وهي من القواعد الفقهية التي أعتمد عليها كثير من الأصحاب وأفتوا على طبقها في بعض الأبواب الفقهية ورتبوا عليها أثراً عملياً كبيراً ولما كان البحث عنها ذا ثمرة عملية كبيرة لما لها من مدخلية في إستنباط بعض الأحكام الشرعية.صار لزاماً على الفقيه أن يتخذ رأياً فيها .
وعليه يقع البحث عنها في ضمن مقامات:-
الأول:في تأريخ القاعدة:
إن أول من وجدناه قد تعرض للقاعدة بحسب ملاحظة كلمات أصحابنا هو شيخ الطائفة (قده) فلم يتعرض لها الشيخ الكليني (ره) في الكافي كما لم يتعرضها الشيخ الصدوق (قده) في كتابه من لا يحضره الفقيه وكذا الشيخ المفيد (ره) في كلماته وفتواه بل المعروف عن الكليني والصدوق أنهما يلتزمان بمفاد معتبر علي بن حنظلة الوارد في المنع عن ترتيب الأثر على المطلقات في مجلس واحد ومعاملتهم معاملة المتزوجات لأنهن كذلك.
مما يعني أن هذه القاعدة حتى القرن الخامس لم تكن معروفة بين الأصحاب فيفيد ذلك هجران النصوص_بناءاً على التسليم بكبرى الإعراض كما هو المختار_ الدالة عليها لو تمت دلالتها على ذلك بعد شمول دائرة الحجية لها بين الأصحاب ولذا لم يعملوا بها.
لا يقال:-بأن هذا من الهجران المبتني على أساس وجه صناعي فني منشأه عدم تمامية الدلالة بنظرهم مما أوجب ذلك هجرانها وعدم العمل بمضمونها.
فإنه يقال:-قد حققنا في محله أن التفصيل بين موارد الإعراض في غير محله وأن دائرة الحجية بناءاً على مختارنا لا تشمل مثل هكذا روايات لأن الظهور أمر عقلائي والتفصيل في مجاله إن شاء الله تعالى.
وما قد يقال:-بأن هذه النصوص كانت معروفة بين القدماء والدليل على ذلك أن إحدى هذه النصوص مروية من كتاب العلاء بن رزين أو من كتاب محمد بن مسلم وكلاهما كتابان مشهوران فلا مجال لدعوى الإعراض فضلاً عن دعوى أن القاعدة لم تكن معروفة إلا في زمان الشيخ (ره) .
مدفوع، بأن النص المذكور سيأتي أنه لا دلالة له على القاعدة ومنشأ ذلك أنه من النصوص المختلف فيها فيحتمل حصول تصحيف فيه مما يمنع من قبوله كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى فأنتظر.
والحاصل إن كون القاعدة غير معروفة الجذور بين الأصحاب أو مهجورة بينهم شاهد سلبي على الاعتماد عليها فلا محيص من التأمل والبحث عن شواهد إيجابية تحصّل الوثوق للركون إليها وإن كان مجرد تفرد شيخ الطائفة (ره) مانع وبشدة من قبولها في دائرة الحجية والله أعلم.
الثاني:الشواهد القطعية على القاعدة:
ذكرنا غير مرة أن القواعد الكبروية تحتاج إلى شواهد قطعية للركون إليها والاعتماد عليها في مقام الفتوى من خلال الكتاب الشريف أو السنة القطعية أو حكم العقل أو حكم العقلاء.
والظاهر أن شيئاً من هذه الأمور غير متوفر في المقام حيث لا يوجد شيء من آيات الكتاب المجيد دال على ذلك ليصلح كونه شاهداً عليها.
نعم قد يقال بورود مجموعة من الآيات القرآنية دالة على ذلك:-
منها:-قوله تعالى(لكم دينكم ولي دين)[1]بتقريب:-
قد دلت الآية الشريفة على إقرار النبي (ص) الكفار على دينهم مما يعني أن أهل كل ملة ملزمون بما التزموا به وإن خالفوا الفرد المخاطب فيما يلتزم به.
ولا يخفى ما فيه حيث أن الآية المباركة واردة في خطاب النبي (ص) مع كفار مكة ومقتضى ما أفيد من التقريب هو الالتزام بجواز عبادة الأصنام وهذا مما لا يلتزم به أحد.
