القصة في القرآن الكريم (2)

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
94
0

[size=6][/size]
[font=arial]قال تعالى ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين(.1

إن ذكر القصة في القرآن الكريم يستتبع أهدافا ذكرت من أجلها وقد عرفنا هذه الأهداف التي جاءت القصة من أجلها.[/font]

إلا أننا نلاحظ وجود بعض الظواهر الأساسية تبرز من خلال دراسة القصة في القرآن الكريم.

فنتعرض لثلاث ظواهر وهي :

1-ظاهرة التكرار في القصة القرآنية .

2-ظاهرة اختصاص قصص الأنبياء في القرآن بأنبياء منطقة الشرق الأوسط.

3-ظاهرة تأكيد قصص بعض الأنبياء كإبراهيم وموسى .

الظاهرة الأولى : تكرار القصة في القرآن الكريم :

إن من الأشياء التي يلحظها القارئ للقرآن الكريم ظاهرة تكرار القصة الواحدة في القرآن وفي مواضع مختلفة منه ومن المعلوم أن هذا يستلزم وجود مشكلة مفادها : أن هذا التكرار يشكل نقطة ضعف في القرآن الكريم لأن القصة بمجرد ذكرها مرة واحدة تكون قد استنفذت أغراضها الدينية و التربوية والتاريخية ، فلا حاجة لإعادتها مرة أخرى.

هذا ويمكن الإجابة عن هذا الإشكال بعدة وجوه تذكر في المقام :

الأول : قد عرفنا في البحث السابق تعدد أهداف القصة في القرآن الكريم وأغراضها فقد تجيء القصة في موضع معين لغرض ما وتجيء في موضع آخر لأداء غرض آخر ، وعليه يكون تكرار القصة بلحاظ تعدد الغرض فليس هناك تكرار أصلا لأن تكررها بلحاظ الغرض الديني المترتب عليها.

الثاني : عرفنا سابقا أن القرآن الكريم استخدم القصة كأسلوب لتحقيق الهدف الذي جاء من أجله وهو التغيير الاجتماعي ولهذا كانت القصة أحد الطرق التي اتخذها القرآن لتأكيد بعض المفاهيم الإسلامية لدى الأمة المسلمة من خلال ملاحظة الوقائع الخارجية التي كانت تعيشها الأمة وربطها بواقع القصة من حيث وحدة الهدف والمضمون ، ولما كان من المحتمل أن يودي هذا الربط بين المفهوم الإسلامي في القصة والواقعة الخارجية المعاشة للمسلمين إلى فهم خاطئ للمفهوم الذي يراد إعطاؤه للأمة بحيث يفهم انحصاره في حدود تلك الواقعة التي عاشتها القصة وظروفها الخاصة كان الطريق لتفادي ذلك بتكرار القصة في مواقع وظروف متغايرة لتكون كالقانون الأخلاقي أو التاريخي الذي يصلح تطبيقه على كل الأحداث والوقائع.

ولنأخذ مثالا على ذلك قصة نبي الله موسى حيث يوجد فرق بين روحها العامة في القصص المكي وروحها في القصص المدني فإنها تؤكد في القصص المكي على العلاقة العامة بين نبي الله موسى من جانب وفرعون وملئه من جانب آخر من دون أن تتعرض لأوضاع بني إسرائيل تجاه موسى نفسه إلا في موردين يذكر فيها انحراف بني إسرائيل عن العقيدة الإلهية بشكل عام .

بينما نجد الروح العامة لقصة موسى في السور المدنية تتحدث عن علاقة نبي الله موسى مع بني إسرائيل وتتحدث عن هذه العلاقة وارتباطها بالمشاكل الاجتماعية والسياسية .

من هنا يمكن أن نستفيد أن التكرار للقصة في السورة المكية كان يقصد المعالجة الروحية التي تتعلق بحوادث مختلفة كانت تواجه الدعوة الإسلامية وأهلها ومن أهداف هذه المعالجة توسعة نطاق المفهوم العام الذي تعطيه قصة موسى في العلاقة بين النبي والجبارين من قومه أو القوانين التي تحكم هذه العلاقة وأن هذه العلاقة مع نهايتها لا تختلف فيها حادثة عن حادثة أو موقف عن موقف ولعله إلى ما ذكرنا يشير قوله تعالى : )وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك نثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا . ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا . الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا . ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا (.2

حيث ذكرت هذه الآيات أن السبب في التدرج والترتيل في القرآن هو تثبيت النبي من ناحية والإتيان بالحق والتفسير الأفضل للوقائع والأحداث والأمثال من ناحية أخرى ثم يأتي بنموذج للتفسير الأحسن من قصة موسى .

الثالث : من المعلوم أن الدعوة الإسلامية مرت بمراحل متعددة في سيرها الطويل ومن المعلوم أيضا مواكبة القرآن الكريم لهذه المراحل في عطائه وطبيعة أسلوبه ، وهذا كان يفرض أن تعرض القصة الواحدة بأساليب متفاوتة في الطول والقصر نظرا لطبيعة الدعوة وطريقة بيان المفاهيم والعبر فيها فلاحظ قصص الأنبياء حينما تعرض في السور المكية في أول الدعوة وكيف تطور العرض إلى شكل مغاير في السور المكية الأخيرة وكذا في السور المدنية.

الرابع : أنه لا تكرار للقصة في القرآن الكريم حيث لم يأت ذكر القصة الواحدة فيه بشكل يتطابق فيه نص القصة مع نص آخر بل تختلف الموارد في بعض التفاصيل وطريقة العرض ، كما أن طريقة العرض قد تستبطن مفهوما دينيا يختلف عن المفهوم الديني الآخر الذي تستبطنه طريقة عرض أخرى وهو ما يعبر عنه بالسياق القرآني وهذا بنفسه يقتضي التكرار من أجل تحقيق هذا الغرض السياقي الذي يختلف عن الغرض السياقي الآخر لنفس القصة .

الخامس : بيان قدرة القرآن من الناحية الإعجازية حينما يورد المعنى الواحد وبأساليب متعددة ومختلفة.

وفي ختام هذه الظاهرة نشير إلى أن بعض القصص لم تتكرر في القرآن الكريم مثل قصة البقرة التي أمر بنو إسرائيل بذبحها كما جاء في سورة البقرة وقصة أصحاب القرية من سورة يس وقصة نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب في سورة ص وقصة موسى والخضر وقصة يوسف وقصة صاحب الجنتين وقصة ذي القرنين.

الظاهرة الثانية : اختصاص القرآن بأنبياء الشرق الأوسط :

لقد تحدث القرآن عن مجموعة من الأنبياء بينهم خصوصية مشتركة وهي كونهم جميعا يعيشون في منطقة الشرق الأوسط أي المنطقة التي يتفاعل العرب معها وهم الذين نزل القرآن في مجتمعهم ومحيطهم.

هذا وقد يذكر تفسيرا لهذه الظاهرة بأن النبوات لما كانت بالأصل في هذه المنطقة وقد انتشر الهدى من خلالها في جميع أنحاء المعمورة حيث كان الناس يعيشون في هذه المنطقة في البداية ولا يوجد في المناطق الأخرى نبوات وأنبياء ، كما هو المفهوم من خلال الاستعراض التاريخي للنبوات وتأريخ الإنسان في التوراة.

وعلى هذا لا تكون هذه الخصوصية ظاهرة تحتاج إلى تفسير وإنما هي قضية فرضتها الحقيقة التاريخية فيكفي هذا الواقع التاريخي في تفسيرها.

عدم اختصاص الرسالات الإلهية بمنطقة معينة :

إلا أن الشواهد القرآنية تمنع هذا التفسير وتنفيه حيث نجد إشارة القرآن الكريم في بعض آياته إلى وجود مجموعة من الأنبياء لم يتحدث عنهم ، مع أنه لا بد أن تكون حياتهم مشتملة على مجموعة من الأحداث شأنهم شأن الأنبياء الآخرين ، قال تعالى : )ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما (.3

إن قلت : إن من المحتمل أن يكون نزول هذه الآية قبل استكمال القرآن الكريم ذكر بقية قصص الأنبياء الآخرين فلا تكون دالة على المطلوب.

قلت : إن هذه الآية إحدى آيات سورة النساء وهي من السور المدنية المتأخرة في النـزول وعليه لا يكون للاحتمال المذكور وجه.

ومن الأمور التي تمنع التفسير السابق أيضا الآيات الدالة على بعث الأنبياء والرسل إلى كل قرية ومدينة من أجل إقامة الحجة من الله على الناس ، قال تعالى : )رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما (.[4] تفسير الاختصاص بمنطقة الشرق الأوسط :

هذا ويمكن أن تفسر هذه الظاهرة بأن تخصيص القرآن الكريم هؤلاء بالذكر يعود لما ذكرناه سابقا من أن غرض القصة الأساسي في القرآن هو انتزاع العبرة واستنباط القوانين والسنن التاريخية منها وليس غرضها السرد التاريخي لحياة جميع الأنبياء أو كتابة تأريخ الرسالات ولذا نجد القرآن يتحدث عن الأمور العامة المشتركة بين هؤلاء الأنبياء عدا بعض الموارد التي تتضمن غرضا خاصا في طرح بعض القضايا فيها.

ومن المعلوم أن تحقيق هذا الغرض من القصة وتأثيره يرتبط بمدى إيمان الجماعة بواقعيتها وإدراكهم لحقائقها ومدى انطباق ظروفها على ظروف الجماعة نفسها ولهذا تكون القصة المنتزعة من تأريخ الأمم نفسها ومن واقعها وظروفها وحياتها أكثر تأكيدا وانطباقا على السنن التاريخية.

وعلى هذا سوف تكون القصة القرآنية منسجمة مع الهدف القرآني بلحاظ أن القاعدة التي يريد أن يحقق القرآن التغيير فيها في المرحلة الأولى هي الشعوب التي تسكن هذه المنطقة وتتفاعل مع هذا التاريخ.

وليس معنى هذا اختصاص هداية القرآن بهذه الشعوب بل إن أحد أغراض القرآن هو إيجاد التغيير في هذه الشعوب كقاعدة ينطلق منها التغيير ويستند إليها في مسيرته إلى بقية الشعوب وهو ما حصل فعلا.

وبالجملة كان اهتمام القرآن منصبا بشكل خاص على تغيير القاعدة التي تتمثل بالشعب العربي والشعوب التي تتفاعل معه في ذلك الوقت.

ولذا لو ضرب القرآن الأمثال أو سرد القصص عن النبوات التي وقعت في الهند أو الصين مثلا لبعدت القصة بأكملها عن الواقعية التي كان القرآن يحرص على تأكيدها في قصصه.

الظاهرة الثالثة : تأكيد دور إبراهيم وموسى :

يلاحظ أن القرآن الكريم أكد دور بعض الأنبياء من خلال ذكر تفاصيل حياتهم وظروفهم أكثر من دور بعضهم الآخر وبالخصوص النبي إبراهيم والنبي موسى مع أن الخصائص العامة التي يراد منها بالأصل استنباط العبرة والموعظة واستخلاص القانون والسنن التاريخية متشابهة ولهذا نجد مجيء قصص مجموعة من الأنبياء في كثير من الموارد في سياق واحد.

فهل أن هذا التأكيد يعني أهمية شخصية هذا النبي وفضله بالمقارنة مع بقية الأنبياء ، أو أنه مضافا لهذه الأهمية توجد أهداف ومقاصد أخرى اقتضت هذا اللون من التأكيد ؟

لا ريب في ثبوت أفضلية بعض الأنبياء على بعض كما في إبراهيم وموسى إلا أن هذا لا يعني أن يكون تأكيد القرآن على دورهما وكذا عيسى وإن كان أقل منهما لمجرد الأفضلية ، خصوصا وأن القرآن ليس بصدد تقييم عمل هؤلاء الأنبياء والحديث عن التفاضل بينهم.

بل قد عرفت فيما سبق أهداف القصة الأصيلة من العبرة والموعظة والتثبيت وإقامة البرهان والحجة على صدق نبوة النبي وغير ذلك.

ولذا لا بد أن يكون التأكيد على دور بعض الأنبياء يكتنـز في مضمونه ومحتواه شيئا آخر.

هذا ويمكن أن يقال : أن التأكيد على دور هؤلاء يعود إلى أن القرآن الكريم كان يواجه حقيقة هي أن لهؤلاء الأنبياء اتباعا وأقواما يرتبطون بهم فعلا في المجتمع الذي كان يتفاعل القرآن معه عند نزوله.

ولما كان القرآن يهدف إلى إيجاد التغيير فرض ذلك أن يتحدث القرآن عنهم بإسهاب.

خاتمة :

ولنشر في نهاية المطاف إلى بعض الوجوه الداعية للتأكيد على دور الأنبياء الثلاثة إبراهيم وموسى وعيسى ، فنقول :

أهمية التأكيد على دور إبراهيم

الظاهر أن ذلك يعود لما يمثله إبراهيم عند المشركين واليهود والنصارى من كونه أبا لجميع الأنبياء فهو يحظى باحترام الجميع ، فيكون لارتباط الإسلام وشعائره به أهمية خاصة بحيث يعطي الرسالة المحمدية جذرا تأريخيا يمتد إلى أبعد من الديانتين اليهودية والنصرانية . قال تعالى : )وجاهدوا في سبيل الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في اتباعه من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ( [5]بل يتجلى هذا الربط التاريخي بشكل أوضح عندما يكون المبشر بالنبي العربي الأمي هو إبراهيم u وتكون بعثته استجابة لدعاء إبراهيم u ، قال تعالى : )وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم . ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا منا سكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم . ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم (.[6]

مضافا إلى أن ذلك يضفي على الرسالة الإسلامية استقلالية عن اليهودية و النصرانية ومن ثم ينتفي الشعور بالتبعية لعلماء اليهود والنصارى قال تعالى : )وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ( .7

ومما ذكرنا يتضح التأكيد في قصة إبراهيم على بناء الكعبة حيث ذكر ذلك في عدة موارد من القرآن وكذا ندائه بالحج وذلك لما تحتله الكعبة عند العرب عامة من موقع خاص مضافا للقرار الذي اتخذه القرآن بجعل الكعبة قبلة للمسلمين للتأكيد على استقلالية الرسالة في جميع معالمها .

أهمية تأكيد دور موسى :

وذلك لما له من إنجازات في المجتمع الإسرائيلي حيث أن موقعه من الديانة اليهودية والشعب الإسرائيلي والإنجاز السياسي والاجتماعي الذي حققه لهم وكذا التشريعات والحكم والقوانين الواردة في التوراة بالإضافة لمعاناته الطويلة المشابهة لمعاناة الرسول تجاه الطغاة و المنافقين وفي توطيد الحكم الإلهي مضافا لاعتراف النصرانية به وبالتوراة القديم ، كل ذلك استدعى هذا التأكيد.

أهمية تأكيد دور عيسى :

وهذا يعود لما أراده القرآن في خطته التغييرية وما كان يهدف إليه فعمد إلى إزالة ما علق في أذهان الناس من أفكار وتصورات منحرفة عن الأنبياء تتنافى مع عصمتهم أو علاقتهم بالله أو طبيعة شخصيتهم وهذا نراه واضحا في قصة نبي الله عيسى u قال تعالى : )إن مثل عيسى كمثل آدم خلقه الله من تراب ثم قال له كن فيكون(.8

ومثل ذلك حديثه عن مريم العذراء وولادة عيسى أو الاهتمام بمناقشة فكرة ألوهية عيسى فلاحظ ذلك في عدة موارد منها سورة المائدة .

والحمد لله رب العالمين

——————————————————————————–

1 سورة يوسف الآية رقم 3

2 سورة الفرقان الآيات 32 – 35

3 سورة النساء الآية رقم 164

[4] سورة النساء الآية رقم 165.

[5]

[6] سورة البقرة ، الآيات 127-129

7 سورة البقرة الآية 135.

8 سورة آل عمران الآية 59.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة