لا إشكال ولا خلاف في أعتبار حد الترخص في الإياب كما هو في الذهاب إنما الكلام بين الأصحاب (رض) في تحديده وبيان ميزانه في الإياب كما هو في الذهاب.
فالمشهور أنه يتحقق بما يتحقق به الذهاب فقالوا بالإكتفاء بأحدهما، بل في الذكرى كاد أن يكون إجماعاً لمن أعطى النظر حقه[1]. وعن الرياض أنه الأشهر وعليه عامة من تأخر[2]. وهو مذهب الأكثر كما عن المنـتهى والغرية، وأنه الأشهر كما جاء في النافع. وفي المعتبر أنه مذهب الشيخ ومن تابعه[3]. وكذا في المنـتهى وفي التذكرة إن روايته مشهورة. وجاء في الروض ومجمع البرهان والمصابيح أنه المشهور. وهو مذهب أهل عصر الصيمري كما جاء ذلك في غاية المرام.
ويحتمل الخلاف من الفاضلين في الشرايع والتحرير إذ أقتصرا فيهما على ذكر سماع الأذان فقالا حتى يـبلغ سماع الأذان وهو ما فهمه صاحب المدارك من المحقق ثم أستظهره وأختاره. وأنكر عليه ذلك في الرياض ونسبه للتوهم واستضعفه[4]. وأختار علي بن بابويه وابن الجنيد والسيد المرتضى Q بأن ميزانه هو دخوله منـزله. وهذا ما أختاره في الحدائق[5]. وهو محتمل من المقنعة والنهاية والجمل والمبسوط والخلاف وابـن حمـزة وسلار حيث لم يتعرضوا لحال العود. ومنه تعرف ما في نسبة المعتبر لهم من موافقة المشهور حيث ليس في المبسوط والنهاية ما يدل على ذلك. نعم توجد في المبسوط عبارة قد يدعى دلالته عليه وهي قوله: إذا كان قريـباً من بلده بحيث يغيب عنه أذان مصره فصلى بنية التقصير فلما صلى رعف فأنصرف إلى أقرب بنيان البلد ليغسله فدخل البنيان أو شاهدها بطلت صلاته لأن ذلك فعل كثير[6].
وهي غير ظاهرة في المراد حيث أنه لم يتعرض لحكم إنقطاع سفره، بل أشار لبطلان صلاته مما قد يشير إلى أنها على ما أحتملناه أظهر.
وهذا هو مختار صاحب الكفاية حيث جعله أحوط. وإن أختار في الذخيرة التخيير بعد الوصول إلى موضع يسمع فيه الأذان بين القصر والتمام جمعاً بين النصوص. وإلا فالوقوف على ظواهر هذه الأخبار أولى.
أقول: يشير إلى خبري العيص وإسحاق الآتين. وقد استحسنه في المدارك. وقبلهما استحسن ذلك المقدس الأردبيلي فقال: لو وجد القائل بالجواز والإستحباب فهو حسن وإلا فمشكل فإن القول بغير المشهور مع عدم القائل وخلاف ظواهر بعض الأخبار الصحيحة يحتاج إلى جرأة والقول بما قاله السيد وابن الجنيد وابن بابويه لا يخلو عن إشكال إن كان مرادهم الوجوب. نعم لو كان مذهبهم غير الوجوب لكان القول به جيداً.
وفي الرياض: لولا الشهرة العظيمة المرجحة لأدلة المشهور لكان المصير إلى هذا القول-قول ابن بابويه وابن الجنيد والمرتضى-في غاية القوة لإستفاضة نصوصه وصحة أكثرها وظهور دلالة جملة منها، بل صراحة كثير منها لبعد ما يقال في توجيهها جداً… ثم قال: وبالجملة لولا الشهرة لكان المصير إلى هذا القول متعيناً بلا شبهة بل معها أيضاً لا تخلو المسألة عن شبهة والإحتياط يقتضي تأخير الصلاة إلى بلوغ الأهل والجمع بين الإتمام والقصر وإن كان الإكتفاء بالإتمام لعله أظهر… الخ[7].
وكيف كان فالمتحصل بعد هذا أن الأقوال في المسألة ثلاثة:
1-المشهور وهو أن حكم الإياب هو حكم الذهاب على ما تقدم فيه من الخلاف وبأكمله يجري هنا.
