المآتم الحسينية, أدوارها، شرعيتها
تعتبر المآتم الحسينية اليوم من أعظم الشعائر الدينية، وهي موضع اهتمام العلماء والمفكرين، وقد أثيرت حولها عدة تساؤلات، كوقت نشأتها، ودليل شرعيتها، فمتى ابتدأ وجود المآتم الحسينية؟
قد ذكر جواب عن ذلك أن أول وجود للمآتم الحسينية كان في عصر الدولة القاجارية، فلا وجود لها قبل ذلك أصلاً، وهذا يعني أنها من الشعائر المستجدة الحادثة.
ولا يخفى أن دقة ما ذكر تعتمد على ملاحظة أول نشؤء المآتم الحسينية، وأن لها وجوداً سابقاً على وجود الدولة القاجارية أو لا.
نشأة المآتم الحسينية وأدوارها:
يقصد من المآتم الحسينية عبارة عن التجمعات التي كانت تحصل من أجل البكاء على الإمام الحسين(ع)، ولا نعني بقولنا: التجمعات التي تحصل، أن ذلك مأخوذ على نحو القيد الاحترازي، بل هو قيد توضيحي، غرضه هو الإشارة إلى المصداق الأبرز للمأتم، وإلا فالمأتم ينطبق عرفاً على كل مجلس جلس أهله من أجل أن يبكون على الإمام الحسين(ع)، من دون فرق أن يكون المجلس قد عقد لأجل ذلك السبب، أم تحقق البكاء أثناء وجودهم، وهذا يوسع دائرة المأتم كما لا يخفى.
ووفقاً لما ذكر بياناً لحقيقة المأتم الحسيني، فإنه يمكن القول أن المآتم الحسينية قد عقدت قبل ولادة الإمام الحسين(ع)، فقد دلت النصوص على أنه قد بكاه جده المصطفى محمد(ص)، وأبوه المرتضى أمير المؤمنين(ع)، وأمه الزهراء السيدة فاطمة(ع)، قبل ولادته(ع)، وبعد ولادته، وقبل شهادته(ع).
نعم لو حصر المأتم في خصوص ما كان يعقد بعد رحيل الإنسان عن عالم الدنيا، فلا ريب في خروج جميع مجالس البكاء التي أقامها النبي وأمير المؤمنين والصديقة الزهراء(ع) على الإمام الحسين(ع)، خروجاً تخصصياً، لأنها تفتقر لشرط مقوم لحقيقة المأتم، وهو أنه ما يعقد بعد الوفاة.
وعلى أي حال، لو بني على أخذ هذا القيد في حقيقة المأتم، ليكون مختصاً بما يعقد بعد وفاة الشخص، فلا يطلق هذا المفهوم على ما يعقد قبل ذلك، فسوف يبنى على أن أول مأتم عقد للإمام الحسين(ع) في كربلاء المقدسة، وبالتحديد بعد عصر عاشوراء، عندما استشهد الإمام(ع)، فندبته العلويات وبكين عليه.
تقسم المآتم الحسينية:
وعلى أي حال، سواء بني على سعة مفهوم المأتم، ليحكم بتحقق ابتداء عقد المآتم الحسينية، قبل شهادة المولى أبي عبد الله الحسين(ع)، أم أعتبر التضيـيق في دائرته، بأخذ القيد الذي قد عرفت، ليكون ابتداءها عصر العاشر من محرم الحرام بعد الشهادة المباركة للإمام الحسين(ع)، فإنه يمكن تقسيم المآتم الحسينية إلى قسمين:
الأول: المآتم العائلية.
الثاني: المآتم العامة.
ونقصد بالمآتم العائلية، المآتم التي عقدتها العائلة العلوية منذ حلول الفاجعة العظمى بشهادة المولى أبي عبد الله الحسين(ع)، وحتى تواجدها في المدينة المنورة، مروراً بالكوفة، والشام وما كان يقع في الطريق.
أما المآتم العامة، فإنها أوسع، لعدم اختصاص إقامتها بالأسرة العلوية، لأن المتصدي لعقدها وإدارتها هم عامة الناس من غير بني هاشم، لكن هذا لا يمنع أن يكون الهاشميون معهم.
