جاء في دعاء مكارم الأخلاق: اللهم صل على محمد وآله، وبلّغ بإيماني أكمل الإيماني، وأجعل يقيني أفضل اليقين، وانته بنيتي إلى أحسن النيات، ولعملي إلى أحسن الأعمال[1].
مدخل:
لم تكن الغاية التي يسعى الإمام زين العابدين(ع) إلى تحقيقها تختلف عن الغاية التي كان يسعى لتحصيلها جده أمير المؤمنين، وعمه الإمام الحسن، وأبوه الإمام الحسين(ع)، وهي بناء الشخصية الإسلامية الرسالية، إلا أنه(ع) قد نهج منهجاً مغايراً للمنهج الذي كان عليه من سبقه من الأئمة(ع)، إذ اعتمد(ع) الدعاء منهجاً يتم من خلاله أداء الرسالة الإسلامية، وتبليغ معارفها.
ولا يخفى على أحد أن اختلاف الأسلوب والمنهج المتبع من قبل الإمام(ع) في توجيه الأمة، وهدايتها يعود إلى أسباب أوجبت ذلك، ونحن لسنا هنا بصدد الحديث عن تلك الأسباب، والظروف التي ساعدت على ذلك، بل نكتفي بالإشارة إلى أن الإمام زين العابدين(ع)، قد جعل الدعاء وسيلة لطرح القضايا الفردية والاجتماعية، والكونية والتواصل الوجداني.
وهذا يعني أنه(ع) قد تجاوز الصورة المعروفة للدعاء غالباً المتمثلة في صياغته للتواصل الوجداني، بحيث يتوجه الإنسان إلى الله سبحانه بغرض إشباع حاجاته الروحية، مثل رضى الله، وحمده، ومناجاته، فجعل(ع) الدعاء يشمل كافة الأصعدة التي تصاغ فيها الرسائل والخطب والأحاديث، بحيث يقوم الدعاء بما تقوم به تلك الأمور من طرح القضايا العبادية المختلفة، سياسياً، واجتماعياً، وأخلاقياً، وفكرياً، وعقدياً، وهكذا.
وتظهر صحة ما ذكر عند مراجعة أدعية الصحيفة السجادية، إذ يلمس الإنسان وبشكل واضح ذلك، لأنه يجد الإمام(ع) يتعرض للقوى الكونية، مثل حملة العرش، والرسل، كما يتعرض للظواهر الكونية مثل الأهلة، وعلى صعيد العلاقات الاجتماعية، نجد دعائه(ع) للأبوين، ودعائه للأولاد، وللخاصة، وللجيران، ودعائه لأهل الثغور يشير إلى الصعيد العسكري، وهكذا سائر القضايا الاجتماعية أو الفردية، أو العبادية العامة، فهناك أدعية لدفع الظلامات، وأدعية لدفع كيد الأعداء، ودعاء للاستسقاء، وهكذا.
هذا كله مع التوجه إلى ما تنطوي عليه هذه الأدعية من بعد توحيدي في مطلع كل واحد منها، يلتمسه القارئ.
دعاء مكارم الأخلاق:
وحتى لا يكون ما قدمنا ذكره مجرد دعوى تفتقر إلى الشاهد الداعم لها، والمثبت لتحققها، نذكر نموذجاً من أدعية الإمام زين العابدين(ع)يدل على ذلك، ونشير إلى معالجة من المعالجات المهمة التي قدمت فيه، والنموذج الذي نود ذكره هو دعاء مكارم الأخلاق، فإنه يعدّ وثيقة نفسية، لكونه يتناول سمات الشخصية الإسلامية، بحيث أن القارئ يلمس الطابع العام لهذه الشخصية في مختلف سماتها العبادية والاجتماعية والعقلية، وغير ذلك.
ولهذه السمات التي ذكرت في دعائه(ع) اسم في لغة علم النفس، إذ تعرف بنزعة المسالمة، وهي تكون في مقابل نزعة العدوان التي تجئ مفرداتها جزئية، مثل: بسط العدل، وكظم الغيظ، وإصلاح ذات البين، وهكذا.
الشخصية الإنسانية:
هذا ولكي نتعرف على أطروحة الإمام زين العابدين(ع) في الشخصية، نحتاج إلى التعرف على الأطروحات الأخرى، لذا نشير إلى بعض تلك النظريات المذكورة في كلمات علماء النفس، وعلماء الاجتماع.
المدرسة السلوكية:
وقد عرف مؤسسها واطسون الشخصية بأنها: مجموع الأنشطة التي يمكن اكتشافها عن طريق الملاحظة الفعلية للسلوك لفترة كافية بقدر الإمكان.
ويقصد مما ذكر أنه يمكن التعرف على الأفراد من خلال ملاحظة العادات والتصرفات التي تميز بعضهم عن البعض الآخر. وهذا يعني أن وسم شخصية بكونها شخصية هادئة، أو أخرى بكونها عدوانية، وثالثة بكونها إنطوائية مثلاً يعتمد اعتماداً كلياً على سلوكياتها، إذ يمكن إضفاء هذه الصفة على أي شخصية من الشخصيات وفقاً لملاحظة سلوكها، ومن ثمّ يقرر وسمها بواحد من هذه السمات، أو غيره.
