روى أبو بصير عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: إن الله تبارك وتعالى أمهر فاطمة(ع) ربع الدنيا، فربعها لها، وأمهرها الجنة والنار، تدخل أعداءها النار، وتدخل أولياءها الجنة، وهي الصديقة الكبرى، وعلى معرفتها دارت القرون الأولى[1].
مدخل:
تضمن النص الذي جعلناه مفتتح حديثنا ثلاثة أمور بشأن مولاتنا الزهراء(ع)، وهي:
الأول: بيان مقدار صداقها، فذكر(ع) أن الله سبحانه أمهرها ربع الدنيا، وفي رواية أخرى نصف الدنيا، وأمهرها الجنة والنار.
الثاني: أن واحداً من أسمائها، الصديقة الكبرى، وقد وردت نصوص عديدة تتحدث عن تسميتها بهذا الاسم، فقد حُكي ذلك عن رسول الله(ص)، أنه قال عنها: أنها الصديقة الكبرى، وورد عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: لفاطمة تسعة أسماء عند الله عز وجل: فاطمة والصديقة والمباركة والطاهرة والزكية والراضية والمرضية والمحدثة والزهراء[2].
وكذا ورد عن إمامنا الكاظم(ع) أنه قال: فاطمة صديقة شهيدة.
الثالث: أن على معرفتها دارت القرون الأولى.
ولا يخفى أن كل واحد من هذه الأمور الثلاثة التي تضمنها الحديث بحاجة إلى دراسة وبحث، فما معنى أن الله سبحانه وتعالى أمهرها ربع الدنيا أو نصفها، وأمهرها الجنة والنار، وكذا ما هو المقصود من كونها صديقة، وإلى ماذا يشير الإمام الصادق(ع) في قوله عنها بأنه على معرفتها دارت القرون الأولى.
ولا ريب أن المجال لا يسع للحديث عن كل واحد من هذه الأمور، ولذا سوف نركز على واحد منها، وهو معنى كونها الصدّيقة الكبرى ونشير في الختام بصورة موجزة إلى معنى دوران القرون الأولى على معرفتها.
والذي ينبغي أن يركز عليه هو أن صفة الصديقة التي أعطيت للزهراء(ع) على لسان رسول الله(ص)، والأئمة، هل تشير إلى مرتبة معنوية ربانية، أم أنها لا تعدو كونها لقباً مثل بقية الألقاب الممنوحة اليوم، فتقابل بقية الألقاب المتداولة والتي تمنح هنا وهناك لهذا وذاك.
كما ينبغي ملاحظة أنه هل يوجد فرق بين الألقاب التي يمنحها النبي محمد(ص) لشخص ما، وبين ما يمنحه الآخرون، فقوله(ص) لخزيمة بأنه ذو الشهادتين، وكذا قوله لأبي ذر بأنه ما أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، هل تكشف عن خصوصية في الممنوحين لهذه الألقاب، خصوصاً وأنه(ص) لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، أم أنها مجرد ألقاب عادية، يطلقها(ص) كما جرت العادة عن الناس جميعاً بإطلاقها.
وهذا يدعونا لتساؤل آخر، وهو: هل يعقل أن تكون الألقاب المعطاة من قبله(ص) قد أعطيت جزافاً، وبمجرد واقعة وقعت وقضية حصلت، أو أن إعطائه(ص) أحداً لقباً من هذه الألقاب ووسمه شخصاً بصفة من الصفات، يدل على أن الموصوف يمتلك ما وصفه به واقعاً؟…
لا ريب أن الإجابة عن هذه التساؤلات المذكورة تتضح من خلال التعرف على حقيقة الصدّيقية، ومعرفة معناها، وطريق ذلك يكون من خلال الرجوع لكلمات اللغويـين، لنعرف المقصود منها في كلماتهم، ومن ثمّ نلحظ ما ورد في القرآن الكريم بشأن ذلك.
معنى الصدّيق:
لا يخفى على أحد أن كلمة الصدّيق مشتقة من مادة(ص، د، ق)ومن المعلوم أن الصدق نقيض للكذب، وقد ذكر اللغويـون أن الصدّيق أبلغ من الصدوق في الصدق.
ولهم في بيان معناه ثلاثة أقوال:
الأول: أن الصديق يأتي للدلالة على كثرة اتصاف الموصوف بالصفة، والمبالغة في الصدق والتصديق.
وهذا التعريف يتقوم بأمرين:
أحدهما: أن تعبير الصدّيق يكشف عن أن الموصوف به كثير الاتصاف بصفة الصدق، وهذا يعني أن هناك زيادة عنده في هذا الأمر، وليس صدقه صدقاً اعتيادياً عادياً.
ثانيهما: أنه مبالغ في صدقه وتصديقه.
الثاني: إن المقصود من الصدّيق هو الكامل في الصدق، الذي يصدق قوله عمله.
ويختلف هذا التعريف عن سابقه أنه جعل مقومية الصدّيق المطابقة بين القول والعمل.
الثالث: أن المقصود من الصدّيق هو الذي لم يكذب قط.
وهذا أوسع من الأولين، إذ أنه لم يعتبر المطابقة بين القول والعمل، بل جعل المدار على نفي صدور الكذب منه، ومن المعلوم أن لازم نفي صدور الكذب منه يستدعي كثرة صدور الصدق عنه، لكن لا يلزم من ذلك كثرة تصديقه للآخرين، وبهذا يفرق عن المعنى الأول، إذ تضمن اعتبار الصدق والتصديق.
والإنصاف، أن أقرب المعاني الثلاثة للمقبولية خصوصاً بملاحظة الشمولية المتصورة فيه، هو المعنى الأول، وعليه سوف يكون الحديث على وفقه، فلاحظ.
الصدّيق في القرآن:
وعندما نعود للقرآن الكريم نجد أنه تضمنت آياته في غير مورد ذكر لفظ الصدّيق، فقد قال تعالى:- (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صدّيقة كانا يأكلان الطعام)[3]. والصدّيقة هي مؤنث الصدّيق كما لا يخفى.
وقال تعالى:- (واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صدّيقاً نبياً)[4]، وذكر ذلك سبحانه عن خليل الرحمن(ع) فقال تعالى:- (واذكر في الكتب إبراهيم إنه كان صدّيقاً نبياً)[5]، وتحدث سبحانه وتعالى عن إسماعيل فقال عز وجل:- (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً)[6].
وقال سبحانه وتعالى:- (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيـين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً)[7].
والتأمل في هذه الآيات يجعلنا نتحصل على أن الصدّيق لا يكون إلا نبياً أو وصي نبي، إذ أن الآيات الشريفة نصت على أن الموصوفين بالصدّيق هم خصوص الأنبياء، وأما أوصياء الأنبياء، وهم الأئمة(ع) فقد أشارت لهم الآية الأخيرة التي ذكرناها، وهي قوله تعالى:- (فأولئك مع الذين أنعم الله…الآية) فإن التعبيرات الواردة فيها تفيد المغايرة، فكل تعبير يشير لمعنى يختلف عن المعنى الآخر، وهذا يعني أن الأنبياء في الآية ليسوا هم الصديقون، بل المقصود من الصديقين فيها آخرون، وهم عبارة عن أوصياء الأنبياء، أعني الأئمة(ع).
نعم في قوله تعالى:- (ما المسيح ابن مريم إلا رسول الله قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة)[8] يمكن التمسك بأن الصدّيق يكون عبداً صالحاً، فلا يعتبر فيه أن يكون نبياً أو وصي نبي، إذ لا يقول أحد بذلك في السيدة مريم(ع)، نعم لا يمتلك الإنسان هذه الصفة أعني صفة الصدّيقية إلا وفق ضوابط وموازين سوف نشير إليها فيما يأتي.
وهذا يعني أن صفة الصديقية واحدة من الصفات التي يمتاز بها المصطفى من قبل الله سبحانه وتعالى، ولهذا كانت صفة امتاز بها الأنبياء أولاً، ثم جعلت هذه الصفة للأوصياء، ومن بعدهم كانت صفة لعباد الله الصالحين الذين انتخبهم الله سبحانه واصطفاهم لأمر ما، كمريم العذراء(ع)، فإن الله قد اصطفاها وانتخبها لتحمل المسيح عيسى بن مريم(ع).
ومقتضى ما ذكرنا أن الكاذبين وإن آمنوا فيما بعد، لا يمكن أن يحضوا بصفة الصديقية، ولا ينالوا هذه المرتبة، وهذا هو المستفاد من قوله تعالى:- (قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين)[9] فإنه قد تقرر في تفسيرها أن كل من ارتكب معصية يوماً من الأيام، أو اقترف خطيئة فضلاً عن أن يكون كافراً بالله سبحانه أو مشركاً، لا يصلح أن ينال منصب الإمامة، فلا يصطفيه الله سبحانه وتعالى من خلقه على عباده، وهذا يعني أنه لا يكون صدّيقاً، لما عرفنا من أن الصدّيقية هي صفة الأصفياء المنتجبون من قبله تعالى.
والمتحصل، أن المستفاد من القرآن الكريم أن الصدّيق يكون في ثلاثة أفراد، وهم:
1-النبي.
2-وصي النبي.
3-العبد الصالح.
أقسام الصدّيق:
ثم إن هذا الذي استنتجناه من القرآن الكريم أشار له ابن البطريق في كتابه العمدة، فإنه ذكر أن الصدّيق ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: صدّيق يكون نبياً.
الثاني: صدّيق يكون إماماً.
الثالث: صدّيق يكون عبداً صالحاً، لا نبي ولا إمام.
واستدل لهذا التقسيم من القرآن الكريم، وبالنصوص التي تضمنت أن الصدّيقين ثلاثة: حبيب وحزقيل وعلي، وهو أفضلهم. مع أن حبيب وحزقيل عبدان صالحان، ليسا نبيـين ولا إماميـين[10].
التساؤلات الثلاثة:
ومن خلال ما تقدم تتضح الإجابة عن التساؤلات الثلاثة التي تقدم عرضها في مطلع الحديث، فإنه يعلم مما ذكر أن صفة الصدّيقية صفة معنوية ربانية، وليست كبقية الألقاب الممنوحة لعامة الناس، كما أن هناك فرقاً بين ما يمنحه(ص) وبين ما يمنحه الآخرون، إذ أن منحه(ص) يشير إلى أن هناك وحياً وانتخاباً واصطفاء من الله سبحانه، دون ما يمنحه الآخرون فإنه لا يعدو أمراً اعتادوا على عرضه لأمر ما. وهذا يكشف عن أن الصادر منه(ص) من وصف ولقب لا يصدر جزافاً، وإنما يكون لغاية سماوية مرادة من الباري سبحانه وتعالى.
عائشة والصدّيقية:
هذا وقد تضمنت بعض الكتب ذكر عائشة على أنها صدّيقة، كما ثبت هذا الوصف لسيدتنا خديجة، ومولاتنا الزهراء(ع). فقد تحدث النبي(ص) عن خديجة(ع) ووصفها بأنها صدّيقة أمته، وقد عرفت وصفه للسيدة الزهراء(ع) بذلك.
ونحن لا نشاح في أن يطلق هذا اللقب والوصف على عائشة متى كانت مستجمعة لما يعتبر في هذا الوصف من شروط، وقد اتضحت مما تقدم، وهذا يعني أننا نحتاج دراسة-ولو موجزة-في سيرتها لنرى مدى تمامية تصور مفهوم الصدّيقية عندها من عدمه.
إن الرجوع لسيرة عائشة تكشف عن عدم إمكانية وصفها بصفة الصدّيقية وذلك لعدم إمكانية انطباق المفهوم المذكور وفقاً لما شرحته كلمات أهل اللغة، ونطق به القرآن الكريم عليها، وذلك للأمور التالية:
1-تشكيكها في رسالة النبي محمد(ص)، إذ جاء أنها قالت له يوماً: ألست تزعم أنك رسول الله؟ فلطمها أبوها في وجهها.
وفي مرة أخرى، قالت له(ص): اتق الله ولا تقل إلا حقاً، فرفع أبو بكر يده فرشم أنفها، وقال: أنتِ لا أم لك يا بنة أم رومان تقولين الحق أنت وأبوك، ولا يقوله رسول الله(ص).
2-وفقاً لما تقدم في بيان حقيقة المفهوم، يعتبر في الصدّيقة عدم الكذب مطلقاً، ولو على عدوها، وهذا لم يثبت في شأن عائشة، بل قد ثبت خلافه حتى أنها فرقت بين المرء وزوجه، لأنه قد نقل ابن عبد البر في الاستيعاب وابن حجر في الإصابة أن رسول الله(ص) تزوج أسماء بنت النعمان، فقالت حفصة لعائشة-أو العكس-اخضبيها أنت، وأنا أمشطها، ففعلن، ثم قالت إحداهما لأسماء: إن النبي يعجبه من المرأة إذا دخلت عليه أن تقول: أعوذ بالله منك. فلما دخل رسول الله عليها وأرخى الستر مد يده إليها، فقالت: أعوذ بالله منك، فتل بكمه على وجهه، واستـتر وقال عذت معاذاً، ثلاث مرات ثم ألحقها بأهلها.
3-نزول سورة التحريم في شأنها، فهي التي ألزمت رسول الله(ص) أن يحرم على نفسه ما أحل الله سبحانه وتعالى، فلتراجع كتب التفسير في هذا.
4-تظاهرها مع حفصة على النبي(ص) حتى أنزل الله سبحانه فيهما قرآناً، وقد سأل ابن عباس عمر بن الخطاب بقوله: من المرأتان المتظاهرتان على رسول الله؟ فما قضى كلامه حتى قال: عائشة وحفصة.
5-تنابزها بالألقاب وغيبة امرأة مؤمنة، وقصتها في هذا الأمر مشهورة مع السيدة الجليلة أم سلمة(رض)، فلتراجع في كتب التفسير.
6-حسدها لسيدتنا خديجة(ع)، وهذا من الشهرة بمستوى لا يحتاج أن ينقل فيه حديث أو خبر. وغير ذلك من الشواهد التي يتحصل عليها القارئ لسيرتها، ويقف عليها المتصفح لصفحات التاريخ، فلاحظ.
صفات الصدّيق:
ثم إنه واستكمالاً للبحث ولوضوح الرؤية لابد من استعراض الصفات التي ينبغي أن يتصف بها الصدّيق، ولابد من توفرها فيه، بحيث أن انتفاء أي واحد منها موجب للحكم بعدم انطباق عنوان الصدّيقية عليه، وتكون معياراً للتميـيز بين من هو الصدّيق، ومن ليس كذلك وإن أطلق اللقب عليه، وأدعي وصفه به، وتلك الصفات والسمات هي:
الصــــــــدق:
خصوصاً وقد اعتبرت الآيات الشريفة الكاذب ظالماً لنفسه، قال تعالى:- (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته)، وهذا يعني أنه لابد في الصدّيق أن يكون صادقاً في كلامه ومواقفه، ولا يختلف اثنان في توفر هذه الصفة في سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء(روحي لها الفداء) وفي أمير المؤمنين(ع).
العصـــــمة:
قد عرفنا فيما تقدم أن الصدّيقية صفة تكشف عن كون الصدّيق والصدّيقة شخصية تم انتخابها من الباري سبحانه وتعالى واصطفائها من قبله، وهذا يعني لزوم تزويدها بكل ما يوجب لها التسديد، لأن المفروض أن الصدّيق بلغ مرتبة الكمال، ومتى تم انتخاب واصطفاء شخص، لابد وأن يكون مسدداً. ويتضح هذا من خلال قصة السيدة مريم(ع)، قال تعالى:- (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صدّيقة)[11]، وقد أشار تعالى في آية أخرى إلى اصطفائها، فقال سبحانه:- (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين)[12]، وأظهر الله سبحانه وتعالى عصمتها وطهارتها وصدّيقيتها عندما جاءت تحمل المسيح عيسى وهي عذراء لم تعرف زوجاً، فقال لها قومها:- (يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً)[13] وقال أيضاً:- (يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً)[14] فأشارت(ع) إلى عيسى وهو في المهد طالبة منهم الاستفسار منه عن الأمر، فأجابوها:- (كيف نكلم من كان في المهد صبياً)[15] فعندها أنطق الله سبحانه المسيح عيسى فقال:- (إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً*وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً* وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً* والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً)[16].
ولا يختلف اثنان في أن مريم العذراء صدّيقة، لنص القرآن الكريم على ذلك، وبينها وبين الطاهرة فاطمة(ع) نقاط اشتراك، فهما معاً من سلالة النبوة، فمريم ابنة نبي، وفاطمة بنت خاتم الأنبياء والمرسلين،ومريم أم لنبي، وفاطمة أم لأبيها ولوصيـين، بل هي أم الأوصياء، ومريم ولدت من غير زوج إعجازاً لأنه لم يكن لها كفؤ، وفاطمة أنجبت من بعل كعلي، ولولاه لما كان لها كفء. ومريم كفلها نبي وهو زكريا، وكافل فاطمة هو سيد الخلق جميعاً محمد(ص).
وبالجملة، لابد من أن يكون الصدّيق معصوماً، وعندما نحاول تطبيق هذا اللقب والوصف ما بين الزهراء(ع) وبين عائشة، نجد عدم انطباقه على عائشة لما أشرنا له فيما تقدم من عدم توفر مقومات اللقب، فإنه لم يدع أحد فيها العصمة، بل هي لم تدع ذلك لنفسها ذلك. وهذا بخلافه في السيدة فاطمة(ع) فإنها كانت تجزم بذلك لنفسها، فضلاً عن جزم المسلمين بذلك فيها، وناهيك بآية التطهير شاهداً ودليلاً على ذلك، فضلاً عن النصوص النبوية الصادرة في شأنها والدالة دلالة واضحة على ذلك.
وهذا يستوجب أن يكون لقب الصدّيقة مختصة بفاطمة(ع)، وليس لعائشة فيه نصيب كما لا يخفى.
ثم إن هذا بعينه يمكن تطبيقه ما بين أمير المؤمنين(ع)، وبين أبي بكر لدعوى القوم أن لقب الصدّيق من ألقابه، مع أن الثابت بنص الفريقين أنه(ص) قال في شأن أمير المؤمنين(ع): الصدّيق الأكبر، والفاروق الأعظم.
كونه مطهـــراً:
ولنشر لما ذكره العلامة الأميني(ره) في حديث سدّ الأبواب فإنه يفي بالغرض، قال(ره): إن الأخذ بمجامع هذه الأحاديث يعطي خبراً بأن سدّ الأبواب الشارعة في المسجد كان لتطهيره عن الأدناس الظاهرية والمعنوية، فلا يمر به أحد جنباً، ولا يجنب فيه أحد. وأما ترك بابه(ص) وباب أمير المؤمنين(ع) فلطهارتهما عن كل رجس ودنس بنص آية التطهير حتى أن الجنابة لا تحدث فيهما من الخبث المعنوي ما تحدث في غيرهما، كما يعطي ذلك التنظير بمسجد موسى الذي سأل ربه أن يطهره لهارون وذريته، أو أن ربه أمره أن يبني مسجداً طاهراً لا يسكنه إلا هو وهارون، وليس المراد تطهيره من الأخباث فحسب، فإنه حكم كل مسجد.
وهذا يكشف عن أن الطهارة في شأن الصدّيق أعلى صفات الصدّيقية، ولا يختلف اثنان في كون الكذب رجساً، فالصدّيق يجب أن يبتعد عنه، بل يجب أن يكون صادقاً أميناً مراعياً للعهود والمواثيق أولاً ليكون صدّيقاً، ولا ريب في أن المثال الأكمل للتطهير كانت مريم العذراء(ع)، ومولاتنا الزهراء(روحي لها الفداء).
ومما ذكر يتضح أن التطهير وإن كان واقعاً ضمن العصمة، إلا أن النص عليه مستقلاً لما ذكرناه، فلاحظ.
كونه على الحنفيــة:
واعتبار هذه الصفة أمر طبيعي خصوصاً وفقاً لما ذكرناه سابقاً من أن صفة الصدّيقية صفة ربانية معنوية، فيلزم من ذلك أن يكون الصدّيق عابداً لله سبحانه وتعالى قبل الإسلام، ولم يسجد لغيره صنماً كان أو غيره، بل منذ البداية يكون على الحنفية السمحاء، فلم يشرك بالله سبحانه وتعالى طرف عين أبداً.
ولم أجد أحداً من المؤرخين تحدث عن أن الزهراء(روحي لها الفداء) قد عبدت أحداً غير الله سبحانه، بل إن ذلك لا يتصور أصلاً لما هو الثابت تاريخياً أن ولادتها كانت بعد البعثة النبوية، وأنها تخلقت من طعام الجنة، وكذا أمير المؤمنين(ع)، فإنه لم يذكر أحد أنه سجد لصنم قط، ولا عبد أحداً غير الله تعالى.
العــلم:
ووجود هذه الصفة عند الصدّيق أمر طبيعي، إذ هو لازم الاصطفاء والانتخاب الإلهي، وهذا يستدعي وجود قيمة معرفية، مما يكشف عن وجود ارتباط بين الصدّيقية وبين هذه القيمة، فكلما ازداد علم الصدّيق وإيمانه، ازداد تصديقه لله سبحانه.
الثبات على القيم والتفاني فيها:
من أهم صفات العبودية لله تعالى التفاني في ذاته المقدسة، وكمال طاعة رسوله(ص)، والسعي لنشر الدعوة بالمال والنفس، فالصدّيق من يصدّق بما آمن به عملاً ويجسمه في واقع حياته عبر أقواله وأفعاله، وكان في أعلى مراتب التفاني، فلا يقدم مصلحة على القيم، وفي قراءة التأريخ لكل من تسمى بالصدّيق دلالة واضحة على من هو الذي تنطبق عليه هذه التسمية، فلاحظ.
لزوم السنخية بينها وبين النبوة:
ويوضح هذه السنخية يوم نزول جبرئيل(ع) على رسول الله(ص) يأمره أن يبعث علياً لتبليغ آية براءة، لأنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك، وقد كان رسول الله(ص) بعث بها أبا بكر، وكذا لو رجعنا لما ورد من نصوص في شأن الطاهرة فاطمة(ع) لوجدنا السنخية بينها وبين رسول الله(ص) بل وكذا ما جاء في الحسنين(ع)، فالسنخية بينهما وبين رسول الله(ص) بينة.
دوران القرون الأولى على معرفتها:
هذا ولنختم الحديث في نهاية المطاف بالإشارة بصورة موجزة سريعة لبيان معنى ذيل النص المذكور، وهو قوله(ع): وعلى معرفتها دارت القرون الأولى، والظاهر أن المقصود من ذلك: إن جميع من تقدم نبيناً محمد(ص) من الأنبياء والمرسلين، كانوا يأمرون أممهم بمعرفة الصدّيقة الكبرى، وطالبوهم التعرف على مقاماتها، وهذا يعني أن هناك تكليفاً شرعياً لتلك الأمم بمعرفتها، وأن أعمالهم مرهونة بمعرفتها، فيستفاد أن أي أمة من الأمم السابقة لو عملت ما عملت من أعمال دونما معرفة منها لفاطمة، ومقام فاطمة، ومنـزلة فاطمة، كان عملها هباء منثوراً[17].
——————————————————————————–
[1] بحار الأنوار ج 43 ص 105 ح 19.
[2] بحار الأنوار ج 43 ص 10 ح
[3] سورة المائدة الآية رقم 75.
[4] سورة مريم الآية رقم 56.
[5] سورة مريم الآية رقم 41.
[6] سورة مريم الآية رقم 54.
[7] سورة النساء الآية رقم 69.
[8] سورة المائدة الآية 75.
[9] سورة البقرة الآية رقم 124.
[10] العمدة ص 223.
[11] سورة المائدة الآية 75.
[12] سورة آل عمران الآية رقم 42.
[13] سورة مريم الآية 27.
[14] سورة مريم الآية رقم 28.
[15] سورة مريم الآية رقم 29.
[16] سورة مريم الآيات رقم 31-33.
[17] من مصادر البحث: بحث للسيد علي الشهرستاني.