من المسائل التي تذكر عندما يكون الحديث حول الإمام الحسن الزكي(ع) ما أثير حول كثرة زيجاته، وكثرة طلاقه حتى وسم بأنه مطلاق، وقد وردت نصوص من الفريقين تثبت هذا المعنى، ولسنا بصدد الحديث حول النصوص التي وردت في كتب المسلمين، لأنه قد أشبعها أصحابنا دراسة وبحثاً، وإنما أود أن أركز حديثي على خصوص النصوص التي وردت في المصادر الشيعية، والموجود في مصادرنا ست روايات مصادرها أربعة كتب، الكافي لشيخنا الكليني، والمحاسن للشيخ البرقي، ودعائم الإسلام للقاضي أبي حنيفة النعمان المصري، ومستدرك الوسائل للمحدث النوري.
وينبغي أن يتعرض أولاً للنصوص المشار إليها، ثمّ نبيّن الشبهة التي تفيدها هذه النصوص، وبالتالي يستدعي الأمر علاجها.
روايات أن الحسن مطلاق:
منها: ما نقله شيخنا الكليني(ره) في الكافي عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله(ع) قال: إن علياً(ع) قال وهو على المنبر: لا تزوجوا ولدي الحسن فإنه رجل مطلاق، فقام رجل من همدان فقال: بلى والله لنـزوجنه وهو ابن رسول الله(ص)، وابن أمير المؤمنين(ع)، فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق[1].
ودلالة هذا النص على ثبوت دعوى كون الإمام الحسن(ع) مطلاقاً واضحة جداً، فإن أمير المؤمنين(ع) بصدد الإخبار بوجود هذه الصفة عند الإمام(ع)، ولذا استدعى ذلك الإخبار بها، نعم ما صدر منه(ع) هل هو أمر يلزم المسلمون أن يلتزموا به، ويجب عليهم العمل على طبقه، ولو من باب الحكم الولائي الحكومتي، تنظيماً لشؤون الرعية وإصلاحاً لشأنها، أم أنه من الأمور الإرشادية، وليس من الأمور المولوية، مما يعني أن غايته تقديم النصح والإرشاد للأمة.
ربما قيل بظهوره في الثاني، بلحاظ ما صدر من الرجل الهمداني، لأنه يكشف عن ظهور كلامه(ع) في ذلك، وإلا لا معنى لأن يعترض عليه الرجل المذكور.
ومنها: ما جاء في الكافي أيضاً عن يحيى بن أبي العلاء، عن أبي عبد الله(ع) قال: إن الحسن بن علي(ع) طلق خمسين امرأة، فقام علي(ع) بالكوفة، فقال: يا معشر أهل الكوفة لا تنكحوا الحسن فإنه رجل مطلاق، فقام إليه رجل، فقال: بلى والله لننكحنه، فإنه ابن رسول الله(ص)، وابن فاطمة فإن أعجبه أمسك وإن كره طلق[2].
ودلالة هذا النص على المدعى كسابقه، كما أنه يأتي فيه أيضاً ما تقدم من التردد بين المحتملين، بين الأمر المولوي، الأمر الإرشادي، فلاحظ.
ومنها: ما جاء في المحاسن عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله(ع) قال: أتى رجل أمير المؤمنين(ع) فقال له: جئتك مستشيراً، إن الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر خطبوا إليّ، فقال أمير المؤمنين(ع): المستشار مؤتمن، أما الحسن، فإنه مطلاق للنساء، ولكن زوجها الحسين فإنه خير لابنتك[3].
وهو أيضاً كسابقيه من حيث ثبوت الوصف للإمام(ع)، إلا أنه لا يأتي فيه الاحتمالان السابقان، بل هو ظاهر في الإرشاد كما لا يخفى.
ومنها: ما جاء في دعائم الإسلام عن أبي جعفر محمد بن علي(ع) أنه اجتمع يوماً مع أخيه زيد فعدا ما تزوج الحسن بن علي(ع) فأثبتا ستاً وخمسين وما استكملا آخرهن[4].
ولا يخفى أن هذا الخبر لا يتضمن وسم الإمام(ع) بسمة وصفة كثير الطلاق إلا بالدلالة الالتـزامية، إذ من الطبيعي جداً أنه لم يجمع بين هذه النساء دفعة واحدة، لعدم جواز الزيادة على أربع إلا في خصوص رسول الله(ص)، والحمل على أنهن قد توفين، يستبعد حصوله في مثل هذا العدد، فيتعين أنهن ممن طلقن، فيثبت المطلوب.
ومنها: ما جاء فيه أيضاً عن أبي جعفر محمد بن علي(ع) أنه قال: تزوج الحسن بن علي(ع) امرأة، فأرسل إليها بمائة جارية، مع كل جارية ألف درهم[5].
وهي أجنبية عن المدعى، ضرورة أنها لا تتضمن الحديث من قريب أو بعيد عن تعدد زيجات الإمام(ع) فضلاً عن الإخبار عن كثرة طلاقاته.
ومنها: ما نقله في مستدرك الوسائل عن أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن عبد الرحمن العلوي الحسيني في كتاب التعازي، بإسناده عن الحسن بن مجاشع، عن العامري، عن أبي سلمة، عن زيد بن علي، قال: تزوج الحسن بن علي(ع) أربعمائة وثمان وأربعين زوجة، ما من امرأة إلا قد بذلت له من دنياها ما أمكن، فما مدّ إلى ذلك يداً ولا عيناً[6].
وتقرب دلالة هذا الخبر على المدعى بما تقدم ذكره في خبر الدعائم الأول، فلا نعيد.
أصل الشبهة:
هذا وتكتسب هذه النصوص أهميتها من حيث اشتمالها على ما يوجب الشبهة والشين لشخصية الإمام الحسن(ع)، فإنها تأخذ منحيـين:
الأول: هو المنحى العقدي.
الثاني: المنحى الاجتماعي.
المنحى العقدي:
ونعنى بالمنحى العقدي وهو المنحى الأول، أن النصوص المذكورة تضمنت أن الإمام(ع) كان مطلاقاً بمعنى كثير الطلاق، وقد ثبت عندنا في الفقه أن الطلاق من الأمور المكروهة، وثبت عندنا في علم الكلام أن المعصوم لا يفعل مكروهاً أبداً، فكيف نوفق ونجمع بين هذين الأمرين، فمن جهة الإمام الحسن(ع) إمام معصوم(ع)، ومقتضى كونه معصوماً أن لا يكون مرتكباً للمكروه فضلاً عن المحرم، ومن جهة أخرى، إن النصوص التي تقدمت تضمنت أنه(ع) كان مطلاقاً، والذي يفعل الطلاق يكون مرتكباً للمكروه، فكيف يوفق بينهما؟
المنحى الاجتماعي:
وهو النظرة الاجتماعية لشخصية الإمام(ع)، وهو الذي لا يـبقي على زوجة، ويعمد إلى طلاق النساء دونما سبب أو داعٍ، وكأنه قد أخذ الزواج هواية يتكرر منه دائماً وأبداً.
جواب الشبهة:
هذا وقد أجاب عن هذه الشبهة اثنان من أعلامنا، وهما غواص بحار الأنوار العلامة المجلسي(قده)، والمحقق المدقق صاحب الحدائق(قده).
ونحتاج قبل استعراض الإجابتين إلى إثارة سؤال نجعله بمثابة المحور الأول الذي يقوم عليه هذا البحث، وحاصل السؤال: ما هو الميزان في قبول الرواية الواردة إلينا عن المعصومين، فهل أن مجرد نقل رواية من الروايات في كتاب من المصادر المتداولة بين أصحابنا مدعاة للالتـزام بقبولها، أم أن هناك شروطاً لابد من توفرها حتى يتسنى لنا أن نقبل بالنص أو نرفضه.
وبعبارة أخرى، نحتاج أن نتعرف على الميزان الذي يمكننا من خلاله التعرف على أي نص يصل إلينا أنه نص صادر عن المعصوم(ع)، أم لا.
وعند الإجابة على السؤال المذكور، وعرض الضابطة والقاعدة العامة التي يمكن من خلالها التعرف على الميزان لإحراز قبول الرواية ومن ثمّ الاعتماد عليها من عدمه، نقول:
أصالات ثلاث:
لكي يكون الخبر حجة يصح الاستناد إليه، لابد أن تتوفر فيه أصالات ثلاث، وهي:
1-أصالة الصدور.
2-أصالة الظهور.
3-أصالة الجهة.
