قال تعالى ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ([1].
تستخدم مادة الملك والملكية بمعنى الاستيلاء والسلطنة فيقال مالك أي له استيلاء وسلطنة فهو مستولٍ.
فالملك إذن هو الشيء الذي يملكه الإنسان وهو على هذا غير المال لأن المال عبارة عن ذلك الشيء الذي يكون ذا قيمة استهلاكية مباشرة أو غير مباشرة عند الإنسان.
ومن المعلوم أن الملكية الثابتة إلى الله سبحانه وتعالى تغاير الملكية الثابتة للبشر لأنه سبحانه يملك الملك بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معاني القدرة والسلطان والقوة فهو الذي يملك العطاء والمنع.
أقسام الملكية:
من هنا يمكننا تقسيم الملكية إلى قسمين:
الأول: ملكية حقيقية وهي عبارة عن الاستيلاء على الشيء من كل جهة إيجاداً و إبقاءاً و إفناءاً وربوبية وتصويره بكل صورة شاء وأراد.
وهذا القسم يختص بالله سبحانه فإنه المالك لجميع خلقه ملكية حقيقية فهو المتصرف في شؤون الرعية تصرفاً حقيقياً بكل ما يريد من غير مزاحمة ولا معارضة وقد يمنح الله سبحانه وتعالى هذا الحق لبعض أنبيائه وأوليائه.
وبالجملة هذه الملكية هي التي تتجلى في مظهر العلية والمعلولية والتأثير والتأثر فالملكية الحقيقية ما كانت خاضعة للإرادة المطلقة دون الإرادة الإمكانية.
الثاني: ملكية اعتبارية وهي على نوعين :
1- أن تكون بوضع من الله سبحانه وتعالى كملكية الإنسان لنفسه وأجزائه وأعضائه وتصرفاته السائغة في بدنه بحسب التكوين والتشريع. وهو ما يعبر عنه بقاعدة السلطنة على النفس والبدن وهي قاعدة عقلائية ممضاة من الشارع المقدس.
ومن هنا أفتى فقهاؤنا بجواز التبرع بالأعضاء التي لا يتوقف حفظ حياة المتبرع عليها.
وهذا الذي يمكننا تسميته بالملكية الذاتية.
2- ملكية اعتبارية تدور مدار اعتبار العقلاء ووضعهم نحو ملكية الإنسان للأشياء التي تقع تحت استيلائه.
وهي تدور مدار اعتبار المعتبر وتقبل التغير والتبديل والزوال فقد تعتبر الملكية عند جماعة وقد لا تقرها جماعة أخرى أو تكون خارجة عن موضوع الملكية بحيث لا يحصل النقل والانتقال فيها كما في المعاملات الربوية حيث تقررها طائفة وتمنعها أخرى.
وعلى هذا فهي ملكية اعتبرها الاجتماع مثل ملوك أهل الأرض الذين يتسلطون على جماعة من الناس ويتصرفون فيهم تصرفاً يصلح بها شؤونهم.
واعلم أن هذا النوع يصح اعتباره بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى لأن كل ما لا يستلزم من إطلاقه النقص بالنسبة إلى الله عز وجل يصح وصفه به.
وهذا النحو هو الذي يعنينا في مقام البحث فنحتاج إلى إيضاحه فنقول:
إن الملكية بناء على هذا الفرد تعتبر علاقة اجتماعية تعاقدية بين شخصين أو مجموعة أشخاص وبين شيء ما وتدل على شرعية تصرف المالك بملكه وتعطيه الحق في منع الآخرين من التصرف فيه.
وقد عرفت فيما تقدم أن هذه الشرعية نسبية متغيرة تتفاوت في الأنظمة الإجتماعية المختلفة.
ومرادنا من الاعتبار هو وجود شخص يعتبر ويقنن شيئاً على شيء فيعطى في الوسط العقلائي له.
فإذا قيل إن هذا الكتاب لزيد كان ذلك اعتبار اجتماعي لملكية زيد للكتاب حين وجوده ويترتب على ذلك حكم تكليفي يقضي بعدم استعمال الكتاب إلا برخصة من زيد.
سعة دائرة الملكية الاعتبارية:
ثم إن دائرة الملكية الاعتبارية من النحو الأول أصبحت واسعة بالتدريج عند العقلاء فلم تقتصر على دائرة الأشخاص بل شملت:
1- الأعيان الخارجية من ناحية كالمسجد والحسينية ونحوهما من أماكن العبادة والمرافق العامة التي تمتلك أموالاً ومستغلات عن طريق الوقف أو غير ذلك.
2- عناوين عامة تشير إلى طائفة من الناس من ناحية أخرى كالخمس المجعول للسادة الفقراء أو كالزكاة التي هي ملك للفقراء.
3- وشملت أيضاً عناوين معنوية واعتبارية بحتة كالدولة أو منصب الإمامة المالك للأنفال وغيرها.
وعلى هذا نخلص إلى أن هذا النحو من الملكية الإعتبارية ينقسم بلحاظ الخارج إلى قسمين أيضاً:
أ) الملكية الحقيقية ونعني بها ملكية الشخصيات الحقيقية.
ب) الملكية الحقوقية ونعني بها ملكية الشخصيات الحقوقية والمعنوية.
ولا نقاش في تمامية الملكية من ناحية القسم الأول. ووقع الكلام في ملكية القسم الثاني وصحة التمليك من عدمه فهل أن العناوين تقبل الملكية أو لا.
هناك بعض العناوين لما ورد النص والدليل على ملكيتها فلا مناص عن الالتزام فيها بذلك.
لكن كل ما لم يتم الدليل فيه على الملكية إما لعدم تمامية المقتضي أو لوجود المانع فلا يترتب عليه أثارها.
ومن ذلك ملكية الدولة حيث اختلف الأعلام في ثبوت الملكية لها على أقوال أهمها اثنان :
1- ثبوت الملكية 2- عدم ثبوتها.
ومن المعلوم أنه يترتب على ذلك كثير من المسائل الفقهية بناءاً على كلا القولين.
بعض المسائل الفقهية:
فمن تلك المسائل مسألة البنوك إذ بناءاً على الملكية لن نقع في مشكلة مجهول المالك-كما سيأتي بيانه- بخلافه على عدمها فسوف تكون المعاملة مع البنوك الحكومية أو المشتركة معاملة مع مجهول المالك لأن هذه الأموال إما لا يعرف أصحابها أو أنه لا سبيل إلى تعيينهم لو عرفوا فعلاً.
مع أنه لا غنى للمكلفين اليوم عن التعامل مع البنوك.
ضرورة وجود البنوك:
وكما هو معلوم تعتبر البنوك اليوم أحد أركان النظم الاقتصادية خصوصاً بعدما دعت الحاجة إلى إحداثها فمن تلك الدواعي:
سهولة نقل الأموال من بلد إلى بلد.
إيجاد عمليات الإقراض لتعمير البلدان وازدهارها.
الحفاظ على الأموال عن السرقة لكونها في مكان مؤمن من الناحية الأمنية.
وتوجد فوائد ومصالح أخرى تترتب على إيجادها تظهر بالتأمل.
وسيأتي مزيد توضيح لأحكامه في الجملة إن شاء الله تعالى.
ومن المسائل الفقهية أيضاً الإجارة مع الدولة –بناءاً على ملكيتها- لأنه لا يكون العقد متوفراً على الشروط المعتبرة في صحة العقد فلا يستحق الأجير شيئاً على المؤجر وعلى هذا يكون المال الذي يأخذه الأجير حين أخذه ملكاً لصاحبه وهو المؤجر ولما كانت الدولة لا تملك كان المال المأخوذ مجهول المالك ، ومن المسائل التي تترتب على هاتين المسألتين عدم تعلق الحق الشرعي حينئذٍ بالمال ما لم يتحقق القبض وكونه زائداً على المؤونة بعد مرور حول كامل من قبضه.
ملكية الدولة:
من هنا صار لزاماً الإشارة بصورة إجمالية إلى ذلك مع شيء من التوضيح فنقول:
إن القائلين بعدم ثبوت الملكية تارة يمنعون من ذلك لعدم المقتضي وأخرى لوجود المانع. توضيح ذلك:
إن بعض الأعلام يقول بعدم ثبوت الملكية لأن العنوان أو الجهة أو قل الدولة لا قابلية ولا أهلية فيها للملكية.
والبعض الآخر يقول بوجود الأهلية لأن سيرة العقلاء ثابتة ومنعقدة على ملكية الجهة لكن هذه السيرة بحاجة إلى امضاء من المعصوم وهو غير ثابت.
والحاصل أنه على كلا القولين تكون الأموال الموجودة بيدها مجهولة المالك تحتاج في التصرف فيها إلى مراجعة الحاكم الشرعي حتى يقوم بإصلاحها.
توضيح الوظيفة العملية:
ثم إنه بناءاً على ما ذكرنا سيقع المكلف في حرج فلا ريب في كونه محتاجاً إلى إجازة من حاكم الشرع وقد أجاز علماؤنا الأعلام ذلك لمقلديهم بحيث يقبضون المال المجهول مالكه نيابة عن الحاكم الشرعي الذي هو وكيل عن الفقراء ثم يملكهم إياه.
ولما كانت بعض المسائل كثيرة الابتلاء فلا بأس بالتعرض لها تفصيلاً فنقول:
المسألة الأولى:
وهي مسألة الاجارة مع الدولة وقد عرفت سابقاً توضيحها وأن المال الذي يأخذه الأجير مجهول المالك فلا يملكه إلا بعملية الاصلاح التي سبق منا إيضاحها وعلى هذا كما قلنا لا يتعلق الحق الشرعي بهذا ما لم يتحقق قبضه وكونه زائداً على المؤونة.
نعم بإمكان المكلف أن يقوم بعملية إمضاء عقد عمله من الدولة أو الشركة الحكومية أو المشتركة من خلال مراجعة حاكم الشرع أو وكيله فيصحح عمله السابق والآثار المترتبة عليه ويصحح ما سيأتي والآثار المترتبة عليه.
وعلى هذا سوف يتعلق الخمس بهذا الراتب أو الأجر أو المكافأة الجامعية حتى لو حولت على بنك حكومي لأنه قد أصبح له في ذمة الحكومة مبلغاً من المال يحق له المطالبة به فهو كالدين الذي يرجو تحصيله وكذا المكافأة لأن بينه وبين الدولة عقد جعالة.
لكن هذا لا يعالج مشكلة مجهول المالك بل هي باقية على حالها.
المسألة الثانية:
وهي عدة مسائل تتعلق بالمصارف والبنوك وتوضيحها:
أقسام البنوك:
تنقسم البنوك إلى أقسام ثلاثة:
1-حكومية وهي التي يكون رأس مالها مكوناً من أموال الدولة ولا حق لشخص معين فيه بل هو مصلحة حكومية.
2- أهلية ويتكون رأس مالها من اشتراك عدد من ذوي المال وتقسم الأرباح بينهم على نسبة الحصص التي يملكها كل مشترك منهم.
3-مشتركة بين الحكومية والأهالي ويكون مجموع الحصص مشتركة بينهم على نسبة معينة بين الطرفين.
وبناءاً على ما عرفت من عدم ملكية الدولة تكون أموال البنوك الحكومية مجهولة المالك. والبنوك المشتركة اختلطت أموال الأهالي المعلومة المالك مع أموال الدولة المجهولة المالك. وأما البنوك الأهلية فمعلومة المالك.
المعاملات البنكية :
ولا يمكننا استقراءها كلها لكن نشير إلى أهمها في ضمن فروع:
الأول : القرض من البنك:
إذا كان القرض من البنك الأهلي فلا إشكال فيه إلا من خلال الزيادة الربوية . أما لو كان من بنك حكومي أو مشترك فبناءاً على ما تقدم يكون المال المأخوذ مجهول المالك فلا بد من إصلاحه وقد عرفت وجود إجازة عامة في المورد.
وأما إشكال الربا المتصور حين الاسترجاع فيهما فقد أجيب عنه بأن دفع الأصل والزيادة يكون مأخوذاً منه على نحو الإجبار والقهر حيث لا يسعه التخلف عن الدفع.
ولا بد من الالتفات إلى أن الشخص سواء في حالة القبض للمال أم في حالة الدفع إلى البنك لا يصح له نية الاقتراض لأن الطرف المقابل لا يملك ما تحت يده من مال فالمعاملة باطلة من الأساس.
الثاني : الإيداع في البنك:
وهو على أشكال متعددة يعرفها الذين يتداولون فيها ، وعلى أي حال قد خَرّج فقهاؤنا الإيداع في البنوك على القرض فجعلوا إيداع شخص ماله في البنك بمثابة من أقرض شخصاً ماله0
وعلى هذا فلو أودع ماله في بنك أهلي بأي نحو من أنحاء الإيداع لم يجز له اشتراط الفائدة أو الزيادة لكونه قرضاً ربوياً محرماً.
نعم لو تبرع المقترض وهو البنك فأعطاه زيادة دون شرط منه عليه أن يزيده جاز له أخذها.
أما لو أودعها في بنك حكومي أو مشترك فالمعروف أيضاً أن شرط الزيادة داخل في الربا القرضي فلا يجوز حينئذٍ شرطها. ولو أعطيها من دون شرط فإنها من المال المجهول مالكه فيجري فيه حينئذٍ تملكه عن الحاكم الشرعي شرط أن يدفع نصفه إلى الفقراء.
إن قلت إننا حين وضعنا أموالنا نعلم بأننا نعطى فائدة فيكون ربا.
قلتُ: المدار على القصد ولا يضر مجرد الداعي ما لم يكن دخيلاً في العقد بنحو الاشتراط.
ثم إن جميع الأموال المودعة في البنوك الحكومية والمشتركة لا يتعلق بها الخمس لأنها غير مقبوضة والخمس إنما يتعلق بما هو مقبوض وهذه كما عرفت مجهولة المالك.
الثالث: صناديق الاستثمار:
وهذه لا إشكال فيها ولا في فوائدها لأنها مضاربة فيكون ما يحصله المستثمر له بأكمله.
الرابع العمل في البنوك
والمحرم منها خصوص الأعمال التي تكون داخلة في المعاملات الربوية والعامل فيها لا يستحق الأجر مقابل عمله.
وأما غير ذلك من أعمالها التي لا صلة لها بذلك فهو سائغ فيجوز الدخول فيها وأخذ الأجرة عليها.