اعتبار العلم بالمعروف والمنكر:
بعد هذا يقع الحديث في الشروط التي ذكرها الأعلام:
الأول: اعتبار العلم بالمعروف والمنكر:
يعتبر في من يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن يكون عالماً بالمعروف وأنه كل فعل حسن أوجبته الشريعة المقدسة، أو ندبت إليه مثلاً، ومحيطاً بالمنكر وأنه كل فعل كرهته الشريعة المقدسة، فحرمت فعله أو حثت على التنـزه عنه، حتى يحصل له الأمن من الوقوع في الخطأ والاشتباه، حال قيامه بذلك، وهذا يعني أن الجاهل بالمعروف لا يجب عليه الأمر بالمعروف، كما أن الجاهل بالمنكر لا يجب عليه النهي عن المنكر.
ومقتضى ما تقدم، هو البناء على أنه لا يجب على المكلف أن يتعلم المعروف، ويتعرف على المنكر حتى يقوم بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لأن من الواضح أن شرط العلم بهما من شروط الوجوب، وليس من شروط الواجب، وقد عرفت أن ما كان شرط وجوب، فإنه لا يجب على المكلف تحصيله، بخلاف شرط الواجب، فلاحظ.
نعم لو بني على أن هذا الشرط من شروط الواجب، كما هو مختار الإمام الخميني(ره)، والسيد الحكيم(حفظه الله)، لوجب على المكلف تعلمهما، كما لا يخفى.
استثناء حال التعين:
ومع أن السيد السيستاني(أطال الله في بقائه)، من القائلين بكون هذا الشرط من شرائط الوجوب، إلا أنه قد ألتـزم بوجوب تعلم المعروف والتعرف على المنكر، ولا يخفى أن هذا إنما يكون في حال كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متعيناً في من لا يمكن تحقق أداء هذه الوظيفة إلا به، ويمكن أن نذكر لذلك موردين:
الأول: إذا تعين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في شخص ما، لعدم وجود من هو أجدر منه للقيام بذلك، كما لو كان الأمر بالمعروف يحتاج شخصاً يمتلك قدرة جسدية خاصة، أو يمتلك دراية ومعرفة ببعض الأساليب الفنية في عملية الإقناع، أو يكون ذا شخصية روحية خاصة ومعينة، لها أبلغ الأثر في التأثير على الآخرين، وكان ذلك كله منحصراً في زيد مثلاً، فإنه يجب عليه حينئذٍ أن يتعلم المعروف ويتعرف على المنكر، حتى يتمكن من أداء هذه الوظيفة، ويقدر على مواجهة الفساد، والقيام بالواجب المنحصر فيه.
الثاني: إذا تعين القيام بأداء هذه الوظيفة في جماعة معينة قادرة على ذلك، لولا جهلها بالمعروف والمنكر، فإنه يجب على هؤلاء التعلم، كي ما يتسنى لهم القيام بأداء هذه الوظيفة.
الأحكام الابتلائية:
ولا ينبغي الخلط بين المعروف والمنكر الذي عرفت أن العلم بهما-وفقاً للمعروف والمشهور-من شروط الوجوب فلا يجب تحصيله، وبين الأحكام التي يبتلى بها المكلف في سلوكه وعلاقاته، وعباداته، ومعاملاته، فإن هذه الأمور مما يجب عليه أن يتعلمها حتى يمتلك مقداراً من العلم يتمكن من خلاله القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من باب المقدمة للأمر والنهي، ما يعني أنه من شروط الواجب، وليس الوجوب كما هو واضح. نعم هل يجب عليه أن يتعلم أكثر من ذلك، مما لا يكون داخلاً في دائرة ابتلائه، ومورد وقوعه فيها؟ الظاهر أنه لا يجب عليه ذلك.
المقصود من العلم:
قد عرفت أنه يعتبر في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن يكون الآمر عارفاً بأن المتروك معروف، ليأمر به، وأن الذي يفعل منكر، لينهى عنه، وأنه ما لم يكن له علم ومعرفة بذلك، فلا يجب عليه الأمر ولا النهي.
ويقصد من العلم الذي يتوقف وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على توفره عند المكلف، مطلق المعرفة، والإحاطة بالمعروف والمنكر، سواء حصل ذلك من خلال القطع واليقين، بأن قطع بأن هذا معروف، أو تيقن بأن هذا منكر، أم كان حصوله بواسطة أحد الطرق المعتبرة، كالاجتهاد، أو التقليد، فلو قلد شخصان مثلاً من يقول بحرمة اللعب بآلات القمار مطلقاً حتى للتسلية، فوجد أحدهما صاحبه يلعب بها تسلية، وجب عليه نهيه عن المنكر، لأنه وفقاً لفتوى المرجع يكون اللعب بها منكراً. وكذا لو قلدا من يقول بوجوب الخمس في الأموال المذخرة لبناء دار للسكنى، وامتنع صاحبه عن دفع الحق من تلك الأموال، وجب عليه أمره بدفعه، لأن أداء الخمس من تلك الأموال يعتبر معروفاً.
شمول المورد للاحتياط:
نعم لو حصل العلم بالمعروف أو المنكر من خلال التقليد مثلاً، إلا أن الصادر من المجتهد، لم يكن فتوى، وإنما كان احتياطاً لزومياً، ووجد أحد المكلفين صاحبه يخالف العمل بذلك الاحتياط اللزومي من دون الرجوع لفقيه آخر، فهل يلزمه حينئذٍ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟
لا يخفى أن هذا يعتمد على صدق عنوان المنكر على مخالفة الاحتياط اللزومي، وأنه ينطبق عليه عنوان الحرمة الشرعية، ليكون موجباً للفسق، كما عن الإمام الخوئي(ره)، وعليه فيلزم النهي عنه. أما لو كانت مخالفته لا توجب فسقاً، كما هو مختار السيد السيستاني(أطال الله في بقائه)، وإنما هو مخالفة لحكم العقل ليس إلا، فالظاهر عدم صدق المنكر الشرعي عليه الذي عرفت أنه المعيار في وجوب الأمر والنهي، وعندها فلا يجب أمره بمعروف، ولا نهيه عن منكر، فتأمل.
اختلاف المكلفين:
ولو علم المكلف بالمعروف، أو عرف المنكر، بأحد الطرق المعتبرة، ووجد من يقوم بترك المعروف، أو يفعل المنكر بنظره، لكنه كان بنظر التارك أو الفاعل ليس معروفاً، ولا منكراً، فليس له القيام بأمهر ولا نهيه، فلو كان زيد يقلد من يقول بتخصيص حرمة الغيبة في خصوص ما إذا ذكر الشخص بقصد الانتقاص، وكان الآخر يقلد من يقول بأن الغيبة مطلقة، شاملة لما إذا ذكر بنحو الانتقاص، أو بدونه، فليس لمن يقلد القائل بالسعة في حرمة الغيبة أن يأمر المقلد لمن يقول بتخصيصها لو وجده يذكر شخصاً بعيب يكرهه، ولم يحرز أنه يقصد منه الانتقاص.
جهل الفاعل بالمنكر:
لو كان الفاعل للمنكر مقدماً على فعل المنكر جهلاً منه بكونه منكراً، كما لو ترك المكلف الصلاة جهلاً منه بوجوبها، أو جهلاً منه ببلوغه لتجب عليه، أو غفلة ونسياناً، فلا يجب والحال هذه أمره بمعروف، ولا نهيه عن منكر، فالمرأة الحائض التي طهرت قبل خروج القوت بقليل، لو لم تكن تعلم بوجوب الصلاة عليه في هذه الحالة، وكان زوجها يعلم بوجوبها عليها، فلا يجب عليه أن يأمرها بأداء الصلاة، نعم هو مستحب، وأمر مندوب بلا إشكال.
وبكلمة، إن وجوب الأمر والنهي إنما يجبان إذا كان التارك للمعروف، أو الفاعل للمنكر عالماً بأن ما تركه معروفاً، وما فعله منكراً، وإلا يكون من المستحب، فلاحظ.