الإمام الرضا (ع): الشخصية الحوارية

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
330
1

مدخل :

تميز عهد الرضا (ع) بكثرة المناظرات والحوارات التي كانت تعقد من قبل المأمون العباسي بين الإمام الرضا (ع) وبين مجموعة من العلماء وفي مجالات عدة ، ومن قبل شخصيات مختلفة ، فأحيانا يكون الطرف المقابل للإمام (ع) زنديقا وأخرى يكون الشخص ملحدا ، وثالثة يكون من أهل الكتاب ، ورابعة يكون من المخالفين ، وربما كان الطرف الآخر هو المأمون نفسه.

ولذا حينما نتابع الحوارات الحاصلة بين الإمام (ع) والطرف الآخر نراها قد احتوت الكثير من المفاهيم العقدية كالتوحيد ونفي التجسيم والتشبيه والإمامة وغير ذلك كمسألة خلق القرآن وما شابه.

أغراض المأمون :

وقد يتصور أن الحوارات التي كان يعقدها المأمون كانت بقصد السعي إلى نشر المعارف الإسلامية ورقي المجتمع الإسلامي.

إلا أن الصحيح خلاف ذلك ، إذ كانت هناك أغراض أخرى للمأمون من وراء ذلك ، نشير لبعضها :

منها : السعي لنسف عقيدة الشيعة والقضاء على جميع معالمها ، فإذا عجز الإمام (ع) عن دفع ذلك ، سيكون ذلك وسيلة له لنقض أصل من أصول الشيعة من أن الإمام أعلم أهل عصره ، وأدراهم بجميع أنواع العلوم.

ومنها: أن أحد الأمور الرئيسية التي دعت المأمون لجعل الرضا (ع) ولياً للعهد كونه أعلم الأمة ، وقد أظهر ذلك للناس ، فإذا عجز الإمام (ع) في الحوارات التي كانت بينه وبين العلماء عن الإجابة ، سيكون ذلك سبيلا لعزله عن هذا المنصب ، ولن يكون المأمون متجنيا على الإمام (ع) حينما يقدم على ذلك.

مع الحوار :

وعلى أي حال ، ونحن على مشارف ذكرى شهادة الإمام الرضا (ع) وهو الشخصية الحوارية المتميزة ، نود أن نستلهم منه المنهج الحواري القويم الذي يمكن من خلاله الوصول للهدف والغاية السليمة.

ونتعرف من خلال إحياء ذكرى الإمام الحواري ، وعيش شخصيته المنهج الحواري الصحيح من خلال الانفتاح على كل هذه الاتجاهات والتيارات الفكرية ، إذ يلحظ القارئ لسيرته المباركة ، كيف كان (ع) منفتحا على جميع التيارات الفكرية في عصره.

الحوار والجدل :

والحاصل ، لنتعلم من الإمام الرضا (ع) الأسلوب الحواري خصوصا وأنه السبيل العقلائي لمخاطبة الأطراف الأخر ، مهما كانت نقطة الخلاف بين الطرفين.

لكن علينا أن نميز بين مفهومين ، أعني الحوار والجدل

فالحوار هو ما يجري بين شخصين أو عدة أشخاص ، بحيث يسمع كل منهما بعد كلامه ردا من الأخر ، ولهذا يقال : كلمته فما رجع إلى حوارا ، ويقال أيضا : لم يحر جواباً ، أي لم يرد شيئا بعد أن قال له الأول كلاماً.

إذا فالحوار هو تحرك الفرد من أجل إعطاء فكرته صفة الموضوع التي تتمثل في النفاذ إلى كل جانب من جوانبها ، بحيث لا تبقى هناك حاجة للاستفهام أو المعارضة .

وهذا المعنى للحوار يشمل الجدل ، الذي هو عبارة عن محاولة كل من الجانبين إثبات مدعاه وإبطال رأي الطرف الآخر.

وهذا يعني أن لكل واحد من الطرفين موقفه ، وكل يسعى إلى إثبات موقفه وإلزام الخصم.

هذا ويمكن أن نجعل كلمة الجدل ، مصداقا للحوار الفكري والعقيدي.

نعم لقد صارت كلمة الجدل اليوم ، المفهوم الذي يطلق على كل حوار عقيم ، يغرق فيه المتحاوران حديثهما في النقاش العقيم الذي قد يقترب إلى الترف الذهني ، بما يثيره من قضايا جانبية أو مناقشات لفظية ، تخضع الفكرة إلى متاهات لا يعرف الإنسان كيف تنتهي.

هذا ويمكن تحليل ذلك من جهة الغاية التي صار الناس يقصدون الجدل من خلالها ، إذ جعلوها صناعة للتدرب على الأخذ والرد والهجوم ، والدفاع في الصراعات الفكرية لتعطيل قوة الخصم ، لا من أجل إيصاله للحقيقة ، أو الوصول معه إلى قناعة.

رفض الجدل كمبدأ للحوار :

والجدل بهذا المعنى يرفضه الدين الإسلامي ، كما يظهر ذلك من القرآن الكريم ، كما ورد ذلك في غير آية من آياته عندما تحدث عن الكافرين الذين انطلقوا بالجدل ، بغاية إضاعة الفكرة وإنكار الحق ، مما يجعلهم ينكرون الحق ، وهم يرونه ويهربون من الواقع ، فلاحظ حديثه عن المشركين في مكة وردة فعلهم لما استمعوا إلى الآيات التي تتحدث عن عيسى بن مريم (ع) قال تعالى : (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون * وقالوا ء ألهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم يختصمون * إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل) سورة الزخرف الآيات 57-59

فمع أن النبي (ص) حدثهم عنه بأنه عبد الله ورسوله ، اتجهوا للجدال من خلال فكرة النصارى الخاطئة بدعوى ألوهيته ، فأثاروا التساؤل عن المفاضلة بينه وبين ما يعبدون ، لكون الفكرتين معا خلاف ما يدعو النبي (ص) من التوحيد وعبادة الله سبحانه.

الإمام الرضا (ع) والجدل :

هذا ولو تتبعنا الحوارات والمناظرات التي كانت تقام بين الإمام الرضا (ع) وأطراف أخرى ، كاليهود أو النصارى ، أو الملحدين ، أو المخالفين ، لوجدنا أنه (ع) كان بعيدا عن الجدال ، فلم يكن يسعى فقط للتغلب على خصمه ، كما لم يكن ممن يلف ويدور ليشغل الفراغ بما يضيع الوقت ، بل كان يهدف إلى الوصول إلى الحقيقة ، وإثباتها للطرف الآخر ، ومحاولة إقناعه بها.

عناصر الحوار :

لا بد من توفر مقوما ت له ، لكي يكون منتجا يوصل للغاية والنتيجة المطلوبة ، ولكي لا يكون عقيما في الشكل والمضمون .

هذا ويمكن تعداد العناصر التي لا بد من توفرها للحوار ، لكي يكون علميا وهي :

1-شخصية المحاور الذي يدير الحوار

2-شخصية الطرف الآخر للحوار

3-معرفة المتحاورين الفكرة –موضوع الحوار-

4-أسلوب الحوار

ونحتاج إلى الحديث عنها بشيء من التفصيل

شخصية المحاور الذي يدير عملية الحوار :

لكي يؤدي الحوار هدفه بالوصول إلى النتيجة الإيجابية المرجوة منه ، يحتاج إلى أن يكون لكل طرف من طرفيه أو أطرافه ، حرية الحركة الفكرية التي يملك معها الثقة بشخصيته الفكرية المستقلة ، فلا يكون واقعا تحت رحمة الإرهاب الفكري والنفسي بحيث تلغى شخصيته وتنسحق أمام شخصية الآخر.

وهذا المعنى يظهر في حوارات الإمام الرضا (ع) مع خصومه بشكل واضح ، فلم يحاول أن يخرج شخصيته الكريمة عن بشريتها ، وأنه لا يملك أي قوة غير عادية في تكوينه الذاتي.

ومن الواضح أن هذا الأسلوب يعطي للطرف الآخر الثقة بنفسه ، وقناعته على القدرة في المقارعة والمناظرة الحوارية ، ويزيل عنه أي حجر فكري أو ديكتاتورية ثقافية .

فنجد الإمام (ع) لا يصادر أفكار محاوريه ، مع ما تشمل من انحرافات متعددة الجوانب ، بل كان يفسح لها المجال ، ليبدي كل منهم ما لديه ، ويطرح ما عنده ومن ثم يعمد إلى تفنيد كل ما عمدوا إلى تشييد بنيانه ، والقيام بعمارته.

