الثواب بين التفضل والاستحقاق
يتفق المسلمون على أن العقاب الواقع من الباري سبحانه وتعالى على عبده العاصي لأوامره، بالاستحقاق، لمخالفة العبد ما أمر به من قبل الله سبحانه.
نعم وقع الخلاف بينهم في الثواب الذي يعطاه العبد على طاعته أوامر الله عز وجل، حين امتثاله ما كلف به، وأنه على نحو الاستحقاق، أو أنه تفضل الله سبحانه.
معنى الثواب:
وهو في اللغة، اسم من أثاب، أو ثوب، بمعنى الجزاء والعوض[1]. وأصله من ثاب، أي رجع بعد ذهابه[2]، فكأن الثواب هو ما يعود ويرجع إلى الإنسان من عمله بعد صدوره عنه[3].
وقد أشير في النهاية، أنه يستعمل في الخير والشر، وإن كان استعماله في الخير أكثر، بل هو بالخير أخص[4].
وعرفه المتكلمون، بأنه النفع المستحق المقارن للتعظيم والإجلال، وهو بهذا التعريف قريب جداً مما جاء في كلمات أهل اللغة، لعدم الفرق بين النفع وبين العوض. نعم خلت عبارات أهل اللغة من أخذ قيدية التعظيم والاجلال.
وقريب مما جاء في كلمات علماء الكلام، عرفه الفقهاء، حيث قالوا بأنه: الأجر والثواب في الآخرة.
ووفقاً لما تقدم، لو بني على عدم وجود اصطلاح خاص لحقيقة الثواب عند أهل الكلام والفقهاء، وأنهم ملتـزمون بما ذكره اللغويون ولو إجمالاً لم يكن بعيداً، فتأمل.
وكيف ما كان، فإن المقصود من الثواب في المقام هو الجزاء الإلهي والأجر الرباني وهو الذي يعطيه تعالى لعباده في الآخرة يوم القيامة بعد الحساب.
ولما كانت مسألة الثواب والعقاب ترتبط بأفعال المكلفين، أو أفعال عامة الناس، لم يقتصر البحث عنها على خصوص علم الكلام والعقيدة، بل عرض لها أيضاً في أصول الفقه، كما في ترتب الثواب على الواجبات الغيرية، وفي بحث التجري، والانقياد. كما عرض لها كذلك في الفقه، للبحث عن مقدار تحديد الثواب من حيث القلة والكثرة، وفي ترتب الثواب على الاتيان ببعض الأعمال، وغير ذلك.
اعطاء الثواب:
ثم إنه بعد الإحاطة بحقيقة الثواب، ومعرفة ارتباطه بجملة من العلوم، فقد وقع الخلاف بين علماء المسلمين، في ما يعطاه الإنسان من الأجر والثواب، من حيث أنه على نحو الاستحقاق، فيكون الإنسان مستحقاً له على كل عمل طاعة يؤديه، كما يستحق العقاب على كل عمل معصية يقوم به، أو أنه لا يستحق شيئاً على ما يقوم به من طاعة، وإنما يتفضل به عليه من قبل الله تعالى. نعم قد عرفت أنه يستحق المعصية.
والفارق بين المحتملين، أنه على الأول، سوف يكون الثواب مستحقاً للعبد كما يكون مستحقاً للعقاب، وهذا بخلافه على الثاني، فإنه وإن كان مستحقاً للعقاب، إلا أنه لا يستحق الثواب، وإنما يعطاه تفضلاً من الله تعالى، فوجدت أقوال ثلاثة:
الأول: ما أختاره الأشاعرة، من البناء على أن الثواب والعقاب أمران بيد الله سبحانه وتعالى، متى شاء أن يثيب أحداً من عباده أثابه، ولو كان عاصياً، ومتى شاء أن يعاقب أحداً منهم عاقبه ولو كان مطيعاً. نعم قد تضمنت الأدلة الشرعية أنه سبحانه وتعالى يثيب المؤمن، ويعاقب المتمرد، وهذا تفضل منه تعالى ووفاء بوعده[5].
ومن الواضح أن ما اختاروه مبني على إنكارهم كون الحسن والقبح عقليـين، وبنائهم على أنهما شرعيان، فكل ما أمر به الشارع يكون حسناً، وكل ما نهى عنه يكون قبيحاً، وليس للعقل القدرة على إدراك حسن شيء أو قبحه.
الثاني: ما عليه بعض العدلية، من معتـزلة، ونسبه غواص بحار الأنوار العلامة المجلسي(ره) إلى أكثر الإمامية، من البناء على أن الثواب تفضل من الله سبحانه وتعالى، وليس استحقاقاً[6].
