المسافة الملفقة

لا تعليق
خواطر حوزوية
316
0

لا ريب في أن النصوص الواردة في أن المسافر وظيفته القصر إذا قطع ثمانية فراسخ، ظاهرة أو نص في المسافة الامتدادية. فلو قطع المكلف ثمانية فراسخ، لكن تلفيقاً، بمعنى أنها ليست امتدادية، فهل يكون الحكم فيها هو عين الحكم فيما لو كانت المسافة امتدادية؟…

قد تشتت آراء الأصحاب في هذه المسألة، حتى عدّها الفقيه البروجردي(قده)[1] إلى ثمانية، وإن كان قد ذكر أن بعضها حكيت لكنها لم تنسب إلى قائل، ونحن نشير لما ذكره(ره) من الأقوال، فنقول:

الأول: تعين القصر مطلقاً، سواء رجع من يومه أم بعده، أم لم يرجع أصلاً، وهذا يعني أن موضوع القصر هو قطع الأربعة فراسخ، وقد عرفت منا فيما تقدم كون هذا هو قول شيخنا الكليني(قده)، فلاحظ.

الثاني: تعين التمام مطلقاً، وهو ممن لم يصرح به من قبل أحد، وإن كان يلوح القول به من الحلبي في كتابه الكافي، ومن السيد ابن زهرة في كتابه الغنية.

الثالث: التخيـير بين القصر والتمام، مطلقاً، وقد أختاره السيد في المدارك، والشيخ حسن في المنتقى، وقال عنه في الروض أنه أوجه. وهو مختار الشيخ(ره) في التهذيـبين.

الرابع: تعين القصر لمن أراد الرجوع قبل العشرة، وتعين التمام لمن لم يرد الرجوع في تلك الفترة الزمنية، وهو قول ابن أبي عقيل العماني، على ما حكاه عنه العلامة(ره) في المختلف.

الخامس: تعين القصر لمن أراد الرجوع مطلقاً، سواء كان من يومه أم بعده، وأما من لم يرد الرجوع فهو مخير بين القصر والتمام، ولم يعرف به قائل.

السادس: تعين القصر لمن أراد الرجوع من يومه وأما غيره فإنه يكون مخيراً، وهو المشهور بين القدماء.

السابع: تعين القصر لمن أراد الرجوع من يومه، وتعين التمام لغيره، وقد اختاره السيد المرتضى وابن إدريس والمحقق وأكثر المتأخرين، ومال إليه الشيخ الأعظم الأنصاري(قده).

الثامن: الحكم بالتخيـير لمن أراد الرجوع من يومه وتعين التمام لغيره.

ثم إن المشهور بين الأصحاب أنه لا فرق في التقصير بين المسافة الامتدادية، والمسافة التلفيقية، نعم وقع الخلاف بينهم في كيفية التلفيق، وهذا ما سنشير إليه.

هذا وينبغي أولاً التعرض لنصوص المسألة، فنقول:

إن النصوص الموجودة عندنا على طوائف ثلاث، وإن جعلت في بعض الكلمات أربع، وفي بعضها خمساً.

أما من جعلها أربعاً، فقد أدرج فيها النصوص الدالة على مختار شيخنا الكليني(ره) من أن المسافة الشرعية الموجبة للتقصير مقدرة بأربعة فراسخ. بناءاً على أن هذه النصوص مطلقة من حيث الرجوع، فهي تفيد أن السفر أربعة فراسخ يوجب التقصير مطلقاً، سواء عاد مثلها، أم لم يعد، فتقيد بالنصوص الدالة على أن المسافة الشرعية مقدرة بثمانية فراسخ[2].

وهو ممنوع، ضرورة أن حمل المطلق على المقيد، إنما يكون حال وجود التنافي بين الطائفتين، لا ما إذا كانت الطائفتان مثبتتان، كما هو في محل البحث، فلا وجه لحمل المطلق على المقيد، فلاحظ.

ومن جعلها خمساً، أضاف لها مضافاً لنصوص البريد، أو الأربعة فراسخ نصوص الخروج إلى عرفات، وسوف يأتي التعرض إليها إن شاء الله تعالى.

وعلى أي حال، الطوائف الثلاث التي عنيناها هي كالتالي:

الأولى: ما دل على أن السفر الموجب للقصر هو ثمانية فراسخ امتدادية، مع اختلاف بينها في التعبير عن هذا المعنى، إذ ورد في بعضها بياض يوم، وفي بعضها الآخر بريدان، وقد عرفت منا فيما تقدم أن المدار على بياض اليوم، عمدة ما كان أن البريدين، وكذا الثمانية فراسخ معرفان لبياض اليوم، وعلى أي حال، فالنصوص:

منها: صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم أنهما قالا: قلنا لأبي جعفر(ع): ما تقول في الصلاة في السفر؟ كيف هي، وكم هي؟… فقال: إن الله عز وجل يقول:- (وإذا ضربتم)-إلى أن قال- وقد سافر رسول الله(ص) إلى ذي خُشُب، وهي مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان: أربعة وعشرون ميلاً، فقصر وأفطر، فصارت سنة[3].

وقد عرفت منا فيما مضى أن النصوص ظاهرة في المسافة الامتدادية، حيث أن الظهور الأولي، بل العرفي أن المسافة ما بين المبدأ والمقصد على نحو المسافة الامتدادية.

ومنها: صحيحة أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله(ع): في كم يقصر الرجل؟ فقال: في بياض يوم أو بريدين، خرج رسول الله(ص) إلى خُشُب فقصر. فقلت: فكم ذي خُشُب؟ فقال: بريدان[4].

ومنها: موثقة سماعة قال: سألته عن المسافر في كم يقصر الصلاة؟ فقال: في مسيرة يوم، وهي ثمانية فراسخ، ومن سافر فقصر الصلاة أفطر، إلا أن يكون رجلاً مشيعاً، أو يخرج إلى صيد أو إلى قرية له فيكون مسيرة يوم يبيت إلى أهله لا يقصر ولا يفطر[5].

أقول: قد يقال: أن هذا من المضمرات، وبالتالي يتوقف في حجيته للقول بعدم حجية المضمرات، وهو ممنوع لما ذكرناه في بعض بحوثنا الفقهية من وجود طرق ثلاثة يمكن الركون إليها جميعاً، أو لواحد منها في البناء على حجية المضمرات.

على أنه قد ذكرنا غير مرة أن سماعة لا تشمله القاعدة المذكورة، للبناء على حجية مضمراته بقول مطلق، بل لما ذكرناه غير مرة من أن منشأ الإضمار غالباً في مرويات سماعة يعود للتقطيع الذي طرأ عليها، فلاحظ.

ومنها: خبر العيص بن القاسم عن أبي عبد الله(ع) قال: في التقصير: حدّه أربعة وعشرون ميلاً[6].

أقول: بين التهذيب والاستبصار اختلاف في من يروي عنه الشيخ(ره) بسنده، إذ الوارد في الاستبصار الرواية عن الأب، بينما هي في التهذيب مروية عن الابن.

وعلى أي حال، فلو كانت مروية عن الأب، فإن في سند الشيخ له مشكلتين:

الأولى: من جهة علي بن محمد بن الزبير القرشي، فإنه لم يوثق، وكونه من المعاريف، كما عن شيخنا التبريزي(دامت أيام بركاته) لا يجدي في توثيقه، لما ذكرناه غير مرة من عدم تمامية الكبرى.

الثانية: من جهة وجود ابن عبدون، ولا سبيل لتوثيقه إلا من خلال كبرى وثاقة جميع مشائخ النجاشي، وقد ذكرنا في الفوائد الرجالية، عدم تمامية الكبرى المذكورة، فلاحظ.

ومنه يتضح أن التعويض المجرى من قبل بعض الأعاظم(قده) لطريق الشيخ(ره) بطريق النجاشي كي يتغلب من خلاله على مشكلة الزبيري، لا يجدينا لوجود ابن عبدون، فلاحظ.

الطائفة الثانية: ما دل على كفاية المسافة التلفيقية في اتجاهين، ولو ذهاباً وإياباً:

منها: صحيحة معوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد الله(ع) أدنى ما يقصر فيه المسافر الصلاة؟ قال: بريد ذاهباً وبريد جائياً[7].

ومنها: صحيحة زرارة قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن التقصير؟ فقال: بريد ذاهب وبريد جائي.

قال: وكان رسول الله(ص) إذا أتى ذباباً قصر، وذباب على بريد، وإنما فعل ذلك لأنه إذا رجع كان سفره بريدين ثمانية فراسخ[8].

ومنها: ما رواه الفضل بن شاذان في العيون، والعلل عن الرضا(ع) قال: إنما وجبت الجمعة على من يكون على رأس فرسخين لا أكثر من ذلك، لأن ما تقصّر فيه الصلاة بريدان ذاهباً، وبريد ذاهباً وبريد جائياً[9].

ومنها: خبر حفص المروزي قال: قال الفقيه(ع): التقصير في الصلاة بريدان، أو بريد ذاهباُ وجائياً[10].

أقول: في سنده المروزي، ولا طريق لتوثيقه إلا تمامية كبرى كامل الزيارات.

هذا وقد ذكر الأصحاب، أن هذه الظائفة تصلح لتقيـيد الطائفة الدالة على أن الموجب للتقصير هو خصوص الأربعة، بدعوى أن نصوص الأربعة فراسخ مطلقة من حيث الرجوع، فتصلح هذه النصوص لتقيـيدها.

الطائفة الثالثة: ما دل على أن العبرة هي بلوغ المسافة ثمانية فراسخ، سواء كان بالامتداد، أم كان في خطين، ذهاباً وعودة من دون فرق بين كونهما متساويـين أم لا:

منها: صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر(ع) قال: سألته عن التقصير؟ قال: في بريد، قال: قلت: بريد؟ قال: إنه إذا ذهب بريداً ورجع بريداً، فقد شغل يومه[11].

ومنها: صحيحة زرارة قال: وكان رسول الله(ص) إذا أتى ذباباً قصر، وذباب على بريد، وإنما فعل ذلك لأنه إذا رجع كان سفره بريدين ثمانية فراسخ[12].

ثم إن ما ينبغي تنقيحه في المقام أمر، وهو:

هل أن الموجب للقصر هو سبب واحد، المعبر عنه بالثمانية فراسخ، سواء انت امتدادية، أم كانت تلفيقية، أم أن الموجب للتقصير هو سببان:

الأول: المسافة الامتدادية.

الثانية: المسافة التلفيقية، والذي استفيد من خلال الحكومة الوارد في كلام الإمام(ع) بتوسعة الموضوع، كما يستفاد من كلام بعض الأعاظم(قده).

قد يقال بالثاني، نظراٍ لكون نصوص المسافة التلفيقية ناظرة لنصوص الثمانية، إذ سبق وذكرنا أن نصوص الثمانية ظاهرة في المسافة الامتدادية، وهذا يوجب عدم كون النصوص المحددة للمسافة التلفيقية بالذهاب بريد والرجوع مثله، ناظرة إلى النصوص المتعرضة للتحديد بالثمانية على أنها الثمانية بالمعنى الأعم، لأن كونها كذلك يوجب عدم ثبوت خصوصية للأربعة.

وعلى هذا فالقاعدة تقضي بكون الثمانية الملفقة سبباً مستقلاً للتقصير، مقابل الثمانية الامتدادية.

وبعبارة أوضح، هناك احتمالان موجودان في أخبار التلفيق:

الأول: أن تكون أخبار التلفق مفسرة وشارحة لأخبار الثمانية حقيقة، وهذا يقضي برفع اليد عن ظهور أخبار الثمانية في الامتداد، وعندها سوف يكون المارد من الثمانية بعد ضم أخبار التلفيق إليها، هو إجاد الثمانية خارجاً كيف ما اتفق، ومن الواضح، أنه بناءاً على هذا الاحتمال، لن يكون هناك موجبان للتقصير، بل الموجب له أمر واحد، وهو إيجاد الثمانية خارجاً كيفما اتفق.