2-ما أختاره ابنا بابويه والجنيد والمرتضى وصاحبا الحدائق والمفاتيح من أنه يتحقق بدخول المنـزل.
3-ما أختاره في الذخيرة وأستحسنه بعد ما قدمنا ذكره من التخيير بين القصر والإتمام ببلوغ ما عليه معرفية الذهاب.
وقد يجعل في المقام قول رابع من الإكتفاء بخفاء الإذان كما قد أستظهر من المحقق والعلامة.
وكيف كان فالمحكم في هذا هو عرض أدلة كل قول فنقول:
أستدل للمشهور: بصحيحة عبدالله بن سنان المتقدمة حيث جاء في ذيلها: وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك[8].
أقول: قد تقدم منا أن الصحيحة من متفردات الشيخ S التي قد عرفت منا حالها في كل مرة من جهة الحجية.
ويمكن أن يستدل لذلك أيضاً بالإطلاق المستفاد من خلال صحيحة حماد بن عثمان عن أبي عبدالله(ع): إذا سمع الأذان أتم المسافر[9].
بشموله للإياب كالذهاب، إذ لا فرق بينهما كما هو مستفاد من بعض الأخبار فمفاد النصوص إنتفاء تلبس المسافر بعنوان السفر وخروجه عن موضوعه ببلوغه هذا الحد.
بل قد يستدل لذلك أيضاً بصحيح محمد بن مسلم المتقدم من خلال إلغاء الخصوصية للذهاب، إذ لا يرى العرف له خصوصية إذ لاحظنا أن الإمام B في مقام بيان مفهوم السفر وأنه يتحقق بما تقدم في الذهاب ويشير إلى إنتهائه بذلك في الرجوع فتأمل.
وأستدل على القول الثاني:
بصحيحة العيص بن القاسم عن أبي عبدالله B قال: لا يزال المسافر مقصراً حتى يدخل بيته[10].
أقول: هذه الرواية من كتاب الحسين بن سعيد، وهي من متفردات الشيخ S. ودلالتها على المدعى واضحة.
ومنها: صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبدالله B قال: إن أهل مكة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم أتموا وإذا لم يدخلوا منازلهم يقصروا[11].
أقول: مصدر هذه الرواية هو كتاب ابن أبي عمير. وهي من متفردات الشيخ S.
ومنها: موثقة إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم B قال: سألته عن الرجل يكون مسافراً ثم يقدم فيدخل بيوت الكوفة أيتم الصلاة أم يكون مقصراً حتى يدخل أهله؟ قال: بل يكون مقصراً حتى يدخل أهله[12].
أقول: رواها الكليني بسندين: الأول: عن أحمد بن إدريس عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان بن يحيى عنه وهو سند معتبر.
الثاني: عن محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان عن صفوان بن يحيى عنه. وهو ضعيف لإشتراك محمد بن إسماعيل بين النيسابوري وغيره. وقد مضى منا تفصيل ذلك فلا نعيد.
وقد رواها الصدوق بإسناده عن إسحاق بن عمار وهو كالتالي: أبوه (رض) عن عبدالله بن جعفر الحميري عن على بن إسماعيل عن صفوان بن يحيى عن إسحاق بن عمار[13].
وهو ضعيف لوجود علي بن إسماعيل وهو ابن عيسى ولا توثيق له. نعم قد يقال كما عن بعضهم بأن رواية الأجلاء عنه، كعبدالله الحميري تكشف عن وثاقته.
وهو ضعيف لما تكرر منا وبنينا عليه من أن مسلك القدماء هو الوثوق بالصدور لا الوثاقة. نعم لو ثبت كونه شيخ إجازة بمعنى أنه يعول عليه في تمحيص الروايات وإخراج غثها من سمينها وتصحيحها كان للقول بوثاقته وجه لأنه لا يعتمد على شخص في هكذا أمر ما لم يكن ثقة في نفسه مأموناً في قوله وفعله فتأمل جيداً.
ومنها: ما رواه في الفقيه مرسلاً عن أبي عبدالله بقوله روي أنه قال: إذا خرجت من منـزلك فقصر إلى أن تعود إليه[14].
أقول: وهي ضعيفة سنداً بالإرسال وإن كان المرسل هو الصدوق (رض).
