الوقوف في عرفات مع المسلمين(2)
أدلة القائلين بالإجزاء:
وقد تمسك القائلون بالإجزاء مطلقاً من دون فرق بين صورتي المسألة، سواء قطع بالخلاف، أم احتمل الموافقة، أو بني على الإجزاء في الجملة وذلك في صورة احتمال الموافقة، وعدم الجزم بالخلاف، دون ما إذا كان المكلف قاطعاً بالخلاف، كما في الصورة الثانية بوجوه عديدة:
أحدها: السيرة العملية:
القطعية لشيعة أهل البيت(ع) في عصورهم على متابعة من كان بيدهم أمور الحج من المسلمين في الموقفين، وما يتبعهما من الأعمال.
وقد تمسك بهذه السيرة غير واحد من الأعلام واستند إليها في إثبات المدعى:
منهم: الشيخ عبد النبي العراقي(ره) في كتابه إعلام العامة في صحة الحج مع العامة، قال: إن العمل من الصدر الأول إلى زماننا هذا على متابعتهم في عمل الحج، خصوصاً في الصدر الأول من حضور الخلفاء وأمراء الحاج من أكناف البلاد، فإذا ثبت عندهم الهلال بحكم القضاة أو بغير حكمهم فهل الشيعة كانوا يتخلفون عنهم؟ حاشا ثم حاشا، أو أنهم يتداركون أو يقضون في القابل، مع أن القابل مثل السابق؟ فمن يدعي تلك المقالة فإنما هي باللسان، وقلبه مطمئن بالرحمن[1].
ومنهم: بعض الأساطين(قده) في دليل الناسك، قال: ويقتضيه-أي نفوذ حكم قاضي المخالفين في هلال ذي الحجة-السيرة القطعية في زمن الأئمة(ع) على متابعتهم في المواقف من دون تعرض لشيء من ذلك[2].
نعم قد خص(ره) جريان السيرة في صورة احتمال الموافقة في حكمهم بالهلال للواقع، وأما في صورة العلم بالخلاف، فإن السيرة غير ثابتة في ذلك.
وقال بعض الأعيان(ره) في رسائله: ومما يشهد لترتب أثر التقية في الموضوعات وأن الوقوفين في غير وقتهما مجزيان أنه من بعد رسول الله(ص) إلى زمان خلافة أمير المؤمنين ومن بعده إلى زمن الغيبة كان الأئمة وشيعتهم مبتلين بالتقية أكثر من مائتي سنة، وكانوا يحجون مع أمراء الحاج من قبل خلفاء الجور أو معهم، وكان أمر الحج وقوفاً وإفاضة بأيديهم لكونه من شؤون السلطنة والإمارة، ولا ريب في كثرة تحقق يوم الشك في تلك السنين المتمادية، ولم يرد من الأئمة(ع) ما يدل على جواز التخلف عنهم أو لزوم إعادة الحج في سنة يكون هلال ذي الحجة ثابتاً لدى الشيعة مع كثرة ابتلائهم.
ولا مجال لتوهم عدم الخلاف في أول الشهر في نحو مائتين وأربعين سنة ولا في بنائهم على إدراك الوقوف خفاء كما يصنع جهال الشيعة في هذه الأزمنة، ضرورة أنه لو وقع ذلك منهم ولو مرة أو أمروا به ولو دفعة لكان منقولاً إلينا لتوفر الدواعي له، فعدم أمرهم به ومتابعتهم لهم أدل دليل على إجزاء العمل تقية ولو في الخلاف الموضوعي، وهذا مما لا إشكال فيه ظاهراً[3].
ومنهم: بعض الأعاظم(ره) في بحث الطهارة، وكذا في بحث الحج، فقد جاء في كتاب الطهارة: إن الأئمة(ع) كانوا يحجون أغلب السنوات وكان أصحابهم ومتابعوهم أيضاً يحجون مع العامة في كل سنة، وكان الحكم بيد المخالفين من بعد زمان الأمير(ع) إلى عصر الغيبة، ولا يحتمل عاقل توافقهم معهم في هلال الشهر طوال تلك السنوات، وتلك المدة التي كانت قريبة من مائتين سنة وعدم مخالفتهم معهم في ذلك أبداً. بل نقطع وجدانياً أنهم كانوا مخالفين معهم في أكثر السنوات، ومع هذا كله لم ينقل ولم يسمع عن أحدهم(ع) ردع الشيعة ومتابعيهم عن تبعية العامة في الوقوف بعرفات وقتئذٍ، وقد كانوا يتبعونهم بمرأى ومسمع منهم(ع)، بل كانوا بأنفسهم يتبعون العامة فيما يرونه من الوقوف.
وعلى الجملة، قد جرت سيرة أصحاب الأئمة(ع) ومتابعيهم على التبعية في ذلك للعامة في سنين متمادية، ولم يثبت ردع منهم(ع) عن ذلك، ولا أمر التابعين للوقوف بعرفات يوم التاسع احتياطاً، ولا أنهم تصدوا بأنفسهم لذلك، وهذا كاشف قطعي عن صحة الحج المتقى به بتلك الكيفية، وإجزائه عن الوظيفة الأولية في مقام الامتثال[4].
وقد خص(ره) مورد السيرة المذكورة بصورة احتمال المطابقة مع الواقع، وأما مع العلم الوجداني بالمخالفة، فذكر: أنه أمر نادر الاتفاق، أو لعله أمر غير واقع، وعدم الردع في مثله لا يكون دليلاً قطعياً على صحة ذلك الوقوف وإجزائه في مقام الامتثال.
وقد تضمنت كلمات المستندين إلى السيرة دليلاً على الإجزاء تركبها من أمرين:
الأول: أن تعيـين زمان الوقوفين كان بيد السلطة الحاكمة في عصر الأئمة(ع)، وإلى يومنا هذا، وكان المتصدي لتعيـين وقت الوقوف الذي يقف فيه الحجاج على صعيد عرفات والليلة التي يقضونها في مزدلفة، والإعلان عن ذلك هو الخليفة إذا حج بنفسه في ذلك العام، أو ممثله الخاص لو لم يحج.
وقد أورد المؤرخون أسامي من تولوا إمارة الحج في زمن النبي(ص) إلى مئات السنين اللاحقة، فقد أورد المسعودي في كتابه مروج الذهب تحت عنوان: تسمية من حج بالناس من أول الإسلام إلى سنة 335 هـ[5].
الثاني: لا ريب في أن الأئمة الأطهار(ع) كانوا يحجون بأنفسهم في كثير من السنين، وربما كان الإمام بصحبة أمير الحاج كما ورد ذلك في رواية حفص المؤذن، قال: حج إسماعيل بن علي بالناس سنة أربعين ومائة، فسقط أبو عبد الله(ع) عن بغلته، فوقف عليه إسماعيل، فقال له أبو عبد الله(ع): سر، فإن الإمام لا يقف[6].
وجاء في خبر صفوان بن يحيى، وأحمد بن محمد بن أبي نصر، قالا: سألناه-أي أبو الحسن الرضا(ع)-عن قران الطواف السبوعين والثلاثة. قال: لا، إنما هو سبوع وركعتان. وقال: كان أبي يطوف مع محمد بن إبراهيم فيقرن، وإنما كان ذلك منه لحال التقية[7].
والمقصود بمحمد بن إبراهيم المذكور في الخبر هو محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي الذي حج بالناس أعواماً عديدة منها عام 151 هـ، وعام 154 ه.
وبالجملة، لا إشكال في أن الأئمة(ع) كانوا يحجون في كثير من الأعوام، وربما استنابوا في أداء الحج كما ورد في رواية محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني، قال: بعث إلي أبو الحسن الرضا(ع) رزم ثياب وغلماناً وحجة لي وحجة لأخي موسى بن عبيد، وحجة ليونس بن عبد الرحمن، فأمرنا أن نحج عنه[8].
وقد كان أصحاب الأئمة(ع) يحجون بكثرة، ويفدون من مختلف البلدان، ويلتقون بهم في الحج، وكان العديد منهم يستنيب من يحج عنه إذا لم يمكنه الخروج بنفسه، وبعضهم كان يستنيب العشرات كعلي بن يقطين الذي ورد في بعض النصوص أنه أحصى من وافى عنه في عام واحد فكانوا مائة وخمسين رجلاً[9].
ويستكشف كثرة حجاج شيعة أهل البيت(ع) في عصورهم من كثرة روايات الحج في الجوامع الحديثية، فإنها أكثر روايات الفروع بعد الصلاة.
ويعتمد الاستدلال بالسيرة العملية القطعية على خلو الأحاديث الواردة في الحج عن أي ذكر للاختلاف في الوقوفين بين الأئمة(ع) وشيعتهم وبين ما كان يجري عليه غالب المسلمين دليلاً على متابعتهم للموقف الرسمي، وأن الحكم كان لدى الشيعة من الواضحات بحيث لم يكثر السؤال والجواب عنه ولو في بعض النصوص الواصلة إلينا.
ويقوم الاستدلال بالسيرة المذكورة على توفر أمرين:
الأول: إن الاختلاف بين الموقف الرسمي الذي كان يعلنه أمير الحاج ويمضي عليه عامة الحجاج وبين الموقف الشرعي والذي تقتضيه الضوابط الشرعية لثبوت الهلال عند أئمة الهدى(ع)، وأتباعهم، بتقدم الموقف الرسمي على الموقف الشرعي كان حالة سائدة متعارفة في عصرهم(ع)، فقد كان يحصل في كثير من السنين، بل في غالبها كما هو الحال في العصر الأخير، حيث يلاحظ أنه لا يحصل التوافق في كل عشر سنوات إلا مرة أو مرتين على أبعد تقدير.
الثاني: أن من كان بيدهم أمر الحج من أمير الحاج وأعوانه كانوا يتحكمون بوقوف الحجاج في عرفات ومزدلفة، ولم يكن الأمر متروكاً للحجاج ليقف من شاء منهم في الموقف الرسمي، ومن شاء قبل ذلك أو بعده، من جهة عدم ثبوت الهلال لديه، عند ثبوته لدى أمير الحاج، أو لعكس ذلك، كما هو الحال في زماننا هذا حيث لا يتيسر التخلف عن الموقف الرسمي إلا بالنسبة إلى الشاذ النادر من الحجاج كما هو واضح.
ومع ثبوت هذين الأمرين، لن يبقى تفسير منطقي لخلو الأحاديث صحيحها وسقيمها من حكم الاختلاف في الوقوفين إلا ما ذكر من أن الأئمة(ع) لم يكونوا يقفون إلا وفق الموقف الرسمي، وكان أصحابهم يرون ذلك منهم فيتبعونهم فيما يصنعون، وكان عملهم(ع) بمرأى ومشهد من الأصحاب مغنياً عن تكرر بيانهم لحكم المسألة، وهو الاجتزاء بالوقوف مع العامة تقية، كما أنه كان مغنياً لأصحابهم عن توجيه الأسئلة إليهم مكرراً عن حكم حالة الاختلاف وما يترتب على ذلك. ومن هنا لم يرد شيء حول ذلك في شيء من الروايات الواصلة إلينا.
وأما لو لم يتوفر أحدهما أو كلاهما، فلن يتم الاستدلال بها، فلو كان الاختلاف بين الموقف الرسمي والموقف الشرعي قليلاً لا يقع إلا مرة كل عشر سنوات، فلا سبيل إلى استكشاف اتباع الأئمة(ع) وشيعتهم للموقف الرسمي في موارد الاختلاف، فإن ما لا يكثر الابتلاء به ولا يقع على نطاق واسع لا يلزم أن يتمثل حكمه في الروايات الواصلة إلينا والتي هي في الأساس تشكل مجموعة محدودة من الروايات المروية عن الأئمة(ع).
وكذا لو كان الاختلاف في الموقفين يقع مكرراً مثلاً في كل ثلاث أو أربع سنوات، إلا أنه كان للحجاج حرية الوقوف متى ما شاؤوا، فكان شيعة أهل البيت(ع) يقفون في موارد الاختلاف وفق الضوابط الشرعية بصورة طبيعية، فلن يلزم أن يكون ذلك واراداً في شيء من الروايات الواصلة إلينا. ويساعد على ذلك هلال شهر رمضان وهلال شهر شوال، فإنه لما لم يكن هناك إلزام لعامة الناس بمتابعة الموقف الرسمي في حلول الشهر المبارك، أو في انتهائه بحلول العيد، لم يرد في الروايات الموجودة بأيدينا شيء من السؤال والجواب عن ذلك.
وأما الإمام(ع) فربما أصبح في موقف التقية بمتابعته فيراعي التقية في ذلك، وقد تمثل هذا في بعض الروايات، كما في الرواية الحاكية لدخول الإمام الصادق(ع) على أبي العباس السفاح بالحيرة وأنه(ع) اتقاه فأفطر في يوم كان يرى أنه من شهر رمضان، ولم يكن كذلك عند الخليفة.
وجاء في نص آخر أنه(ع) أمر بالاستفسار هل صام الأمير أو لا، ولما أخبر بأنه لم يصم لعدم ثبوت هلال شهر رمضان عنده، أمر بأن يؤتى بالطعام وتغذى.
والحاصل، إنه ما لم يثبت الأمران المتقدمان اللذان يقوم الاستدلال بالسيرة عليهما، فلن يتم الاستدلال المذكور، ولا يعتبر لردهما إحراز عدم ثبوتهما، بل يكفي لمنع الاستدلال بالسيرة عدم احراز ثبوتهما، ولذلك يلزم المستدل بالسيرة المذكورة أن يقيم شواهد كافية على تماميتها حتى يثبت مدعاه. مع أن كلمات المستدلين بالسيرة قد خلت من الإشارة إلى شيء منها فضلاً عن أن يحشدوا الشواهد عليها، فقد أرسل الاستدلال بالسيرة في كلماتهم ارسال المسلمات، وكأنها من الواضحات الغنية عن الإثبات.
وعلى أي حال، فقد أجيب عن الاستدلال بالسيرة بجوابين، إجمالي وتفصيلي:
أما الجواب الإجمالي: إن ما ورد في تقريب الاستدلال بالسيرة مبنياً على الأمرين المتقدمين لا يفي بتفسير مقبول لخلو الروايات جميعاً عن أي تعرض للاختلاف بشأن الوقوفين وما يترتب عليه من الأحكام في مورد التقية، مما يكشف إجمالاً عن عدم تمامية ذينك الأمرين على النحو المتقدم، وتوضيح ذلك:
أن معظم الاختلاف في الوقوفين بتقدم الموقف الرسمي على الموقف الشرعي الذي تقتضيه الضوابط الشرعية، إنما كان يقع من جهة اعتماد أمير الحاج في ثبوت هلال ذي الحجة على بعض الشهادات المنفردة في المنطقة بالرغم من صفاء الجو وكثرة المستهلين وعدم تيسر الرؤية لمعظمهم، أو من جهة اعتماده على بعض الشهادات من خارج المنطقة عند وجود مانع عن الرؤية، كالغيم في المنطقة، ولكن مع كون الشهود من المخالفين غير المتصفين بالعدالة في مذهب أهل البيت(ع).
وأما لو فرض أنه كان يعتمد على قاعدة إكمال الشهر السابق ثلاثين يوماً بسبب وجود الغيم ونحو ذلك مما يمنع من الاستهلال، أو كان يستند إلى شهادات كثيرة بالرؤية تشكل شياعاً موجباً للعلم فمن الظاهر أنه لم يكن يقع اختلاف بين الموقفين الرسمي والشرعي.
وفي كلتا الحالتين الأوليـين فإن اقتصار الأئمة(ع) على الوقوف الرسمي وترك الوقوف الشرعي حتى الاضطراري منه وعدم توجيه أصحابهم برعاية الوقوف الشرعي وفق ما يتيسر لهم مما لا ينافي التقية كان لابد أن يثير الكثير من الأسئلة لدى الأصحاب.
أما في الحالة الأولى، فلأنهم(ع) طالما أكدوا على عدم الاكتفاء في رؤية الهلال عند صفاء الجو وكثرة المستهلين بشهادة شخص أو شخصين، ففي صحيحة أبي أيوب الخزاز: وليس رؤية الهلال أن يقوم عدة فيقول واحد: قد رأيته، ويقول الآخرون: لم نره، إذا رآه واحد رآه مائة، وإذا رآه مائة رآه ألف. ولا يجزي في رؤية الهلال إذا لم يكن في السماء علة أقل من شهادة خمسين[10]. وغير ذلك من النصوص الدالة على هذا المعنى.
وعليه، يتساءل كيف اقتنع أصحاب الأئمة(ع) بالوقوف وفق الموقف الرسمي المعتمد على شهادة شخصين مثلاً في حالة صفاء الجو وكثرة عدد المستهلين، ولم يتوجهوا إلى الأئمة(ع) بالسؤال عن وجه متابعتهم للموقف الرسمي، مع ما هو المفروض من حدوث ذلك عشرات المرات في عصورهم؟
وأما في الحالة الثانية، فالأمر أجلى مما ذكر، فإن اشتراط العدالة في شاهدي الهلال من أوضح الواضحات في مذهب الإمامية، فكيف اقتنع الأصحاب بالوقوف وفقاً للموقف الرسمي المعتمد على شهادة بعض المخالفين الفاقدين للعدالة المعتبرة عندنا، ولم يتوجهوا بالأسئلة إلى الأئمة(ع) عن وجه المتابعة لهم في ذلك، علماً أننا نجد في مورد إمام الجماعة الذي يعتبر فيه أن يكون عادلاً على الرأي المشهور، أو موثوقاً بدينه على رأي آخر، أن الإمام(ع) لما قال لبعض شيعته ممن سأله عن الصلاة خلف إمام مسجد قومه: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: من سمع النداء فلم يجبه من غير علة فلا صلاة له. فانتفض زرارة، وقال: كبر علي قولك لهذا الرجل حين استفتاك، فإن لم يكونوا مؤمنين؟ فضحك(ع) ثم قال: ما أراك بعد إلا هاهنا يا زرارة، فأية علة تريد أعظم من أنه لا يؤتم به. فيلاحظ أن زرارة لم يسكت عندما فهم خطأ من كلام الإمام(ع) الترخيص في الصلاة خلف المخالف الذي لا يوثق بدينه، فكيف يمكن القبول بأن الحجاج من شيعة أهل البيت(ع) اقتنعوا بالوقوف وفقاً للموقف الرسمي المستند إلى شهادة بعض المخالفين من دون أن يستفسروا منهم(ع) عن وجه ذلك.
علماً أن المتتبع للروايات يجد شواهد وافية على أن متابعة الشيعة للعامة في الأمور الشرعية كان أمراً ثقيلاً عليهم لا يتحمله الكثيرون منهم، حتى إن الصلاة خلف المخالف رعاية لبعض المصالح المهمة لم يسهل تقبلها على كثير من الشيعة بالرغم مما ورد فيها من التأكيد بأبلغ التعابير كما في صحيحة الحلبي: من صلى معهم في الصف الأول كان كمن صلى خلف رسول الله(ص). مع وضوح أن الصلاة خلفهم لا تؤدي إلا إلى الإخلال ببعض سننها دون فرائضها وأركانها، بخلاف الحج معهم المستلزم للإخلال بأهم ركنين من أركانه، وهما الوقوف بعرفات والوقوف بالمشعر، فكيف استساغ خواص الشيعة وعوامهم هذا الأمر ولم يتوجهوا إليهم(ع) بالأسئلة عن الوجه في متابعتهم للعامة حتى يبينوا عذرهم في ذلك بالنسبة إلى أنفسهم من وجود داعي التقية مثلاً؟!
كما نجد أن الإمام(ع) لما حكى لأصحابه أنه دخل على أبي العباس وقد شك الناس في الصوم، قال(ع): وهو والله من شهر رمضان، فسلمت عليه. فقال يا أبا عبد الله أصمت اليوم؟ فقلت: لا، والمائدة بين يديه، فقال: فادن فكل، قال: فدنوت فأكلت. قال له رجل مستغرباً: تفطر يوماً من شهر رمضان؟ فقال(ع): أي والله، إن أفطر يوماً من شهر رمضان أحب إلي من أن يضرب عنقي[11].
فكيف لم يسألهم أصحابهم في طي تلك السنوات المتمادية عن وجه متابعتهم للموقف الرسمي بالرغم من مخالفته للضوابط الشرعية في ثبوت الهلال؟!
وإذا فرض جدلاً أن أصحابهم اعتقدوا أن ذلك من جهة التقية ولذلك لم يسألوهم، مع أن هذا مستبعد وفق ما نعرفه من أحوال أصحابهم واختلاف درجاتهم في الفهم والمعرفة، فلماذا لم يسألوهم عن وجه عدم توجيه الشيعة برعاية الوقوف الشرعي مهما أمكن مما لا يخالف التقية؟ مع أن من المؤكد أنه كان يتيسر ولو لبعضهم ذلك ولو بالاقتصار على الوقوف الاختياري في المشعر في اليوم الثاني، فإنه لا ينافي التقية غالباً.
وبالجملة، لو كان الأمر كما ادعي من سعة الابتلاء بالاختلاف في الوقوفين في عصرهم(ع) وأن رعاية الوقوف الشرعي آنذاك كان أمراً مخالفاً للتقية، ولذلك كانوا يقتصرون على الوقوف الرسمي خاصة، لم يكن مجرد مشاركة الأئمة(ع) في الحج في كثير من السنين ومشاهدة الأصحاب أنهم يتبعون الموقف الرسمي وجهاً كافياً لتفسير خلو الروايات عن أي ذكر بشأن الاختلاف المذكور، لأنه لا ينسجم مع طبيعة الموقف من متابعة العامة في الأمور الشرعية.
مضافاً إلى أن معظم الأئمة بعد الإمام الصادق(ع) ممن لم يكن يتيسر لهم أداء الحج في غالب السنين، أو في كثير منها، ومع ذلك لا نجد تعرضاً لهذه المسألة في روايات أصحابهم وهم كثيرون، ومنهم عدد من أعاظم فقهائنا كمحمد بن أبي عمير، وصفوان بن يحيى ويونس بن عبد الرحمن، وغيرهم.
والحاصل، إن مسألة بهذه الأهمية تتعلق بواحدة من أعظم شعائر الإسلام إذا كانت موضع ابتلاء المؤمنين في عصر الأئمة(ع) بصورة واسعة كما ادعي فليس من المنطقي أن لا يرد السؤال بشأنها وبيان حكمها في شيء من الروايات المأثورة عنهم، بل إن هذا يشهد على كونها من المسائل المستحدثة، وأنها لم تكن مورد ابتلاء المؤمنين بها في ذلك العصر بالنحو الذي هو موضع ابتلائنا اليوم.
ويساعد على ما ذكرناه من كون المسألة من المسائل المستحدثة، خلو الإشارة إليها أيضاً في العصور اللاحقة بعد عصر الأئمة(ع) إلى أوائل القرن العاشر، فإن المتابع لا يجد ذكراً لها في كلمات الفقهاء، ولا تعرض لحكمها في شيء من كتبهم مع أنها قد استوعبت فروعاً يقل الابتلاء بها، إلا ما سمعته عن الشهيد الثاني(ره) في المسالك.
كما لا نجد طرحاً للمسألة في المجموعات الاستفتائية التي كانت ترسل إلى فقهائنا ليجيبوا عليها، وبأيدينا نماذج عديدة منها كالتي تشتمل على إجابات الشيخ المفيد والسيد المرتضى، والشيخ الطوسي، والفاضلين(ره)، وغيرهم.
وبالجملة، إن عدم تعرض الفقهاء لهذه المسألة التي يزعم أنها مسألة ابتلائية على نطاق واسع في كثير من السنين أمر يثير الدهشة والاستغراب، ولذلك قال صاحب الجواهر(ره) كما سمعت كلامه في ما تقدم: بقي شيء مهم تشتد الحاجة إليه وكان أولى من ذلك كله بالذكر، وهو أنه لو قامت البينة عند قاضي العامة وحكم بالهلال على وجه يكون يوم التروية عندنا عرفة عندهم، فهل يصح للإمامي الوقوف معهم ويجزي لأنه من أحكام التقية-إلى أن قال-ولم أجد لهم كلاماً في ذلك[12].
ومما يؤكد أن سعة الابتلاء بالاختلاف في الموقفين على سبيل تقدم الموقف الرسمي على الموقف الشرعي لم يكن في القرون المتقدمة على هذا النحو أن العلامة(قده) حكى عن بعض العامة أنه قال: ولو وقفوا يوم التروية لم يجزئهم، لأنه لا يقع فيه الخطأ، لأن نسيان العدد لا يتصور من العدد الكثير، والعدد القليل لا يعذرون في ذلك، لأنهم مفرطون ويأمنون ذلك في القضاء[13]. ولم يعقب على ذلك بأن هذا موضع ابتلاء الشيعة وأنهم يضطرون إلى أن يقفوا في يوم التروية من باب التقية ثم يبين حكم ذلك.
ومثله الشهيد الأول(قده)، فإنه قال: لو وقفوا ثامنه غلطاً لم يجزئ، ولو وقفوا عاشره احتمل الإجزاء دفعاً للعسر، إذ يحتمل مثله في القضاء….وعدمه-أي عدم الإجزاء-لعدم الاتيان بالواجب، ولا فرق بينه وبين الثامن أنه لا يتصور نسيان العدد من الحجيج، ويأمنون ذلك في القضاء.
وهكذا الصيمري(قده) فإنه قال: لو وقفوا يوم التروية غلطاً في العدد كان احتمال عدم الإجزاء أقوى-أي من احتمال الإجزاء فيما لو وقفوا يوم العاشر غلطاً-والفرق أن نسيان عدد الشهر لا يتصور من الحجيج فلا يعذرون في ذلك لأنهم فرطوا، ولا يحتمل تصور ذلك في القضاء[14].
ووفقاً لما تقدم، لما لم يمكن تفسير خلو الروايات عن أي تعرض لمسألة الاختلاف في الوقوفين بما ذكر في تقريب الاستدلال بالسيرة، دل ذلك على الإجمال على عدم تمامية ما ادعي من سعة الاختلاف بين الموقفين الرسمي والشرعي في كثير من السنين في عصر المعصومين(ع)، وما بعده، وعدم تيسر الوقوف فيه وفق ما يقتضيه الموقف الشرعي، بحيث لا يخالف التقية في موارد الاختلاف.
وحاصل الجواب الإجمالي، أمران:
1-الالتـزام بعدم كثرة الاختلاف الحاصل بين الموقفين الشرعي والرسمي، وأن ذلك من القلة بمكان، وليس كما صوره القائلون بالاستدلال بالسيرة العملية القطعية من كثرته.
2-اعتبار المسألة من المسائل المستحدثة التي لم تكن مورداً للابتلاء بها في عصر المعصومين(ع)، ولذا خلت النصوص الواردة عنهم من التعرض إليها من قريب أو بعيد.
ووفقاً لهذين الأمرين لا يمكن تفسير خلو الروايات عن التعرض لهذه المسألة بما تضمنته كلمات المستدلين بالسيرة العملية، بل سوف يكون ذلك دالاً بصورة مجملة على عدم تمامية دعواهم بسعة الاختلاف الحاصل بين الموقفين الرسمي والشرعي في كثير من السنين في عصر المعصومين(ع)، وما بعده، وعدم تيسر الوقوف فيه وفق ما يقتضيه الموقف الشرعي، بحيث لا يخالف التقية في موارد الاختلاف.
—————————————————-
[1] إعلام العامة في صحة الحج مع العامة ص 43.
[2] دليل الناسك ص 353.
[3] الرسائل ج 2 ص 196.
[4] التنقيح في شرح العروة كتاب الطهارة ج 4 ص 292-293، مستند الناسك في شرح المناسك ج 2 ص 106.
[5] مروج الذهب ومعادن الجوهر ج 4 ص 301-313.
[6] وسائل الشيعة ج 11 ص 398 ح
[7] وسائل الشيعة ج 13 ص 371 ح
[8] وسائل الشيعة ج 11 ص 208 ح
[9] اختيار معرفة الرجال ج 2 ص 737.
[10] وسائل الشيعة ج 10 ب 11 ح 10 ص 289.
[11] وسائل الشيعة ج 10 ب 57 ح 5 ص 132.
[12] جواهر الكلام ج 19 ص 32.
[13] تذكرة الفقهاء ج 8 ص 190، منتهى المطلب في تحقيق المذهب ج 11 ص 61.
[14] غاية المرام في شرح شرائع الإسلام ج 1 ص 439.