والحق أن مفاد الآية والله العالم هو استخدام الله عز وجل مع هؤلاء نوعاً من أنواع التحقير والتهديد بأن أبقوا على ما أنتم عليه وسترون ما سيحل بكم.
وعلى فرض عدم القبول قد يقال بوجود محذوف مقدر وحاصله:-لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني.بل قد قيل بأن معنى الدين هو الجزاء فلا تقدير لمحذوف أصلاً.
ومنها:-قوله عز من قائل(لست عليهم بمسيطر)[2]بتقريب:-
إن مفادها أنه لا مجال لأحد على أحد فلا يمكنه أن يسيطر عليه ليلزمه بما ألتزم به فلذا قبل الشارع المقدس من كل فرد حكمه على ما ألتزم به هو فيلزم به من خلال التزامه بذلك.
وفيه:-إن الآية الشريفة في مقام بيان أن النبي (ص) ليس له السيطرة على هؤلاء الكفار ليلزمهم على الدخول في الإسلام لا أنها واردة في مقام الإقرار لأهل الملة على ملتهم.
مضافاً إلى أن قبول التقريب المذكور لازمه إقرار الكفار على كفرهم وقد عرفت المنع عنه فلاحظ وتأمل.
على أن دلالتها على قاعدة الإقرار أوضح كما هو ظاهر.
ومنها:-قوله تعالى(ما أنت عليهم بجبار)[3]لأن نفي الجبر عنه (ص) دليل واضح على إفساحه (ص) لكل أحد حرية الرأي في اتخاذ المسلك الذي يريد وهذا من أوضح الشواهد على إلزام أهل الملل السابقة بمللها.
وفيه:-إن هذه الآية في مقام التسلية والتسرية عن النبي (ص) لما يلاقيه من كفار مكة وتشير له إلى أنك لست إلا مبلغاً لرسالة السماء ولست جباراً فلا دلالة لها على مفاد القاعدة.
وعلى فرض التنـزل والقبول بالدلالة فإن دلالتها على قاعدة الإقرار أولى وأظهر.
ومنها:قوله تعالى(لا إكراه في الدين)[4]على أن يكون المراد منها أن مسألة الدخول في الدين الإسلامي من الأمور الاختيارية فلا إكراه لشخص على لزوم الدخول في هذا الدين، وما ذلك إلا عبارة عن قبول الشارع لما يتعبدون به فعندها يلزمون من خلال ما يلتزمون به.
وفيه:-إن مفاد الآية المباركة هو أن اعتناق الإسلام ليس من الأمور الإلزامية بل هو من الأمور الاختيارية التي يدخل الإنسان فيها بكامل اختياره وهذا أجنبي عن التقريب المذكور للاستدلال به على المدعى فلاحظ.
ومنها:-قوله تعالى(ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه)[5]على أن لا يكون المنع من قبول دين آخر منهم دليل على المنع من غيره فلا دلالة له على الجبر على ترك ما يكون الإنسان عليه من التعبد من ملة.
والإنصاف أن هذا في غير محله بل على خلاف الفهم العرفي حيث أن الظاهر عرفاً من الآية المباركة والله العالم عبارة عن رفض كل دين غير الإسلام وما هذا إلا للإشارة إلى بطلان كل دين غيره.
ومنها:-قوله تعالى(وليحكم أهل الإنجيل)[6].وقوله تعالى(إنا أنزلنا التوراة)[7].
ولا يخفى ظهورهما في أن هذا منه عز وجل قبول لهم على ملتهم وإلزام لهم بذلك.
وفيه:-لو سلم هذا الظهور فإن هذا التقريب خلاف المشهور لأن المشهور لا يدعي دلالة القاعدة إلا على إلزام المخالف ليس إلا، بينما مفاد هذا التقريب هو التعدي عن ذلك لتشمل حتى أهل الملل كما هو مختار شيخنا التبريزي(دامت بركاته)، وبعض الأعاظم(قده).
والحق عدم تمامية الآيتين المباركتين على ذلك حيث أن مفاد الآية الأولى هو:-
الإشارة إلى أن أهل الإنجيل يحكمون بحكمهم قبل أن ينسخ ذلك برسالة النبي (ص) ولا دلالة لها على أنه إلزام لهم بذلك وعلى فرض قبول دلالتها فإنها على قاعدة الإقرار أقرب وضوحاً منها على قاعدة الإلزام هذا كله بعد التسليم بكونها ذات علاقة بالمورد، وإلا فالأقرب أنها أجنبية عن المقام فلاحظ.
وأما الآية الثانية فجوابها أنها واردة في خصوص الحكم بذلك في أمة موسى وبيان أن الأنبياء الذين أطاعوا الله عز وجل في العمل بذلك هم الذين أسلموا وليس لهذا مدخلية بما نحن فيه بل لا ربط له بما ذكر في التقريب والله تعالى أعلم.
مضافاً إلى أنه لو قيل ببقاء تلك الأحكام الموجودة في التوراة فإنما مردها إلى ما لم يحصل فيه نسخ من قبل الشريعة المحمدية على من جاء بها وآله أفضل الصلوات والتحية.
والحاصل أن شيئاً مما قد يذكر كشاهد قطعي على القاعدة لم ينهض للدلالة على ذلك كما قد أتضح.
هذا وليس في السنة القطعية شيء يشير إلى ذلك كما أن حكم العقل على خلافها حيث أن العقل يحكم في مثل هكذا بالمنع من الزواج بها لأنها ذات بعل ولا أقل من حكمه بالاحتياط والتوقف.
وأما العقلاء فليس لهم مرتكز على ذلك حتى يقال بأن السيرة العقلائية شاهد على قبولها.
ودعوى بعض الأعيان (قده) بأنها قاعدة تسهيلية إمتنانية نظامية جارية في جميع الملل والأديان فهي معتبرة ما لم يوجد ردع من الشارع المقدس عنها ولذا نرى العقلاء يرتبون أثراً على المعاملة الموقعة من قبل طرف قد أقر على نفسه بتمامية ذلك على وفق دينه وملته فمتى ما وجد لهذه المعاملة المقتضي وفقد المانع رتب الأثر عليها[8].
مدفوعة بحصول خلط له (قده) في المقام ما بين قاعدتي الإلزام التي هي محل البحث وبين قاعدة الإقرار حيث أن ما ذكره من تباني العقلاء وجريان إرتكازاتهم إنما هو في خصوص الثانية دون الأولى.
ضرورة أنه قد يقال بالمنع عن ثبوت هذا المرتكز العقلائي على الإلزام فتأمل.
والحاصل إن عدم وجود شواهد مساعدة على مثل هذه القاعدة شاهد سلبي يمنع من الاعتماد عليها.
بل قد نقول بأن الشواهد القطعية على خلافها إذ أنه مضافاً إلى ما ذكرناه من كون مفادها مخالف لمفاد حكم العقل بلزوم التوقف والاحتياط توجد بعض الأخبار وإن كانت أخبار آحاد إلا أنها تصلح لتأييد المنع منها فلاحظ ما رواه عمر بن حنظلة، وكذا ما رواه حفص بن البختري، وكذا ما جاء عن علي بن حنظلة، وستأتي الإشارة لهذه النصوص في البحث عن مدرك القاعدة إن شاء الله تعالى فأنتظر.
الثالث:الإلزام رخصة لا عزيمة:-
قد يتصور بأن مفاد القاعدة هو العزيمة فينبغي الالتزام بمؤداها إلا أن الحق على خلافه، إذ مفادها الرخصة، فيجوز للإنسان البناء على ذلك والالتزام بما ألزم المخالف نفسه فيه، لا أنه يجب عليه ذلك.
والسر في ذلك يرجع إلى أن المدعى أن هذه القواعد من القواعد التسهيلية الإمتنانية التي جعلت تخفيفاً على المكلف وتسهيلاً له وهذا يتنافى مع كونها عزيمة.
هذا كله بناءاً على تمامية القاعدة وقد عرفت ما فيه فلا نعيد كما وسيأتي له مزيد توضيح من التعرض لمدرك القاعدة فأنتظر.
——————————————————————————–
[1] سورة الكافرون:6.
[2] سورة الغاشية:22
[3] سورة ق:45.
[4] سورة البقرة:256.
[5] سورة آل عمران:85.
[6] سورة المائدة:27.
[7] سورة المائدة:44.
[8] مهذب الأحكام ج 26 ص 37.