قال تعالى:- (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)[1].
مدخل:
هذه الآية الشريفة الواردة في سورة يوسف والتي تتحدث عن جزء من قصته المباركة، تضمنت طلباً من يوسف لأن يتولى منصب الوزارة من قبل الحاكم في عصره، وهذا يعني أنه(ع) قد قبل منصباً من قبل الظالم، مع أن الثابت عندنا فقهياً أنه لا تجوز الولاية من قبل الجائر والظالم، فكيف يمكننا أن نوفق بين الطلب الصادر من يوسف(ع) وبين ما عليه فتوى الفقهاء(رض) من القول بعدم جواز القبول بولاية الجائر.
وكذا أيضاً يرد الأمر نفسه بالنسبة لمسألة ولاية العهد للإمام الرضا(ع) من قبل المأمون، فكيف يمكن الجمع بين فتوى الفقهاء بحرمة الولاية من قبل الجائر وبين ما صدر من هذين المعصومين، ألم يلتفت الفقهاء إلى هذين الأمرين بحيث أنهم أفتوا بما يكون بحسب الظاهر منافياً لما ورد في هذين الأمرين، أم أن هناك معالجة يمكننا أن نوفق فيها بين الحدثين، وزارة مصر، وولاية العهد وبين الفتوى الصادرة من الفقهاء العظام.
معنى الولاية:
نحتاج في البداية إلى التعرف على معنى الولاية، وما هو المراد منها، بمعنى أنه إذا قيل فلان والٍ عن فلان فماذا يقصد منه، فنقول:
المراد من الولاية للآخر كما يستفاد من كلمات جملة من الأعلام تعني: أخذ المنصب من قبله، ويتم ذلك من خلال القيام بتسجيل الإنسان اسمه في ديوانه، مما يستدعي منه أن يقوم بأعمال الولاية، سواء كانت تلك الأعمال محرمة أم كانت مباحة.
أقسام الولاية:
ثم إن مقتضى التعريف الذي ذكر لمعنى الولاية، وجود أقسام لها، ضرورة أنها لن تكون منحصرة في خصوص الولاية من قبل الجائرين والظلمة، بل تكون أيضاً من قبل العدول والصالحين، ولذا يمكن تقسيمها إلى قسمين:
الأول: أن تكون الولاية من قبل الحاكم العادل.
الثاني: أن تكون الولاية من قبل الحاكم الجائر.
ولا ريب في أنه إذا كانت الولاية من قبل الحاكم العادل فلا إشكال في جوازها، بل ربما كانت راجحة متى ما كانت تتضمن الإعانة على البر والتقوى.
ويراد من الجواز في القول بكونها جائزة معناه الأعم الذي يشمل الوجوب أيضاً، فإنه يدخل في الولاية حينئذٍ القيام بمسؤولية القضاء، وحفظ النظام، وما شابه ذلك.
بل قد تكون الولاية في بعض الأحيان واجبة عيناً على شخص ما، وذلك إذا كانت منحصرة في شخص واحد ولا يوجد من يملك الأهلية لهذا المنصب سواه، أو أنه توقف القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه، بحيث ما عاد من يتمكن القيام بذلك سواه، أو أنه تم تعيـينه من قبل الإمام المعصوم(ع)، ولما كانت طاعته مقرونة بطاعة الله سبحانه وتعالى، فلابد من تنفيذ أمره والالتـزام به.
حكم الولاية من قبل الجائر:
أما إذا كانت الولاية من قبل الجائر، فالمعروف بين الأصحاب(رض) البناء على تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن تكون الولاية من قبله مشتملة على محرم، فلا ريب في هذه الحالة من الحكم بحرمة الدخول في الولاية من قبله.
الثاني: أن تكون الولاية من قبله مشتركة، بمعنى أنها قد اشتملت على محلل ومحرم، كما لو كان حفظ النظام يتوقف على قبوله للولاية، وفي نفس الوقت سوف يعمد إلى أخذ عطاء لخصوص الجائر من دون وجه حق، فهنا أيضاً حكم الفقهاء بكونها محرمة.
الثالث: أن تكون الولاية من قبله، وهو متمكن من القيام بالعدل، فيباح له طلبها بل ربما كان مستحباً، كما يسوغ قبولها أيضاً في حال الخوف والتقية والإكراه.
حرمة الولاية ذاتية:
هذا وربما قيل، بأنه لا معنى للقول بكون الولاية من قبل الجائر محرمة مطلقاً، بل إنما يتصور الالتـزام بالحرمة متى ما كان في الولاية من قبل الجائر العمد إلى فعل الحرام، وارتكابه، أما ما لم يكن في ذلك مثل هذا، بمعنى أنه لم يستلزم القبول بالولاية من قبله الوقوع في ذلك، فلا وجه للبناء على حرمتها.
وهذا الأمر يـبتني على القول بكون الحرمة للولاية من قبله ليست حرمة ذاتية، ولتوضيح ذلك أكثر نقول:
وقع البحث بين الفقهاء(رض) في أن حرمة الولاية بمعنى أخذ المنصب من قبل الجائر، هل هي محرمة بالحرمة الذاتية، أي أنها بنفسها محرمة حتى لو لم ينضم إليها أعمال محرمة، وعليه تكون الحرمة فيها غير مرتبطة بكونها مشتملة على محرم أم لا، نعم سوف تـتضاعف الحرمة فيما لو كانت مشتملة على المحرم، أم أن الحرمة فيها إنما هو بلحاظ انضمام الأعمال المحرمة لها، فتكون حرمتها بحسب الطوارئ الواقعة فيها، والآثام المترتبة عليها، وتضيـيع حقوق الناس؟…
فقال قسم منهم بأن الحرمة فيها حرمة ذاتية، بينما قال آخرون بأن الحرمة فيها ليست كذلك، بل تحرم متى كانت مشتملة على عمل من الأعمال المحرمة، وإلا فلا.
وقد علل بعض الفقهاء(ره) القول بكون الولاية من قبل الجائر محرمة بالحرمة الذاتية، لكونها غصباً لحق أولي الأمر(ع) المنصوص عليهم من قبل الله تعالى، فيكون التصدي لها من قبل غيرهم، وبدون إذن منهم تصرفاً في شؤونهم وسلطانهم. نعم لو صدر منهم الإذن للمتصرف كان ذلك سبباً لارتفاع الحرمة حينئذٍ[2].
ثم إن مقتضى القول بالجواز مع وجود الإذن يوضح لنا دخول جملة من الشيعة في أعمال السلطان الجائر، وبالإذن من قبل الإمام(ع) كما في قضية علي بن يقطين المشهورة مع الإمام الكاظم(ع)، وأنه كان وزيراً لهارون الرشيد.
حيث أنه يمكن تعليل ذلك إما بالإذن على أساس أن هؤلاء لا ينطبق عليهم عنوان الغاصب أصلاً، ضرورة أن الغاصب هو المستولي على السلطة والحكومة، وهو خصوص الجائر، نعم هو متصرف في حق الغير، فمتى أذن له الغير بالتصرف في حقه، ساغ له التصرف فيه. ويشهد لما ذكر مكاتبة علي بن يقطين، حيث أنه كتب إلى أبي الحسن(ع): إن قلبي يضيق مما أنا عليه من عمل السلطان-وكان وزيراً-فإن أذنت جعلني الله فداك هربت منه.
فرجع الجواب: لا آذن لك بالخروج من عملهم وأتق الله أو كما قال[3].
إذ أن الظاهر من المكاتبة وطلب الإذن بالخروج أن الحرمة كانت مرتفعة بسبب حصول الإذن منهم(ع)، مما يثبت ما ذكرناه من أن الدخول نحو تصرف في حقوقهم(ع).
نعم قد يعلل أن هذا الذي صدر من الإمام موسى(ع) ليس إذناً، بل هو بمثابة الحكم الولائي الصادر من المعصوم(ع)، أو هو نصب من قبل المعصوم لعدم الأهلية في غير المنصوب، فعندها يتعين عليه القبول كما سبق وذكرنا قبل قليل، فلاحظ.
نعم هناك نصوص لا يأتي فيها الاحتمال المذكور في قضية علي بن يقطين مثل رواية صفوان بن مهران قال: كنت عند أبي عبد الله(ع) إذ دخل عليه رجل من الشيعة فشكا إليه الحاجة، فقال: ما يمنعك من التعرض للسلطان فتدخل في بعض أعماله، فقال: إنكم حرمتموه علينا، فقال خبرني عن السلطان لنا أو لهم؟ قال: بل لكم، قال: أهم الداخلون علينا أم نحن الداخلون عليهم؟ قال: بل هم الداخلون عليكم، قال: فإنما هم قوم اضطروكم فدخلتم في بعض حقكم، فقال: إن لهم سيرة وأحكاماً، قال(ع): أليس قد أجرى لهم الناس على ذلك؟ قال: بلى، قال: أجروهم عليهم في ديونهم وإياكم وظلم مؤمن[4].
مسوغات الولاية من قبل الجائر:
هذا وقد استـثنى أعلامنا موردين من الحرمة في ولاية الجائر، فحكموا فيهما بالجواز:
الأول: القيام بمصالح العباد.
الثاني: إذا أكره عليها مع خوفه على نفسه أو ماله أو أهله أو على بعض المؤمنين.
القيام بمصالح العباد:
وقد عللوا جوازه بأنه حتى لو كانت الولاية محرمة في نفسها، ولذاتها، إلا أنه يجوز الدخول فيها من أجل التحفظ على المصالح، أو من أجل دفع المفاسد التي هي أشد مفسدة من الانسلاك في عداد الظلمة أو أعوانهم بحسب الظاهر.
وقد علل في بعض الكلمات أن قيام نبي الله يوسف(ع) إنما كان من أجل هذا، لأنه عندما يسيطر على الاقتصاد سوف يتمكن من مساعدة المستضعفين، ويخفف عنهم شيئاً من الآلام والمصاعب، ويسترد حقوقهم[5].
مضافاً إلى أن هناك جملة من النصوص دالة على جواز الدخول في ولاية الجائر، ففي خبر مهران بن محمد بن أبي نصر قال: سمعته يقول: ما من جبار إلا ومعه مؤمن يدفع الله عز وجل به عن المؤمنين، وهو أقلهم حظاً في الآخرة، يعني أقل المؤمنين حظاً بصحبة الجبار[6].
بل هناك نصوص صريحة في أنه يجوز الدخول في ولاية الجائر إذا كان سوف يقوم بمصالح العباد، فقد روى علي بن يقطين قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر(ع): إن لله تبارك وتعالى مع السلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه[7].
بل لا يـبعد أن يحكم بكونه من المستحبات، كما يظهر ذلك مما ذكره الشيخ النجاشي في ترجمته لمحمد بن إسماعيل بن بزيع، قال: قال أبو الحسن الرضا (ع): إن لله تبارك وتعالى بأبواب الظالمين من نوّر الله له البرهان، ومكن له في البلاد ليدفع بهم عن أوليائه ويصلح بهم أمور المسلمين، إليهم ملجأ المؤمن من الضرّ، وإليهم يفزع ذو الحاجة من شيعتنا، وبهم يؤمن الله روعة المؤمن في دار الظلمة، أولئك المؤمنون حقاً، أولئك أمناء الله في أرضه، أولئك نور الله في رعيتهم يوم القيامة، ويزهر نورهم لأجل السموات كما يزهر الكواكب الدرية لأهل الأرض، أولئك من نورهم نور القيامة، يضئ منهم القيامة، خلقوا والله للجنة وخلقت الجنة لهم، فهنيئاً لهم، ما على أحدكم أن لو شاء لنال هذا كله.
قال: قلت: بماذا جعلني فداك؟ قال: يكون معهم فيسرنا بإدخال السرور على المؤمنين من شيعتنا، فكن منهم يا محمد[8].
نعم بعض الفقهاء(قده) لم يرتضِ الحمل على الاستحباب، بل جعلها من الأحكام الولائية الصادرة من المعصوم(ع) تسويغاً سياسياً لمصلحة بقاء المذهب، لكون الطائفة المحقة كانت تحت سلطة الأعداء وخلفاء الجور، فولا دخول وجهاء الشيعة في الحكومات، وتوليهم لبعض الأمور حفظاً لمصالحهم والصلة إليهم والدفاع عنهم، لكان ذلك سبباً إلى انتهائهم.
الإكراه على الولاية:
فمتى ما كان هناك إكراه عليها وتوعد على تركها بما يكون شاقاً على المكره تحمله، سواءاً كان الضرر مالياً، أم كان الضرر في النفس، أم كان في الأهل، أم في غير ذلك مما يعد الإضرار به ضرراً به.
ولما حكم الفقهاء بجواز قبول الولاية عن إكراه، حكموا أيضاً بإباحة ما يلزمها من المحرمات، ما عدا إراقة الدماء.
هذا ولا يخفى أنه يعتبر لكي ينطبق عنوان الإكراه، أن يعجز المكره عن التخلي عما أكره عليه، أما لو كان قادراً على التخلص من ذلك والتفصي عنه، فإنه لا ينطبق عليه عنوان الإكراه، وبالتالي لا يكون من صغريات المكره على الولاية من قبل الجائر.
ولاية العهد:
هذا ويخرج قبول الإمام الرضا(ع) لولاية العهد على هذا الأمر أعني الإكراه، فإنه وإن كان قد يتصور في البداية تخريجه على المستـثنى الأول وهو القيام بمصالح العباد، وقضاء حوائج المؤمنين، إلا أن هذا ينفيه ما تضمنـته وثيقة العهد من التزامه(ع) بأنه لن يتصدى للقيام بأي عمل من الأعمال، فلن يعمد إلى تعيـين أو عزل، أو تدخل في أمر، وإنما سيكون إن لزم الأمر مشيراً ليس إلا.
وهذا بنفسه يعني عدم تدخله عند المأمون بأمر من الأمور، أو طلب قضاء حاجة أحد، أو تغيـير شيء ما.
ثم إن ما ذكرناه من كون قبول الإمام(ع) لولاية العهد بنحو الإكراه، وبالتالي يخرج على هذا الأمر، مجموعة من النصوص تشير إلى هذا المعنى، فلاحظ ما قاله المأمون له(ع): ما استقدمناك باختيارك، فلا نعهد إليك باختيارك، والله إن لم تفعل ضربت عنقك.
ومن الواضح أن هذا من أجلى موارد الإكراه، لأنه يتعلق بمسألة الإكراه على القبول، أو إلحاق الضرر بنفسه ومهجته الشريفة من خلال قتله.
ولذا أجابه(ع) بقوله: قد علم الله كراهتي لذلك، فلما خيرتني بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل.
وهذا الكلام منه(ع) صريح فيما أدعيناه من أنه إنما قبل بولاية العهد من باب الإكراه،لا أنه قد قبل بها رضى، أو قضاء لمصالح العباد. ويؤكد هذا المعنى أيضاً قوله(ع): ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إجبار وإكراه، بعد الإشراف على الهلاك.
وكذا يجيب(ع) أبا الصلت فيقول: وأنا رجل من ولد رسول الله(ص) أجبرني على هذا الأمر وأكرهني عليه.
بل إن هناك نصاً عن الإمام الرضا(ع) يشير إلى أن قبوله لولاية العهد، كقبول يوسف لوزارة مصر، عن إكراه لا عن رضا واختيار، فقد أنه(ع) رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إنك تعلم أني مكره مضطر، فلا تؤاخذني كما لم تؤاخذ عبدك ونبيك يوسف حين دفع إلى ولاية مصر[9].
——————————————————————————–
[1] سورة يوسف الآية رقم 55.
[2] المكاسب المحرمة ج 2 ص 159.
[3] وسائل الشيعة ب 46 من أبواب ما يكتسب به ح 16.
[4] وسائل الشيعة ب 39 من أبواب ما يكتسب به ح 23.
[5] الأمثل في تفسير القرآن المنـزل ج 7 ص 212.
[6] وسائل الشيعة ب 44 من أبواب ما يكتسب به ح 4.
[7] وسائل الشيعة ب 46 من أبواب ما يكتسب به ح 1.
[8] رجال النجاشي رقم 893 ص 331.
[9] أمالي الصدوق ص 525 ح 13.