الإصرار و التجاهر
اشتملت كلمات الأعلام على أن لبعض الذنوب خصوصية تتمثل في مضاعفة العقوبة، وزيادة العقاب، فلا يكون العقاب فيها عادياً كبقية الموارد الأخرى، بل فيها خصوصية توجب الزيادة، ومن ذلك الإصرار على المعاصي، وكذا التجاهر بها في الخارج.
ومقتضى ما ذكر عدم كون الذنوب سواء، بل بينها تفاوت، لأن بعضها يقترن بما يوجب التشديد عليه، وبالتالي تكون العقوبة المستحقة مشددة، فالغيبة ذنب له عقوبة مقدرة من قبل الباري سبحانه وتعالى، إلا أن هذه العقوبة تشتد بسبب التجاهر بها حيث أن المستغيب يدور من مجلس لآخر يستغيب الناس، أما لو أنه ارتكب الغيبة من دون تجاهر منه بها تكون عقوبته المستحقة أقل مما لو كان متجاهراً بها، وهكذا لو كان الحديث عن الإصرار مثلاً.
وليس المقصود من المضاعفة للعقوبة وزيادة العقوبة، تعدد العقوبة، فإن العقوبة واحدة لا تتعدد، وإنما تكون أشد من العقوبة العادية.
وإنما يصار لما ذكر، فيحكم بمضاعفة العقوبة المستحقة على العاصي نتيجة بعض المواصفات الأخرى غير الذنب لو تم الدليل على ذلك، وهذا يستدعي ملاحظة ما يذكر دليلاً على المدعى.
هذا وسوف نسلط الضوء على خصوص عنوانين من العناوين المذكورة في الكلمات، وهما عنوان الإصرار، والتجاهر بالمعصية، وملاحظة ما دل على سببيتهما لمضاعفة العقوبة المستحقة.
الاصرار حقيقته ومعناه:
المستفاد من مجموع كلمات اللغويـين، أن الإصرار بمعنى الثبات على الشيء، وهذا المعنى كما يتصور في الثبات على المعصية، يتصور أيضاً بالنسبة للثبات على الطاعة. نعم صار المتبادر إلى الأذهان، والمنصرف إليه بمجرد ذكر المفهوم المذكور، هو الارتباط الحاصل بين العبد والذنب، وإقامته عليه. ولعل هذا هو منشأ استعماله أكثر في الشرور والذنوب.
ولا يظهر أن هناك معنى آخر أو حقيقة له أبعد مما هو المستفاد من كلمات أهل اللغة، بل ربما عدّت حقيقته من المفاهيم العرفية التي لا تحتاج مزيد تأمل وبيان، كما لا يخفى.
والحاصل، إن المقصود من الإصرار على الذنب والمعصية، الارتباط الحاصل بين العبد وبين الذنب، والناجم من خلال ثباته عليه، واستمراره بإيجاده خارجاً، أو إيجاد مسبباته.
أقسام الإصرار:
بالرجوع إلى كلمات أهل الفن، تجد أنهم يذكرون للإصرار أقساماً يختلف عددها زيادة ونقيصة، فقد يعدها بعضم أربعة، ويرجعها آخر إلى ثلاثة، وهكذا.
والظاهر أن للإصرار قسمين لا ثالث لهما، والخلاف الموجود في تلك الكلمات يعود في حقيقته للاختلاف في المصاديق، والقسمان هما:
الأول: الإصرار الفعلي:
وهو يتحقق من خلال المداومة على نوع واحد من المعاصي من دون توبة منه، كما لو كان يتكرر منه النظر إلى المرأة الأجنبية مثلاً.
الثاني: الإصرار الحكمي:
ويقصد منه العزم على فعل المعصية مرة بعد أخرى متى توفرت له الظروف الموضوعية الملائمة. كمن كان يرغب أن يشرب الخمر إلا أنه لم يتمكن من ذلك إما لعدم توفره في المكان الذي هو فيه، أو لأن سعره غالياً لا يمكنه شراؤه، أو لقلة توفره مثلاً.
والفرق بين القسمين، هو كون القسم الأول بلغ مرحلة الفعلية والتحقق الخارجي، فالمقتضي للمعصية متوفر، ولا يوجد ما يمنع من فعلها، وهذا بخلافه في القسم الثاني، فإنه لا يخرج عن كونه مجرد عزم ورغبية في الفعل والإيجاد، ولذا قد يعبر أن المقتضي للفعل متوفر، إلا أن هناك ما يمنع من وجوده وتحققه.
وللقسم الأول منهما مصاديق متعددة نشير لبعضها:
أحدها: أن يمارس العبد المعصية والذنب:
ويرتكبه مرة بعد أخرى بشكل مستديم، ومن دون توقف. وهذا من أظهر مصاديق الإصرار الفعلي، والإقامة فيه على الذنب بينة واضحة، والارتباط بين العبد والمعصية لا يحتاج ملاحظتها لمزيد تأمل.
ثانيها: ارتكاب الذنب مع ترك التوبة والاستغفار:
ويستفاد هذا القسم من رواية الإمام الباقر(ع)، فقد قال في قوله تعالى:- (ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون)، قال: الإصرار هو أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله ولا يحدث نفسه بتوبة فذلك الإصرار[1].
ويشترك هذان القسمان في أن كليهما لا يحصل منه توبة واستغفار، ويختلفان في أن الأول منهما يحصل فيه المداومة على المعصية بارتكاب الذنب مرة بعد أخرى، وهذا بخلاف الثاني، فإنه ليس كذلك.
وعليه تكون النسبة بينهما العموم المطلق، وقد أوجب هذا أن يكون الأول منهما أشد من الثاني، لأن كل إصرار من القسم الأول، يصدق عليه أنه اصرار من القسم الثاني، ولا عكس، فيكون الأول داخلاً تحت الثاني، وليس الثاني داخلاً تحت الأول.
ثالثها: عدم تحقق الندم على الذنب:
وعدّه من الإصرار الفعلي مبني على عدم تحقق التوبة منه، لأخذ قيدية الندم فيها، فلا تتحقق خارجاً إلا بعد حصوله، ووفقاً للفرض، فإن المرتكب للذنب وإن لم يعمد إلى تكراره مرة أخرى، إلا أن عدم حصول التوبة له منه، بمثابة المصرّ على فعله، لأنه لو كان معتقداً خطأ ما فعل، وجرم ما ارتكب لندم مما صدر منه، وبالتالي تحصل له التوبة، فعدم حصولها، موجب لعدم قناعته بالجرم، ولا بقبح ما فعل، فيكون مصراً على الفعل الصادر، وهذا يجعله مصراً على المعصية والخطيئة، وهو من الإصرار الفعلي، لأنه لم يصدر عنه ما يوجب المخالفة لذلك.
وقد استفيد المصداق الثالث أيضاً من النصوص، التي أكدت على مدخلية الندم في حقيقة التوبة، وأن المؤمن بالعقوبة يندم متى صدر منه ذنب. فعن الإمام الكاظم(ع) عن أبيه عن آبائه عن النبي(ص) قال: إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فأما المحسنون فما عليهم من سبيل. قيل: يا ابن رسول الله، كيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر والله تعالى يقول:- (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى)، ومن ارتكب الكبيرة لا يكون مرتضى؟ فقال(ع): ما من مؤمن ارتكب ذنباً إلا ساءه ذلك وندم عليه، وقال النبي(ص): كفى بالندم توبة. وقال(ص): من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن، ولم تجب له الشفاعة وكان ظالماً والله تعالى ذكره يقول:- (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع)، فقيل له: يا ابن رسول الله وكيف لا يكون مؤمناً من لا يندم على ذنب يرتكبه؟ فقال: ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي وهو يعلم أنه سيعاقب عليه إلا ندم على ما ارتكب، ومتى ندم كان تائباً مستحقاً للشفاعة. ومتى لم يندم كان مصراً والمصر لا يغفر له، لأنه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب ولو كان مؤمناً بالعقوبة لندم. وقد قال النبي(ص): لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار. وأما قول الله عز وجل:- (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) فإنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه، والدين الإقرار بالجزاء على الحسنات والسيئات فمن ارتضى دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة[2].