ومنها: موثقة ابن بكير قال: سألت أبا عبدالله B عن الرجل يكون بالبصرة وهو من أهل الكوفة له بها دار ومنـزل فيمر بالكوفة وإنما هو مجتاز لا يريد المقام إلا بقدر ما يتجهز يوماً أو يومين؟ قال: يقيم في جانب المصر ويقصر؟ قلت: فإن دخل أهله؟ قال: عليه التمام[15].
أقول: رواها الشيخ S بإسناده عن محمد بن يحييى. وهو كالتالي:
بسنده Q عن محمد بن يعقوب الكليني عنه وهو سند معتبر. هذا ومصدرها هو كتاب ابن فضال ورواها الحميري في قرب الإسناد عن محمد بن الوليد عن عبدالله بن بكير.
ومنها: مرسل علي بن رئاب أنه سمع بعض الواردين يسأل أبا عبدالله B عن الرجل يكون بالبصرة وهو من الكوفة وله بالكوفة دار وعيال فيخرج فيمر بالكوفة يريد مكة ليتجهز منها وليس من رأيه أن يقيم أكثر من يوم أو يومين؟ قال: يقيم في جانب الكوفة ويقصر حتى يفرغ من جهازه وإن هو دخل منـزله فليتم الصلاة[16].
أقول: لا يـبعد إتحاد الروايتين فيكون ابن رئاب يرويها عن عبدالله بن بكير وهو المقصود ببعـض الواردين، ولعل السر في إخفائه الخلل في مذهب ابن بكير. وأما الإختلاف بينهما في المتن فمرده للنقل بالمعنى والله العالم.
وعلى أي حال فسندها لولا الإرسال بناءاً على عدم قبول ما أستظهرناه ضعيف به. وإلا فهو من الموثق.
ومنها: صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله B قال: إن أهل مكة إذا خرجوا حجاجاً قصروا وإذا زاروا ورجعوا إلى منازلهم أتموا[17].
أقول: مصدر هذه الرواية هو كتاب ابن أبي عمير.
وقد أجاب عنها الشهيد في الروض تبعاً للعلامة Q وكذلك الشيخ Q بحمل هذه الروايات على دخول حد الترخص بإعتبار أن من وصل إلى هذا الموضع يخرج من حكم المسافر فيكون بمنـزلة من يصل إلى منـزله.
وأجاب عنه في الحدائق بأنه مخالف لجملة من أخبار المسألة المتقدمة المصرحة بوجوب التقصير بعد دخول البلد وتخصيص الإتمام بما إذا دخل المنـزل[18].
فلا محيص من تحقق المعارضة. ولذا ألتجأ أصحاب القول الثالث إلى القول بالتخيير جمعاً بين هذه الأخبار وبين صحيح ابن سنان. وهو في محله لو قلنا بعدم قابلية المورد للجمع العرفي أو الترجيح أو التمييز، بناءاً على أن القاعدة تقتضي عندها ذلك. إلا أن المحقق في الأصول خلافه فيكون التساقط.
هذا وقد أجاب كثير من أعيان الأصحاب(رض)بعدم حجية هذه الأخبار الدالة على القول الثاني لإعراض الأصحاب عنها وعدم عملهم بها.
وهو كما ترى حيث قد تقدم من عرض أقوال المسألة أن المستظهر من القدماء القول به وإن أبيت فلا أقل من أنها غير معنونة في كتبهم. وإعراض المتأخرين إن أوجب الوثوق في عدم الصدور فهو حجة لنكتة الوثوق وإلا فلا. وأنى له بالتحقق في مثل هذه المسألة.
وللمحقق النراقي في البين جواب آخر عن هذه النصوص وملخصه:
إن بعض هذه النصوص أعم من صحيح ابن سنان فلا يعارضها فلاحظ صحيح عيص وصحيحي معاوية وصحيحة حماد وموثقة إسحاق الأولى لأن مفادها وجوب قصر المسافر قبل دخول المنـزل أو البيت أو المصر سواء بلغ موضع سماع الأذان أم لا. ومدلول الصحيحة الإتمام بعد سماع الأذان فتخصص بها بل حتى موثقة ابن بكير كذلك.وأما موثقة إسحاق الأخرى فغير صريحة الدلالة على المطلوب لعدم التصريح فيها بكون الرجل من أهل الكوفة[19].
وفيه: أما موثقة إسحاق فظهورها في كونه من أهل الكوفة جلي واضح لقوله عن الرجل يكون مسافراً ثم يقدم.
وأما عمومية تلك النصوص عهدتها عليهQ إذ لا وجه لها إلا التنـزيل المتقدم عن الشيخ ومن تابعه وقد عرفت جوابه.
فتحصل إلى هنا إستقرار التعارض فلا بد من ملاحظة علاجه بناءاً على القول بالترجيح.
وقد ذكر في مقام العلاج أمران:
الأول: ما ذكره في الوسائل وأختاره بعض الأساطين S[20]وبعض الأعاظم Q[21] بحملها على التقية لموافقتها لمذهب العامة.
وفيه: بعد رفع اليد عن مختارنا في الأصول في هذا، نقول إن أكثر العامة على ما عليه أصحابنا.
فعند الحنفية إذا عاد المسافر إلى المكان الذي خرج منه بعد قطع مسافة القصر فإنه لا يتم إلا إذا بالفعل فلا يبطل القصر. وعند المالكية يتم بمجرد الدخول وكذا عند الشافعية والحنابلة[22].
وأجاب بعض الأعاظم S بأن أخبار القول الثاني مقطوعة البطلان وذلك:
إن التقصير مما يخـتص بالمسافر دون الحاضر. ولا شبهة في إنتهاء السفر بالوصول للوطن ودخول البلد وإن لم يدخل بيته مما ينفي عنه التلبس بذلك العنوان. فلا يمكن الإلتزام بما تضمنـته هذه الأخبار لأن مفادها بقائه على التقصير حتى بعد انسلاخه عن عنوان المسافر بدخوله بلده[23].
وفيه: إن الإلتزام بمفاد النصوص لا مانع منه إذ لم يقم إجماع قطعي على خلافه فتقيد الإطلاقات الدالة إعتبار وجوب التمام على من انقضى عنه عنوان السفر. ولعمري إن هذا من الإجتهاد مقابل النص.
وأجاب ثانياً: بأن الترجيح لصحيح ابن سنان لأنها موافقة للسنة القطعية وهي العمومات الدالة على وجوب التمام على كل مكلف خرج عنه لأن القدر المتيقن خصوص المسافر. بينما هذه النصوص مخالفة للسنة القطعية لأن مفادها أن غير المسافر ما لم يدخل على أهله فعليه القصر أيضـاً فعندها تقدم الصحيحة عليها.
وفيه: إن صحيحة بن سنان مخالفة للسنة القطعية وهي الإطلاقات الدالة على وجوب القصر على المسافر والفرض أن هذا مسافر في حد الترخص ما لم يدخل بلده.
والمتحصل إلى هنا إستقرار المعارضة. لكن التحقيق أن يقال: إن صحيح ابن سنان مما تفرد الشيخ بنقله، ولا يـبعد دعوى إعراض القدماء عنه فلا تطمئن النفس بتمامية حجيته. مما يعني بقاء النصوص الأخرى سالمة بلا معارض فيتجه القول الثاني. ولعل المراد من البيت في هذه النصوص هو البلد. وإن أبيت فالمرجع هو العموم الفوقاني بعد التساقط بين الطائفتين
فيكون إطلاق دليل وجوب القصر هو المحكم ما دام مسافراً وينـتهي سفره بدخوله في بلده وإن لم يصل إلى منـزله. فتحصل أن الأقوى هو القول الثاني. بل نقول الأقوى دخول بلده والأحوط الأولى وصوله منـزله. والله العالم.
——————————————————————————–
[1] ذكرى الشيعة ج ص
[2] رياض المسائل ج ص
[3] المعتبر ج 2 ص 474.
[4] رياض المسائل ج ص
[5] الحدائق الناضرة ج 11 ص 412.
[6] المبسوط ج ص
[7] رياض المسائل ج ص
[8] الوسائل ب6 من صلاة المسافر ح3.
[9] الوسائل ب6 من صلاة المسافر ح7.
[10] المصدر السابق ب7 من صلاة المسافر ح4.
[11] المصدر السابق ح1.
[12] المصدر السابق ح3.
[13] المشيخة ج 4 ص 360.
[14] المصدر السابق ح5.
[15] المصدر السابق ح2.
[16] المصدر السابق ح6.
[17]
[18] الحدائق ج11 ص413.
[19] مستند الشيعة ج 8 ص 301.
[20] المستمسك ج8 ص94
[21] المستند ج8 ص206.
[22] الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 432.
[23] المستند ج8 ص206.