقم 3.
[2] سورة البقرة الآية رقم 212.
[3] سورة الطلاق الآية رقم 3.
[4] سورة الشعراء الآية رقم 80.
[5] سورة
[6] وسائل الشيعة ج
[7] المصدر السابق
[8] سورة آل عمران الآية رقم 85.
[9] سورة البقرة آية رقم 203.
[10] سورة آل عمران الآية رقم 195.
[11] سورة النجم الآية رقم 40.
[12] سورة المؤمن الآية رقم 60.
[13] سورة البقرة الآية رقم 186.
[14] أضواء على دعاء كميل ص 15-40(بتصرف).
[15] أصول الكافي ج 2 ح 3 ص 473.
[16] أصول الكافي ج 2 ح 3 ص 72.
[17] وسائل الشيعة ج ب ح 3 ص
[18] الدعاء إشراقاته ومعطياته ص 57-61(بتصرف).
[19] أصول الكافي ج 2 ح 6 ص 485.
[20] المصدر السابق ج 2 ح 7 ص 485.
[21] أمالي الشيخ الطوسي ح 26 ص 215.
[22] المصدر السابق ج 2 ح 3 ص 484.
[23] سورة الأعراف الآية رقم 55.
[24] عدة الداعي ص 146.
[25] أصول الكافي ج 2 ح 1 ص 487.
[26] الدعاء إشراقاته ومعطياته ص 61-63(بتصرف)