ومن القائلين به شيخنا المفيد(ره)، فقد جاء في أوائل المقالات: إن العبد ليس أجيراً في عمله للمولى ليستحق الثواب عليه، وإنما جرى ومشى على طبق وظيفته، ومقتضى عبديته ورقيته، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتفضل عليه بإعطاء الثواب والأجر[7]. وبذلك قال أيضاً شيخ الطائفة(ره) في تفسيره التبيان[8].
وهو مختار بعض الأعاظم(ره)، قال: لا إشكال في أن ترك الواجب النفسي يوجب استحقاق العقاب والذم، حيث إنه تمرد وطغيان على المولى وخروج عن رسم العبودية والرقية، كما أنه لا إشكال في أن ترك الواجب الغيري لا يوجب استحقاق العقاب عليه. نعم، إن تركه حيث يستلزم ترك الواجب النفسي فالعقاب عليه لا على ترك الواجب الغيري، كما أنه لا إشكال في ترتب الثواب على امتثال الواجب النفسي.
وإنما الإشكال والكلام في موردين:
الأول: في وجه ترتب الثواب على امتثال الواجب النفسي، هل هو بالاستحقاق أو بالتفضل؟.
الثاني: في ترتب الثواب على الواجب الغيري.
أما المورد الأول: ففيه خلاف، فذهب معظم الفقهاء والمتكلمين إلى أنه بالاستحقاق، وذهب جماعة منهم المفيد(قده) إلى أنه بالتفضل، بدعوى أن العبد ليس أجيراً في عمله للمولى ليستحق الثواب عليه، وإنما جرى ومشى على طبق وظيفته ومقتضى عبوديته ورقيته، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتفضل عليه بإعطاء الثواب والأجر.
والصحيح في المقام أن يقال: إن أراد القائلون بالاستحقاق أن العبد بعد قيامه بامتثال الواجب وإظهار العبودية والرقية يستحق على المولى الثواب كاستحقاق الأجير للأجرة على المستأجر بحيث لو لم يقم المولى بإعطاء الثواب له لكان ذلك ظلماً منه فهو مقطوع البطلان، بداهة أن إطاعة العبد لأوامر مولاه ونواهيه جرى منه على وفق وظيفته ورسم عبوديته ورقيته، ولازمة بحكم العقل المستقل، ولا صلة لذلك بباب الإجارة أبداً، كيف إن مصالح أفعاله ومفاسدها تعودان إليه لا إلى المولى.
ومن ذلك يظهر حال التوبة، فإن ما ورد من أن التائب عن ذنبه كمن لا ذنب له، ليس معنى هذا أن التائب يستحق الغفران على المولى كاستحقاق الأجير للأجرة باتيان العمل المستأجر عليه، لوضوح أن التوبة مقتضى وظيفة العبودية، ومن هنا يستقل العقل بها، حيث إن حقيقتها رجوع العبد إلى الله تعالى وخروجه عن التمرد والعصيان، ودخوله في الإطاعة والإحسان.
وإن أرادوا بذلك أن العبد بقيامه بامتثال أوامر المولى نواهيه يصير أهلاً لذلك، فلو تفضل المولى بإعطاء الثواب له كان في محله ومورده فهو متين جداً، ولا مناص عنه، والظاهر بل المقطوع به أنهم أرادوا بالاستحقاق هذا المعنى، وعلى هذا الضوء فقد أصبح النـزاع المزبور لفظياً كما لا يخفى[9].
الثالث: ما أختاره جمهور المعتـزلة، وبعض الإمامية، من الالتـزام بكون الثواب استحقاقاً وليس تفضلاً، فكما أن العبد يستحق العقاب حال الإخلال بالتكاليف الموجهة إليه، فإنه يستحق الثواب حال قيامه بأداء التكاليف المطلوبة منه.
ولم ينكر القائلون بهذا القول من المعتـزلة، وجود تفضل من الله سبحانه بالثواب في بعض الموارد، ولذلك قسموا المنفعة التي هي الأجر والثواب إلى قسمين: منفعة مستحقة، ويقصدون منها الثواب الذي يعطاه الإنسان لأنه يستحقه على العمل الذي صدر منه، ومنفعة غير مستحقة، وهي التي تكون تفضلاً من الله تعالى على عبده[10].
وربما جعل في المقام قولاً رابعاً، وهو ما ذكره بعض الأعاظم(ره) في محاضراته، وهو محاولة الجمع بين القول بالتفضل والاستحقاق، بحمل القول بالاستحقاق على صيرورة العبد الملتـزم بامتثال أوامر المولى ونواهيه مؤهلاً للثواب، فلو تفضل المولى في حقه كان في محله، فيكون المقصود من استحقاق الثواب بمعنى الأهلية والقابلية لتوفر المقتضي عند العبد، لا أن المقصود منه أن الثواب من اللوازم التي تقتضيها طاعة العبد لمولاه من حيث هي.
معنى الاستحقاق:
ولا يخفى أن التفسير المذكور للاستحقاق مغاير تماماً لمختار القائلين به، فإن مقصودهم منه كما ذكر ذلك المحقق النهاوندي(ره): أنه نظير استحقاق العقاب، ولا يختلف اثنان في أن الاستحقاق في العقاب ليس بمعنى الأهلية والقابلية والاستعداد، وإنما بمعنى اللزوم الذاتي الثابت والذي لابد وأن يقع على العبد، فهو نظير الجزائيات العرفية في الحكومات السياسية، وهذا هو الظاهر من النصوص الدينية، فلاحظ قوله تعالى:- (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون)، فإن اللام الواردة في قوله تعالى:- (فله) دالة على الملكية والاستحقاق، فيكون الثواب مجعولاً للمطيع.
ولما كان التخلف بعد الجعل قبيحاً، لأنه يستلزم الكذب بعدما أخبر عنه وهو يعلم بالتخلف، أو لاستلزامه التخلف عن الوعد والعهد، وهذا ممتنع على الله تعالى، فيثبت أن الثواب بالاستحقاق[11].
العلاقة بين العمل والجزاء:
والظاهر أن النـزاع في كون الثواب تفضلاً أو استحقاقاً يختص بما إذا لم تكن العلاقة بين الثواب والعمل علاقة الهوهوية، وأما عليها فلا مجرى للنـزاع المذكور، وذلك لأن الثواب عندها من لوازم العمل ذاتاً، وهو عبارة عن صورته الملكوتية، وليس شيئاً آخر غيره، توضيح ذلك:
إن المحتملات المتصورة في أنواع الجزاء المترتب على العمل ثلاثة:
1-ما لا يوجد فيه ارتباط حقيقي وواقعي بين العمل وجزائه، وإنما هناك رابطة عقلائية واعتبارية يضعها من يتصدى لهذا في المجتمعات المختلفة، مثل: مجازاة المجرمين بالحبس.
2-ما يكون مشتملاً على وجود رابطة حقيقة وواقعية بين الجزاء والعمل، كالعلاقة بين أكل السكر بكثرة، والإصابة بمرض السكري، وشرب السم والموت. نعم يختلف زمن العمل وظرفه عن زمن الجزاء وظرفه والأثر المترتب عليه.
3-الفعل الذي يكون مستبطناً الجزاء المترتب عليه، أي أن الفعل هو نفس الجزاء، والجزاء هو باطن الفعل وزمن حدوث الفعل هو زمن تحقق الجزاء، مثل: اللعب بالنار، فإن الاحتراق هو نفس اللعب بالنار، ورفع السيف للقتل، فإن الفعل هو القتل.
والآن نود أن نعرف العلاقة بين عمل الإنسان والثواب والعقاب الأخروي المترتب عليه. هناك خلاف بين الأعلام في تحديد ذلك ولهم مباحث فلسفية دقيقة، نركز على ما يظهر من القرآن والنصوص:
المدعى أنها من النحو الثالث، وهو الذي يقرر أن الفعل يكون مستبطناً الجزاء، فالإنسان بفعله الحرام يحصل على ما يستحقه من الجزاء الحقيقية، ويكون قد دخل النار في نفس زمان صدور الحرام نه، لا أنه سيعاقب بعقوبة وجزاء اعتباري أو حقيقية مؤجل لطرف لاحق. توضيح ذلك:
إن للفعل ظاهراً يمكنك أن تنظر إليه، وأن تراه بعينك وتحس به بيدك، تشمه، تسمعه، وله أيضاً باطن، وباطن العمل هو جزاؤه وهناك حواس باطنة، تدركه لأن الباطن لا يدرك بالحواس الظاهرة، قال تعالى:- (قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى).
والحاصل، إن نفس زمان وظرف حصول الفعل وتحققه هو ظرف تحقق الجزاء، لأن الجزاء هو باطن العمل، وليس أمراً آخر، وسوف ينال الإنسان جزائه في الدنيا قبل الآخرة.
محاكمة الأقوال الثلاثة في المسألة:
ولما كان القول الأول مبنياً على مقدمة غير مسلمة، وهي كون الحسن والقبح شرعيـين، وليسا عقليـين، فلا موجب لمناقشته.
الثواب تفضل:
وقد استدل للقول الثاني، وهو كون الثواب تفضلاً وليس استحقاقاً، بدليلين:
الأول: ما جاء في كلام غواص بحار الأنوار العلامة المجلسي(ره)، من دلالة الأدلة النقلية على ذلك، فإن المستفاد من مجموعة من النصوص، والأدعية الواردة عن المعصومين(ع)، ذلك[12].
ولعله يشير لما جاء في الصحيفة السجادية حيث يقول(ع): وأعددت ثوابهم قبل أن يفيضوا في طاعتك وذلك أن سنتك الإفضال. فقد عبر(ع) عن ثواب الله تعالى بالإفضال، وهو يعني التفضل.
الثاني: إن مالكية الله سبحانه لعباده ولأفعالهم تجعله متفضلاً في تقرير أصل المثوبة، كما هو متفضل في مضاعفتها بما ينفي أي حق لهم عليه. لأن طاعة المولى لازمة بحكم العقل، والعبد المطيع إنما يجري على طبق وظيفته، ومقتضى عبوديته، ورقيته لله تعالى، وليس هو في عمله أجيراً للمولى حتى يستحق عليه شيئاً[13].
وقرره بعض الأعيان(قده)، بأن عمل العبد كنفسه مملوك لله تعالى، فلا يملك العبد شيئاً حتى يعاوضه بشيء[14].
ولا يخفى ما فيه، ضرورة أن أفعال العباد كما أنها مملوكة للباري سبحانه، فإنها مملوكة للعباد أيضاً، ولذا تصدر عنهم بالاختيار، فيكون قيامهم بالتكاليف الموجهة إليهم ما فيها من مشقة، وما تحويه من جهد وعناء، موجب لاستحقاقهم المثوبة عليها، ويكون حرمانهم ذلك قبيح، وسوف تأتي الإشارة لذلك عند عرض دليل القول الثالث.
وللعلامة الطباطبائي(ره) في الميزان جواب آخر عن الدليل الثاني، وهو أن ملكية الله تعالى للعبد ولأعماله، لا تنافي وجود فضل آخر من الله باعتبار عمل العبد ملكاً له، ثم جعل ما يثيبه عليه أجراً لعمله، كما قال تعالى:- (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة)[15].
دليل القول الثالث:
وقد استدل القائلون بالقول الثالث بدليلين، عقلي ونقلي:
الأول، وهو الدليل العقلي، وله بيانان:
أحدهما: إن البناء على منع كون الثواب استحقاقاً قبيح، وهو لا يصدر عن الحكيم سبحانه وتعالى، بيان ذلك:
من المعلوم أن الباري سبحانه وتعالى بعدما خلق الإنسان وجه له مجموعة من التكاليف الشرعية، وصار الإنسان ملزماً بالإتيان بها، وهو إلزام بما فيه مشقة، ومن الواضح أن الإلزام بما فيه مشقة دون التـزام بنفع وثواب مقابله قبيح لا يصدر عن الحكيم.
وقد أجيب عنه، أولاً: إن تمامية ما ذكر من ضرورة وجود نفع مقابل التكليف الموجه للعباد، يتوقف على عدم سبق نعم صادرة من الله تعالى، أما إذا سبق ذلك نعم عديدة لا تعدّ ولا تحصى قد صدرت من المولى الحقيقي للعبد وأعطيت إياه، فسوف يكون التكليف شكراً لهذه النعم، ومقابلاً لها.
ثانياً: إن مجرد كون التكليف شاقاً لا يستوجب إعطاء النفع، والمقابلة بالثواب، لأنه يكفي لتبرير التكليف الشاق كون التكليف حسناً في نفسه، أو كونه في صالح المكلفين، أو كليهما معاً.
وقد أجيب عن الأول في كشف المراد بما حاصله، بأن جعل التكليف مقابل النعم غير مستقيم، لأنه يقبح عند العقلاء أن ينعم الإنسان على غيره، ثم يقوم بتكليفه ويجب عليه شكره ومدحته على تلك النعم التي أنعهما عليه دون أن يوصل إليه ثواباً، بل إنهم يعدون ذلك نقصاً في النعم، وأنه عمل قبيح، لا يصدر من الحكيم سبحانه[16].
وأما الجواب الثاني، فيمكن النقض عليه، بمفسدة التكليف، فيقال: كما أن مجرد مصلحة التكليف كافية للبناء على حسن التكليف ولزوم الاتيان به، دون حاجة إلى جعل ثواب عليه، كذلك فإن مفسدة التكليف كافية للبناء على الاستغناء عن العقوبة التي يستحقها العبد بسبب طغيانه ومخالفته لأمر المولى، وهذا ما لا يمكن الالتـزام به.
وأما الحل، فإن الجواب المذكور مبني على مختار المشهور من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد، وعندها يكتفى بأن يكون التكليف في نفسه صالحاً للمكلف، أما لو بني على أن مناط الجعل هو قرب العبد من ربه سبحانه وتعالى، فلا يكون مجرد حسن التكليف موجباً لذلك في كل حال، فلا يتم الجواب المذكور.
على أنه حتى لو بني على مختار المشهور، من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد، فالظاهر أن كل تكليف إلهي لا يخلو عن شيء ضمني ملحوظ حال جعله، وهو ملاحظة مدى طاعة العبد لمولاه وانقياده لأمره، فيوحي بأن في البين حالة امتحان واختبار للتسليم والانقياد منه لمالكية المالك سبحانه، ومن الواضح أن مثل هذا الامتحان يتضمن الوعد والوعيد بالثواب والعقاب، ما يساعد على الاستحقاق دون التفضل.
البيان الثاني للدليل العقلي:
من المعلوم أن الطاعة مشقة قد ألزم الله تعالى المكلف إتيانها، وهذا الأمر والتكليف لا يخلو إما أن يكون لغرض أو لا، فإن لم يكن لغرض كان عبثاً وظلماً، وهو قبيح لا يصدر عن الحكيم.
أما لو كان لغرض، فإما أن يكون الغرض هو الاضرار بالعبد، وهذا ظلم، وهو قبيح لا يصدر عن الباري سبحانه وتعالى، أو يكون نفع وفائدة للعبد، وهو ما يكون مترتباً على التكليف والأمر بالطاعة، فيثبت الاستحقاق[17].
الدليل النقلي:
الثاني: وهو الدليل النقلي، فهناك العديد من الآيات والروايات الدالة على كون الثواب استحقاقاً، وليس تفضلاً نشير لبعضها:
منها: قوله تعالى:- (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار)[18]. فإن مقتضى نفي التسوية الواردة فيها بين المطيعين والعصاة، تقضي باستحقاق المطيعين للثواب، وأنه ليس تفضلاً.
ومنها: قوله سبحانه:- (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم وسورة مماتهم ساء ما يحكمون)[19]. ودلالتها على المطلوب كسابقتها.
ومنها: قوله عز من قائل:- (إليه مرجعكم جميعاً وعد الله حقاً إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون)[20]. فإن التعبير بقوله تعالى:- (ليجزي) صريح في كون الجزاء استحقاقاً، فإنه سبحانه قد جعل جزاء المؤمنين قسيماً لجزاء الكافرين، وقد عرفت أن العقاب استحقاق، فيكون قسيمه مثله.
ومثل ذلك في الدلالة على المطلوب قوله تعالى:- (ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب)[21]، إذ من الواضح أن الجزاء يكون للمطيع والعاصي، والمفروض أن جزاء العاصي استحقاقاً، فيكون ذلك قرينة دالة على كون جزاء المطيع استحقاقاً أيضاً.
————————————————————————
[1] تاج العروس ج 1 ص 168، لسان العرب ج 2 ص 145.
[2] لسان العرب ج 2 ص 144.
[3] مفردات ألفاظ القرآن ص 180.
[4] النهاية ج 1 ص 277.
[5] شرح المواقف للجرجاني ج 8 ص 372.
[6] بحار الأنوار ج 68 ص 200.
[7] أوائل المقالات ص 111.
[8] التبيان ج 2 ص 553.
[9] محاضرات في أصول الفقه ج 2 ص
[10] تفسير الرازي ج 14 ص 8.
[11] تهذيب الأصول ج 1 ص 351.
[12] بحار الأنوار ج 68 ص 200.
[13] أجود التقريرات ج 1 ص 250.
[14] تهذيب الأصول ج 1 ص 353.
[15] الميزان في تفسير القرآن ج 15 ص 326-327.
[16] كشف المراد ص 544.
[17] كشف المراد ص
[18] سورة ص الآية رقم 28.
[19] سورة الجاثية الآية رقم 21.
[20] سورة يونس الآية رقم 4.
[21] سورة إبراهيم الآية رقم 51.