النظر للوجه والكفين(2)
ومنها: النصوص الدالة على جواز النظر إلى وجه المرأة ويديها التي يريد التـزويج بها، وقد جاءت هذه النصوص على نحو القضية الشرطية، فيكون مفهومها هو عدم جواز النظر إلى وجه المرأة الأجنبية ويديها إذا لم يكن مريداً التـزويج بها[1].
وينحصر ما يصلح من هذه النصوص للدلالة على المدعى في خصوص نصين، وهما:
الأول: معتبر هشام بن سالم وحماد بن عثمان وحفص بن البختري كلهم عن أبي عبد الله(ع)، قال: لا بأس بأن ينظر إلى وجهها ومعاصمها إذا أراد أن يتـزوجها[2].
الثاني: خبر الحسن بن السري، قال: قلت لأبي عبد الله(ع): الرجل يريد أن يتـزوج المرأة يتأملها وينظر خلفها وإلى وجهها؟ قال: نعم، لا بأس أن ينظر إلى المرأة إذا أراد أن يتـزوجها ينظر إلى خلفها وإلى وجهها[3].
ودلالة النصين على جواز النظر إلى وجه وكفي المرأة التي يريد الزواج بها واضحة، ومع البناء كما عرفت على أنهما مسوقتان بنحو القضية الشرطية، فسوف يكون وفقاً لمفهوم الشرط البناء على عدم جواز النظر إلى وجه وكفي المرأة الأجنبية التي لا يريد الزواج بها، فيثبت المطلوب.
ومع أن بعض الأعاظم(ره) استند إليهما في كتاب النكاح للدلالة على المدعى، إلا أنه منع دلالتهما على ذلك في كتاب الصلاة، فإنه بعد ما ذكر أن أحسن ما يصلح للدلالة هو صحيحة هشام وحماد وحفص المتقدمة، أجاب عن ذلك:
أولاً: أنها أجنبية عما نحن فيه، لأن النظر المحكوم فيها بالجواز هو النظر عن شهوة والتذاذ على ما يقتضيه طبع النظر بقصد الزواج، فإن الناظر حينئذٍ يفكر في أمور، لأنه يشتريها بأغلى الثمن، كما عبر ذلك في بعض النصوص، فيتأمل في محاسنها وجمالها نظر شهوة وتهيـيج كي تحصل له الرغبة في التـزويج، فمفهومها المنع عن مثل هذا النظر لو لم يكن لهذه الغاية، وأين ذلك من النظر الساذج العاري عن الشهوة والريبة الذي هو محل الكلام.
ويؤكد ما ذكرناه، ويؤيده رواية الحسن بن السري، قال: قلت لأبي عبد الله(ع): الرجل يريد أن يتـزوج المرأة يتأملها وينظر إلى خلفها وإلى وجهها، قال: نعم، لا بأس أن ينظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أن يتـزوجها ينظر إلى خلفها وإلى وجهها. فإن التعبير بالتأمل غير المنفك عن التلذذ كالصريح فيما ذكرناه[4].
وقد أجاب عنهما الشيخ الأعظم(ره) بأجوبة ثلاثة:
الأول: إن سياق الشرط فيهما ليس مفيداً للتعليق، كما يظهر بالتأمل. وهو يشير إلى أن الجملة الشرطية فيهما ليس لها مفهوم، بل هي مسوقة لبيان الموضوع، وهذا يبتني على أن يكون الموضوع في النصين ليس ذات المرأة، بل المرأة التي يريد تزويجها ليكون انتفاء الشرط مساوقاً لانتفاء موضوع الحكم.
وعند ملاحظة معتبرة هشام بن سالم، نجد أنه قد عبر عن الموضوع بالضمير، وهو من المبهمات، فإن رجع إلى ذات المرأة لم تكن الشرطية مسوقة لبيان الموضوع. نعم يتم ذلك إذا كان مرجع الضمير هو المرأة التي يريد تزويجها، وبما أنه لا ظهور للمعتبرة في مرجع معين، فسوف تكون الجملة الشرطية مجملة، ومعه لا يمكن اقتناص المفهوم منها بسبب الإجمال.
وأما خبر الحسن السري، فقد أخذ قيد إرادة التـزويج في الموضوع المفروض في السؤال، إلا أن الإمام(ع) أجاب بنحو ظاهره أن الموضوع هو ذات المرأة، فلا تكون الشرطية عندها مسوقة لتحقق الموضوع. اللهم إلا أن يدعى أن جوابه(ع) وإن كان بحسب الصورة كما ذكر، إلا أن نظره(ع) إنما هو إلى مفروض السؤال، فيكون محتوى الجواب عين ما جاء في السؤال، وإن اختلفا من حيث الشكل. نعم يمنع من الاستناد إليها ما عرفت من ضعف سندها، فإن الحسن السري الراوي لها لم تثبت وثاقته.
وقد يتمسك للبناء على وثاقته، بما ذكره العلامة وابن داوود(ره)، من حكاية توثيقه عن النجاشي.
ويمنعه خلو النسخ الموجودة من كتابه من ذكر ذلك، وهذا مانع من البناء على القبول بالتوثيق المذكور.
ولا مجال لأن يقال بأن المورد من صغريات الدوران بين أصالة عدم الغفلة في جانب الزيادة، وأصالة عدم الغفلة في جانب النقيصة، ويكون التقديم لأصالة عدم الغفلة في جانب الزيادة، وهذا يعني الأخذ بما تضمنه كلامي العلامة وابن داوود(ره). لأنه لم يثبت الأصلان المذكوران عند العقلاء أساساً.
على أنه لو سلم بوجودهما، فإنه لم يتضح الموجب للبناء على ترجيح أصالة عدم الغفلة في جانب الزيادة على أصالة عدم الغفلة في جانب النقيصة.
الثاني: بعد التسليم بثبوت المفهوم للنصين المذكورين، إلا أنهما لا يصلحان للدلالة على عدم جواز النظر إلى وجه المرأة الأجنبية وكفيها، وذلك لأن الجواز الذي تضمناه يختلف عن الجواز الذي هو محل البحث، فإن الجواز فيهما كان بغرض الاختبار للتـزويج، فيكون مدلول المفهوم عندها عدم جواز النظر بنحو الاختبار لمن لا يريد التـزويج، وهو الذي يكون عادة مصاحباً بشيء من التركيز الذي قد يوجب حصول الريبة واللذة والشهوة.
الثالث: بعد التسليم بدلالة النصين على الحرمة، فلا يخفى عليك أن دلالته بالظهور، وليس بالنص، لأن ذلك هو مقتضى المفهوم، وهذا يعني أن الاستدلال بهما موقوف على عدم وجود معارض دال على الجواز، وإلا قد يجمع بينهما لتحملا على الكراهة[5].
ومنها: صحيحة الفضيل، قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن الذراعين من المرأة، هما من الزينة التي قال الله:- (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن)؟ قال: نعم وما دون الخمار من الزينة، وما دون السوارين[6]. وقد قرب دلالتها بعض الأعاظم(ره)، بلحاظ أن المقصود مما هو دون الخمار ما يعم الوجه أيضاً، لأنه مما يكون على الرأس، فيكون الوجه مما هو دونه. ولا مبرر لملاحظة الخمار من أسفله، وهو ما يكون على الذقن حتى يقال أن ما دونه هو الرقبة خاصة، بل ما دونه هو الوجه، كما أن الظاهر بل الواضح أن ما دون السوارين هو ما يكون دونهما إلى أطراف الأصابع، وحمل ذلك على الفاصلة اليسيرة بين السوار والكف بحيث يكون الخارج هو الكف لا يخلو من تعسف، فتدل الرواية على أن الذراعين إلى أطراف الأصابع والخمار وما دونه من الزينة المحرم ابداؤها وبما أن كل ما وجب ستره حرم النظر إليه، فلذا لا يجوز النظر إلى الوجه والكفين[7].
ولا يذهب عليك أنه لو بني على تمامية دلالة الصحيحة، فإنها موقوفة على عدم صلاحية شيء من أدلة المجوزين لتقيـيدها، لأن دلالتها بالإطلاق وهو ظهور، وليس نصاً، لما عرفت من أن أدلة المانعين بمثابة المقتضي، وأدلة المجوزين تصلح مانعاً.
مع أن المنع عن تمامية دلالتها غير بعيد، إذ يلاحظ عليها، أولاً: بعدم دلالتها على لزوم ستر الوجه، لأن التعبير بـ: ما دون الخمار، ليس ظاهراً في شمول الوجه، لأن الوجه من الأساس يعدّ دون الخمار، وإنما هو دون طرف منه، والمفروض أن لفظ: ما دون الخمار، ظاهر فيما يكون دون مجموع الخمار بعد ستر الرأس به. وإن لم يقبل بما ذكر، فلا أقل من وجود إجمال في التعبير المذكور، ما يمنع من ترتيب الأثر عليه.
ثانياً: إن الصحيحة أجنبية تماماً عن المدعى، وذلك بملاحظة الموضوع الوارد فيها، ذلك أن نظرها للمقطع الثاني الوارد في آية إبداء الزينة، والمفروض أن موضوع المقطع المذكور هو خصوص الزينة غير الظاهرة، ولا يشمل الزينة الظاهرة، ومن الواضح أن الوجه والكفين من الزينة الظاهرة وليسا من الزينة غير الظاهرة، فلا يكونا مشمولين بتعبير: ما دون الخمار، ولا بتعبير: ما دون السوارين.
ومنها: ما دل من النصوص على النهي عن النظر، وأنه سهم من سهام إبليس:
1-ما رواه عقبة، عن أبي عبد الله(ع) قال: سمعته يقول النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، وكم من نظرة أورثت حسرة طويلة[8].
2-ما رواه عقبة قال: قال أبو عبد الله(ع): النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، من تركها لله عز وجل لا لغيره أعقبه الله أمناً وإيماناً يجد طعمه[9].
ويمكن أن يجعل ضمن هذه النصوص أيضاً ما تضمن أن زنا العين النظر، ففي خبر أبي جميلة، عن أبي جعفر وأبي عبد الله(ع)، قالا: ما من أحد إلا وهو يصيب حظاً من الزنا، فزنا العينين النظر، وزنا الفم القبلة، وزنا اليدين اللمس، صدق الفرج ذلك أو كذب[10].
وتقبل دلالتها على المدعى بلحاظ أن العرف يفهم من النهي الوارد فيها هو حرمة النظر إلى النساء الأجنبيات، والظاهر أن لسانها آبٍ عن التقيـيد، لأنها نص في المنع والحرمة، وهذا يعني أنه لو تم شيء من أدلة المجوزين، فسوف تكون المعارضة عندها مستقرة.
وقد منع دلالتها على المدعى بعض الأعاظم(ره)، فذكر أن موضوعها هو خصوص النظر المصاحب للريبة، فإنه المنسجم مع التعبير: بسهم من سهام إبليس، وهي الحالة التي لا يكون الإنسان فيها قادراً على السيطرة على نفسه ومنعها من الوقوع في الزنا، وقد يتمكن من كف نفسه ومنعها من المحرمات فينجو من ذلك، وحينئذٍ يصح تمثيله بالسهم فإنه قد يصيب وقد يخطئ، وأما لو كان النظر خالياً من الريبة، فإنه يكون غير مصيب دائماً، فلا يكون التشبيه بالسهم ملائماً.
ومثل ذلك أيضاً في نصوص زنا العين، فإنها ناظرة أيضاً إلى كون الناظر في مقام التلذذ لا مطلقاً، كما يظهر ذلك من تعبيره: فإن لكل عضو زنا، وزنا العين النظر، فإن من الواضح أن المقصود به النظر متلذذاً، كما هو الحال في زنا سائر الأعضاء، وليس النظر المجرد من ذلك[11].
كما أفاد(ره) بأن نصوص زنا العين غير صالحة للاستناد لضعف سندها، وظاهره البناء على اعتبار نصوص أن النظرة سهم من سهام إبليس. مع أن راويها عقبة لم يوثق.
ومنها: ما دل على جواز النظر إلى وجه الذمية ويديها، وقد علل ذلك بأنه لا حرمة لها، فإن التعبير المذكور لو لم يكن صريحاً في الدلالة على عدم جواز النظر إلى وجه وكفي المرأة المسلمة لثبوت الحرمة لها، لا أقل من كونه كالصريح في ذلك. فمن ذلك ما رواه السكوني، عن أبي عبد الله(ع)، قال: قال رسول الله(ص): لا حرمة لنساء أهل الذمة أن ينظر إلى شعورهن وأيديهن[12].
ومنها: ما رواه أبو البختري عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن علي بن أبي طالب(ع) قال: لا بأس بالنظر إلى رؤوس نساء أهل الذمة، وقال: ينـزل المسلمون على أهل الذمة في أسفارهم وحاجاتهم، ولا ينـزل المسلم على المسلم إلا بإذنه[13].
ولا يخفى عدم صلاحية النصوص المذكورة للدلالة على المدعى، ذلك أن ما ذكر لم يشمل شيء منه الحديث عن النظر إلى الوجه والكفن، نعم الوارد هو في الرأس واليدين، وعليه، سوف تكون دلالتها على المنع والحرمة بالإطلاق، وهذا يقبل التقيـيد بأدلة القائلين بالجواز.
ويمكن الاستدلال لحرمة النظر مطلقاً بإطلاقات الأدلة الدالة على حرمة النظر إلى بدن المرأة الأجنبية، فإنها شاملة للوجه والكفين، وتقضي بحرمة النظر إليهما. بل يمكن القول بأن القدر المتيقن ظاهراً من الأدلة المذكورة هو الوجه والكفان، بلحاظ أن النظر إلى الرأس يعم الوجه، كما أن النظر إلى اليدين يعم الكفين، وهما المنكشفان عادة من المرأة، وأن أول ما يتجه فإنه يتجه إليها.
الثالث: الإجماع والسيرة المتشرعية:
منها: سيرة المتشرعة المنعقدة على ستر المرأة وجهها وكفيها، الكاشف عن حرمة النظر إليهما مطلقاً.
وفيه: إن السيرة المذكورة من السير الحادثة، والتي لا يحرز اتصالها بعصر المعصوم(ع)، بل قد يظهر من بعض النصوص، عدم وجودها أصلاً.
ومنها: دعوى اتفاق الفقهاء على أن بدن المرأة عورة، إلا على زوجها ومحارمها، ومن ضمن بدنها وجهها وكفاها، فإنهما مشمولين للمفهوم، وليسا خارجين عنه.
وقد عرفت في ما تقدم الحديث مفصلاً عن هذا الأمر، وأنه ليس في النصوص ما يدل على ذلك، مضافاً إلى الإحاطة بحقيقة كلمة العورة.
ومنها: ورد في كلام صاحب الجواهر(ره)، وهو يؤول إلى التمسك بروح الشريعة، بهذا البيان:
من المعلوم عدم رضا الشارع المقدس بوقوع الناس في الزنا والافتتان، ونحوهما، ولذا حرم ما يحتمل إيصاله إليها من النظر ونحوه، حتى أن أمير المؤمنين(ع)، كان يترك السلام على المرأة الشابة حذراً من أن يعجبه صوتها، وبما أن النظر إلى الوجه والكفين مما يحتمل ايصاله إلى الزنا والافتتان، ونحوهما، لذا تكون النتيجة بطبيعة الحال هي المنع منه[14].
ولا يخفى أن ما أفاده(ره)، يختص بما يعلم أنه يؤدي للوقوع في الزنا والافتتان ونحوهما، فإنه الشارع المقدس يحكم عندها بالحرمة، إلا أن الكلام في ما لا يعلم أنه يوصل إليهما، وإنما يحتمل حصول ذلك، فإنه لا يحرز منع الشارع المقدس عنه. وحكمه بحرمة الفعل وعدم جواز الاقدام عليه، فإن مقتضى المنع اللزومي وإن كان متوفراً في المقام، إلا أنه قد يوجد ما يمنع من البناء على اللزوم، لأن الشارع المقدس يراعي جوانب الموضوع كلها في أحكامه، وعليه يصعب جداً الجزم بكون الشارع المقدس يمنع منعاً لزومياً من النظر إلى الوجه والكفين.
[1] موسوعة الإمام الخوئي ج 32 ص 48.
[2] وسائل الشيعة ج 20 ب 36 من أبواب مقدمات النكاح ح 2 ص 88.
[3] المصدر السابق ح 3.
[4] موسوعة الإمام الخوئي ج 12 ص 74.
[5] كتاب النكاح للشيخ الأعظم
[6] وسائل الشيعة ج 20 ب 109 من أبواب مقدمات النكاح ح 1 ص 200.
[7] موسوعة الإمام الخوئي ج 32 ص 43.
[8] وسائل الشيعة ج 20 ب 104 من أبواب مقدمات عقد النكاح ح 1 ص 190.
[9] المصدر السابق ح 5 ص 192.
[10] وسائل الشيعة ج 20 ب 104 من أبواب مقدمات النكاح ح 2 ص 191.
[11] موسوعة الإمام الخوئي ج 32 ص 49.
[12] وسائل الشيعة ج 20 ب 112 من أبواب مقدمات النكاح ح 1 ص 205.
[13] المصدر السابق ح 2.
[14] جواهر الكلام ج ص