ولا يذهب عليك أن التعريف المذكور لحقيقة الشخصية قابل للمناقشة، ذلك لأن هذه النظرية تعتبر المعيار الأساس أولاً وأخيراً في الشخصية هو السلوك، وما يقوم به الفرد في محيطه الخارجي، ولهذا اعترض معاصروه عليه بأنه قد أخطأ خطأً كبيراً عندما استبعد العمليات الداخلية التي تجري في الإنسان فلم يعرها أية أهمية لاعتقاده أنها لا تلعب دوراً في بناء الشخصية. مع أنه لا يشك اثنان أن للمستوى الثقافي والعقلي أثراً رئيسياً لا يمكن تقليل أهميته في بناء الشخصية.
مضافاً إلى أن هذه النظرية استبعدت المؤثرات الداخلية للسلوك الإنساني، كالإيمان والحاجات النفسية، والاجتماعية، ودورها مما لا يمكن إنكاره.
مدرسة السمات:
وقد اعتبر ألبرت الشخصية بأنها التنظيم الديناميكي داخل الفرد، ويقصد بعملية التنظيم، تنظيم العادات والاتجاهات العامة والخاصة والميول والعواطف، ويحصل نتيجة هذه العملية السمات الذاتية في الإنسان.
والإشكال في هذه النظرية هو تجاهلها الجانب العملي في الشخصية، فإن التفاعلات الداخلية لا ينكر أحد أثرها الكبير في صياغة الشخصية، لكن لا يمكن تجاهل ما يقوم به الإنسان من أعمال نتيجة لهذه التفاعلات في العملية البنائية.
وعليه، كانت هذه النظرية كسابقتها ناقصة بسبب تجاهلها العوامل الكامنة في الذات الإنسانية، والتي تدفع بالعادات والحاجات والميول والعواطف إلى التفاعل وإنتاج السمات الرئيسية.
مدرسة التحليل النفسي:
وصاحبها فرويد جاء بنظرية تشبه إلى حد ما نظرية ألبرت، والفرق بينهما في افتراض فرويد حول بناء هيكل ذلك النظام الداخلي، كيف ينمو، وكيف يتطور، وكيف ينعكس على السلوك؟ وأفرط فرويد في فرضيته بسبب نظرته إلى العمليات البيولوجية، وخاصة الدوافع الجنسية، حيث بالغ في التأكيد على أهمية الظروف البيولوجية الفطرية، ورأى أن للجنس أهمية في تكوين الشخصية. ولا يخفى أن الخلل بيّنٌ جداً في هذه النظرية.
وبالجملة، إن المتحصل مما تقدم ذكره أن علماء النفس لم يستطيعوا الوصول إلى حقيقة كاملة وشاملة لمعنى الشخصية، لأن ما ذكر في كلماتهم عبارة عن آراء ناقصة رفضتها مدارس علم النفس الأخرى.
أطروحة الإمام زين العابدين(ع):
هذا وقد قدّم الإمام زين العابدين(ع) وقبل أربعة عشر قرناً، وقبل ظهور علم النفس أو شيوعه، نظرية متكاملة للشخصية من خلالا لدعاء، وأجاب فيها على كافة التساؤلات التي لا زالت تدور في الوسط السكيولوجي، والتي لم يجب عنها في المدارس السكيولوجية.
وعندما نعود لأطروحة الإمام زين العابدين(ع) حول الشخصية الإنسانية، والتي يمكن التعبير عنها بالرؤية الإسلامية في مكونات الشخصية الإنسانية، ومن ثمّ سبل بنائها، نجد أنه(ع) قد لاحظ أمرين:
الأول: الدوافع الداخلية، ومنشأ هذه الدوافع.
الثاني: الاعتناء بالجانب العملي في الشخصية، وأبعادها والأجزاء التي تتركب منها.
ووفقاً لهذين الأمرين، كانت نظريته(ع) أشمل من المدرسة السلوكية، ذلك أنه قد أضاف إلى سلوك الإنسان الجوانب الأخرى المكونة للشخصية، كما أنها كانت أشمل من مدرسة السمات، لأنها جمعت بين السمات التي تتم في النفس نتيجة العوامل الرئيسة، من الإيمان والثقافة والحاجات والميول، وبين المؤثرات الداخلية والخارجية.
ولا يختلف اثنان في أن نظريته(ع) أوجبت جعل نظرية فرويد في سلة المهملات، فإنه قد عرّف علماء النفس أن المؤثرات الرئيسية في الشخصية والعناصر الأصلية في بنائها هي: الإيمان، والفكر، والثقافة، ونوايا الإنسان، وليس الجنس كما تقرر مدرسة التحليل النفسي.