وقد بدأ هذا القسم من المآتم أيضاً بعد انتهاء الواقعة المفجعة في يوم عاشوراء مباشرة، والظاهر أن أول مكان قد عقدت فيه هذه المآتم هو الكوفة، وبرز ذلك جلياً حين دخول الركب الحسيني، وقيام الحوراء زينب(ع) بإلقاء خطابها.
وبعد ذلك كانت المآتم في المدينة المنورة، عندما دخلها بشر بن حذلم، ناعياً الإمام الحسين(ع).
ووجود المآتم العامة في تلك الحقبة الزمنية لا يعني عدم وجود المآتم العائلية، فإن عقد أهل المدينة مثلاً مآتم عامة على الإمام الحسين(ع)، بعد دخول بشر بن حذلم إليها، لم يمنع وجود مآتم عائلية عقدها الهاشميون بمجرد أن وصلهم نبأ الشهادة، واستمروا في عقدها بعدما دخلت الأسرة الهاشمية المدينة مع الإمام زين العابدين(ع)، والحوراء زينب(ع). نعم قد كان دخول بشر إلى المدينة ناعياً، سبباً لأن يعقد عامة الناس مآتم على الإمام الحسين(ع).
ويتضح من خلال هذا الاستعراض الموجز، وجود المآتم الحسينية منذ اليوم الأول لحصول شهادة الإمام الحسين(ع) في أرض كربلاء بتلك الصورة المؤلمة والمشجية، ولم يكن ابتداء وجودها في العصر القاجاري كما يدعى.
وقد تطورت هذه المآتم بمرور الوقت، ومرت بعدة أدوار حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم بالصورة التي تقام بها.
وقد ساعد على تغذيتها وتطورها لتصل إلى ما وصلت إليه، الأئمة الأطهار(ع)، كما سيتضح إن شاء الله تعالى.
أدوار المآتم الحسينية:
وعلى أي حال، يمكن عرض أدوار ثلاثة مرت بها المآتم الحسينية:
الأول: وهو يبدأ بعد شهادة الإمام الحسين(ع)، وحتى سقوط الدولة العباسية على يد هولاكو، أو قبل ذلك بقليل، وهو تقريباً في حدود القرن السابع.
الثاني: من سقوط بغداد أو قبله بقليل، واستمر طيلة القرون المظلمة في تاريخ المسلمين إلى العصر الحديث.
الثالث: من بدايات العصر الحديث وإلى اليوم.
الدور الأول:
لقد كانت بداية المآتم الحسينية في هذا الدور بشكل بسيط وكانت له أوقات زمنية ثابتة تعقد فيها، وهي كالتالي:
1-الأيام العشرة الأولى من شهر محرم الحرام، وليس خصوص يوم العاشر منه فقط، ما يعني اتساع المساحة الزمنية لأعمال المآتم ومظاهر الحزن والأسى.
2-أيام موسم الزيارة للإمام الحسين(ع)، ولم ينحصر ذلك في إقامة المأتم في مشهده الشريف، بل كان شيعته الذين لا يتمكنون من زيارته(ع)، يزورنه في بلدانهم أيضاً.
وقد حصلت تطورات نوعية للمأتم في هذا الدور:
أحدها: التوسع في عرض تفاصيل الأحداث ومسبباتها القديمة السابقة عليها، مما يتصل بخلافة الرسول(ص)، والسياسات التي اتبعت من قبل الرجل الثالث وسياسة بني أمية، ويمكن الوقوف على ذلك من خلال الشعر الرثائي خلال تلك الفترة.
ثانيها: نمو بعدُ الفضائل للمأتم الحسيني، فقد أصبح يشتمل على ذكر فضائل أئمة الهدى(ع)، وموقعهم البارز في التاريخ الإسلامي، ووصايا النبي(ص) بهم، ومخالفة بعض الأمة لهذه الوصايا، مضافاً إلى العناية بالإمام الحسين(ع)، وما ورد فيه من نصوص.
ثالثها: تكامل الشعر والنثر، فقد بدأ المأتم حواراً وغدا قصة تروى أو قصيدة تنشد، ثم أصبح نصاً مكتوباً وهو المقتل. ثم صار المأتم مزيجاً من الشعر والنثر، فالشعر يلون القصة ويضفي عليها طابعاً فنياً مأساوياً حزيناً، والنثر يحكي قصة مأساوية فضائلية تاريخية مع شيء من التعبيرات العاطفية.
رابعها: استثمار شهادة الأئمة المعصومين(ع) بعده، وأصحاب الثورات، فدخل ذلك في المأتم الحسيني، كقصيدة دعبل التائية المشهورة.
ويمكن استخلاص هذا الدور من خلال نصوص أربعة:
1-مقتل الحسين لأبي مخنف لوط بن يحيى.
2-مقاتل الطالبيـين، لأبي الفرج الأصفهاني.
3-رويات ابن أعثم المنقولة في مقتل الخوارزمي.
4-الإرشاد للشيخ المفيد.
وقد كان العنصر الأساس للمأتم في هذا الدور هو استعراض المأساة الحسينية، ونقد السلطة الحاكمة تصريحاً أو تلويحاً حسب ما تسمح به ظروف القائمين.
الدور الثاني:
حافظ المأتم الحسيني في هذا الدور أيضاً على العنصر الأساس الذي كان قوام المأتم في الدور السابق، وهو البعد المأساوي، ونقد السلطة الحاكمة. نعم بسبب عدم وجود الأمويـين والعباسيـين في هذه الفترة صار النقد إليهم مباشرة وصريحاً، ولم يكن هناك ما يوجب الإشارة إلى ذلك تلويحاً، وحصل شيء من التطور الشكلي في المآتم الحسينية:
منها: أصبح اللطم عنصراً أصيلاً في المآتم الحسينية، وقد أدخله البويهيون، ورافق وجوده نشوء نوع من الشعر المرقع بالفصحى والعامية، يبدأ بها المأتم وينتهي بها كذلك.
ومنها: لغة المأتم، فقد كانت لغة عاطفية هدفها الإثارة النفسية والعاطفية، وصار السجع سمة بارزة.
ومنها: ظهور حالة من الزهد التي شاعت في الوسط الإسلامي منذ سقوط بغداد، فتأثرت المأتم بها، مما أوجب التركيز على ذكر الموت بصورة أساسية واضحة.
الدور الثالث:
وقد شهد المآتم الحسيني خلاله تطوراً شكلياً ونوعياً:
أما التطور الشكلي، فقد كان للحرية التي حصل عليها الشيعة في بعض المناطق مجال أن يقيموا المآتم طيلة شهري محرم وصفر، بل طيلة العام علناً من دون خوف.
وصاروا يعقدون المآتم عند ذكرى شهادة كل واحد من المعصومين(ع)، بل تعددت الأسباب في عقد هذه المآتم، فصارت مجالس أسبوعية، أو عند الانتقال لمنـزل جديد، أو قدوم من سفر، وهكذا. وأصبحت تعقد مجالس العزاء في فواتح الموتى أيضاً.
وقد حافظ المأتم في هذا الدور على عنصره الأساس وهو البعد المأساوي ونقد السلطة. نعم لم تعد المأساة تشكل عنصراً وحيداً في المأتم، فقد أصبح بعض الخطباء يتناولون إلى جانبها موضوعات أخرى.
وقد طرأت على المأتم خلال هذا الدور بعض التغيـيرات:
منها: اختلفت لغة الخطاب فلم يعد للسجع مكان فيها، بل أصبحت اللغة السهلة التي يفهمها الناس هي العنصر الأساس في الخطاب.
ومنها: تصدي المأتم إلى معالجة القضايا الاجتماعية والتربوية.
ومنها: الدعوة إلى الإسلام، ورد شبهات الملحدين حوله، وعرض الدراسات القرآنية والتفسيرية.
ومنها: ربط الموضوع الذي تم استعراضه بالمصيبة[1].
شرعية المآتم الحسينية:
يمكن الاستدلال لشرعية المآتم الحسينية بثلاثة أدلة:
الأول: روايات استحباب البكاء:
ولا يبعد البناء على تواترها معنى، فيطمئن بصدور مضمونها عن المعصومين(ع)، ونشير لبعضها:
منها: ما رواه محمد بن مسلم، عن الإمام الباقر(ع)، قال: كان علي بن الحسين(ع) يقول: أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين(ع)، حتى تسيل على خديه، بوأه الله بها غرفاً يسكنها أحقاباً.
ومنها: ما رواه الفضيل بن يسار عن الإمام الصادق(ع)، قال: من ذكرنا عنده ففاضت عيناه، ولو مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر.
الثاني: روايات إحياء أمرهم(ع):
لا ريب أن ذكر أهل البيت(ع) يعد إحدى الوسائل الموجبة لاستمرار الحقائق الإلهية والدينية ورسوخها في أذهان الناس، لذا أكدت النصوص على ضرورة إحياء أمرهم، ففي معتبر الفضيل أن الإمام الصادق(ع) قال له: تجلسون وتتحدثون؟ فقال: نعم، فقال: إن تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا، فرحم الله من أحيى أمرنا، يا فضيل من ذكرنا أو ذكرنا عنده ففاضت عيناه ولو مثل جناح الذباب، غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر.
الثالث: سيرة المعصومين(ع):
فإن المتابع لسيرتهم(ع) يراها منعقدة مستمرة على إحياء مآتم أبي عبد الله الحسين(ع)، فهذا الإمام الباقر(ع) يوصي بثلث ماله يصرف على قراءة مصيبته أيام التروية في منى، ويدخل أبو هارون المكفوف على الإمام الصادق(ع) فيطلب منه الإمام(ع) أن ينشده أبياتاً في الإمام الحسين(ع) بالرقة، وقصة الإمام الرضا(ع) مع دعبل الخزاعي معروفة ومشهورة.
بل يمكن ذكر دليل رابع وهو النصوص التي تضمنت أن كل جزع مكروه، إلا الجزع والبكاء لقتل الإمام الحسين(ع)، فعن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله(ع) قال: كل الجزع والبكاء مكروه، سوى الجزع والبكاء على الحسين[2].
مناقشة الدليل الأول:
وقد منعت صلاحية الدليل الأول للاستدلال على المدعى لعدم القبول بالنصوص الواردة فيه، وقد نوقشت من ناحيتين:
الأولى: ما جاء في كلام بعض الباحثين(ره)، من البناء على أن هذه النصوص من الموضوعات المكذوبة على المعصومين(ع)، ولم تصدر عنهم(ع)، وقد جعل دليله على ذلك ما تضمنته هذه النصوص من أجر وثواب مقابل هذا العمل الضئيل الذي يصدر من الإنسان المؤمن حال البكاء.
مضافاً إلى أن ذلك يوجب الاتكال على هذا الثواب وعدم العمل، بل ربما يؤدي إلى الإغراء في المعاصي والذنوب[3].
ولا يذهب عليك، أن كلامه(ره) ينحل إلى دعويـين:
الأولى: اشتمال النصوص على ما لا يمكن الالتـزام به، الموجب للمنع من صدورها.
الثانية: ترتب مجموعة من الآثار عليها المنافية للتشريع الصادر من الله تعالى، لأنها توجب ترك الإتيان بالأعمال المكلف الإنسان بها اعتماداً على البكاء.
الناحية الثانية: ما جاء في كلام باحث آخر(ره)، من التسليم بصدور هذه النصوص عن المعصومين(ع)، إلا أنه ليس لها إطلاق بالعرض العريض الذي تعرض به، لتكون شاملة لكل زمان ومكان، بل هي مختصة في ظرف خاص عندما كان البكاء فيه يصدق عليه عنوان الجهاد في سبيل الله تعالى، وليس في الظروف الاعتيادية[4].
جواب الناحية الأولى:
ويمكن الجواب عن الدعوى الأولى في الناحية الأولى، من أن ما تضمنته هذه النصوص من البكاء لا يتناسب والعمل الصادر من الإنسان الذي هو البكاء، من خلال تقسيم الثواب الوارد في النصوص الشريفة بصورة مطلقة إلى ثلاثة أقسام:
الأول: الثواب الكبير مقابل العمل اليسير، كما ورد أن الله سبحانه وتعالى مثلاً يثيب على ذكر أو دعاء ما، ألف حسنة ويمحو ألف سيئة، ويرفع مثلها من الدرجات.
الثاني: مساواة ثواب العمل اليسير لثواب الأعمال الكبيرة، بأن يعطى الإنسان على عمل كدعاء أو ذكر معين مثلاً، ثواب ألف حجة، وألف عمرة، وألف غزوة، ونحو ذلك من الأعمال.
الثالث: مساواة العمل الصادر لأعمال الأنبياء والأوصياء، والشهداء، بأن يعطى على عمل صلاة أو ذكر مثلاً، ثواب مئة نبي، ومئة صديق وشهيد.
ويمكن توجيه الأقسام الثلاثة بما ينسجم والعقل البشري، ويدعوه إلى التصديق بذلك، وعدم رفضه.
أما الأول، فيمكن توجيهه من خلال التفريق بين العطاء المادي الصادر من الإنسان والعطاء المعنوي الصادر من الباري سبحانه وتعالى، وموجب التفريق أمران:
1-محدودية العطاء البشري، مهما بلغت عظمة المعطي وسعة ملكه، فإن لعطائه حداً.
2-ضيق دائرة الكرم الإنساني، فإن الإنسان مهما بلغ من الكرم لن يخرج عن دائرة ضيقة.
والعطاء الإلهي يختلف تماماً عن العطاء البشري، فالله سبحانه وتعالى لا حد لكرمه، وعطائه غير متناهٍ، فأي مشكلة أن يعطي سبحانه وتعالى هذا الثواب على عمل ولو كان العمل يسيراً.
وأما الثاني، فيمكن ذكر توجيهين:
أولهما: من المعلوم أن هناك نوعين من الأعمال، أحدهما واجب، والآخر مندوب، وللتقسيم المذكور أثر في الثواب، فثواب العمل الواجب يفرق عن ثواب العمل المستحب، بل إن ثواب العمل الواجب أعظم بكثير من ثواب العمل المستحب، ويشير لهذا المعنى ما جاء في فضل صلاة الجماعة: يا محمد، تكبيرة يدركها المؤمن مع الإمام خير من سبعين حجة وألف عمرة سوى الفريضة.
من هنا يتضح، أن الثواب المجعول في هذا القسم، يقصد به الثواب المجعول على العمل المستحب، وليس الثواب المجعول على العمل الواجب، وبالتالي يمتاز العامل للعمل الواجب عن العامل لهذا العمل الصغير أو اليسير من حيث الثواب وفقاً لما ذكرنا.
ثانيهما: ما يستفاد من كلمات غواص بحار الأنوار العلامة المجلسي(قده)، وحاصله: إن الثواب قسمان:
1-ثواب استحقاقي، وهو الأجر المقدر من قبل الباري سبحانه وتعالى تجاه كل عمل من الأعمال الصالحة الواجب منها والمستحب، مثل أنه سبحانه قد قدّر لصلاة الصبح ألف حسنة.
2-ثواب تفضلي، وهو ما يزيد على الأجر المقدر للعمل من مضاعفات. ويختلف المؤمنون في هذه الزيادة من درجة إلى أخرى، فلو كان لصلاة الصبح ألف حسنة، فإن الله يضاعفها لبعض عباده عدة أضعاف، قد تصل إلى سبعمائة ضعف تفضلاً منه، كل على حسب ردة إخلاصه ويقينه، وهو مقتضى قوله تعالى:- (والله يضاعف لمن يشاء)، وهذا لا ربط له بالبحث الكلامي الموجود بين المتكلمين من أن الثواب على العمل هل هو تفضل أو استحقاق.
وبعد الإحاطة بكلامه(ره)، يتضح أن الثواب الذي يكون لعامل العمل، هو خصوص الثواب الاستحقاقي فلا يشمل الثواب التفضلي، فيقتصر ثوابه على خصوص ما قدر من ثواب استحقاقاً للعمل، فلا يشمل المضاعفات المجعولة للعبد، خصوصاً إذا لاحظنا أن الثواب الاستحقاقي هو جزء من سبعمائة جزء، بينما الثواب التفضلي يبدأ بجزئين وعشرة ومئة إلى سبعمائة جزء، بل إلى ما هو أكثر من ذلك بما لا يحصيه إلا الباري سبحانه وتعالى.
وأما الثالث، فيكفي فيه الكلام الذي حكيناه عن صاحب البحار العلامة المجلسي(ره) في توجيه القسم الثاني من الأقسام الثلاثة، من أن المقصود من كون ثواب هذه الصلاة ثواب مئة نبي ووصي، ما يعادل الأجر الاستحقاقي لمئة نبي ووصي، وليس الأجر التفضلي، فإن قيام بعض المؤمنين بالعمل وحصوله على ثواب مئة نبي ووصي، يخالف ما لو قام النبي بالعمل نفسه، أو ما يساويه، لأنه سوف يحصل جزماً على أضعاف ثواب ذلك العمل تفضلاً من الله سبحانه.
وأما الدعوى الثانية في الناحية الأولى، فإنما يتم ما ذكر لو بني على أن مدلول هذه النصوص مأخوذة بنحو العلة التامة، فيقرر أن مجرد خروج نقطة دمع واحدة من عين المؤمن حال البكاء على الإمام الحسين(ع) بمفردها موجبة لحصول غفران الذنوب، فلا يكون محتاجاً للقيام بأي عمل آخر.
أما لو بني على أن المقصود منها أنها مأخوذة بنحو المقتضي، وليس العلة التامة، فهي أحد الأسباب الموجبة لحصول الغفران متى ضم إليها مجموعة من الأمور الأخرى، فلن يأتي الإشكال المذكور.
ومن الواضح، أنه حتى يبنى على دلالتها على الدعوى المذكورة، يلزم استفادة الحصر منها الموجب لعدم إمكانية تقيـيد الإطلاق الموجود فيها، وهذا ليس واضحاً في شيء من النصوص، لصلاحيتها للتقيـيد.
على أنه لو سلم ظهورها في الحصر الحقيقي، فلا ريب أنها سوف تكون معارضة لنصوص التكاليف الأخرى معارضة حقيقية، وعندها سوف ترفع اليد عنها، لمخالفتها للقرآن الكريم.
وبالجملة، إن المستفاد من هذه النصوص، كونها مأخوذة بنحو الاقتضاء، فلا يرد الإشكال المذكور.
جواب الناحية الثانية:
وأما الناحية الثانية، وهي المنع من ثبوت إطلاق للنصوص الدالة على محبوبية البكاء، وكأن نظر المستشكل إلى مدخلية عنصري الزمان والمكان في الاستنباط، ومع التسليم بأصل القاعدة المذكورة، إلا أنه لا مجال لجريانها في البين، وذلك لأن النصوص الصادرة في البكاء لا تختص بعصر دون عصر، ولا بإمام دون إمام، فإنها تبدأ من عصر النبي الأعظم محمد(ص)، وتستمر إلى عصر المولى ولي النعمة صاحب الناحية المقدسة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، وهذا الشمول مانع من كون نكتة صدورها ملاحظة الظروف الموضوعية الموجودة في عصر من العصور، بحيث يمثل البكاء في تلك الفترة عنصر معارضة ومقاومة للسلطة الحاكمة، ويبرز جانب المعارضة السلمية في مقابل المعارضة العسكرية. فمن تلك النصوص ما جاء عن الإمام الرضا(ع)، من قوله: إن يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذل عزيزنا، بأرض كرب وبلاء، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون.
وما جاء عن المولى ولي النعمة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، من قوله: فلأندبنك صبحاً ومساءً، ولأبكين عليك بدل الدموع دماً، حسرة عليك، وتأسفاً على ما دهاك، وتلهفاً، حتى أموت بلوعة المصاب، وغصة الاكتئاب.