شخصية الطرف الآخر للحوار :

ولا بد أن تتوفر فيه الرغبة في الوصول للحقيقة والبحث عنها ، والبعد عن الجدل العقيم والمحاجة بغير فائدة ، وإضاعة الوقت والجهد.

وقد ذكر القرآن الكريم نماذج من هؤلاء ، الذين لا يريدون الإيمان أو الاقتناع ، في العديد من آياته الشريفة ، قال تعالى : (إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون * ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم). (سورة البقرة الآيتان 6-7).

ولعلنا نجد نماذج حية في الواقع المعاصر لهؤلاء ، سواء في أطراف الحوارات الدينية ، أم الحوارات الفكرية أم الحوارات الاجتماعية.

معرفة موضوع الحوار :

فعلى طرفي الحوار ، أن يحيطا علما ومعرفة بالفكرة التي ينطلقان في حوارهما في سبيل إثباتها أو نفيها ، لأن الجهل بها وبتفاصيلها يحول الحوار إلى أسلوب من أساليب الشتائم والمهاترات التي يغطي فيها كل منهما ضعفه ، وعجزه عن الوقوف موقف المدافع القوي عن فكرته.

وهذا بخلاف المعرفة بالفكرة ، فإنها تجعل كلا منهما واعيا لما يطرح من فكر ، ولما يستقبل من فكر آخر ، مما يجعله يعرف كيف يبدأ الحوار ، وكيف يخوض فيه ، وكيف ينتهي منه ، وقد أشار القرآن الكريم لذلك ، قال تعالى : (ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) سورة آل عمران آية 66.

دعوة لشبابنا :

ومن خلال ما ذكرنا ، نستنتج أن على شبابنا المؤمن الرسالي ، الساعي إلى الدعوة الخيرة ، والقائم بالعمل الإصلاحي في مجتمعه ، أن يتزود بالثقافة الإسلامية التي تجعله قويا في حجته أمام خصومه من موقع المعرفة العميقة للإسلام ، لا من مركز ضعف خصومه.

أسلوب الحوار :

عندما نقرأ الحوارات التي جرت بين الإمام الرضا (ع) ومحاوريه ، نرى أنها تأخذ أسلوبا ومنهجا متميزا ، وهو أسلوب الطريقة السلمية التي تعتمد اللين والمحبة أساسا للبحث والحوار ، إيمانا بمبدأ الدين الإسلامي بأن الحوار وسيلة من وسائل الوصول إلى الهدف والحقيقة.

فالإمام (ع) كما كان من قبله آبائه وأجداده (ع) حيث يلحظ ذلك في حواراتهم ، عمدوا إلى طريقة اللاعنف.

وفي مقابل هذه الطريقة ، طريقة العنف التي تعتمد مواجهة الخصم بأشد الكلمات والأساليب وأقساها ، بحيث يركز الاختيار على كل ما يساهم في إيلامه وإهانته وإهدار كرامته، فلا تراعي مشاعره وعواطفه.

ولقد حدثنا التاريخ عن حوارات عدة ، مختلفة البحوث والمجالات ، مع شخصيات مختلفة كانت مع الإمام الرضا (ع) لكنه لم يحدثنا أنه أساء لشخص أحد من محاوريه بما يمس كرامته ، ويحرج مشاعره ، أو يخدش أحاسيسه ، بل كان المحاور يخرج بكل الود والاحترام والتقدير للإمام (ع) مذعنا ، ومعترفا بأحقية ما قاله (ع) ولذا كان بعضهم ، يتخذ الطريق الذي اتخذه (ع) ويتبع المنهج الذي اتبعه.

وعلى أي ، فهذا الأسلوب ، هو الذي تحدث عنه القرآن الكريم ، إذ قال تعالى : (ادعوا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) سورة النحل الآية 125

خاتمة :

هذا وفي ختام هذه الوقفة مع الشخصية الحوارية ، لإمامنا الثامن (ع) ومع الحوار ، علينا أن ندرس حواراته دراسة معمقة لنستلهم منها الأسس والمناهج القويمة في الحوار مع الآخرين ، ولتكون لنا دروسا تربوية تنير لنا الطريق في العلاقة مع الآخر ، وكيفية التعامل ، وسبيل التعايش معه.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة