قال تعالى:- (الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق* والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب)[1].
مدخل:
نسمع دائماً عن الجنة، وأن الله سبحانه وتعالى قد خلقنا من أجلها، ولم يخلقنا من أجل أن يدخلنا النار، كما نسمع أنه تعالى لم تكن غايته من خلقنا تعذيـبنا، وإنما خلقنا لينعمنا، ويشهد لذلك خلقه سبحانه وتعالى هذه النعم الكثيرة التي لا تحصى في عالم الدنيا، ومن الطبيعي أن هذا يوجد تساؤلاً عند كل ما يسمع ما ذكرنا، وهو: ما هو الطريق للوصول إلى الجنة، وكيف يمكن لفرد منا أن يكون من أهلها، وهل يلزم وجود صفات معينة حتى يكون الشخص من أهل الجنة، أم أن كل أحد يمكنه نيل ذلك وتحقيقه؟ كل هذه التساؤلات تكثر متى كان الحديث عن الجنة، ومتى كان الكلام عمن يدخلها ومن لا يدخلها.
ومن المعلوم أن هذه التساؤلات لا تبقى دونما إجابة، بل لابد وأن تكون هناك إجابة عنها، وعادة ما تأخذ الإجابة المقدمة في هذا المضمار أحد شكلين:
الأول: أن تكون إجابة مختزلة عامة، فيذكر أن كل من أطاع الله سبحانه، فإنه يستحق الجنة.
ومع أن هذه الإجابة صحيحة في نفسها، لكنها لا ترضي طموح السائل، ولا تشبع نهمه، فإنه يرتقب أن يكون الموضوع أكثر وضوحاً عنده حتى يتسنى له أن يعرف طريق الوصول ونيل الغاية وتحقيق الهدف.
الثاني: أن تكون الإجابة إجابة تفصيلية، فتتضمن عرض خطوات وصفات من يدخل الجنة، ومن الطبيعي أن ذلك يستوجب عرض مواصفات من لا يسوغ له دخولها، بمقتضى المقابلة.
ولا يخفى أن الكل يستحسن الإجابة الثانية، إذ أنها تجعل المتلقي أقرب إلى نيل الغرض وتحقيق المطلوب، ووفقاً لهذا يأتي دور سؤال آخر، مفاده: ما هي تلك الصفات التي متى توفر عليها المكلف، وحصلّها المؤمن كان من أهل الجنة؟ هذا ما تجيب عليه هذه الآيات محل البحث، فإن القارئ لها يجد أنها تضمنت عرض ثمان صفات من حصلها جميعاً كان من أهل الجنة[2]، بل من حصل بعضها كان كذلك أيضاً، ويشهد لذلك ما جاء في ذلك الآيات الشريفة، يقول سبحانه وتعالى:- (أولئك لهم عقبى الدار*جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم)[3]، فإن هاتين الآيتين جائتا تعقيباً على تعداد الصفات التي نحن بصدد الحديث عنها، وبعدما استكملتها أشارت إلى أن المالكين لتلك الصفات لهم جزءان أخرويان:
الأول: جزاء خاص يعود نفعه عليهم فقط، فهو يتعلق بهم أنفسهم، وذلك بإدخالهم إلى الجنة.
الثاني: جزاء خاص بهم أيضاً، إلا أن نفعه لا يعود عليهم، وإنما يعود لذويهم، بإدخال الصالحين من آبائهم وأزواجهم وأولادهم إلى الجنة.
صفات أهل الجنة:
وعلى أي حال، فالصفات الثمان التي وردت في الآيات الشريفة، هي:
1-المحافظة على نقاوة الفطرة البشرية سليمة دون تدنيس.
2-صلة ما أمر الله سبحانه وتعالى به أن يوصل. 3-الخشية من الله سبحانه.
4-الخوف من الله تعالى. 5-الصبر ابتغاء لوجه الله عز وجل. 6-إقامة الصلاة.
7-الإنفاق في سبيل الله سراً وعلانية. 8-درء السيئة بالحسنة ودفعها.
ومن لطيف ما ذكر، أن هذه الصفات ثمان، وقد عدّت النصوص للجنة أبواباً ثمانية، فكأن كل واحدة من هذه الصفات تمثل باباً من أبواب الجنة[4]، وهذا يعني أن وجود صفة واحدة من هذه الصفات داعية لدخول المتصف بها إلى الجنة متى كان متوفراً على الدواعي الأخرى للدخول[5]، وهو ما يعبر عنه في المنطق بمانعة الخلو، نعم وجود أكثر من صفة، فضلاً عن الصفات بأكملها يعطي امتيازاً لمالكها، فيمكنه انتخاب أي باب أراد الدخول، مضافاً إلى أن ظاهر الأبواب الإشارة إلى الطبقات والمنازل، فيكون له أن يتخذ أي طبقة ومنزل محل سكنى وقرار، فلاحظ.
وعلى أي حال، ما دمنا قد تعرفنا على أصل الصفات اللازمة لدخول المكلف الجنة، فلنعمد إلى التعرف عليها بصورة مفصلة كي ما يتسنى لنا امتلاكها والاتصاف بها، لكي نستحق الدخول إلى الجنة.
نقاوة الفطرة البشرية وسلامتها:
وقد عدت أول صفة يلزم اتصاف أهل الجنة بها هي الوفاء بعهد الله تعالى وميثاقه، وأول ما يتبادر إلى الذهن، هو أن هذين التعبيرين، العهد والميثاق، هل هما أمران مختلفان لكل واحد منهما حقيقة تغاير حقيقة الآخر، أم أنهما عنوانان يشيران لحقيقة واحدة، قد يعبر عنها تارة بالعهد، ويعبر عنها أخرى بالميثاق؟ ومن الواضح جداً ترتب الأثر العملي على هذا الاختلاف، فوفقاً للبناء على التعدد سوف يختلف عدد الصفات فيزيد، بخلافه لو بني على الاتحاد، فإنه سيحكم بعدم الزيادة في عدد الصفات، فلاحظ.
والظاهر أنهما أمر واحد، وليسا وصفين مختلفين، والعطف بينهما إنما هو عطف تفسيري ليس إلا، فالميثاق، هو تفسير للعهد.ولا مجال للقول بأنهما أمران مختلفان.
العهد والميثاق:
وعلى أي حال، ما يهمنا في البين هو معرفة المقصود من العهد والميثاق الذي يلزم أن يحصله المكلف كي ما يملك أول صفات أهل الجنة، هناك عدة احتمالات، نشير إلى أهمها:
منها: ما أختاره السيد العلامة الطباطبائي(ره)، من أن المقصود من العهد في الآية الشريفة هو العهد التكويني، ونعني بالعهد التكويني، ما أودعه الله سبحانه وتعالى في المخلوق البشري من جوهر العقل والفطرة الذي جعل الرابط بين العبد وبين ربه، ولو استخدمه الإنسان استخداماً صحيحاً حصلت الرابطة الوثيقة بينه وبين الله تعالى، فالطائعون العابدون يستفيدون منه، إلا أن الفاسقين يصنعون أعمالاً تؤدي إلى وجود حواجب تمنعهم من نيل الخير والوصول إلى السعادة.
وبالجملة، هناك شيء أودعه الله تعالى في المخلوق البشري منذ خلقته الأولى، لو حافظ عليه وسعى لتقويته ورعايته كان ذلك سبيله للخير والصلاح، ومتى عمد إلى إهماله حتى يخبت ويختفي، كان ذلك وبال عليه، وسبيل للضياع.
ومنها: أن يكون المقصود من العهد في الآية الشريفة هو العهد التشريعي، من القرآن الكريم والشريعة السمحاء المحكمة المبرمة من جميع جهاتها الميسرة التي لم تكن غريـبة على العقول البشرية وفطرتها، لأننا نعتقد أن التشريعات السماوية جميعها خاضعة لمصالح ومفاسد، وأن جميع المصالح والمفاسد تتوافق مع الحسن والقبح العقليـين، فلا يتصور تشريع أمر إلزامي بفعله إلا وفيه مصلحة تتوافق ومبدأ الحسن العقلي، كما أن النهي عن أمر يشير إلى وجود مفسدة فيه، وظلم، نعم العقل البشري يعجز عن إدراك جميع المصالح والمفاسد التي تشرع عليها التشريعات السماوية.
والحاصل، فإن بين التشريع السماوي وبين الفطرة البشرية توافق وتجاذب، لأنهما خاضعان لمبدأ عقلي قائم على الحسن والقبح، كما أنهما يتفقان على مبدأ المصلحة والمفسدة.
ومنها: إن العهد الإلهي يقصد به نبوة النبي محمد(ص)، وقد أخذ الله عز وجل هذا العهد على أهل الكتاب ليصدقوا النبي(ص) ويؤمنوا بنبوته وفقاً لما ذكر عندهم في التوراة والإنجيل والزبور، إلا أنهم لما بعث(ص) نكروه وكذبوه، وحاربوه ونقضوا كل ما هو مذكور حول شخصيته، على الرغم من إبرامه ووضوحه وإحكامه، قال تعالى:- (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون)[6].
ومنها: الإمامة والولاية والحجة القائمة على عباده التي أثبتها الله سبحانه بالضرورة العقلية قبل الشرع، بأن الأرض لا تخلو من حجة وواسطة بينه سبحانه وبين عباده يملك الصفات النبوية ويؤدي نفس الدور الذي يؤديه النبي(ص) إلا أنه لا يوحى إليه، وهو كالنبي يكون تعيـينه من الله سبحانه، لا يتدخل في تعيينه البشر، قال تعالى:- (قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين)[7]، فعبر عن الإمامة الإلهية بالعهد[8].
والظاهر من هذه المحتملات هو ما أختاره سيدنا العلامة(ره)، ويمكننا تعميق مختاره، ومن ثمّ يتضح الاستدلال له من خلال الالتفات إلى أن الله سبحانه قد خلق الإنسان وأودع فيه شعوراً خاصاً وقوى خاصة يهتدي من خلالها إلى الطريق الصحيح، ويتجنب بواسطتها مزالق الشيطان، وأهواء النفس، ويستجيب إلى داعي الله تعالى، وهذا الشعور المودع في المخلوق البشري هو الذي يعبر عنه بالعهد الإلهي، ولا ريب أنه وفقاً لهذا المعنى سوف يكون العهد عهداً تكويناً، ولا ربط له بالجانب التشريعي، كما أنه لا يمكن أن يكون المقصود منه نبوة النبي(ص)، لما عرفت من أنها ناظرة لما كان مع أهل الكتاب، وليس بصدد الحديث عن صفة أهل الجنة، على أن المعنى الرابع للعهد وإن كان حسناً، إلا أنه يمكن أن ينطوي تحت العهد التكويني، فلاحظ.
ويمكن أن يستفاد هذا المعنى الذي قلناه في المقصود من العهد في الآية الشريفة من خلال قوله تعالى:- (ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين)[9].
صلة ما أمر الله أن يوصل:
وأما الصفة الثانية التي من أتصف بها كان من أهل الجنة، أن يكون ممن يصلون ما أمر الله به أن يوصل، وهذا التعبير أعني يصلون ما أمر الله به أن يوصل مقابل ما ورد من الحديث عن صفات أهل النار أنهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، فعبر عن أهل النار بالقاطعين، والتعبير عن أهل الجنة بالواصلين بما أمر الله به أن يوصل، وعلى أي حال، ففي هذه الصفة مفردتان، نحتاج التعرف عليهما: إحداهما: الوصل، وثانيهما أمر الله، ومن الطبيعي جداً أن تحصيل هذه الصفة والاتصاف بها رهين معرفة أمر الله تعالى، حتى يتسنى للمكلف وصله، لأن ما يوصل متوقف على أمر الله، إذ أن الصفة هي وصل ما أمر الله به أن يوصل، فلابد أن نعرف أولاً ما هو الذي أمر الله سبحانه به أن يوصل، ثم بعد ذلك نعمد إلى وصله.
وعليه، فما هو المقصود من الوصل، وما هو المقصود من أمر الله تعالى؟
أمر الله:
لنبدأ في البداية ببيان المقصود من أمر الله تعالى، وليكن ذلك من خلال الرجوع للقرآن الكريم، فإن المتأمل في آياته الشريفة يجد أن هذا التعبير(أمر الله) قد استعمل فيه في ثلاثة معاني:
الأول: الأمر التكليفي التشريعي، ويقصد منه ما يكون متضمناً لسن قوانين وتشريعات سماوية، وقد أشير إليه في القرآن الكريم في غير واحدة من الآيات المباركة، قال تعالى:- (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي)[10]، فإن التعبير بكلمة يأمر إشارة إلى أمر تكليفي تشريعي، فهو من جهة إلزام، ومن جهة أخرى يتضمن تقنينا وتشريعاً سماوياً، لذا عبر عنه بالأمر الإلهي التكليفي التشريعي. ومثل ذلك قوله تعالى:- (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)[11].
الثاني: الأمر القضائي التكويني، وهو ما يكشف عن تحقق القضاء الإلهي وحصوله خارجاً بصورة حتمية غير قابلة للتبدل والتغير، مثل قوله تعالى:- (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)[12].
الثالث: الأمر الشأني، وهو ما يكون من شأن الذات المقدسة ومرتبطاً بها دون غيرها من بقية الموجودات، وإن شئت عبر عنه بأنه الأمر الخاص بالذات الإلهية، وهذا منه قوله تعالى:- (ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي)[13].
ولا يخفى أن المعنى الثالث بعيد جداً عن أن يكون مقصوداً في محل بحثنا لما عرفت من أنه أمر خاص بالذات الإلهية، فلا معنى لأن يأمر الله تعالى أن يوصل ما هو خاص بذاته تعالى، كما أن الأمر الثاني أيضاً بعده واضح، لأنه أمر تكويني، ولا ريب أنه لا يتصور أن يصدر الأمر منه تعالى بإيجاد أمر تكويني، أو وصله وهو مما لا ربط للإنسان به وجوداً أو إعداماً، فينحصر الأمر عندها في خصوص المحتمل الأول، وهذا يعني أن المقصود من الأمر الذي يطلب الله تعالى أن يوصل هو أمر تكليفي تشريعي، فما هو هذا الأمر التكليفي التشريعي الذي يطلب الله تعالى أن يوصل؟
قبل أن نذكر المحتملات الموجودة في المقام، نود أن نشير إلى أن الأمر التكليفي التشريعي يخضع كما ذكرنا قبل قليل في جعله إلى نظام المصلحة والمفسدة، فلا يتصور جعل أمر أو النهي عن شيء إلا وفقاً لهذا القانون، وقد يدرك العقل البشري ذلك، وقد يعجز، وإن شئت فقل: إن بعض المصالح واضحة الصورة جلية يمكن لكل أحد أن يراها، وبعضها ليست كذلك، لذا لا يملك المكلف أمامها إلا التسليم والانقياد لها تعبداً.
ولنعد لما نحن فيه، من معرفة الأمر الإلهي الذي لابد من وصله ليتصف المكلف بصفة أهل الجنة، هناك احتمالات:
منها: القرآن الكريم، إذ أن الله تعالى يريد وصوله إلى الجميع حتى يستفاد منه، وقد أشير إلى هذا في قوله تعالى:- (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون)[14]، إلا أن هناك من يمنع عن ذلك استناداً إلى وسائل متعددة، فمرة بعرض التشكيكات حوله، وأخرى بعرض الشبه حول نزوله، وثالثة بعرض التهم للموحى له به، وهكذا.
ومنها: التلاحم الاجتماعي، من خلال الترابط والتواصل بين الناس، لأن النهج الإلهي يضمن سعادة الناس وأمانهم في الدنيا نتيجة الالتـزام بالسبل التي تقوي الترابط والتواصل من صلة الرحم، ومساعدة الفقراء، وزيارة المرضى والكلمة الطيبة والعفو عن المسئ.
والحاصل، كلما حصل الالتـزام بالأوامر الإلهية كان ذلك سبيل للسعادة البشرية، وعلى العكس كلما حصل الابتعاد عن الالتـزام بما أمر الله به أن يوصل كلما تقطعت الأواصر ترتبط الإنسان بالآخر.
ومنها: العبادة، ذلك أنها تمثل الصلة التي تربط بين العبد وربه، وهي الطريق للقرب منه تعالى والوصول إليه[15].
المختار في المقصود مما يوصل:
هذا وحتى يمكننا تحديد المقصود مما أمر الله سبحانه وتعالى به أن يوصل، لابد أن نعرف الصلات التي أمر الله سبحانه بها أن توصل
1-صلته بربه سبحانه وتعالى: وهي تمثل النقطة الأساس لوجوده في عالم الدنيا، والسعادة في عالم الآخرة، ضرورة أنه لو عمد إلى قطعها كان ذلك سبب هلاكه، ولا ريب أن هذه الصلة ذات بعدين، إذ فيها بعد تكويني، كما أن فيها بعداً تشريعياً، فكما أنها تتضمن الاعتراف لله تعالى بالحاكمية المطلقة والربوبية الكبرى، وأنه عبده ومملوكه، فإنه مطالب أيضاً أن يلتـزم ما صدر عنه تعالى من أوامر والتـزام بأحكام ومقررات.
2-صلته بقيادته الشرعية: ونعني بقيادته الشرعية الأنبياء والمرسلين منه سبحانه وتعالى، ومن بعدهم الأئمة الهداة، خلفاء الأنبياء وأوصيائهم الذين يقومون مقامهم في إدارة شؤون الأمة، فكما يلزم الاعتراف لمحمد(ص) بالنبوة والرسالة، لابد من الإقرار لأمير المؤمنين(ع) والأئمة من بعده،(ع)، بأنهم خلفاء رسول الله(ص) المنصوص عليهم من قبله سبحانه وتعالى.
ومن الطبيعي أنه في عصر الغيبة المظلمة، تتمثل القيادة في حال غيبتنا عن القيادة المعصومية في المرجعية الدينية، فهي تمثل اليوم قيادتنا التي لابد وأن نعمد إلى الارتباط بها والاتصال بها، والقيام بصونها عن كل إساءة أو إيذاء، فضلاً عن أن تمس بسوء من قريب أو بعيد، ويدخل في ضمن الانقياد لهذه القيادة عدم التشكيك في نزاهتها، ولا نزاهة من يرتبط بها، سواء وكلاء أو قائمون بشؤونها.
3-صلته بمجتمعه: ويتمثل ذلك من خلال قيامه بالمسؤوليات الملقاة على عاتقه، بأدائه الحقوق والواجبات التي ترتبط به، من أمر بمعروف ونهي عن منكر، فضلاً عن القيام بحقوق الآباء والأمهات، والأهل، وهكذا.
4-صلته بنفسه: فهو مأمور بحفظها، وإصلاحها وتكاملها.
والظاهر أن المقصود بالصلة في الآية الشريفة الأمور الأربعة التي ذكرناها، خصوصاً بملاحظة أن المتعلق محذوف، وقد تقرر في علم الأصول أن حذف المتعلق علامة العموم، فعليه يكون المقصود مما أمر الله به أن يوصل، هذه الأمور، فهو مطلوب أن يصل علاقته بربه بقسميها التكويني والتشريعي، كما هو مطالب بصلة القيادة الشرعية، وكذا يصل مجتمعه، وأخيراً لابد وأن يصل نفسه من خلال الحفاظ عليها وصيانتها من الوقوع في الخطأ، فضلاً عن أن تكون من أهل الهلاك والنار.
ومقتضى ما قدمنا، أن الصلة لكل واحد مما ذكر سوف يكون بحسبه، فالعقيدة وصلها بجعلها راسخة في النفس، والأحكام التكليفية يكون وصلها من خلال العمل بها والمواظبة عليها، كما أن وصل النبي(ص) يكون بالاهتداء بهديه والعمل بما جاء به، والصلة للرحم تكون من خلال التآلف، والسؤال عنه، وهكذا[16].
الاتصال بالله تعالى:
هذا ونحن بصدد الحديث عن صفات أهل الجنة، وأنه يعتبر فيه أن يوصل ما أمر الله تعالى به أن يوصل، وقد عرفنا أن أحد ذلك أن يصل علاقته بربه، فربما يسأل سائل، ما هو الطريق للصلة بالله سبحانه وتعالى، إذ أن الكثير ربما يرغب أن يكون من الواصلين إليه تعالى، فما هو الطريق لذلك؟
يمكن للإنسان أن يصل إلى الله تعالى من خلال سبل متعددة، لكننا نقصر الأمر على أمرين، مضافاً لما تقدم من صلته لما أمر الله به أن يوصل، وهما:
1-الصلاة، فإنها صلة بين العبد وربه، بما تحويه من ذك ودعاء وركوع وسجود، ولا ريب في أنه مع الدوام عليها يدوم الاتصال به تعالى.
2-ذكر الله، فإنه الإنسان الذي لا ينفك يلهج بذكر الله تعالى، ولا يفتر لسانه عن ذكره، لن يكون ناسياً إياه، فضلاً عن أن يكون بعيداً عنه.
خاتمة:
هذا ونجد الصورة الجلية لهاتين الصفتين اللتين تحدثنا عنهما، بل وغيرهما من الصفات في شخصية سيدنا ومولانا الإمام زين العابدين(ع)، فقد كان أنموذجاً حياً للعلاقة بالله سبحانه وتعالى، كما أنه أبرز صورة الوصل لما أمر الله تعالى به أن يوصل في كافة نواحيه، سواء في صلته بربه في بعديه التكويني والتشريعي، كما أن صلته بقيادته الشرعية لا تحتاج بياناً، كما يلحظ ذلك من يقرأ أدعية الصحيفة، فضلاً عن ملاحظة مدى علاقته بأبيه الإمام(ع)، وهذا دوره في قيامه بالمسؤولية الاجتماعية يبرز حقيقة صلته بمجتمعه، وأما الحديث عن صلته بنفسه فلا يحتاج بياناً.
[1] سورة الرعد الآيتان رقم 20-21.
[2] أود أن ألفت نظر القارئ العزيز إلى أن تحديد عدد الصفات لا يخضع لضابطة محددة متفق عليها بين أعلام التفسير، لذا قد يجد القارئ تفاوتاً في العدد، وهو أمر لفظي، نعم وفقاً لمحتمل سوف نحكيه بعد، لن يكون الأمر لفظياً، فلاحظ.
[3] سورة الرعد الآيتان رقم
[4] الأمثل في تفسير القرآن المنـزل ج 7 ص341.
[5] هذا ما أشرنا له في تعليقة سابقة، من أن تحديد الصفات بعدد معين قد يؤثر على بعض الاستنتاجات والاستظهارات، كما في مقامنا، إذ لو جعلنا الصفات أكثر من ثمان، فلا ريب لن يتسنى لنا تطبيق روايات عدد أبواب الجنة على الصفات، فلاحظ.
[6] سورة آل عمران الآية رقم 187.
[7] سورة البقرة الآية رقم 124.
[8] التجديد ج 1 ص 296-297.
[9] سورة يس الآية رقم 60.
[10] سورة النحل الآية رقم 90.
[11] سورة النساء الآية رقم 58.
[12] سورة يس الآية رقم 82.
[13] سورة الإسراء الآية رقم 85.
[14] سورة القصص الآية رقم 51.
[15] التجديد ج 1 ص 299-300.
[16] مواهب الرحمن ج 1 ص