مـــرض الإمام زين العابدين(ع)
س: كثيراً ما نسمع الخطباء وفقهم الله يتحدثون عن أن الإمام زين العابدين(ع) مريض، لكن لا نسمع منهم ما هو مرض الإمام(ع)، وبعضهم يقول أنه مرض الإسهال، فما هو مرض الإمام(ع)، وهل صحيح أن مرضه(ع) الإسهال؟
ج: أتفق المؤرخون على أن الإمام زين العابدين(ع) كان مريضاً يوم عاشوراء، إلا أنهم اختلفوا في تحديد نوعية المرض الذي كان يعاني منه، فذكرت أقوال:
الأول: البناء على كونه(ع) مريضاً من دون تحديد منهم لنوعية المرض المصاب به(ع)، وهذا ما ألتـزم به الطبري في تأريخه، كما سوف يأتي نقل عبارته، فإنه قد نص على أن الإمام(ع) كان مريضاً دون تحديد منه إلى نوعية المرض الذي كان قد أصابه(ع).
الثاني: الالتزام بأن مرضه ناجم من الجروح التي أصابته بسبب مشاركته في معركة الطف ما أوجب ضعفه عن مواصلة القتال، وبقي متأثراً بها.
الثالث: أنه كان مصاباً بالعين، نتيجة قيامه بقطع درع لبسها فطالت عليه حتى تكون مناسبة له، ومصدر هذا القول ما جاء في كلام أحمد بن حنبل الذي نقله عنه ابن شهراشوب(ره) في كتابه مناقب آل أبي طالب، إلا أن النص المنقول عن أحمد بن حنبل، وكذا كلام ابن شهراشوب لا يتضمنا الإشارة إلى أن مرضه العين، وإنما ورد ذلك في كلام بعض الباحثين، ولعله من باب استنطاق النص واستظهار ذلك منه.
وقد نقل ذلك عن أحمد بن حنبل أيضاً في الخرائج والجرائح، ونقله الخرائج صاحب البحار، فقال(قده): كان سبب مرض زين العابدين(ع) في كربلاء أنه لبس درعاً ففضل منه، فأخذ الفضلة بيده ومزقه[1].
الرابع: أنه كان مبطوناً.
وعدّ الأقوال أربعة لا يخلو عن مسامحة، ذلك لأن الأقوال الثلاثة تصلح مصاديق للقول الأول، وعليه لا يوجد بينه وبينهما أدنى اختلاف، وهذا يجعل الأقوال ثلاثة وليست أربعة بعدم عدّ الأقوال قسيماً لها، بل هو في الحقيقة مقسم.
ولم يدل نص من أحد المعصومين(ع) على الأقوال الثلاثة الأُول ، بخلاف القول الرابع، فقد ورد في ذلك مثلاً عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: كان أبي مبطوناً يوم قتل أبوه صلوات الله عليهما، وكان في الخيمة وكنت أرى موالينا كيف يختلفون معه، يتبعوه بالماء[2]. وجاء مثل ذلك في الكافي أيضاً في باب النص على إمامة الإمام زين العابدين(ع)، وغيره دون وجود ذيل الخبر.
ومقتضى وجود نص عن أحد المعصومين(ع)، يوجب البناء على تحديد نوعية مرض الإمام زين العابدين(ع) في خصوص القول الرابع وهو كونه مبطوناً، إذ لا ريب في تقدم قول المعصوم(ع) على قول المؤرخين، فلا يصلح شيء منها لمعارضة قوله، وقد عرفت أن الأقوال ليس عليها نص معصومي، وإنما مصدرها ما تضمنته كلمات المؤرخين.
ومع خلو النص المتضمن لتحديد نوعية مرض الإمام(ع)، إلا أنه فسر في كلام الشيخ المفيد(ره)، بأنه مرض الذَرَب، قال(ره) في كتابه الإرشاد: وأقام بقية يومه واليوم الثاني إلى زوال الشمس، ثم نادى الناس بالرحيل، وتوجه إلى الكوفة ومعه بنات الحسين وأخواته، ومن كان معه من النساء والصبيان، وعلي بن الحسين فيهم وهو مريض بالذَرَب، وقد أشفى. والمقصود من كونه أشفى يعني أنه قد شارف على الهلاك.
وقد أشار الطبري إلى كون الإمام زين العابدين(ع) مريضاً يوم عاشوراء، إلا أنه لم يتضمن بياناً لنوعية المرض الذي قد أصابه، فضلاً عن تحديده بأنه الذَرَب، قال الطبري في أحداث سنة 61 هـ: وأقام عمر بن سعد يومه ذلك والغد، ثم أمر حميد بن بكير الأحمري فأذن في الناس بالرحيل إلى الكوفة، وحمل معه بنات الحسين وأخواته، ومن كان معه من الصبيان، وعلي بن الحسين مريض.
والظاهر أن منشأ توصيف مرضه(ع) بكونه خصوص الذَرَب هو شيخنا المفيد(قده)، وجميع من جاء بعده قد أعتمد عليه، وأخذ عنه.
وقد نقل شيخنا المفيد(ره) خبر تحديد نوعية مرض الإمام زين العابدين(ع) الذَرَب[3] عن حميد بن مسلم، وهو وإن كان خبر تاريخياً لا يعتبر فيه ما يعتبر في بقية أنواع الأخبار. إلا أنه حتى يمكن التعويل على مقولته، يلزم أن يكون مطلعاً على شأن الإمام زين العابدين(ع)، وهو لو سلم به، فإنه لن يكون إلا بعد وصولهم إلى الكوفة، لأن الظاهر أن حميد بن مسلم، لم يكن محيطاً بشأن الإمام(ع) إلى غروب شمس عاشوراء، وأيضاً كان من السابقين في الذهاب إلى الكوفة، مع الرأس الشريف، وهذا قد يوجب التوقف في قبوله، فتأمل.
ولا يخفى أنه ليس بين الكتابين معارضة، نعم عمدة ما كان أن أحدهما يشمل تفصيلاً وبياناً وهو كتاب الإرشاد، دون الآخر وهو تاريخ الطبري.
معنى الذَرَب:
والتفسير العلمي لهذا المرض هو الإسهال الشديد، ويسمى بالداء البطني، ويحصل بسببه تعطل وظائف المعدة، ما يوجب حصول تسمم وتعفن، يؤدي إلى إسهال شديد.
والظاهر أن منشأ بناء الشيخ المفيد(ره) للبناء على كون المقصود بمرض البطن المصاب به الإمام زين العابدين(ع) بالإسهال الشديد، ملاحظة النصوص الفقهية الواردة في أحكام المبطون والمسلوس، وحمل ما ورد في رواية الإمام الباقر(ع) على ذلك للمشابهة، ذلك أن المفهوم الوارد في النصين واحداً، وهو البطن، أو المبطون.
وما أفاده(ره) حسن في نفسه، لو كان هذا هو التفسير الوحيد المذكور للمفهوم، بحيث لا يكون له معنى آخر يراد به في المقام، ولم تكن في نصوص المبطون والمسلوس المذكورة في الفقه قرينة أوجبت حمل مرض البطن الوارد فيها على ذلك.
ومن المعلوم أنه في كل مفهوم ورد في لسان الشارع المقدس، ولم يرد تحديد المقصود منه من قبله، فإنه يرجع إلى تفسيره وتحديد المراد منه إلى كلمات أهل اللغة، لأن لغة الخطاب هي اللغة العربية المبينة.
البطن لغة:
وعند الرجوع لكلمات أهل اللغة، نجد أن المذكور في كلماتهم لبيان المقصود من المبطون، محتملات:
الأول: يطلق المبطون على كل من يعاني آلاماً في معدته دون مدخلية لمنشأ تلك الآلام والأوجاع، سواء كانت ناجمة عن تناول سم، أم كانت ناجمة عن تناول طعام فاسد، أم كان ذلك جراء تناول دواء لا يناسب الإنسان، أو غير ذلك.
الثاني: الأكول، أو عظيم البطن.
الثالث: المصاب بداء البَطَن، وهو المسمى بالذَرَب، وقد عرفت فيما تقدم أنه مرض الإسهال الشديد، ولا ريب في أنه على أنحاء ومستويات وليس نحواً ومستوى واحداً. وقد عرفت أنه يستوجب أن يلقي الإنسان كل ما في بطنه، ولا يملك السيطرة على نفسه.
الرابع: إن التعبير بالمبطون يطلق في كلمات العرب على كل من كان مضروباً على بطنه ضرباً شديداً.
الخامس: إن التعبير بالمبطون يطلق على الإنسان الذي سيطر عليه المرض سيطرة تامة، وأخذ منه مأخذاً كبيراً جداً، فصار لا ينفك عنه، بحيث تراه يتألم ألماً شديداً، وتجد المرض يؤثر عليه ظاهراً وباطناً.
