قال تعالى: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)) سورة الممتحنة الآيتان 8-9.
مدخل:
جاء القرآن الكريم بمنهجية تغاير المنهجية التي كانت موجودة في المجتمع الذي نزل فيه، إذ نزل في الجزيرة العربية التي كانت تعيش العصبية القبلية والحروب الطاحنة.
وجاء القرآن يدعو إلى السلم، وينهى عن القتال إلا للدفاع عن النفس، أو لإنصاف المظلوم من الظالم، قال تعالى:- (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلوكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) سورة البقرة الآية 190، وقال تعالى: -(وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداها على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) سورة الحجرات الآية 10
وقد حث القرآن الكريم على السلم في العديد من الآيات الشريفة:
منها: قوله تعالى: -(يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) سورة البقرة آية 208.
ومنها: قوله تعالى:- (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) سورة النحل آية 125.
فتشير إلى المنهج السلمي الذي ينبغي أن تكون عليه المفاوضات لحل المشاكل الدولية وغيرها بهذا الأسلوب.
بل ترقى القرآن الكريم، فدعا إلى أخوة عالمية تقوم على أساس التعارف والحب والبر والعدل، قال تعالى:- (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) سورة الحجرات آية 13
فالهدف من تعدد الشعوب والقبائل هي التعارف والتآلف.
في ظلال الآية:
وحينما نتأمل الآية الشريفة نراها تقسم المشركين إلى قسمين:
الأول: الذين لا يضمرون العداء للمسلمين ولا يؤذونهم ولا يحاربوهم، كما أنهم لم يشاركوا في إخراجهم من ديارهم وأوطانهم، بل إن قسما منهم قد عقد عهدا بالسلم وترك العداء مع المسلمين.
وقد أشار القرآن الكريم إلى أن الإحسان وإظهار الحب لهذه المجموعة مما لا مانع منه، كما أن من عقد معهم عهدا فيجب الوفاء به، وينبغي أن تكون العلاقة معهم علاقة القسط والعدل.
الثاني: وهم الذين عارضوا المسلمين ووقفوا بوجوههم وشهروا عليهم السلاح وأخرجوهم من بيوتهم وديارهم كرها، وأظهروا عداءهم للإسلام والمسلمين في القول والعمل.
وهؤلاء لا بد أن يكون موقف المسلمين منهم هو الامتناع عن إقامة كل لون من ألوان علاقة المحبة وصلة الولاء معهم.
الآيتان في واقعنا:
ثم إن القرآن الكريم لا يختص بذلك الوقت فقط، بل يمثل خطا عاما لطبيعة هذه العلاقة في كل الأزمنة سواء اليوم أم غدا في الحياة السابقة، وحياتنا المعاصرة والمستقبلية.
فالحكم المستفاد من الآيتين الشريفتين يشكل أصلا كليا وأساسا حول طبيعة وكيفية العلاقة بين المسلمين وغيرهم.
وواجب المسلمين وفق مقياس هذه الأسس أن يستقيموا ويحاربوا كل جماعة أو دولة، تتخذ موقفا عدائيا منهم وتقف في طريق إسلامهم، وأن لا يعينوا من أراد بالإسلام والمسلمين سوءا.
حركة المنهج في الواقع:
وعلى ضوء الآيتين الكريمتين نستطيع أن نعرف النظرة الإسلامية للعلاقات الدولية مع غير المسلمين في الأمور السياسية، والأوضاع الاقتصادية.
فإن الله لا ينهى عن إقامة علاقات حسنة معهم ما داموا لا ينالوا من الإسلام والمسلمين، بل لا ينهى عن البر بهم والعدل معهم، فإن ذلك يفسح المجال لعلاقات إنسانية، سياسية واقتصادية إيجابية، لأن كلمة البر قد تتسع للكثير من النشاطات العامة، كما أن كلمة العدل قد تتحدث عن التوازن في المواقف والعلاقات.
وعندما نقرأ قوله تعالى:- (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم) سورة الممتحنة الآية 9، نجد أن من اشتمل على أحد أمور ثلاثة، فإننا منهيـين عن بره والعدل إليه:
1-فمن حاربنا في ديننا بحيث يعمل على إخراجنا من ديننا، في مواقعه الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، فسخر كل وسيلة من وسائل الضغط علينا رغبة في إبعادنا عن ديننا.
2-الذين أرجونا من ديارنا من أي موقع من المواقع وشردونا عن بلادنا، ويقف في مقدمة هؤلاء الصهاينة واليهود، الذين شردوا المسلمين عن فلسطين واحتلوها وصادروا أراضيها، ولم يكتفوا بذلك، بل لم يرضوا حتى بإرجاعهم إلى بلادهم، بل يعملون على محاصرتهم في بلادهم ليشردوهم من جديد.
3-الذين ظاهروا على إخراج المسلمين كالدول الكبرى التي ساعدت اليهود على الاستيطان في فلسطين واحتلالها بما أعطتهم من قوة عسكرية وسياسية واقتصادية وتقف في الطليعة بريطانيا وأميركا، ولا زال الأميركان إلى اليوم يدعمون إسرائيل ويحافظون عليها.
وهاهم اليوم يساعدون اليهود على إخراج الفلسطينيـين من ديارهم أو إبقائهم مشردين منها، بل يعينوهم على القيام بالمجازر الوحشية مقابل الأطفال والنساء والشيوخ والأبرياء.
العلاقة مع هؤلاء:
وعلى ضوء هذا علينا أن ندرس علاقتنا مع تلك الدول، الدول الكبرى أو الصغرى، التي تتحرك ضد المسلمين بطريقة عدوانية ضد مصالحهم السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية، لأن القضية ليست منحصرة في خصوص القتال والمساعدة على التشريد، كخصوصيتين ذاتيتين، بل هما نموذجان للعداوة التي تمثل المبدأ الذي يدور مداره الموقف الودي أو الموقف المضاد.
وهذا يستدعي أن نتخذ موقفا جادا تجاه هذه الدول، خصوصا وقد رأينا كيف تنال من الإسلام والمسلمين، وكيف تساعد الدول التي تنال من الإسلام وأهله، فلا بد من مقاطعتها، ومقاطعة منتجاتها، لأن هذه المبادلات التجارية تعدّ إعانة للظالمين ولمن يسعى للنيل من الإسلام، وقد أفتى علماؤنا بعدم جواز إعانة الظالمين ومن ينال من الإسلام بقطع كل صلة قائمة معهم، سواء على أساس المحبة أم التبادل التجاري، وغير ذلك.
ومن العجيب أننا نسعى لتقويتهم اقتصاديا، مما يقويهم سياسيا وعسكريا، مع أننا نسمع أن بعض اليهود ألف عصابة لجمع المال تحت شعار (ادفع دولارا تقتل عربيا) فمن يدفع أي شيء لليهود بحيث يكون ربحا تجاريا لهم، فمعنى ذلك أنه يساهم في شراء رصاصة يقتل بها اليهود والأمريكان من شاءوا من المسلمين.
نحن نتفق جميعا على أن أمريكا تضطهد الواقع السياسي الإسلامي، وهي التي صنعت الكيان الصهيوني وتدعمه وتقويه، ونحن نحتج على أمريكا ونقدر على مقاطعتها كليا، لأن البضائع الأمريكية لها بدائل كما في البضائع الأوروبية أو اليابانية أو الآسيوية، وهي أخف في سياستها من أمريكا، فلماذا لا نشتري إلا بضاعة أمريكية ؟
نحن ضد أمريكا ونرفضها، إلا أننا نستعمل منتجاتها ونروج لبضائعها ومن أكثر مستهلكيها، فنشرب البيبسى والكوكا كولا والسفن آب، وندخن مالبورو، ونستعمل الصابون والشامبو الأمريكي، وهكذا.
فنحن نقول بألسنتنا شيئا، لكننا في استخدامنا لحاجياتنا نطبق شيئا آخر.
وهذا يعني أنك تقتل أمريكا، بلسانك لكنك تحييها بأموالك، وماذا سيضر مصانع أمريكا، لو تكلم العالم بأكمله ضدها، ومعاملها كلها لم يتوقف منها مصنع واحد، بل هي في ازدياد يوما بعد آخر.
قال تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) سورة الصف الآيتان رقم
التعامل الحذر:
وليعلم أننا لا ندعو إلى مقاطعة العالم، وأن على المسلمين مقاطعة غير المسلمين، بل ندعو إلى ترك الأمية السياسية وحصول الوعي السياسي، من خلال كون المسلمين حذرين في التعامل مع الآخرين.
ودراسة الظروف والمصالح المحيطة بهم، فلا يقاطع من كانت له مصلحة من أجل الإسلام، خصوصا مع عدم توفر الاكتفاء الذاتي للمسلمين.
وهذا يعني أنه إنما يشمل الحكم بلزوم المقاطعة خصوص الأشياء التي يوجد لها بدائل، ويمكن للمسلمين أن يستغنوا، فلا تتوقف أمورهم الحياتية بتركها.
أما كل شيء لا يوجد له بديل في الحياة اليوم، والحياة البشرية تتوقف عليه، بحيث لا يستغنى عنه، فإن الحكم الأولي، وإن كان يقضي بعدم جواز شرائه لكونه يمثل العلاقة والمساعدة للظالم الذي نهينا عن مساعدته وإعانته.
لكن الحكم الثانوي يقضي بجواز استخدامه والاستفادة منه لكونه مورد حاجة، فمتى انقضت الحاجة إليه، رجع الحكم الأولي، ليقضي بعدم جواز استخدامه.