مجالس فرح وسرور:
وقد اعترض على أصل إقامة المآتم الحسينية، والطريقة المتبعة فيها، سيما بملاحظة العنصر الأساس الذي تقوم عليه، وهو عنصر البعد المأساوي، والحزن والأسى والألم، فذكر أنه يلزم أن يستعاض عن هذه المجالس عوضاً عن أن تكون مجالس حزن وأسى وبكاء، وألم، بمجالس الفرح والسرور، وقد قرب ذلك وفق نظريتين، نكتفي بالإشارة لواحدة منهما، وهي نظرية البهجة:
وهي التي يمكن استفادتها من كلام السيد ابن طاووس(ره)، فقد ذكر في مقدمة كتابه اللهوف، أن الله تعالى يتجلى لعباده، ويطهرهم من دنس الدنيا، ويهبهم البهجة الروحية، متى أهلّ العباد أنفسهم لتلقي الألطاف الإلهية، واستحقوا هذا الاهتمام من قبل الله تعالى، فيوفقهم لأحسن الأعمال، وينـزع من قلوبهم التعلق بمن سواه، فلا يطلبوا إلا رضاه-إلى أن يقول-ولا يؤنسهم إلا ذكره، إن وجدوا حياتهم وبقاءهم مانعاً في تحقيق أوامر الله، يخلعون لباس الحياة، ويطرقون أبواب لقاء الله ببذلهم أرواحهم وأجسادهم، ويسلمون أنفسهم للسيوف والرماح، وقد سمى الحسين(ع) وأصحابه إلى هذا المقام الرفيع، حتى تسابقوا لنيل الشهادة.
ويقول(ره) بعد ذلك: ولولا امتثال أمر السنة والكتاب في لبس شعار الجزع والمصاب لأجل ما طمس من أعلام الهداية، وأسس من أركان الغواية، وتأسفاً على ما فاتنا من تلك السعادة، وتلهفاً على أمثال تلك الشهادة، وإلا كنا قد لبسنا لتلك النعمة الكبرى أثواب المسرة والبشرى[5].
وقريب من هذا المعنى نقله السيد الطهراني(ره) عن أستاذه السيد هاشم الحداد(ره)[6].
ومع مخالفة هذا الكلام لصريح النصوص الدالة على محبوبية الحزن والبكاء في هذه الأيام، وأن ذلك مطلوب لذاته، وأنه لا ينبغي أن تتخذ هذه الأيام أيام فرح وسرور، بل أيام حزن وكمد، وهذا ما أشار إليه السيد ابن طاووس(ره)، في نهاية كلامه.
فإنه يمكن التعقيب على مثل هذا الكلام، بأن هناك وجهين لواقعة الطف لا ينبغي الخلط بينهما بلحاظ الأفراد:
الأول: وهو ما يرتبط بالإمام الحسين وأصحابه(ع)، إذ لا ريب أن يوم كربلاء مثل لهم يوم فرح وسرور، لأنهم بلغوا فيه أقصى ما كانوا يأملون من العشق الإلهي والفناء في ذات الله سبحانه وتعالى، وقد كان للأصحاب الكرام شرف الدفاع عن الإمام المعصوم(ع)، والفداء له بأرواحهم. وهذا مدعاة لأن يعيشوا حالة الفرح والسرور والأنس.
الثاني: ما يرتبط ببقية المجتمعات البشرية، فإنها لابد أن تعيش الهم والحسرة والحزن والأسى، وذلك لأمور عديدة:
منها: فقد الإمام المعصوم(ع)، وقتله بتلك الصورة البشعة البعيدة كل البعد عن عنصر الإنسانية.
ومنها: الحرمان من بركات وجوده(ع).
ومنها: دخول الأسى والأذى على أهل بيت العصمة والطهارة بدأً من رسول الله(ص) حتى الإمام الصاحب(عج).
وغير ذلك، فإن هذه الأمور كلها كفيلة أن يعيش الإنسان الألم والمصاب، ويشتغل بالحزن والبكاء والنياحة.
……………………………………………………………………..
[1] ثورة الإمام الحسين(ع) في الوجدان الشعبي (بتصرف)، مجلة نصوص معاصرة العدد التاسع ص 76، 113.
[2] بحار الأنوار ج 44 ص 280.
[3] الموضوعات في الآثار والأخبار ص 170، 173.
[4] هامش بحار الأنوار ج 44 ص 293، للشيخ محمد باقر البهبودي(ره).
[5] اللهوف ص
[6] الروح المجرد ص 84.