الثاني: أن تبقى أخبار الثمانية فراسخ على حالها، ويحفظ لها ظهورها في الامتداد، وتكون أخبار التلفيق ناظرة إلى موضوع آخر، فتكون دالة على أن المسافة الموجبة للتقصير كما تكون بقطع ثمانية فراسخ امتدادية، تكون أيضاً من خلال قطع ثمانية فراسخ تلفيقية، وهذا يوجب وجود موجبين للتقصير:

أولهما: المسافة الامتدادية. ثانيهما: المسافة التلفيقية.

والنسبة بينهما هي العموم من وجه كما لايخفى، إنهما يفترقان في من ذهب بريدين إمتداداً، ولم يرجع، وفيمن ذهب بريداً، ورجع، فإن الأول حقق المسافة الامتدادية، وحقق الثاني المسافة التلفيقية، ويتفقان فيمن ذهب بريدين، ورجع.

ولا ريب في أنه لو بني على الاحتمال الثاني من وجود موجبين للتقصير، وقد عرفت أن النسبة فيما بينهما هي العموم من وجه، فسوف يكون المورد من صغريات البحث الأصولي المذكور في مفهوم الشرط، وهو ما إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء، إذ أن مفاد الطائفة الأولى هو: إذا سرت ثمانية فراسخ امتدادية، وجب عليك التقصير.

ومفاد الطائفة الثانية: إذا ذهبت أربعة فراسخ، ورجعت مثلها، وجب عليك التقصير.

وعندها يحتمل التالي:

الأول: أن يكون كل من الثمانية فراسخ الامتدادية، والتلفيقية، جزءاً للموضوع.

الثاني: أن يكون الشرط هو الجامع بين الشرطين.

الثالث: أن يكون كل واحد منهما شرطاً وموضوعاً مستقلاً عن الآخر.

وقد يقال بالثالث، من خلال التقريب التالي:

إن تمام الموضوع في النصوص هو الثمانية فراسخ بقسميها، الامتدادية، والتلفيقية، ولا ريب في أنه لا يمكن الجمع بينهما، لما عرفت من أن النسبة بينهما هي العموم من وجه، كما أنه لما كانت النسبة بينهما كذلك، فإنه لا يعقل وجود الجامع بينهما أيضاً، لأن المسافة التلفيقية غير منحصر في صورة واحدة، وهي الذهاب أربعة فراسخ والرجوع مثلها، فيتعين الحل في الاحتمال الثالث، لانحصار الأمر فيه.

إلا أن الإنصاف عدم إمكانية البناء على تعدد الموجب للتقصير، وأنهما أمران، بل إن التأمل في الطائفة الثالثة التي ذكرناها يشرف الفقيه على القطع بكون الموجب للقصر من أول الأمر أمراً واحداً، وهو الثمانية بالمعنى الأعم من دون تقيـيد بكونها امتدادية، أم ملفة، ويشهد لما ذكرناه ملاحظة صحيح زرارة الحاكي سفر رسول الله(ص) إلى ذباب، حيث جاء في ذيله: لأنه إذا رجع كان سفره بريدين، ثمانية فراسخ. إذ يستفاد منه أن تمام الموجب للتقصير هو بلوغ المسافة المقطوعة ثمانية فراسخ.

وكذا صحيحة محمد بن مسلم، إذ جعلت تمام المدار على أنه شغل يومه، وهي ظاهرة في أنه بأي نحو تحقق منه شغل اليوم كان كافياً لإيجاب القصر ما دام قد بلغ ثمانية فراسخ.

وبالجملة، إن الطائفة الثالثة، بمفاد الشارحة للطائفتين اللتين ذكرناهما ومفسرة لهما، بل حتى لو قلنا بأن ما دل على الأربعة، مشمول في المقام، لصلحت الطائفة الثالثة فيما ذكرناه للشرح والتفسير والحكومة أرضاً، ضرورة أن نصوص الأربعة سوف تقيد بالطائفة الثانية، كما عرفت، ومن ثمّ سوف تكون من نصوص الطائفة الثانية، وبالتالي سوف تكون نصوص الطائفة الثالثة مما ذكرناه شارحة لها.