مقومات نظرية الإمام زين العابدين:
هذا وتقوم رؤية الإمام زين العابدين(ع) في الشخصية الإنسانية بناءً على ملاحظة أركانها، إذ يقرر(ع) أن لها أركاناً أربعة:
1-الإيمان: وهو الذي يربط الإنسان بجوهر الحياة، ويمدّه بدوافع الحركة نحو تحقيق أهداف عليا، وهو البعد الذي يربطه بالغيب، والظواهر التي لا تقاس بالمادة.
2-اليقين: ولا يقصد منه العلم بما هو هو، بحيث يدخل فيه العلم البعيد المجرد عن الواقع، بل يقصد به علم من نوع خاص، وهو العلم بالشيء كما هو في واقعه، وهذا يعني أن يصل العلم الموجود عند الإنسان إلى حالة الاطمئنان. وهذا أنه لا يحصل اليقين عند شخص بكون الشمس طالعة ما لم يصل إلى درجة الاطمئنان بذلك.
ولا ريب في أن لليقين وسائل تكون سبباً لتحققه خارجاً، وتلك الوسائل هي العلم، والفكر والثقافة، بل هي يقين في نفس الوقت متى كان العلم والفكر مطابقين للواقع.
ووفقاً لما ذكر، سوف يلتـزم بأن ما يتحصل عليه الإنسان من علم وثقافة وفكر يكتسبه أثناء حياته يمثل جزءاً من شخصيته، ذلك أنها الحالة المثلى لحصول اليقين، وقد عرفت أنه أحد المقومات الأربعة لتكوين الشخصية الناجحة.
3-النية: وهي مفتاح العمل، والطاقة الكامنة في الإنسان، تدفعه إلى العمل، ويمكن التعبير عنها بأنها مجموعة من الدوافع والمحفزات الذاتية. وهذا يعني أنها المصدر الأساس لتحريك الإنسان وبعثه للقيام بالعمل، ولولا هذه الطاقة لما كان بمقدوره اختيار طريق الحياة الذي يلتـزمه لنفسه، لأن الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى.
4-العمل: وهو الذي يصطلح عليه علماء النفس والاجتماع بالسلوك. ويقصد منه ما تقوم به جوارح الإنسان من فعل. فنظر العين عمل، كما استماع الأذن عمل أيضاً، وحركة الرجلين عمل، وهكذا. فالعمل إذن الترجمة الكاملة لتلك الأركان الثلاثة.
الشخصية النموذجية:
ومع أننا قد أشرنا إلى أطروحة الإمام زين العابدين(ع) في بيان كيفية تكوين الشخصية الإنسانية، واستعراض أركانها الأربعة التي تقوم عليها، إلا أننا نجد أنه في دعاء مكارم الأخلاق، قد ركز على جانب أبعد من مجرد التكوين، كما يتضح ذلك بملاحظة المقطع الدعائي الذي افتتحنا به البحث، إذ نجد أنه(ع) لم يدعو إلى وجود عنصر الإيمان فقط، أو الدعوة لتحصيل اليقين، وكذا توفر مبدأ النية، فضلاً عن سلوك العمل، بل إن الملاحظ دعوته(ع) الصريحة إلى توفر أبعد من ذلك، فإن قوله(ع): وبلّغ بإيماني أكمل الإيماني، وأجعل يقيني أفضل اليقين، وانته بنيتي إلى أحسن النيات، ولعملي إلى أحسن الأعمال، لا يشير إلى مجرد تكوين الشخصية وبناء هيكليتها الخارجية والداخلية، بل يتضمن أبعد من ذلك. فإن التعبير بأكمل الإيمان، يعني أمراً أبعد من أصل وجود الإيمان، لأن الإيمان كما هو معلوم درجات، وليس درجة واحدة فقط. كما أن التعبير بأفضل اليقين لا يعني مجرد وجود اليقين، بل يشير إلى حصول معرفة متكاملة، والطريق إلى ذلك يحتاج طي مراحل. وأوضح من ذلك أحسن النيات، تعني الحالة التكاملية التي تكون في الإنسان، والسيطرة على النفس والكبح لما فيه من حاجات وشهوات يحتاج جهداً كبيراً وعملاً شاقاً لا يتسنى لكل أحد تحقيقه. وأحسن الأعمال، كل ما يكون موازياً لتحقيق الخير والأعمال الحسنة.
وبالجملة، إن التعبيرات المذكورة والصادرة عن الإمام زين العابدين(ع)، تشير إلى لزوم بلوغ الشخصية الإنسانية أعلى مستويات التكامل والرقي، وكأنه(ع) يذكر أن الشخصية الإنسانية بين رتبتين، أدنى ما ينبغي أن تكون عليه، وأعلى ما ينبغي أن تصل إليه، فما قدم ذكره من اعتماد تقومها على أركان أربعة يمثل أدنى ما يتصور في وجود الشخصية الإنسانية، بينما ما يذكره(ع) في هذا المقطع الدعائي، هو أعلى ما ينبغي أن تصل إليه من الرقي والكمال، فلاحظ.
والحاصل، إن المقطع الدعائي المذكور يشير إلى الشخصية النموذجية التي ينبغي أن توجد خارجاً.
[1] الصحيفة السجادية.