وقد فرق بينه وبين المصداق الثاني، بأخذ قيدية ترك الندم والتوبة في المصداق الثالث، وعدم أخذهما في المصداق الثاني، وقد أوجب ذلك أن يكون المصداق الثالث أشدّ من المصداق الثاني أيضاً.
وللتأمل في عده قسيماً للمصداق الثالث مجال، فإن الظاهر أنهما مشيران إلى معنى واحد، وليس بينهما فرق، فإن المستفاد من رواية الأمام الباقر(ع) والذي جعلت المدار في عدّ المصداق الثاني، عدم تحقق التوبة والاستغفار منه، لأنه لو حصلا منه، فلن يكون هناك اصرار خصوصاً وأنك قد سمعت أنه لا يتضمن تكراراً للفعل خارجاً.
ووفقاً لما ذكر، سوف يكون للقسم الأول من قسمي الإصرار، وهو الاصرار الفعلي مصداقان فقط، وليست ثلاثة مصاديق.
دليل مضاعفة العقوبة:
ثم إنه قبل استعراض ما يستند إليه في إثبات مضاعفة العقوبة في الإصرار، ينبغي تحديد مورد النـزاع، وأنه يشمل كلا القسمين معاً، أم لا؟
ربما قيل أنه لا فرق في المقام بين القسمين، فكما أن الإصرار الفعلي يوجب المضاعفة في العقوبة، وزيادة العقاب، فكذلك الكلام بالنسبة للإصرار الحكمي، وقد يتمسك لذلك بأن موضوع ذلك الوارد في الأدلة هو عنوان الإصرار، وهو شامل لكليهما.
والإنصاف، أنه لو كان الدليل الدال على المضاعفة في العقوبة وزيادة الاستحقاق للعقاب، متضمناً لعنوان الإصرار، كان ما ذكر تاماً، فلا يفرق بين القسمين، أما لو لم يكن الدليل مشتملاً على العنوان بنفسه، وإنما استظهر منه مضمونه، فلابد من ملاحظة الحيثيات الدخيلة في ذلك، فلو كان يعتبر فيها الوجود الخارجي والتكرار، كان ذلك موجباً للتفريق بين القسمين.
والحق، أنه لا مجال لمساواة القسمين في ذلك، بل إن البحث يختص بخصوص الإصرار الفعلي، بل ببعض مصاديقه، وليست جميعها، كما سيتضح والنكتة في ذلك، أن الدليل المستند إليه لم يتضمن التعبير بكلمة الإصرار، وهذا يمنع من التمسك بالإطلاق أو العموم لشمول كليهما.
وكيف ما كان، فقد استند القائلون بالمضاعفة في العقوبة نتيجة الإصرار إلى أدلة ثلاثة:
أولها: الكتاب العزيز:
فتمسك بقوله تعالى:- (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)[3]، وتقريب الاستدلال بها من خلال موردين بضمهما إلى بعضهما البعض، وهما: قوله تعالى:- (ومن عاد)، والنتيجة المرتبة على ذلك وهي الخلود في النار، توضيح ذلك:
لقد تضمنت الآية الشريفة بياناً لحال الناس في موضوع الربا، فذكرت أنهما قسمان:
الأول: من تلقى التشريع الإلهي والنهي الرباني بالقبول والتسليم والرضا، فامتنع عن مزاولة عملية الربا، وانقطع عن ذلك.
الثاني: من لم يمتثل الأمر الإلهي، فلم يمتنع عن مزاولة الربا، بل عاد إلى فعل ذلك مرة بعد أخرى مكرراً ذلك من دون وجود رادع ولا مانع يمنعه منه، وقد جعل الباري سبحانه مصير هذه الفئة الخلود في النار.
ومن الواضح أن الخلود في النار ليس عقوبة عادية، بل هي عقوبة مضاعفة، إذ ليس كل ذنب يستلزم ذلك، وهذا يكشف عن شدة في الذنب المرتكب وخصوصية فيه، وما ذلك إلا بسبب الإصرار على المعصية والعودة إليها.
والحاصل، إن المستفاد من الآية الشريفة أن هؤلاء إنما استحقوا الخلود في النار بسبب إصراراهم على ارتكاب المعاصي، وتكرار إيجادهم لها.
ولا يذهب عليك، أن الآية الشريفة إنما تدل على خصوص الإصرار الفعلي دون الحكمي، كما أنها تختص بالمصداق الأول منه دون الآخرين. والوجه في عدم شمولها للإصرار الحكمي، أنها قد أخذت التعبير بكلمة(عاد)، وهو واضح في الإيجاد خارجاً حسب المتفاهم العرفي، وليس الأمر كذلك في الإصرارا لحكمي كما عرفت، فإنه مجرد عزم ونية، ولا يعاقب الله تعالى على العزوم والنيات.
ومع أن الآية الشريفة أخص من المدعى كما عرفت، لأن المفروض دلالتها على المضاعفة لمطلق الإصرار الشامل للقسمين، بمصاديق القسم الأول كاملة، فإنها لا تصلح أيضاً للدلالة حتى على ذلك، لأن الظاهر أن منشأ استحقاق الفريق الثاني من المرابين للخلود في النار ليس إصرارهم على فعل المعصية، وإنما لعدم تسليمهم بالحكم الشرعي الكاشف عن تكذيبهم للنبي الأكرم محمد(ص).
نعم لو تمت دلالتها لم يمنع من الاستناد إليها كون موضوعها الربا، فإن ذلك لا يوجب اختصاصاً، لما ثبت في محله من أن المورد لا يوجب تخصيص الوارد.
ثانيها: السنة الشريفة:
ويتمسك لذلك بنصوص عديدة، منها ما رواه عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار[4]. وقد قربت دلالته على المدعى بلحاظ انقلاب الصغيرة من الذنوب إلى كبيرة، وهو يوجب مضاعفة العقوبة المترتبة عليها جزماً، لأنه لا يمكن أن تكون عقوبة الكبيرة هي نفس عقوبة الصغيرة، والذي أوجب الانقلاب المذكور الداعي لزيادة العقوبة، هو الإصرار، فبسببه قد تضاعفت العقوبة.
ثم إنه لو سلم تمامية دلالة النص المذكور على المدعى، فإنه لن يختلف عن دلالة الآية الشريفة من حيث كونه أخص من المدعى، لاختصاصه بالمصداق الأول من مصاديق القسم الأول من قسمي الإصرار.
ثالثها: حكم العقل:
وبيان دلالته، بضم مقدمتين:
الأولى: ما يشير إلى أصل استحقاق العقاب، ومنشأه، بهذا البيان:
فإن الداعي إلى حكم العقل باستحقاق العبد للعقوبة هو التمرد الحاصل منه على المولى في ما يصدر عنه من أفعال بالخروج عما يقتضيه قانون العبودية، فإنه يقضي أن يكون العبد تابعاً لمولاه في ما يحب ويكره، وأن يفعل ما يطلبه منه ويريده، ويجتنب ما يمنعه منه ويكرهه. ومتى خالف العبد ذلك حكم العقل باستحقاقه العقاب.
الثانية: ما يتضمن الإشارة إلى مقدار العقوبة المستحقة، وتقريب ذلك: أنه لا ريب في تفاوت حكم العقل بالنسبة لمقدار ما يستحقه العبد من العقوبة، فليست جميع الحالات على مستوى واحد، بل يختلف الحال من مورد إلى آخر، ومنشأ الاختلاف الحاصل يعود إلى مقدار ما يتضمنه الفعل من تجاوز على الباري سبحانه وتعالى، وما يحويه الفعل من زيادة في القبح وشدة فيه بسبب الإصرار.
وبالجملة، إن الإصرار يحوي تجاوزاً إضافياً على الباري من خلال تكرر الفعل واستمرار الفاعل له من دون مراعاة فيه لحق الباري سبحانه وتعالى، فيكون موجباً لحكم العقل بزيادة العقوبة ومضاعفتها.
الآثار المترتبة على الإصرار:
ثم إنه بعد الفراغ عن تمامية الدليل، ولا أقل حكم العقل، على المضاعفة للعقوبة نتيجة الإصرار على المعصية، يمكن أن يؤيد ذلك بملاحظة الآثار المترتبة عليه:
منها: صعوبة ترك الذنب المصر عليه من قبل المصر بسهولة، ولذلك أسباب عددية، أحدها اعتياد النفس على ذلك الفعل، وألفها إياه، فلا يمكنها تركه واجتنابه بسهولة.
ومنها: يعدّ الإصرار على الذنب أحد الأسباب الموجبة لحصول الجرأة عند العبد على ارتكاب الكبائر والاتيان بها من دون رادع.
ومنها: يوجب حصول الإصرار عند شخص ما الأمن من مكر الله سبحانه وتعالى. ففي الرواية عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: والإصرار على الذنب أمن من مكر الله، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون[5].
ومنها: إن الإصرار يمنع من قبول الأعمال، وفقاً لما يستفاد من بعض النصوص، فقد ورد فيها: لا يقبل الله شيئاً من طاعته على الإصرار على شيء من معاصيه[6].
التجاهر:
وأما العنوان الثاني الذي نسلط الضوء عليه في المقام، لنرى مدى تمامية ما جاء في الكلمات، من أن وجوده خارجاً أحد موجبات زيادة العقوبة المستحقة على العبد، وهو عنوان التجاهر بالمعصية.
حقيقة التجاهر ومعناه:
ليس في كلمات اللغويـين وجود لهذه المفردة، وإنما الموجود في كلماتهم هو الجهر، والمقصود منه العلانية، والظاهر أن التجاهر ليس شيئاً آخر غيره، وهذا يعني أن المقصود من التجاهر عبارة حصول العلانية.
ومقتضى أن المقصود منه العلانية، فسيعم نحوين من الجهر:
الأول: أن يصدر الفعل علانية أمام الجميع، مثل من يستمع للغناء في الأزقة والطرقات ويسمع الآخرين ما يسمع.
الثاني: من يرتكب الذنب والمعصية في السرّ والخفاء، إلا أنه يخرج بعد ذلك للناس، ويخبرهم بما قام به من عمل.
ومضافاً إلى صدق عنوان الجهر والتجاهر على النحو الثاني، فإنه قد أشير إليه في النصوص أيضاً، وعدّ من التجاهر، وهذا يعني أنه لو لم يقبل بسعة المفهوم بحسب المعنى اللغوي، فإن التطبيق الشرعي عليه، يوجب سعة في معناه عند الشارع المقدس، قال(ع): كل أمتي معافى إلا المجاهرين الذين يعملون العمل بالليل فيستره ربه، ثم يصبح فيقول يا فلان إني عملت البارحة كذا وكذا.
الدليل على مضاعفة العقوبة في التجاهر:
وقد تمسك القائلون بمضاعفة العقوبة وزيادتها نتيجة التجاهر بالمعصية وارتكاب الذنب، بدليلين، دليل شرعي، ودليل عقلي.
أما الدليل الشرعي، فقد استندوا في ذلك إلى النصوص:
ومنها: إني لأرجو النجاة لهذه الأمة لمن عرف حقنا منهم إلا أحد ثلاثة: صاحب سلطان جائر، وصاحب هوى، والفاسق المعلن[7]. فإن المستفاد منه أن المتجاهر بفسقه ومعصيته لا يرتجى له نجاة في يوم القيامة، وكأن ذلك يشير إلى عدم تأثير حتى الشفاعة بالنسبة إليه، لأنه لو لحقته الشفاعة ونفعته كان ذلك موجباً لنجاته، ونجد أن الإمام(ع) يقرر أنه لا ينال النجاة، ومن الواضح أن منشأ عدم نجاته لا يعود لكونه فاسقاً، وإنما لكونه متجاهراً بالفسق، وهذا يعني أن منشأ ذلك هو التجاهر، فيستكشف زيادة العقوبة ومضاعفتها بسبب ذلك.
وأما الدليل العقلي، فهو تمسك بحكم العقل، وقد ذكر له بيانان:
أحدهما: لا كلام في حكم العقل باستحقاق المخالف لأوامر المولى سبحانه وتعالى للعقوبة، إلا أن مقدارها يختلف بحسب الحالة التي يكون عليها، ومن الطبيعي أنه لو كان فعل الذنب والمعصية مشتملاً على هتك واستخفاف بالمولى، واستهانة به، وعدم مبالاة بأوامره ونواهيه، كان ذلك موجباً لزيادة ما يستحق من العقوبة، كما لا يخفى. لأن الهتك له مراتب، وكلما ارتفعت مرتبته، كان ذلك موجباً لزيادة العقوبة فيه.
ثانيهما: وهو أقرب لتشكيل قياسي منطقي من الشكل الأول، كبراه: من المعلوم أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، فلا يحكم بوجوب شيء أو فساده إلا لوجود مصلحة نوعية تقتضي ذلك، وكلما كبرت المصلحة اشتدت الإرادة الإلهية التي تتعلق بالفعل، وكلما كبرت المفسدة، اشتدت الكراهية التي تتعلق بالفعل، وهكذا.
وأما الصغرى، فإن التجاهر بالفسق والمعصية والذنوب، موجب لكبر المفسدة المترتبة على ذلك الذنب الصادر من العبد، وهذا يوجب شدة كراهية الباري سبحانه وتعالى له، فيترتب على ذلك عقوبة تناسب حجم هذه الكراهية، وهي العقوبة المضاعفة.
من آثار التجاهر:
ولا يذهب عليك أن للتجاهر آثاراً سلبية كبيرة جداً على الأفراد والمجتمع، ذلك أن الذي يمنع الإنسان من ارتكاب المعاصي أمران:
أحدهما: ما يعود إلى نفس المكلف، الذي يعتقد بوجود جزاء إلهي، قد يكون في الدنيا، وقد يكون في الآخر، وقد يكون في كليهما.
ثانيهما: ما يعود إلى نفس المجتمع، على أساس أنه يمثل عنصراً رادعاً من القيام بالمعاصي والذنوب.
ولا ريب أن التجاهر موجب لضعفهما معاً، فإن ردة فعل المجتمع ترتبط بما يراه من خطأ وخروج على المألوف،، فينبذ كل ما يعتقد أنه خطأ من أفعال صادرة عن المكلف، فإذا بدأ الفعل المعين بالانتشار في وسطه، أصبح أمراً عادياً عنده، حتى صار بعد مدة يراه خالياً من القبح، بل قد يخشى أن يستحسنه بعد مدة، لأنه أصبح أمراً معتاداً ومتعارفا في أوساطه. كل ذلك لما هو المعروف من تبدل الأعراف من حين إلى آخر في المجتمعات، وانقلابها من حسن إلى قبيح، وبالعكس.
وبالجملة، إن شياع المعصية والذنوب جراء التجاهر بها من قبل أصحابها موجب لضعف عنصر الضغط الحاصل من المجتمع تجاه فاعليها، وهذا يجعل الفعل يزين عند الآخرين، حتى يدعوهم للتفكير في فعله والاتيان به.
وهذا ما يعبر عنه بفقدان عنصر الرقابة المجتمعية، لأنها تنتفي تدريجياً، كما ذكرنا.
وأما ضعف الرادع الشخصي، ونعني به انتفاء الأمر الأول، فلأن انتشار الذنب في المجتمع الناجم من التجاهر به يوجب ضعف النفس وقلة حصانتها تجاهه، وهذا يوجب ألفها له وقبولها به، بل ربما دعته إلى فعله.
وهذا ما يعبر عنه بفقدان المانع الذاتي، الذي يأخذ بالضعف تدريجياً جراء حالة التجاهر التي تكون من العاصي بتجاهره بمعصيته.
[1] الكافي ج 2 باب الإصرار على الذنب ح 2 ص 288.
[2] كتاب التوحيد للشيخ الصدوق
[3] سورة البقرة الآية رقم 275.
[4] الكافي ج 2 باب الإصرار على الذنب ح 1 ص 288.
[5] بحار الأنوار ج 6 ص 30.
[6] الكافي ج 2 باب الإصرار على الذنب ح 3 ص 288.
[7] بحار الأنوار ج 73 ص 355.