نعم هذا الجمع الذي ذكرناه لا يتأتى في صحيحة عمران بن محمد مما ورد في أدلة شيخنا الكليني(ره)، ولذا من أراد أن يجعل تلك النصوص من نصوص التلفيق بضم الإياب إلى الذهاب، احتاج إلى توجيهها بعدة توجيهات، كالحمل على التقية، من خلال توجيهها بأن الضيعة ليست وطناً له، مما يعني أن وظيفته القصر مطلقاً، لكنه أمر بالإتمام من باب التقية، أو كما صنع بعض الأعاظم(ره) من رد علمها إلى أهلها[13]، إلا أننا في غنى عن ذلك، إذ جعلناها مما دل على مختار شيخنا الكليني(قده)، وقد عرفت الإجابة عنها، فراجع.

والحاصل، بعد البناء على أن الطائفة الثالثة شارحة ومفسرة للطائفتين الأُخريـين، يتضح أن الصحيح ما أفاده السيد الماتن(ره)، من أن التلفيق يتحقق بأي كيفية كانت حتى لو كان بذهاب فرسخ واحد، ورجوع سبعة فراسخ، إذ قد عرفت أن مفادها هو تحقق الثمانية بأي نحو اتفق.

هذا وهناك قولان آخران يذكران في المقام:

الأول: ما أختاره بعض الأساطين(ره)، وبعض الأعاظم(قده) من اعتبار كون الذهاب أربعة فراسخ، والرجوع مثلها في المسافة التلفيقية.

الثاني: ما أختاره الفقيه السيد البروجردي(قده)، وبعض الأعيان(ره) من وجوب القصر فيما إذا كانت المسافة التلفيقية ثمانية فراسخ، شرط أن يكون الذهاب أربعة فراسخ على الأقل.

هذا وقد استدل بعض الأعاظم(ره) على مدعاه بالتالي:

إنه ليس المدار في لزوم القصر على شغل اليوم الوارد في صحيح محمد بن مسلم، بل العبرة بالثمانية الامتدادية، وقد طبقها الإمام(ع) تعبداً على سبيل الحكومة على المسافة الملفقة من الأربعة ذهاباً والأربعة إياباً، وعليه لا يكون التعليل المذكور في ذيل صحيح بن مسلم، إلا تعليلاً تعبدياً ناظراً إلى إلحاق صورة خاصة من التلفيق بالامتداد، فلا يدل بوجه على مطلق الاكتفاء بالتلفيق، وبأي نحو كان[14].

وبعبارة أخرى، يقرر(قده) ما سبقت الإشارة إليه من أن المستفاد من الأدلة وجود عنوانين مستقلين، لا ربط لأحدهما بالآخر:

الأول: الثمانية فراسخ الامتدادية.

الثاني: الثمانية فراسخ التلفيقية من خلال الذهاب أربعة فراسخ، والعود مثلها.

ومقتضى القاعدة الأولية هو الحكم بلزوم التقصير في خصوص المسافة الامتدادية، بقطع ثمانية فراسخ، وعليه لو كانت المسافة تلفيقية، وإن بلغت الثمانية فراسخ، إلا أنه لا يسوغ التقصير فيها، لما عرفت سابقاً من أن نصوص الثمانية نص في الامتداد.

لكنه من باب الحكومة وتوسعة الموضوع، فقد طبق(ع) الحكم بالتقصير على المسافة التلفيقية، لكنه قيد التلفيق بصورة خاصة، لا مطلق التلفيق وبأي نحو كان، بل بما إذا كان الذهاب أربعة، والعود مثلها.

وكأنه(ره) بنى على هذا حذراً من لغوية القيد الوارد فيها، مما يعني دخالة الأربعة في الإياب كما هي في الذهاب، وعليه سوف يكون مقتضى كلامه(ره) أن الموضوع مركب من جزئين:

الأول: الأربعة في الذهاب.

الثاني: الأربعة في الإياب.

ولذا لو لم يرجع أربعة فراسخ، فلن يتحقق الموضوع، وبالتالي لا يترتب عليه الحكم، فتكون وظيفته التمام.

ويلاحظ عليه، أولاً: بمنع ما أفاده(ره) في صحيح محمد بن مسلم، لما عرفت منا فيما تقدم، فلاحظ.