السادس: من أصابته الحمى حتى أثرت عليه، وفي حديث عطاء: بطنت بك الحمى، أي أثرت في باطنك.
وقد أشير لأغلب هذه المحتملات في لسان العرب في مادة بَطَن، ويمكن للقارئ العزيز ملاحظتها، على أنه يجد ذلك أيضاً في غيره من كتب اللغة.
ومع التدقيق، فإنه يمكن حصر المحتملات المذكورة في ثلاثة من خلال إرجاع بعضها إلى بعض، فيمكن إرجاع الأول والخامس والسادس إلى معنى واحد، وهو المريض بداء الحمى، لأنه قد يكون مسيطراً عليه سيطرة تامة، فيكون مصداقاً للمعنى الخامس، كما أن ينطبق على المعنى الأول، لأن آلام المعدة قد تكون ناجمة من الحمى، كما تكون ناجمة من شيء آخر.
والحاصل، سوف ترجع المحتملات الموجودة عند إلى ثلاثة فقط، وهي:
الأول: الأكول، أو عظيم البطن.
الثاني: المصاب بداء البَطَن، وهو المسمى بالذَرَب، وقد عرفت فيما تقدم أنه مرض الإسهال الشديد، ولا ريب في أنه على أنحاء ومستويات وليس نحواً ومستوى واحداً. وقد عرفت أنه يستوجب أن يلقي الإنسان كل ما في بطنه، ولا يملك السيطرة على نفسه.
الثالث: من أصابته الحمى حتى أثرت عليه، وفي حديث عطاء: بطنت بك الحمى، أي أثرت في باطنك.
ومع تعدد المحتملات المذكورة في بيان حقيقة المبطون، فإنه يصعب البناء على تحديد واحد منها دون البقية ما لم يكن في البين قرينة موجبة للبناء على ذلك.
ومنه يتضح أن ما أشرنا له قبل قليل، من أن حمل المقصود منه في المقام على ما تضمنته نصوص الطهارة، كما لا يبعد أنه منشأ كلام شيخنا المفيد(ره)، في غير محله، ضرورة أن هناك قرينة موجبة للبناء على ذلك بقرينة ذكر المسلوس، ويقابله المبطون، وليس الأمر كذلك في المقام.
وعليه، لابد من البحث عما يصلح أن يكون قرينة موجبة لترجيح أحد المحتملات المذكورة في البين على بعضها سواء كانت القرينة حالية، أم مقامية، أم مقالية. أو لا أقل وجود موانع تمنع من الأخذ ببعضها ما يوجب ترجح الباقي لعدم المانع منه، وإلا فلا مناص من البناء على كون اللفظة مجملة، ولا تفسير للمقصود منها.
ولا ريب في خروج المحتمل الثاني[4] من دائرة النـزاع، لأنه لم يدع أحد أن الإمام زين العابدين(ع) كان أكولاً ومبطاناً، بل إن مقتضى الحال يمنع من ذلك، لأن الفرض أن الحديث عن أسر ووقوع في أيدى الأعداء.
وقد يتمسك لترجيح المحتمل الرابع منها، وهو المضروب على بطنه، بلحاظ ما قيل أن الإمام زين العابدين(ع)، قد شارك يوم عاشوراء في المعركة، حتى ارتث، بمعنى أصيب فكثرة به الجراحات، فلم يتمكن من مواصلة القتال في المعركة فرفع منها إلى المخيم، ومن المحتمل جداً أن يكون قد ضرب خلال ذلك على بطنه، وهو أمر طبيعي في القتال، سيما وأن القتال كان مبارزة ونزالاً، فيكون قد أصيب بطعنة رمح، أو سيف، أو ضربة بكعب رمح، وما شابه ذلك.
والانصاف، أنه لو تم البناء على مشاركة الإمام زين العابدين(ع) في القتال كان ذلك عاملاً مساعدة للبناء على القبول بهذا الاحتمال وتقويته.
وعلى عسكه تماماً يأتي الاحتمال الثالث وهو المنسوب لشيخنا المفيد(ره)، من إصابته بمرض الذَرَب، فإنه يحتاج كثيراً من الماء لرفع آثاره، والمفروض أن المعسكر الحسيني قد أعوز فيه الماء على أقل التقادير من ضحى عاشوراء إلى حلول ظلام ليلة الحادي عشر، وهذا يوجب أن يكون الإمام(ع) خلال هذه المدة في حالة يرثى لها، وهو ما يصعب البناء عليه والقبول به، فإنه معدن الطهارة والنقاء المادي والمعنوي كما هو واضح.
على أن التسليم بذلك يستدعي أن يكون حاله في الطريق إلى الكوفة وأثناءها وعند مجيئه لدفن الأجساد الطاهرة كان في وضع مقزز ومقرف بسبب ما علق به من الغائط وترك ذلك من الروائح الكريهة، لأن المفروض أن مرضه(ع) قد استمر به حتى الشام، أو بعدها، ومن يقرأ السير والتأريخ وما تضمنته من حال المعسكر الأموي مع أيتام آل الرسول(ص)، والقساوة التي كانوا يمارسونها معهم يتضح له أنهم لن يسمحوا للإمام(ع) بالتغيــير والتطهير، كيف وهم الذين قيدوا رجليه وغلوا يديه إلى عنق الناقة.
والحاصل، إن الآثار المصاحبة لذات مرض الذَرَب تشكل مانعاً يحول دون القبول بهذا الاحتمال وترتيب الأثر عليه، ويوجب رفع اليد عنه، إلا أن تكون هناك قرينة مساعدة عليه تدفع هذه الموانع.
نعم يمكن البناء على أن مرضه(ع) بالذَرَب كان في خصوص يوم عاشوراء، وبمجرد أن انتهت المعركة شفي(ع) مباشرة، سواء كان ذلك وفق الحالة الطبيعية، أم كان ذلك بنحو الإعجاز، وعليه سوف يرتفع المانع المذكور، وإن كان المعروف بين المؤرخين، كما ذكر ذلك الشيخ الطبسي في كتابه مع الركب الحسيني[5] أن مرضه(ع) استمر معه إلى الشام.
ومع التسليم بهذا المانع، سوف نرفع اليد عما تضمنه كلام شيخنا المفيد(ره)، والمشهور على ألسنة الخطباء، لعدم مساعدة الدليل عليه.
مضافاً إلى أن التسليم بثبوت هذا التفسير لمرضه(ع) يتنافى وما نعتقده من أن المعصوم(ع) يكون منـزهاً من جميع المنفرات بكل أنواعها وأنحاءها، ولا ريب أن الحالة الرثة التي يفترض أن يكون عليها المريض بهذا المرض، والروائح الكريهة المنبعثة منه، توجب نفرة الناس عنه، وعدم الاقتراب منه، وحاشا أن يكون مولانا زين العابدين(ع)، وهو منبع الطهارة القدسية موضع تنفر منه.
ولا مجال للقول بأن هذا لا يعدّ من المنفرات، إذ لا ريب في عدّ العرف إياه كذلك، فيصعب التسليم بها المعنى.
ومع رفع اليد عما أفاده شيخنا المفيد(ره) تفسيراً لمرضه(ع) يتبقى محتملان في المقام، أن كونه مبطوناً يعود إلى ضربه على بطنه(ع)، أو أنه مصاب بالحمى، والأول منهما يقوم على مشاركته في المعركة، وهو وإن كان محتملاً وعليه قول من أقدم المصادر الواردة في المقام، إلا أنه معارض بما لا يقل عنه من حيث الاعتبار، وبالتالي يتعين الأمر في أن مرضه(ع) كان عبارة عن الحمى، ولم يكن شيئاً آخر.
خاتمة:
تضمنت بعض الكلمات محاولة تبرير سبب كونه(ع) مريضاً يوم كربلاء، وقد علل ذلك بأنه نحو من أنحاء العناية الإلهية الخاصة التي اقتضت حفظه وحمايته، لأنه الإمام المفترض الطاعة، والذي يستمر وجود الخلافة الإلهية في الأرض بوجوده المبارك.
[1] بحار الأنوار ج 46 ص 41.
[2] بحار الأنوار ج 45 باب ما جرى عليه بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته ح 30 ص 91.
[3] من المحتمل جداً أن يكون ذكر الذرب في المورد زيادة من شيخنا المفيد(رض)، شرحاً لمرض الإمام السجاد(ع)، فإن رواية محمد بن مسلم نقلها الطبري في تأريخه غير مشتملة على تفسير المرض بالذَرَب، وهذا يساعد على كون هذا من الشيخ المفيد(ره)، وقد أدرجه النساخ حتى صار جزءاً من الرواية، فتأمل.
[4] نعني بذلك المحتمل الثاني من المحتملات الستة، وليس خصوص الثلاثة التي أرجعنا المحتملات إليها، وكذا الكلام في بقية المحتملات سوف يكون وفق المحتملات الستة.
[5] ج 5 ص 62.