ذكرت عدة تعاريف لعلم الأصول نشير إلى بعضها على نحو الإجمال والاختصار فنقول:-
عرّف القدماء علم الأصول بأنه:-العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية بقسميها الواقعية والظاهرية.
ولا يخفى أن مقتضى تعميم الأحكام الشرعية بحيث تشمل كلا القسمين هو منع ما يورد عليه من عدم شموله للأصول العملية.
نعم يلاحظ عليه أولاً: إنه غير مانع من دخول الأغيار لأنه سيشمل القواعد التي تقع في طريق الاستنباط مع أنها ليست من علم الأصول كالمسائل اللغوية أو المسائل الرجالية.
ثانياً: إنه غير جامع فلا يشمل الأصول العملية العقلية لأنها ليست ممهدة لاستنباط الحكم الشرعي وكذلك الظن في ظرف الانسداد لو كانت حجية الظنون بنحو الحكومة.
ثالثاً: إن هذا التعريف لا يشمل القطع لما هو المعروف من أنه عين انكشاف الأحكام، ولا يقع في طريق استنباطها.
ولما وجد صاحب الكفاية (قده) أن هذا التعريف لا يخلو عن إشكال التجأ إلى تعريفه بطريق آخر فقال: إنه صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام أو التي ينـتهي إليها في مقام العمل[1].
ولا يخفى أنه (قده) عدل عن تعريف المشهور في موارد:
الأول: استبدل لفظة العلم بالصناعة، ولعل السر في ذلك يعود للتنبيه على أن علم الأصول ليس مجرد الإدراك وإنما هو فن فوق العلم كالصياغة والنجارة فهو مثل هذه الأشياء التي يتمكن من خلالها صنع الأشياء، يتمكن من خلاله استنباط الأحكام الشرعية.
الثاني: عدل عن لفظ الممهدة التي تقع في طريق استنباط…الخ…ولعل سره بيان توسع علم الأصول وعدم حصره فيما دونه السابقون، بل كل مسألة كانت يستنبط بها الحكم الشرعي ولو لم تدون من السابقين، بل دونها المتأخرون فإنها داخلة فيه.
الثالث: أضاف قيداً في التعريف بقوله:أو التي ينـتهي إليها…الخ…ونكتة ذلك إدخال ما لا يشمله تعريف المشهور من مسألة حجية الظن على الانسداد والحكومة والأصول العملية العقلية الجارية في الشبهات الحكمية.
ولا يخفى أن هذا القيد يمكن الاستغناء عنه بما ذكرناه توسعة في تعريف المشهور.
وأورد عليه المحقق الأصفهاني (قده) بما توضيحه: قد سبق منه (ره) الالتزام بأن منشأ تمايز العلوم إنما هو بتمايز الأغراض وعليه يلزم من ذلك أن يعدّ علم الأصول علمين، إذ الغرض من بعض القواعد استنباط الأحكام الشرعية والغرض من بعضها الآخر تحصيل العذر أو قطعه كما في الأصول العملية العقلية.
ثانياً: إن التقيـيد بالانتهاء في مقام العمل فيه احتمالان:
الأول: أن يقيد بما بعد اليأس بالظفر بالدليل على الحكم، وعليه لا تدخل الأمارات حينـئذٍ في علم الأصول، لأن حجيته غير متوقفة على الفحص واليأس عن الدليل القطعي على حكم الواقعة.
الثاني: أن لا تـقيد بذلك، فيقتضي ذلك دخول جميع القواعد الفقهية العامة[2].
وعرفه المحقق النائيني (قده) بأنه العلم بالكبريات التي لو انضمت إليها صغرياتها يستنـتج منها حكم فرعي كلي[3].
وهو مخدوش بعدم الجامعية لخروج الأصول العقلية من تحته، حيث لا يستنبط منها حكم فرعي، وإنما يستنبط منها الوظيفة العملية الفعلية، وكذا لا يشمل الظن الإنسدادي على الحكومة. مضافاً إلى عدم شموله القواعد المحققة موضوعاً لكبرى مسألة أخرى مثلاً مسألة اجتماع الأمر والنهي على القول بالامتناع تكون صغرى لكبرى التعارض بين الأمر والنهي، كما أن القول بجوازه يحقق كبرى حجية الإطلاق فيعمل إطلاق كلا الدليلين.
نعم هذا التعريف عالج مشكلة ترد على تعريف المشهور من خلال شموله بعض القواعد الأدبية، إذ هي صغريات للقياس المذكور.
وقد أجاب عن هذه المحاولة التي قام بها المحقق النائيني (قده) المحقق العراقي (ره) بأن المسألة الأصولية لا يمكن أن تكون كبرى ذلك القياس، لأن الكبرى لابد من أن يكون محمولها حكماً شرعياً لكي ينـتج تطبيقها على الصغرى حكماً فرعياً على الأصغر، ومن الواضح أنه لا شيء من مسائل علم الأصول كذلك، وإلا لانقلبت قاعدة فقهية[4].
أقول: الظاهر عدم ورود هذا الإشكال، لأن مراد المحقق النائيني (قده) من وقوعها كبرى ذلك القياس، أن تكون نسبة موضوعها إلى كل مسألة فقهية تستند إليها، نسبة الكلي إلى الفرد، فمثلاً لفظ البيع وحجية ظهور:- (أحل الله البيع)مصداق من كلي انعقاد الظهور الإطلاقي، ومن كلي حجية الظواهر، ولا تخـتص هاتان المسألتان بخصوص هذا الحكم ولا بخصوص هذه الآية. وهذا بخلاف البحث عن ظهور الصعيد لاختصاصه ببحث التيمم وآيته.
نعم يمنع ما أفاده (قده) لعدم اختصاص أكثر المباحث الأدبية بموضوع خاص كالبحث عن مفاد (لن، ولما) وغيرهما من المفردات أو البحث عن مفاد بعض الجمل وخصوصياتها، فإنه بعينه كالبحث عن مفاد (إلا) وظهور هيئة الأمر والنهي أو مادتهما.
ومما ذكرنا أنقدح فساد تعريف علم الأصول: بأنه العلم بالعناصر المشتركة لاستنباط جعل شرعي[5]. كما عن بعض الأكابر (قده) لأنه لا يكفي لدفع الإشكال السابق كما عرفت في الإيراد على المحقق النائيني (ره).
نعم الإيراد على هذا التعريف: بعدم شموله للقطع، مع أنه إحدى المسائل الأصولية، كما حكي عن بعض الأعلام(قده).
مدفوع: بأن مقصوده من كلمة الاستنباط التوصل إلى الحجة على الحكم الشرعي، ومن الواضح أن المراد من الحجة هو الأعم مما يكون حجة في مقام التـنجيز للحكم الشرعي، التعذير عنه، فيدخل مبحث القطع في مسائله، لأنه بحث عن الحجة والمنجز والمعذر.
كما أن الإيراد عليه: بأن هذا التعريف ليس مانعاً من دخول الأغيار فيه، فإنه يشمل بعض المسائل الرجالية مثل وثاقة راوٍ من الرواة، فإن وثاقة الراوي مما يحتاج إليها في جميع الأحكام التي يكون للراوي رواية فيها.
وهذا يستلزم أن تكون وثاقة الراوي مسألة أصولية لكونها عنصراً مشتركاً. ومن المسئل الرجالية أيضاً قاعدة أن ترحم المعصوم(ع) على شخص هل يصلح أمارة على وثاقته.
يندفع: بأنه يعتبر في العنصر المشترك مضافاً لكونه كذلك قيد آخر ليدخل في مسائل الأصول، وذلك القيد هو أن يكون هذا العنصر مما يستعمله الفقيه كدليل على الحكم الشرعي.
وهذا لا يتم بالنسبة للمسائل الرجالية، فإن وثاقة الراوي مثلاً أو كونه أحد أصحاب الإجماع لا يجعل دليلاً على الحكم الشرعي، وبعبرة أخرى ليس المسألة الرجالية دليلاً عليه، بل عمدة ما تفيده صلاحية الرواية للاستدلال بها على الحكم الشرعي.
ومما ذكرنا تعرف أن الإيراد بأن هناك بعض البحوث الأدبية كالفاعل وما شابه، عناصر مشتركة في الاستنباط، مع أنها ليست من مسائل علم الأصول.
وعن بعض الأعاظم (قده) تعريفه بأنه العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الأحكام الشرعية الكلية الإلهية من دون حاجة إلى ضم كبرى أو صغرى أصولية أخرى إليها[6].
نعم قد يورد عليه بعدم شموله للأصول العملية الشرعية لأن الحكم المستفاد منها ليس إلا من موارد التطبيق لا من باب الاستنباط.
وقد تنبه (قده) لذلك فأجاب عنه: بأنه لو تنـزلنا عن ذلك وفرضنا أن وقوعها في طريق الحكم ليس من باب الاستنباط، وإنما من باب التطبيق والانطباق كانطباق الطبيعي على مصاديقه وأفراده، فلا نسلم أنهما خارجتان من مسائل هذا العلم، وذلك لأنهما واجدتان لخصوصية بها امتازتا عن القواعد الفقهية، وهي كونهما مما ينـتهي إليه المجتهد في مقام الإفتاء وبعد اليأس من الظفر بالدليل الاجتهادي كإطلاق أو عموم.
وهذا بخلاف تلك القواعد فإنها ليست واجدة لها بل هي في الحقيقة أحكام كلية إلهية استنبطت من أدلتها لمتعلقاتها وموضوعاتها وتنطبق على مواردها بلا أخذ خصوصية فيها أصلاً كاليأس من الظفر بالدليل الاجتهادي ونحوه فهما بتلك الخصوصية امتازتا عن القواعد الفقهية ولأجلها دونتا في علم الأصول وعدتا من مسائله[7].
وهذا منه (ره) غريب جداً لأن الإيراد ليس في دعوى عدم الفرق بينهما وبين القواعد الفقهية ليـبين الفرق بينهما كما أنه ليس في عدهما من مسائل علم الأصول وعدم ذلك، بل البحث في شمول تعريفه المذكور لهما أو لا.
فما ذكره (ره) أجنبي عن البحث نعم ما ذكره توضيح لكلام صاحب الكفاية كما لا يخفى.
نعم جوابه الأول ينفعه لإدخالها، إذ قال فيه: أن الاستنباط هو الأعم من الإثبات الحقيقي والإثبات التنجيزي والتعذيري، وهما يثبتان التعذير والتنجيز، فيدخلان في الاستنباط.
هذا ويلاحظ عليه: أن بعض المسائل الأصولية لا يتم دخولها في علم الأصول إلا من خلال ضمها لكبرى حجية الظهور وهي قاعدة أصولية أخرى.
نعم الإيراد عليه: بخروج القطع من التعريف لما عرفت سابقاً من أنه لا يقع في طريق الاستنباط. مدفوع بما ذكرناه في بيان بعض تعريف بعض الأكابر(قده) لمعنى الاستنباط فلاحظ.
هذا وقد نحى بعض أكابر المحققين(دامت بركاته)منحى آخر في تعريفه فقال بأنه: القانون المبحوث في حجيته لمرحلة الاستنباط[8].
وبذكره القانون أخرج المسائل اللغوية كلفظة (الصعيد) و(لما ولم) وغيرهما، كما أن ذكره المبحوث في حجيته أخرج القواعد الفقهية، إذ البحث في موارد تطبيقها لا حجيتها. كما أنه حاول إخراج القواعد الرجالية لأنها في مرحلةٍ قبل الاستنباط.
إلا أن هذه المحاولة أيضاً غير مجدية وذلك لخروج المسائل الصغروية من علم الأصول حيث أن البحث في بعضها في ظهورها لا في حجيتها كصيغة الأمر والمفاهيم.
نعم لا يخفى أن الإيراد عليه بعدم شموله للقطع غير وارد، لأنه يـبحث عن حجيته للكشف عن الحكم الشرعي وهي مرحلة الاستنباط.
والتحقيق أن أصح التعاريف هو ما ذكره بعض الأعيان (قده) من أنه القواعد الآلية التي يمكن أن تقع كبرى لاستنباط الأحكام الفرعية الإلهية أو الوظيفة العملية[9].
وقد أخرج القواعد الفقهية بقيد الآلية لأن المراد فيها أنها آلة محضة، ولا ينظر فيها، بل ينظر بها فقط.
أما القواعد الفقهية مما ينظر فيها فتكون استقلالية لا آلية.
وخرجت سائر مسائل العلوم بقوله: تقع كبرى، حيث ليس لها هذا الشأن، وبذكره الذيل أدخل الأصول العقلية.
——————————————————————————–
[1] كفاية الأصول ص 9.
[2] نهاية الدراية ج 1 ص 42.
[3] فوائد الأصول ج 1 ص 19.
[4] نهاية الأفكار ج 1 ص 20.
[5] الحلقة الثالثة ص 11.
[6] محاضرات في أصول الفقه ج 1 ص 15.
[7] محاضرات في أصول الفقه ج 1 ص 15.
[8] الرافد ص 138.
[9] تهذيب الأصول ج 1 ص 11.