وبيان كل واحدة من هذه الأصالات ومن ثمّ يتضح عندها الفارق بين كل واحدة منها، هو:
أصالة الصدور:
إن العمل بأي نص من النصوص على أساس أنه صادر من المعصوم وبالتالي تصح نسبته إليه نحتاج فيه أن نحرز أنه قد صدر عنه، فما لم يحرز ذلك، فلا يصح لنا أن نستند إليه، بل لا يجوز لنا أن ننسبه إليه، لأنه سوف يكون من الكذب على المعصوم، ومعلوم حكم الكذب على المعصوم(ع):
لكن كيف يتسنى لنا أن نحرز أن هذا النص صادر عن المعصوم(ع)، وما هي الطريقة التي يمكن الاعتماد عليها لمعرفة ذلك؟…
نقول في جواب ذلك: إن النصوص الموجودة بأيدينا على قسمين:
الأول: النصوص المتواترة، ونعني بكونها متواترة أن يتصدى لنقل الخبر مجموعة كبيرة من الرواة، بحيث يصعب الظن باتفاقهم جميعاً على الكذب، فيحصل اليقين، ولا أقل من الاطمئنان بصدور هذا الخبر عن المعصوم، ومثال ذلك حديث الغدير فإن هذا النقل الكثير من قبل رواة متعددين وفي أزمنة مختلفة ومتفاوتة يجعلنا نجزم بكون الحديث قد صدر عن رسول الله(ص)، وكذا حديث الثقلين، وكذا سبب نزول آية التطهير في أصحاب الكساء الخمسة(ع)، والنماذج في هكذا مجال كثيرة.
وهذا النوع من النصوص يحرز صدوره وبالتالي يصح نسبته للمعصوم(ع) حتى لو كان ضعيف الطريق، وذلك لأن انطباق عنوان التواتر عليه يوجب اليقين بصدوره.
الثاني: أخبار الآحاد، ويعبر عنه بخبر الواحد، ونقصد به الخبر الذي لا يفيد العلم والاطمئنان، وإنما يفيد الظن، وهو الخبر الذي لا ينقل إلا بواسطة راوٍ واحد عادة أو أكثر لكنه لا يـبلغ العدد الموجب للاطمئنان المحقق لكونه متواتراً.
وهذا الخبر لا يمكن الاعتماد عليه إلا إذا تسنى لنا إحراز صدوره عن المعصوم(ع)، ولعلمائنا في كيفية إحراز صدروه عن المعصوم(ع) طريقان:
أولهما: أن تكون سلسلة السند التي وصل الخبر إلينا بواسطتها كلهم ثقات، وإلا لم يصح الاعتماد عليه، وهذا يعني أنه لو كان في طريق الرواية شخص ضعيف مثلاً لا يحرز عندها صدور النص من المعصوم، ولا يمكن نسبته إليه(ع)، لأن النتيجة دائماً تتبع أخس المقدمات.
وهذا المسلك هو المسلك الذي يعرف عند علمائنا بمسلك الوثاقة، ويتبناه جملة من فقهائنا الأعاظم مثل سيدنا الخوئي(قده)، وشيخا التبريزي(قده)، وشيخنا الوحيد(حفظه الله تعالى).
ثانيهما: أن يحصل عند الواصل إليه الخبر اطمئنان بصدوره من المعصوم(ع) بأحد الأمور التي توجب الاطمئنان بالصدور، ككونه مما عمل به المشهور، أو ما شابه ذلك، ويسمى هذا المسلك بمسلك الوثوق، ويتبناه جملة من أكابر فقهائنا كالإمام الراحل(قده)، وكسيدنا السيستاني(دامت أيام بركاته).
أصالة الصدور في القرآن متحققة:
هذا ولا يخفى على القارئ أن هذه الأصالة أعني أصالة الصدور لا حاجة للبحث عنها بالنسبة للقرآن الكريم، ذلك لأنه لا شك عندنا في أن ما بأيدينا من آيات شريفة، صادرة عن الله سبحانه وتعالى، وبالتالي نحن نجزم بذلك، ولهذا اشتهر القول بأن القرآن الكريم قطعي الصدور، ومعنى ذلك أنه يقطع بصدوره من الباري سبحانه وتعالى.
وكذا أيضاً هي متحققة بالنسبة للخبر المتواتر فلا معنى للحديث حول أنه صحيح أو ضعيف، بل كونه متواتراً يحقق صدوره عن المعصوم(ع) كما ذكرنا.
أصالة الظهور:
وهي الأصالة الثانية التي لابد من توفرها حتى يصح الاستناد للنص الصادر من الشارع المقدس، ولا يفرق في هذه الأصالة بين القرآن الكريم وبين السنة الشريفة، ذلك لأن القرآن الكريم وإن كان قطعي الصدور، إلا أنه ظني الدلالة كما سيتضح.
وعلى أي حال، ما هو المقصود من أصالة الظهور؟…
إذا جاء نص من الشارع المقدس سواء كان النص الجائي آية قرآنية، أم كان النص الجائي رواية صادرة عن المعصوم(ع)، فلكي نستطيع أن نعمل على طبقه، فلابد أن نفهم ماذا يريد الشارع منها، ومن الواضح أن هذا لا يتحقق لنا إلا إذا استطعنا أن نعرف ما هو مقصوده من كل لفظ ورد فيها، وما هو المعنى الذي أراده من كلماتها. وهذا هو الذي يسمى بأصالة الظهور، بمعنى أننا نحتاج أن نتعرف أقرب المعاني إلى اللفظ لغة، بعدما نكون قد عرفنا معنى اللفظ في مرحلة التصور. ولنوضح ذلك بمثال: مثلاً ورد الأمر من الباري سبحانه بلزوم قطع يد السارق، فما هو المقصود من اليد، هل يقصد من ذلك القطع من الكتف، أم يقصد من الزند، أم أن المقصود من الذراع، أم من الساعد، وهكذا.
إن معرفة المقصود من اليد التي يجب قطعها، هذا ما نسميه الظهور، لأنه سوف يكون مستفاداً من اللفظ. وكذا عندما يقول سبحانه بلزوم التيمم بالصعيد لمن لم يجد الماء، فما هو المقصود من الصعيد، إن معرفة المقصود من الصعيد في الآية الشريفة يسمى ظهوراً، لأنه المعنى المستفاد من الكلمة، وهو المراد للمتكلم.
هذا والظهور عادة هو المعنى الذي يكون أسرع انسباقاً إلى ذهن السامع بمجرد سماعه للفظ.
ملاحظات في أصالة الظهور:
ثم إنه ينبغي الالتفات إلى أن هناك أموراً لابد من مراعاتها قبل الاستناد إلى أصالة الظهور، وهي:
1-أن لا يعتمد على الظهور إذا كان اللفظ مطلقاً إلا بعد أن يـبحث عن مقيد له، فإذا لم يوجد له مقيد صح الاعتماد على ظهور اللفظ وإلا فلا.
2-إذا كان اللفظ عاماً، فكذلك لا يمكن الاعتماد على ظهور اللفظ في العموم إلا بعد الفراغ عن أنه لا يوجد له مخصص وإلا فلا يصح الاعتماد على الظهور.
3-لا يقرر في لفظ ما أنه مجمل، فليس له معنى ظاهر إلا بعد العجز عن وجود مبين له، وإلا فلا يحكم عليه بذلك.
4-لابد من ملاحظة أن هذا النص لا توجد قرينة مفسرة له، لأن النصوص الشريفة، سواء كانت قرآناً كريماً، أم كانت نصوصاً معصومية يفسر بعضها بعضاً، وهذا يعني أنها تكون قرينة لبيان المراد، ولذا لابد من ملاحظة هذه النقطة إذ ربما كانت رواية قرينة ومفسرة لرواية أخرى.
هذا والقرائن كما يمكن أن تكون قرائن مقالية لفظية، يمكن أن تكون قرائن حالية، بمعنى أن المعصوم(ع) يعتمد على واقع الحال، فيكون الخبر الصادر منه يشير إلى واقع الحال الموجود في عصره، مثلاً روايات الغناء، كيف استفاد فقهائنا منها أن المحرم هو خصوص الغناء اللهوي، وليس مطلق الغناء كغناء الأطفال مثلاً. السر في ذلك أن نصوص حرمة الغناء كانت ناظرة إلى الحالة التي كان يستخدم فيها الغناء في ذلك الوقت في قصور بني العباس مثلاً، وبالتالي صارت هذه قرينة حالية على بيان المراد من الغناء المحرم وهكذا.
أصالة الجهة:
ونعني بأصالة الجهة أن يحرز أن النص الشرعي قد صدر لبيان المراد، ولم يكن صدوره من باب الهزل والمزاح، أو من باب السخرية، أو من باب التقية، بل صدر وكان المتكلم به قاصداً لكل كلمة قالها، وقاصداً للمعنى المستفاد منها.
وعادة ما يركز في هذه الأصالة على أن لا تكون النصوص صادرة تقية، فإنها إذا كانت صادرة تقية لا تكون هذه الأصالة محرزة، لأنه لا يحرز أنه(ع) في مقام بيان المراد الجدي.
نعم هذه الأصالة كأصالة الصدور لا معنى للبحث عنها في القرآن الكريم، وذلك لأنه لا وجه لأن يقال أن شيئاً مما جاء فيه قد صدر تقية، أو صدر هزلاً ومزاحاً، بل هو هدى للناس وبينات من الهدى.
هذا وتوجد وسائل يتم التعرف من خلاها على أن هذا الحديث صدر تقية أو لا، تذكر عادة في الكتب التخصصية لهذه الأمور[7].
مع روايات كثرة الزواج:
هذا والظاهر أن أعلامنا بنوا على الالتـزام بتمامية أصالة الصدور في الروايات التي تضمنت أن الإمام الحسن(ع) كان مطلاقاً، ولذا نجد أنهم عمدوا إلى مناقشتها من حيث الدلالة، فلم يتعرض أحد منهم إلى المناقشة السندية فيها، اللهم إلا أن يدعى أن النقاش السندي قد يقال عنه بأنه نقاش صغروي، فما يكون ضعيفاً عند أحد قد يكون معتبراً معتمداً عند آخر.، وإذا كان الأمر هكذا، فذلك يمنع من جعل المعيار الأساس في مقام المناقشة والبحث على الجانب السندي.
وهذا الذي ذكرناه حسن جداً، إلا أنه لا يوجب إغفال الأمر عن إحراز توفر أصالة الصدور من عدمها، ضرورة أنه لو بني على انتفائها فلا معنى للحديث عندها عن الأصالتين الأخريـين، ومجرد الاختلاف في المباني المتبعة في اعتبار النصوص لا يعني عدم الاعتناء بهذه الأصالة، خصوصاً كما سيتضح منا أن أصالة الصدور لا تعتمد من حيث الدراسة على الناحية السندية فقط، بل هناك ناحية نقد المتن، وسيأتي بيانها، فأنتظر.
ثم إنه بعد وضوح المعيار المتبع في قبول الرواية، وما يلزم توفره فيها حتى يصح الاستناد إليها والاحتجاج بها في مقام البحث والعمل، فلنعمد لذكر الجوابين اللذين أجاب بهما العلمان، غواص بحار الأنوار، والمحقق البحراني(قده).
جواب العلامة المجلسي:
انصبت مناقشة شيخنا غواص بحار الأنوار العلامة المجلسي(قده) للنصوص محل البحث على أصالة الجهة، إذ بنى على عدم توفرها فيها، ذلك لأنها ليست صادرة جداً، وإنما كان منشأ صدورها هو الامتحان والاختبار لمدى سماع أهل الكوفة لما يلقيه أمير المؤمنين(ع)، ومدى طاعتهم لما يقوله لهم، قال(ره): ولعل غرضه(ع) كان استعلام حالهم، ومراتب إيمانهم، لا الإنكار على ولده المعصوم المؤيد من الحي القيوم[8].
هذا ويحتمل في كلامه(ره) أمران:
الأول: أن يكون الاختبار في أصل الإخبار عن الحدث، بمعنى أنه(ع) يخبر عن حدث لا أساس له، فينسب للإمام الحسن(ع) ما ليس واقعاً في الخارج، فيمتحن مدى تجاوب الكوفيـين معه فيما يقول.
الثاني: أن يكون الحدث واقعاً في الخارج، وأن المعروف بينهم أن الإمام الحسن(ع) يكثر الطلاق، فأراد أمير المؤمنين(ع) أن يمتحن الكوفيـين في أنه لو نهاهم عن تزويجه، فهل يستمعون كلامه أم لا.
والفرق بين المحتملين واضح كما لا يخفى.
وعلى أي حال، يصعب البناء على كليهما معاً، أما الأول، فيكفي لرفضه أنه يستلزم أن يكون أمير المؤمنين(ع) مخبراً بخبر كذب، إذ الفرض عدم كون الإمام الزكي(ع) كذلك، مضافاً إلى أنه تضمن فرية وتهمة لمؤمن، يربو أمير المؤمنين(ع) أن ينسبها لأعدائه، فكيف لأحد أوليائه، وهو فلذة كبده.
وأما لو بني على الثاني من الاحتمالين، فإن اختبار أمير المؤمنين(ع) لا يعالج الإشكال، إذ الإشكال ليس في نهي أمير المؤمنين(ع) واختباره للكوفيـين، وإنما الإشكال في كيف يكون الإمام الحسن(ع) مطلاقاً، مع أن الطلاق من المكروهات، كما لا يخفى.
كما يمكننا أن نضيف جواباً آخر يمنع من القبول بهذا الجواب، وهو: لو سلمنا بالجواب المذكور، إلا أننا نقرر أنه لا يجري في جميع النصوص المتضمنة للحديث عن قضية كثرة طلاق الإمام الحسن(ع)، وإنما يصح جريانه في بعضها دون البعض، إذ هو قد يقبل في النصوص التي تضمنت إخباره(ع) على منبر الكوفة بذلك، لكنه لا يجري في الرواية التي تضمنت طلب المستشير الذي جاء يستشيره، فإنها واضحة في كونها قضية خاصة، فهل يتصور فيها الامتحان والاختبار أيضاً، وكذا ما جاء عن الإمام الباقر(ع) في أنه كان يحصي وأخاه زيداً زوجات الإمام الحسن(ع)، وما أحصياها، بل إن رواية يحيى بن أبي العلاء المروية عن أبي عبد الله(ع) واضحة الدلالة في أن ما صدر من أمير المؤمنين(ع) ما كان امتحاناً وإنما كان إخباراً عن حدث خارجي قائم واقع، فلاحظ.
والحاصل، إن الجواب الصادر من شيخنا العلامة المجلسي(ره)، لا يصلح لدفع الإشكال وعلاجه، فلاحظ.
جواب المحقق البحراني:
وقال شيخ الحدائق المحقق الشيخ يوسف البحراني(قده) أنه ربما حمل البعض النصوص المتضمنة لكثرة طلاقه(ع) على سوء خلق في أولئك النساء، أو نحوه مما يوجب أولوية الطلاق[9].
ولا يخفى أنه بهذا التوجيه يعمد للتصرف في أصالة الظهور، ولا يعمد للتصرف في أصالة الصدور كما ذكرنا، فيتصرف في الألفاظ الظاهرة في أنه(ع) كان كثير الطلاق، والتي ظاهرها أنه كان هو السبب في كثرة الطلاق، من خلال إيجاد قرينة تكشف عن أن منشأ كثرة طلاقه يعود لسوء خلق في تلكم النسوة، لا لخلل فيه(ع).
ولا يخفى أن القرينة التي سوف يعتمد عليها في البين لن تكون قرينة داخلية، وإنما ستكون قرينة خارجية، وهي أن المعصوم(ع) لا يرتكب المكروه، فلاحظ.
وتتوقف تمامية هذا الوجه على وجود ما يساعد عليه، سواءً من قريب أم بعيد ليبنى على التصرف في ظهور اللفظ، فيحمل على ما ذكر، أما مع عدم وجود ذلك، فلن يتعدى كونه مجرد احتمال لا مجال للبناء عليه.
ولعل عدم وجود الشاهد على مثل هذا التصرف في الظهور، دعى شيخنا صاحب الحدائق(قده) إلى رفض هذا التوجيه، وعقب رفضه بقوله: ولا يخفى بعده، لأنه لو كان كذلك لكان عذراً شرعياً له عند الناس، لا أن يكون طلاقه النساء سبب ملامة منهم له، فضلاً عن أن يصدر نهي من أمير المؤمنين(ع) للناس عن تزويجه، وهو لا ذنب له ولا جرم، والحال كذلك[10].
وعبارته(ره) واضحة في أن الطلاق إن كان مستنداً إلى سوء خلق الزوجة، لن يكون مكروهاً، لأن الظاهر مما دل على كراهة الطلاق، هو الطلاق الذي لا يكون متضمناً لموجب وداعٍ له، وإلا فلا.
ثم إن صاحب الحدائق(ره)، لما لم يترضِ ما تقدم من توجيه، ذكر أن النصوص المذكورة محل إشكال، وأنه لا يحضره جواب عنها، وحبس القلم عن ذلك أولى بالأدب[11].
[1] الكافي ج 6 ح 4 ص 56، وسائل الشيعة ب 4 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ح 1.
[2] الكافي ج 6 ح5 ص 56، وسائل الشيعة ب2 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ح 2.
[3] المحاسن ص 601 ح 20، وسائل الشيعة ب 2 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ح 1.
[4] دعائم الإسلام ج 2 ص 192.
[5] المصدر السابق ص 222، ذكر المهور.
[6] مستدرك الوسائل ج 14 ص 296.
[7] وخير من كتب في هذا المجال سيدنا المفدى علم التحقيق وشمس التدقيق السيد السيستاني(دامت أيام بركاته، ومتعنا بطول بقائه).
[8] مرآة العقول ج 21 ص 96.
[9] الحدائق الناضرة ج 25 ص 148.
[10] المصدر السابق.
[11] المصدر السابق.