ثانياً: إن ما أفاده بالنسبة للتعليل، ففيه: إن التعليل هنا بعنوان حصول الشرط وهو الجامع بين الامتداد والتلفيق، ولا يعقل أن يكون عنوان الشرط حكمة للاشتراط، بيان ذلك:

إن ما يرد في لسان النصوص بعنوان العلة المنصوصة على نحوين:

الأول: ما هو علة للحكم، وهو عبارة عن الواسطة في الثبوت، وتكون هي تمام الموضوع الشرعي كقولهم حرمت الخمرة لإسكارها، التي هي ظاهرة في كون الإسكار علة للحرمة، وهو تمام الموضوع الشرعي لها.

ويرجع هذا التعليل إلى كبرى كلية، وهي كل مسكر حرام، وهذا هو الضابط في العلة المنصوصة، مضافاً إلى كون العلة من لوازم ذات الموضوع، كالإسكار بالنسبة للمسكر.

الثاني: ما هو علة لانطباق كبرى مسلمة عند السائل والمسئول على صغرى مشكوكة عند السائل، وهي أشبه شيء بالواسطة في الإثبات، لأنها علة للعلم بانطباق الكبرى المسلمة على الصغرى المشكوكة، فالمورد كذلك.

وبالجملة، إن الطائفة الأولى بمثابة كبرى شرعية، والطائفة الثالثة مندرجة تحتها.

وذكر بعض الأساطين(قده) تقريب مدعاه، بما حاصله: لا يخفى أن التعليلات المذكورة في النصوص حاكمة على نصوص الثمانية الظاهرة في الثمانية الامتدادية، ومقتضية لجواز التلفيق مطلقاً بأي كيفية كانت، إلا أن هذه النصوص مطلقة، فتكون مقيدة بنصوص البريد ذاهباً والبريدجائياً.

إن قلت: إن التعليلات المذكورة مقدمة على نصوص البريد.

قلت: إن تلك التعليلات غير صالحة للتقديم، بل لابد من حملها عليه حملاً للمطلق على المقيد، خصوصاً مع عدم إمكان الالتـزام بإطلاق التعليلات المذكورة، لدلالته على الاكتفاء بمجرد شغل اليوم، ولو بالتردد بميل ذاهباً وجائياً أربعاً وعشرين مرة، وهو مما لا يمكن الالتـزام به، بل الظاهر أنه لا خلاف في عدم الاكتفاء به[15].

وقد أوضحه أكثر في حاشية الكتاب، فقال(قده): وبعبارة أخرى: نصوص الثمانية ظاهرة في وجوب البعد ثمانية فراسخ، ونصوص الأربعة ظاهرة في وجوب البعد أربعة فراسخ، ونصوص التعليلات لم تكن في بيان تعليل الحكم في مقام الثبوت، وإنما هي في بيان تعليله في مقام الإثبات، فإنها لا تصلح وهي بهذه الحال للحكومة إلا على خصوص نصوص الثمانية فراسخ الظاهرة في الامتداد، لتدل على أن المراد هو ما يعم الملفقة بنحو تشمل الأربعة ذهاباً والأربعة إياباً، ولا تعرض فيها لإلغاء اعتبار البعد أربعة فراسخ لتكون حاكمة على نصوص الأربعة، نعم إطلاق التلفيق يقتضي الاكتفاء بكون المجموع من الذهاب والإياب ثمانية، إلا أن هذا الإطلاق مقيد بنصوص الأربعة بعدما لم تكن حاكمة عليها، من باب حمل المطلق على المقيد[16].

وقد عرفت الجواب عنه مما تقدم جواباً عن كلام بعض الأعاظم(قده)، مضافاً إلى أن منعه عن حكومة التعليلات المذكورة على نصوص الأربعة ذهاباً وإياباً، تحكم واضح، كما لا يخفى.

هذا وقد يستدل لمختار بعض الأعيان(قده) برواية إسحاق بن عمار قال: سألت أبا الحسن(ع) عن قوم خرجوا في سفر، فلما انتهوا إلى الموضع الذي يجب عليهم فيه التقصير قصّروا من الصلاة، فلما صاروا على فرسخين أو على ثلاثة فراسخ أو على أربعة فراسخ تخلف عنهم رجل لا يستقيم لهم سفرهم إلا به، فأقاموا ينـتظرون مجيئه إليهم وهم لا يستقيم لهم السفر إلا بمجيئه إليهم، فأقاموا على ذلك أياماً لا يدرون هل يمضمون في سفرهم أو ينصرفون، هل ينبغي لهم أن يتموا الصلاة أو يقيموا على تقصيرهم؟ قال: إن كانوا بلغوا مسيرة أربعة فراسخ فليقيموا على تقصيرهم، أقاموا أو انصرفوا. وإن كانوا ساروا أقل من أربعة فراسخ فليتموا الصلاة، أقاموا أو انصرفوا، فإذا مضوا فليقصروا. ثم قال: هل تدري كيف صار هكذا؟ قلت: لا أدري. قال: لأن التقصير في بريدين، ولا يكون التقصير في أقل من ذلك. فلما كانوا قد ساروا بريداً وأرادوا أن ينصرفوا كانوا قد ساروا سفر التقصير، فإن كانوا ساروا أقل من ذلك لم يكن لهم إلا إتمام الصلاة. قلت: أليس قد بلغوا الموضع الذي لا يسمعون فيه أذان مصرهم الذي خرجوا منه؟ قال: بلى إنما قصروا في ذلك الموضع، لأنهم لم يشكوا في مسيرهم وأن السير يجد بهم، فلما جاءت العلة في مقامهم دون البريد صاروا هكذا[17].

وتقريب الاستدلال بها من خلال قوله: فلما كانوا قد ساروا بريداً وأرادوا أن ينصرفوا كانوا قد ساروا سفر التقصير، فإن كانوا ساروا أقل من ذلك لم يكن لهم إلا إتمام الصلاة. حيث أنه(ع) ذكر أن وظيفتهم القصر متى تحقق منهم الذهاب أربعة فراسخ، أما لو كان ذهابهم أقل من ذلك، كانت وظيفتهم التمام.

هذا ولكن الخبر المذكور ضعيف سنداً لوجود محمد بن أسلم البجلي، وصباح الحذاء في طريق الكليني، ووجود محمد بن أسلم في طريق الصدوق(ره).

على أنه لا دلالة لها على اعتبار ما ذكر، إذ أن قوله(ع): فلو كانوا ساروا أقل من ذلك، إشارة إلى أنهم لم يـبلغوا مقدار المسافة التلفيقية من اعتبار ثمانية فراسخ، وبالتالي تكون الرواية أجنبية عن المدعى تماماً.

هذا وقد يستدل لمدعاه(قده) بالروايات التي تضمنت الأربعة فراسخ، وقد ذكرناها في مختار شيخنا الكليني، على أساس أنها نص في مقدار الذهاب، وهي ساكتة عن الإياب، فعندها تـثبت المدعى.

لكنه لو سلمنا كونها ناظرة للذهاب، ومقيدة بما دل على اعتبار الإياب، فقد عرفت منا فيما تقدم أن الطائفة الثالثة الدالة على أن المدار هو بلوغ ثمانية فراسخ، تكون شارحة ومفسرة لها، فراجع.

هذا وقد قرّب السيد البروجردي(قده) مدعاه، بطريق آخر، قال(ره):

لا يخفى أن هناك طائفتين من النصوص:

الأولى: وهي أخبار الثمانية فراسخ، وهي ظاهرة في أمرين: الأول: أن السير الذي يتحقق به السفر الموجب للتقصير يجب أن يكون بمقدار ثمانية فراسخ.

الثاني: أنه لابد أن يكون ذلك على نحو الامتداد بحيث يحصل به البعد عن مبدأ السير، بمعنى أنه يعتبر أن يكون البعد عن المبدأ أيضاً بمقدار ثمانية فراسخ.

الثانية: وهي أخبار الأربعة فراسخ، وهي ظاهرة في أمرين أيضاً: الأول: أن يكون السير الموجب للتقصير بمقدار أربعة فراسخ.

الثاني: أنه يعتبر أن يكون البعد والامتداد بمقدار أربعة فراسخ.

ومن الواضح أن لكل واحد من الطائفتين ظهورين.

ثم إن هناك طائفة ثالثة، دلت على كفاية التلفيق في المسافة بقطع أربعة فراسخ في الذهاب، وأربعة فراسخ في الإياب.

ولا يخفى أن الطائفة الثالثة، تزاحم الطائفة الأولى بالنسبة إلى ظهورها الثاني، وهو اعتبار كون المسافة المقطوعة على نحو الامتداد، لا غير، والوجه في عدم مزاحمتها للطائفة الأولى في ظهورها الثاني، هو اتحادهما في المضمون، إذ أن كليهما تشيران إلى أن الموجب للتقصير هو قطع مسافة مقدرة بثمانية فراسخ.

كما أنها(الطائفة الثالثة)تزاحم الطائفة الثانية في خصوص ظهورها الأول وهو كون المسافة الموجبة للتقصير بعد قطعها عبارة عن أربعة فراسخ امتدادية، لا الثاني.

وعلى هذا سوف يكون ظهور الطائفة الثانية، وهو أن البعد والامتداد الواقع بين المبدأ والمقصد مقدراً بأربعة فراسخ، مما لا يزاحمه شيء، بل يؤكده أخبار التلفيق أيضاً، وبالتالي يجب الأخذ به.

ومن هنا يتضح أن أخبار التلفيق تشير إلى أن أخبار الأربعة فراسخ، بصدد بيان أدنى البعد المعتبر والامتداد المعتبر بين المبدأ والمقصد.

فإن قلت: إنه كما اعتبر أن الذهاب يقدر بكونه أربعة فراسخ، فليعتبر ذلك أيضاً في الإياب، بأن يقدر بكونه أربعة فراسخ كذلك، خصوصاً وأن أخبار التلفيق دالة على اعتبار أن الإياب أربعة فراسخ أيضاً، فلا فرق بينهما؟…

قلت: إن بين الذهاب والإياب فرقاً، ضرورة أن العرف يلقي الخصوصية في الإياب بالنسبة للأربعة، دون الذهاب، والسر في ذلك يعود إلى أننا لو نعمد إلى ما قمنا به، لزم من ذلك أن لا يـبقى لأخبار الأربعة فراسخ محملاً صحيحاً يمكن أن توجه به[18].

ويلاحظ عليه، أولاً: بإن هناك طائفة أخرى لم يتعرض لها(قده) تشير إلى أن تمام الدار هو تحقق الثمانية كيفما اتفق، وبالتالي تكون حاكمة وشارحة لكافة النصوص المذكورة، فلاحظ.

ثانياً: إن ما أفاده(قده) مبني على أن الطائفة الثانية في كلامه ناظرة إلى أخبار التلفيق، وقد عرفت منا فيما تقدم أنها دالة على مختار شيخنا الكليني(قده)، وأنه لا ربط لها بالتلفيق أصلاً، وبهذا ينهدم أساس الاستدلال، فلاحظ.

——————————————————————————–

[1] البدر الزاهر ص 94-96.

[2] مستند العروة الوثقى ج 8 ص 11.

[3] الوسائل ب 1 من أبواب صلاة المسافر ح 4، 5.

[4] الوسائل ب 1 من صلاة المسافر ح 11.

[5] الوسائل ب

[6] الوسائل ب 1 من أبواب صلاة المسافر ح 14.

[7] وسائل الشيعة ب 2 من أبواب صلاة المسافر ح 2.

[8] المصدر السابق ح 14.

[9] المصدر السابق ب 2 من أبواب صلاة المسافر ح 18.

[10] المصدر السابق ب 2 من أبواب صلاة المسافر ح 2.

[11] المصدر السابق ب 2 من أبواب صلاة المسافر ح 9.

[12] المصدر السابق ب 2 من أبواب صلاة المسافر ح 15.

[13] مستند العروة ج 8 ص 27.

[14] مستند العروة ج 8 ص 14.

[15] مستمسك العروة ج 8 ص 9.

[16] المصدر السابق ج 8 ص 9 في الحاشية.

[17] وسائل الشيعة ب 3 من أبواب صلاة المسافر ح 10، 11.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة