الحرم الآمن

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
365
0

الحرم الآمن

 

اشتملت العديد من الآيات الشريفة والنصوص الواردة عن المعصومين(ع) على أن الله تعالى قد جعل البيت الحرام أمناً وآماناً للناس، وقد ورد ذلك في ثمان آيات في الذكر الحكيم، والكثير من النصوص، فقال تعالى:- (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً)[1]. وقال سبحانه وتعالى:- (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً)[2] وقال سبحانه وتعالى:- (أو لم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء)[3]، وقال عز وجل:- (أو لم يرو أنا جعلنا حرماً آمناً)[4]، وقال تعالى:- (وهذا البلد الأمين)[5]، وقال سبحانه:- (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)[6].

ومن النصوص الواردة في ذلك ما جاء عن النبي الأكرم(ص) أنه قال: من قتل قتيلاً وأذنب ذنباً ثم لجأ إلى الحرم، فقد أمن، لا يقاد فيه ما دام في الحرم، ولا يؤخذ ولا يؤذى ولا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع، ولا يضيف ولا يضاف.

وقال(ص) أيضاً: ألا لعنة الله والملائكة والناس أجمعين على من أحدث في الإسلام حدثاً، يعني يحدث في الحل فيلجأ إلى الحرم فلا يؤويه أحد.

وعن محمد بن مسلم، عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: سألته عن قوله:- (ومن دخله كان آمناً)، قال: يأمن فيه كل خائف، ما لم يكن عليه حد من حدود الله ينبغي أن يؤخذ به.

 

وفي الرواية عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: من دخل الحرم مستجيراً به فهو آمن من سخط الله عز وجل، ومن دخله من الوحش والطير كان آمناً من أن يهاج أو يؤذى حتى يخرج من الحرم. وغير ذلك من النصوص.

والمستفاد من هذه النصوص الشريفة، أن الله سبحانه وتعالى قد جعل هذا البلد أمناً وأماناً لكل من كان فيه. ويفتح المعنى المذكور المجال للتساؤل عن مدى تحقق ذلك فعلاً في الخارج، بمعنى عدم حصول العبث من أيدي السوء بتلك البقعة المباركة، وعدم تدخل النفوس السيئة للعبث بها، وإيذاء من كان فيها.

ولا ريب ولا إشكال في تعرض البيت الحرام زاده الله عزة وشرفاً إلى مجموعة من الحوادث خلال السنوات السابقة، فقد تعرض البيت الحرام لسلب، ونهب، وضرب وغزو، وفق ما نصت على ذلك المصادر التاريخية، فقد تضمنت أن الكعبة الشريفة قد ضربت بالمنجنيق، وقد قتل في البيت الحرام الأبرياء، والآمنون، كما أنه قد تسلط عليه الجبابرة، والطغاة، والمجرمون كالقرامطة في قصتهم المشهورة عندما غزوا البيت، وقتلوا الآمنين، وشردوا الحجيج، واقتلعوا الحجر الأسود وسرقوه من مكة وغيبوه عشرين سنة.

 

إن كل هذه الأحداث التي نقلها التأريخ، موجبة لإثارة السؤال السابق، والاستفهام عن أنه هل تحقق الأمن الأمان فعلاً في الخارج، أو أنه لم يحصل ذلك.

ولا ينحصر الأمر في خصوص هذا التساؤل، بل يأتي سؤال آخر، وهو هل تتعارض هذه الحوادث المذكورة، مع النصوص التي تضمنت وجود الأمن والأمان، سواء كانت الآيات القرآنية، أم النصوص المعصومية. وبالتالي يكون هناك تناقض بين ما دل عليه الشرع الشريف من كون البيت الحرام أمناً وأماناً للناس، وبين ما ثبت تاريخياً من جريان مجموعة من الأحداث عليه، من قيام القتلة بإثارة الرعب وقتل الناس وإخافتهم، وما خلف ذلك من وجود خوف وهلع عند الناس.

لا يخفى أن التصور الأولي، يقضي بحصول المعارضة بين الموردين، فإن مقتضى النصوص الدينية البناء على وجود الأمن والأمان لكل من دخل البيت الحرام، إلا أن الواقع الخارجي يفيد غير ذلك، فإنه لا يأمن من دخل إليه، بل من الممكن في أي لحظة أن يكون عرضة للقتل، أو لا أقل من أن يكون عرضة للإخافة والإيذاء.

وحتى تتضح حقيقة هذا الأمر لابد من الوقوف على حقيقة الأمن التي تضمنتها النصوص وعدتها صفة من صفات البيت الحرام زاده الله عزة وشرفاً.

 

حقيقة الأمن:

عند الرجوع لكلمات أهل اللغة، يظهر أن كلمة الأمن مأخوذة من أمن يأمن أمناً، ومعنى أمن يأمن أمناً، أي اطمأن، وزال عنه الخوف.

والحاصل، إن المستفاد من كلماتهم أن حقيقة الأمن تعني الاطمئنان وزوال الخوف، فيكون المقصود من أن فلاناً آمن، يعني حصول الاطمئنان عنده، وزوال الخوف عنه، فكما أن الخوف يمثل حالة الفزع والهلع، وعدم الاستقرار، وسلب الطمأنينة، فإن الأمن يمثل عكس ذلك تماماً، فهو يشير إلى وجود الاستقرار والطمأنينة والسكون والهدوء.

 

وبالجملة، إن المتحصل من كلماتهم أن حقيقة الأمن تعني، السكون ورفع الخوف والوحشة، والاضطراب، وإن شت، قل: إنه عبارة عن الطمأنينة، والسكون ورفع الوحشة والاضطراب. وعليه، يكون المقصود من قوله تعالى:- (وآمنهم من خوف)، يعني جعلهم في أمن وطمأنينة، وسلامة على أنفسهم وأموالهم.

والظاهر عدم وجود حقيقة شرعية ولا متشرعية لمفهوم الأمن خلاف ما تضمنته كلمات أهل اللغة، حيث خلت الكلمات عن الإشارة إلى وجود ذلك. وهذا يعني أن الاستعمال القرآني وكذا ما تضمنته النصوص المعصومية لهذه المفردة يوافق ما جاء في كلمات أهل اللغة.

ومع البناء على عدم وجود حقيقة شرعية لمفهوم الأمن، وأن المقصود منه، هو عين ما تضمنته كلمات أهل اللغة، فإنه يتأكد التساؤل السابق، من أنه كيف يتصور وجود الأمن والأمان لمن دخل البيت الحرام، مع ما ثبت تاريخياً من أحداث في ما جرى فيه، وعليه. وهذا يستوجب تحديد المقصود من أمن الحرم، وأنه يتوافق وهذا المعنى اللغوي، أو أنه يقصد به شيء آخر، حتى مع البناء على عدم وجود حقيقة شرعية لمفهوم الأمن، لكنه مستعمل في هذه الموارد مثلاً بمعنى آخر.

 

أمن البيت تفسيرياً:

وقع الخلاف بين المفسرين في تحديد المقصود من أمن الحرم الوارد ذكره في الآيات الشريفة، فيجد المتابع أقوالاً متعددة في ذلك تضمنتها كلماتهم، وتدور الأقوال الموجودة في كلماتهم حول ثلاثة أنواع من الأمن، بحيث أن جميع الأقوال تعود إليها:

النوع الأول: هو الأمن السلمي والعسكري، ونقصد منه أمن المجتمعات، أو الأفراد.

النوع الثاني: الأمن الغذائي، وهو ما يكون متكفلاً بتوفير المواد الغذائية لبقاء الموجودات.

النوع الثالث: الأمن التكويني، وهو الاستقرار دون حصول مخاوف أو اضطرابات، أو زلازل أو براكين أو أمطار غزيرة، وسيول، تحول دون البقاء.

 

على أنه يمكن تلخيص هذه الأنواع الثلاثة في نوعين فقط:

 

أحدهما: الأمن التشريعي، وهو المرتبط بالنظام الوجودي للمخلوقات، ويكون مصدره جهة قانونية متصدية لحفظ النظم والقوانين، سواء كان هو الله سبحانه وتعالى أم غيره.

ثانيهما: الأمن التكويني، ويندرج تحته الأمن الغذائي، والأمن التكويني، وهما مربوطان بخالق هذا الوجود، وموجد هذا النظام.

وعلى أي حال، فلنشر للأقوال الموجودة في كلماتهم وفق التصنيف الأول الذي ذكرناه:

 

ففي النوع الأول، وهو ما يشير للأمن السلمي المجتمعي، أو الفردي، نجد أقوالاً:

منها: إن المقصود من أمن الحرم، هو رفع العذاب الأخروي عن الإنسان جراء إتيانه البيت الحرام. فكل من يقصد بيت الله الحرام، يكون آمناً من إصابته بالعذاب يوم القيامة، لأنه يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.

وهذا المعنى مستفاد من النصوص فقد ورد عن النبي(ص) أنه قال: من حج فلم يرفث، ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. ومعنى خروجه من ذنوبه كيوم ولدته أمه، أنه قد أمن من عذاب الآخرة، لأن الله تعالى قد محا عنه جميع سيئاته السابقة، فلم يعد مستحقاً للعقوبة الإلهية، ويساعد على هذا المعنى ما تضمنته بعض النصوص، من قوله: فلينظر مستقبله، أي أن الله تعالى قد فتح له باب التوبة، وأعطاه المغفرة، فلينظر في مستقبله، هل يستمر على طريق التوبة، ويستمر في الطاعة، أم أنه يعود إلى سابق أمره وفعله، من ارتكاب الذنوب والمعاصي.

 

ومنها: إن المقصود من أمن الحرم، هو أن يأمن الجاني من العقوبة، فلا يقام عليه أو يصيبه شيء متى دخل البيت الحرام ولو كان كافراً، فالسارق مثلاً أو القاتل متى لجأ للبيت العتيق، كان ذلك حاجباً وحاجزاً من أن يقام الحد عليهما.

ولا يلزم من ذلك أن يتخذ الجناة والعصاة والمردة من البشر البيت الحرام ملجأ يقصدونه يحتمون به بعدما يقومون بجرائهم، ما سوف يؤدي إلى وقوع الهرج المرج في حياة الأمة. لأن النصوص الشريفة قد عالجت هذه الشبهة حيث ذكرت أنه يضيق على كل من كان مطلوباً بحد أو قصاص، أو بجرم ولجأ إلى البيت الحرام، في كل شيء، من مأكل ومشرب، ولا يبايع ولا يشترى منه، ولا يعامل بأي معاملة، لأن المطلوب هو التضيـيق عليه بشتى الوسائل والسبل، حتى يغادر البيت الحرام ويخرج منه، ليتمكن من تنفيذ ما يلزم تنفيذه عليه.

ومنها: يقصد من كون الحرم آمنا، عدم وقوع القتال فيه، إذ ينهى الله سبحانه وتعالى المسلمين أن يقاتلوا أعداءهم الكفار في البيت الحرام، إلا إذا ابتدأهم الكفار بذلك، ويستوحى هذا المعنى من قوله تعالى:- (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين)[7]، يعني إذا بدأوكم بقتال فعندها اعمدوا إلى قتالهم، ولا تسبقوهم إلى ذلك.

 

ومنها: إن المراد من أمن الحرم هو عدم وقوع القتل فيه، بمعنى إخبار من الله سبحانه أنه لن يقع قتل في البيت الحرام.

وضعف هذا القول واضح، ضرورة أنك قد سمعت في مطلع البحث ما تضمنته المصادر التاريخية على مرّ الزمن من الانتهاكات التي جرت وعمليات القتل التي حصلت في البيت الحرام، ويكفي قصة الحجاج، وقتل عبد الله بن الزبير، واقتحام الأمويـين، وكذا قضية القرامطة، وغير ذلك.

ومنها: يقصد من كون الحرم آمناً، أي الملجأ الذي يقصده الناس ويلوذون به ليبعدوا أنفسهم الاضطهاد والتشفي، فكل من دخل البيت الحرام كان محمياً لا يتعرض إليه أحد، فلو رأى أحد العرب قاتل أبيه أو أخيه يطوف حول الكعبة كان وجوده في الحرم مانعاً له أن يقوم بالمساس به، أو الإساءة إليه.

ومع ما للثأر في نفوس العرب من مكانة خاصة، بحيث كان المعرض عن أخذ ثأره موضع سخرية واستهزاء، بل وانتقاص بين الرجال، إلا أنهم كان يعيبون من يقتل غريمه وهو داخل الحرم.

وأما النوع الثاني، من أنواع الأمن، فقد بين من خلال القول التالي، حيث قرر القائلون به، أن المقصود من الأمن المجعول للبيت الحرام حماية الأفراد والعناية بهم، بعدم اصابته بشي من القحط والجدب، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:- (أو لم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء)، وقد كان هذا الأمر استجابة لدعاء خليل الرحمن إبراهيم(ع) الذي أسكن ولده وزوجته في هذا الوادي الذي لم يكن مزروعاً، وقد سأل ربه تعالى أمرين، فقال سبحانه:- (رب اجعل هذا البلد آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم)، والأمران اللذان وردا في دعاء الخليل(ع)، هما الأمن والرزق، لأنه من دونهما لا تكون الحياة، ولا يحصل المقام في الوادي ولا البقاء فيه، ولذا قال تعالى:- (أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).

 

وقد منع الرازي في تفسيره هذا الوجه، لكونه يستلزم التكرار، على أساس أنه لو كان المقصود من الأمن في دعاء الخليل هو عدم القحط، فسوف يكون سؤال الرزق تكراراً.

وأما تفسير أمن الحرم بالأمن التكويني، وهو النوع الثالث، فقد ذكر في بيانه: بأن المقصود من أمنه، هو أمنه من الخسف والزلازل والغرق والهدم، وغير ذلك من مظاهر سخط الله سبحانه وتعالى على بعض البلدان. فلا يصيب مكة شيء مما وقع في الأمم السابقة وعلى بلدانها، وأهلها.

وما ذكر صحيح، فإن مكة المكرمة لم يعرضها شيء من العقوبات التكوينية والعوامل الطبيعية التي استخدمها الباري سبحانه سخطاً وانتقاماً على مجموعة من البلدان والأمم، وقد أشير إلى ذلك في العديد من الآيات القرآنية.

إلا أن ذلك لا يعني عدم تعرضها لجملة من الحوادث الطبيعية ذات البعد التكويني من السيول والرياح والعواصف والأمطار مما لا يكون سخطاً وغضباً سماوياً وانتقاماً ربانياً.

وهذا يجعل التفسير المذكور للأمن أخص من المدعى، لأن حصول مثل هذه الحوادث الطبيعية في مكة موجبة للإخلال بالأمن التكويني، ومانعة من تحققه.

 

ومجرد كونها لا تعتبر شراً لأنه يستدعيها الحالة الطبيعة للنظام التكويني، لا يمنع من تحقق الإخلال بالأمن والاستقرار المتصور من التعبير بلفظة الأمن المذكورة في النصوص، لأنها تسبب الخوف والهلع عند الناس.

ولسنا بصدد الترجيح لأي واحد من الأقوال المذكورة، خصوصاً وأن لكل واحد منها ما يسنده، كما أن هنا ما يمنع من قبوله، وليطلب تحقيق أي منها الصحيح من كتب التفسير.

وعلى أي حال، فقد تضمنت كلمات المفسرين مطلباً، وهو تحديد متى حصل الأمن للحرم، وأن ذلك كان سابقاً على الخليل إبراهيم(ع)، وإنما كانت دعوته المباركة تأكيداً لتلك الحالة التي كان عليها، أو أنه أصبح آمناً بعدما دعا(ع) ربه، واستجاب الله لدعائه.

 

أمن الحرم بين النصوص والواقع الخارجي:

وحتى يتضح المقصود من أمن الحرم، المستفاد من النصوص الشرعية، سواء الآيات الشريفة منها أم روايات المعصومين، ومدى انسجامه مع الواقع الخارجي الذي نقلته المصادر التاريخية، والذي يلمسه كل أحد، ويقف عليه من الأحداث التي حصلت على مر التأريخ من ضرب الكعبة بالمنجنيق، واحتراق جزء منها، وقتل الحجيج وترويعهم، وسلب الأمن والأمان منهم. لابد من تحديد نوعية الخطاب الذي ورد في تلكم النصوص، لأن الخطابات القرآنية نوعان:

الأول: الخطابات التي تتعلق بأشياء ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، ويمكن أن يعبر عنها بالخطابات التكوينية، مثل قوله سبحانه وتعالى:- (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة)[8]، فإن المقصود منه أن سبحانه قد جعل كل واحد منهما يخلف الآخر، فيتعاقبان، فيأتي الليل فيخلفه النهار فيعقبه، ثم يأتيا لنهار فيخلفه الليل فيعقبه، وهكذا, ومن الواضح أن هذه قضية تكوينية ثابتة لا تتبدل ولا تتغير.

وكذا منه قوله تعالى:- (والشمس تجري لمستقر لها)، فهو سبحانه يتحدث عن حركة الشمس، وهي من الأمور الثابتة التي لا تتغير.

وهذه الأمور التكوينية لا تخضع لإرادة الإنسان، ولا لقدرته، بل ولا مجال له أن يحدث فيها شيئاً أو يوجد فيها أمراً.

 

الثاني: ما يتعلق بالأمور التشريعية، ويمكن أن يعبر عنه بالخطابات التشريعية، والقانونية، من قبيل الأحكام العبادية، ومن قبيل الأحكام المعاملاتية، وأمثل ذلك كثيرة، مثل ما أحل الله تعالى فعله، أو ما حرم الله سبحانه عمله، ومثل الأوامر الإلهية، والنواهي الربانية.

ومن الواضح، أن هذه الأوامر والنواهي الصادرة عن الله سبحانه وتعالى موجهة للإنسان، وصدورها من الإنسان بإرادة واختيار منه، وتتدخل فيها قدرته، وتتحكم فيها إرادته فيمكنه فعلها كما يمكنه تركها، فيمكنه أن يفعل الغيبة، كما يمكنه أن يجتنبها. وكذا الصلاة يمكنه الاتيان بها، كما يمكنه تركها وعدم فعلها.

ومن المحتمل جداً أن يكون الخطاب القرآني الوارد في شأن أمن الحرم من النوع الأول، فيكون المقصود منه خطاباً تكوينياً، ولعل هذا هو الذي فهمه المفسرون، ولذا قد سمعت مدى سعيهم الشديد لبيان حقيقة هذا الأمن، وأن كل واحد منهم أخذ منحى واتجاهاً معيناً بالبيان المتقدم. كما أن احتمال كون المقصود به هو الخطاب التشريعي قوي جداً، ويساعد عليه الاعتبار.

 

ولو بني على أن المقصود به هو الاحتمال الأول، كان ذلك موجباً لتحكم الإشكال، بخلاف ما لو كان المقصود به هو الاحتمال الثاني، ضرورة أن الاحتمال الأول يفيد حكماً عقلياً، ومن المعلوم أن القضايا العقلية لا تقبل التخصيص ولا التخصص، فالنار لا يمكن أن تفقد قدرتها على الإحراق، وإلا لم تكن ناراً، ولذا لا يمكن أن يأتي من يقول أن النار ليست محرقة. وهذا يعني أنها لا تخصص بمورد أو مقام لا تحرق فيه. فإذا كان القرار الإلهي أن البيت الحرام أمن وأمان لكل من ورده ودخل فيه، من الاحتمال الأول، وهو الخطابات التكوينية، فلابد وأن يكون ذلك مثل تعاقب الليل والنهار، فكما أنهما لا يتغيران ولا يتبدلان، فكذلك أمن البيت الحرام، لا يمكن تغيره ولا تبدله. فلا يمكن أن يقع فيه شيء من الخوف، أو الجوع، أو البطش، أو عدم الاستقرار، وفقدان الأمن، وهكذا. ومتى وجد شيء من ذلك كان ذلك موجباً للقول بالتناقض.

وهذا بخلافه لو كان المقصود من هذا الخطاب هو النوع الثاني، بحيث يكون أمراً مجعولاً من الشارع المقدس، وهو مرتبط بإرادة الإنسان واختياره، إن شاء أن يلتـزم ألتـزم، نظير قوله تعالى:- (أقم الصلاة لدلوك الشمس)، وقوله تعالى:- (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم)، وقوله سبحانه:- (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا)، فلن تكون هناك أي منافاة بين التشريع لأمن الحرم، وبين الواقع الخارجي المعاش، لأن الله سبحانه وتعالى قد جعل البيت أمناً وأماناً، إلا أن طغيان الإنسان ومخالفته أدت إلى حصول مثل هكذا أمر، فهو الجاني والمخالف لما قد جعل من أجل مصلحته.

والظاهر أن الجعل الموجود في النصوص الدينية حول أمن البيت الحرام وأمانه، جعلاً تشريعياً وليس جعلاً تكوينياً، ويتضح ذلك بملاحظة الآيات التي تضمنت ذلك، إذ يقول تعالى:- (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم)، فإن ملاحظة هذه الآية وما يتلوها من الآيات يكشف بصورة جلية أن الجعل تشريعي، وليس تكوينياً، لأنه استجابة لدعوة الخليل إبراهيم(ع)، وهو وبمثابة التوطئة لعبادة سماوية سوف تجعل من الباري سبحانه وتعالى. وهي عبادة الحج، والتي كانت موجودة منذ وجود الخليقة، وأن الأنبياء(ع) قد قصدوا البيت الحرام وحجوا إليه.

وهذا الذي ذكرناه بياناً للمقصود من الأمن في النصوص الشريفة، هو الذي فهمه العلامة الطباطبائي(ره) في تفسيره القيم الميزان[9]، وأشار إليه في غير مورد من آياته الشريفة[10].

 

 

[1] سورة البقرة الآية رقم 125.

[2] سورة البقرة الآية رقم 126.

[3] سورة القصص الآية رقم 57.

[4] سورة العنكبوت الآية رقم 67.

[5] سورة التين الآية رقم 3.

[6] سورة التين الآية رقم 4.

[7]

[8] سورة الفرقان الآية رقم 62.

[9] الميزان في تفسير القرآن ج 3 ص 390-391.

[10] مجلة ميقات الحج العدد 8 ص 176-201(بتصرف).

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة