حكم ما لا فلس له من الأسماك (7)

لا تعليق
خواطر حوزوية
64
0

[size=6][/size]
[font=arial]الطائفة الثانية: ما يظهر منه حلية جميع الأسماك دون فرق بين وجود الفلس وعدمه:

منها: صحيح زرارة قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن الجرّيث؟ فقال: وما الجرّيث؟… فنعته له، فقال:- (قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه)[/font] إلى آخر الآية، ثم قال: لم يحرم الله شيئاً من الحيوان في القرآن، إلا الخنـزير بعينه، ويكره كل شيء من البحر ليس له قشر، وليس بحرام، وإنما هو مكروه[1].

ولا يخفى دلالتها على المدعى، حيث أن الوارد في كلامه(ع) الإشارة إلى أمرين:

الأول: قصر الحرمة في الأشياء على ما ورد تحريمه في القرآن الكريم، وهذا يستدعي حصر الحرمة في خصوص الخنـزير، لأنه هو الذي نص على حرمته دون غيره من المحرمات بالنسبة للأكل في القرآن.

الثاني: أن غير الخنـزير من الأشياء، ليست محرمة، بل هي مكروهة، والكراهة هنا هي الكراهة الاصطلاحية.

وهذا الذي ذكرناه مستفاد من خلال تمسكه(ع) بالآية الشريفة، إذ أن مقتضاها بيان قانون الحلية في الأشياء بمقتضى تقريبه الذي ذكره.

إن قلت: إن مقتضى ذكره(ع) الكراهة لما لا فلس فيه، مشعر باختصاص النص بخصوص الأسماك، لا مطلق حيوانات البحر.

قلت: إن هذه الدعوى غير مسموعة، لكونها خلاف الظاهر.

ومنها: معتبر الحلبي قال: قال أبو عبد الله(ع): لا يكره شيء من الحيتان إلا الجري[2].

وهي دالة على حلية جميع الأسماك ما دون الجري، وأما هو فإن حملنا الكراهة على ما سبق منا بيانه، أي على خلاف الكراهة المصطلحة، كان مقتضى ذلك الالتـزام بحرمة أكله، أما لو حملناها على الكراهة المصطلحة بقرينة صحيحة زرارة المتقدمة، فإنه يكره أكله، لا أنه يحرم.

ثم لو قلنا بالاحتمال الأول، أعني حمل الكراهة على المبغوضية والاستقذار النفسي، فلن يكون منشأ الحرمة هو عدم ثبوت الفلس، بل سيكون المناط هو خصوص سمك الجري بعنوانه كما لا يخفى.

ومنها: صحيح محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن الجري والمارماهي والزمير، وما ليس له قشر من السمك أحرام هو؟ فقال لي: يا محمد! اقرأ هذه الآية التي في الأنعام:- (قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً)قال: فقرأتها حتى فرغت منها، فقال: إنما الحرام ما حرّم الله ورسوله في كتابه، ولكنهم كانوا يعافون أشياء، فنحن نعافها[3].

ودلالتها على حلية ما لا فلس له واضحة جداً، كما أنها قد اشتملت على تعليل منشأ ترك أكل بعض الحيوانات، ذلك لأن الناس لما عافوا أكلها، وربما استقذروه، تعفف المعصوم(ع) عن ذلك، خصوصاً وأن ليس في مثل هذا الفعل أدنى مخالفة للشرع الشريف.

هذا وما ينبغي ملاحظته أن جميع نصوص هذه الطائفة قد انفرد الشيخ الطوسي(ره) بنقلها، وهذا يوجب شيئاً في قبولها ودخولها دائرة الحجية، ذلك لكونها بمرأى ومنظر من العلمين الجليلين الشيخ الكليني والشيخ الصدوق(ره)، واعراضهما عنهما يشير إلى وجود خلل فيها، إما من ناحية الصدور أو من ناحية الجهة، وبالتالي يكون هذا بنفسه مانعاً من القبول بها ما لم يكن هناك ما يشهد لقبولها، ودخولها دائرة الحجية.

والقول بأنهما(قده) لم يضفرا بها، وبالتالي لم ينقلاها في كتابيهما، غير مسموعة، خصوصاً بملاحظة الصادر التي نقلا الشيخ(قده) منها، فلاحظ.

والأنصاف أن الشاهد لقبول هذه النصوص وعدم مانعية دخولها في الحجية موجود، ضرورة كونها معاضدة بمقتضى الأصل بالعموم القرآني، فتدخل دائرة الحجية.

الطائفة الثالثة: ما ورد في خصوص الجري والمارماهي والزمير:

منها: خبر علي بن جعفر عن أخيه موسى(ع) قال: سألته عن الجري، أيحل أكله؟ فقال: إنا وجدناه في كتاب أمير المؤمنين(ع) حراماً[4].

وهي دالة على حرمة أكل الجري، لكن لا لكونه مما لا فلس له، بل الظاهر أن منشأ الحرمة هو نفس عنوان الجري، ولعل منشأ ذلك يعود لما ورد في بعض النصوص من كونه ممسوخاً، ففي خبر الكلبي النسابة قال سألت أبا عبد الله(ع): عن الجري، فقال: إن الله مسخ طائفة من بني إسرائيل، فما أخذ منهم بحراً فهو الجري والزمير والمارماهي، وما سوى ذلك، وما أخذ منهم براً فالقردة والخنازير والوبر والورك، وما سوى ذلك[5].

نعم هذه الرواية ضعيفة سنداً، لكون مصدرها هو كتاب علي بن جعفر وهو كتاب أعتمد عليه شيخنا الحر العاملي في كتابه الوسائل، بناءاً على حدسه، حيث وجده هو ومعاصره غواص بحار الأنوار(قده) وقد اعتمداه، لكن جعله الشيخ المجلسي(قده) كتاب النوادر لأحمد بن محمد، بينما جعله الشيخ الحر كتاب علي بن جعفر.

ثانياً: لو أغمضنا الطرف عما ذكرنا، إلا أنه لا طريق للشيخ الحر للكتاب المذكور، والاستناد للطريق العام المشار إليه في الخاتمة[6]، ممنوع بما فصلناه في باب تعارض الأدلة عند الحديث عن خبر الراوندي، فلاحظ.

اللهم إلا أن يقال بحجية الرواية ولو من خلال الوجادة، كما لعله غير بعيد، فتأمل.

ومنها: معتبر الحلبي قال: قال أبو عبد الله(ع): لا يكره شيء من الحيتان إلا الجري[7].

بناءاً على حمل الكراهة الواردة فيها على الحرمة بلحاظ أن المراد منها الحزازة النفسية الكاشفة عن مبغوضية تدعو إلى الترك.

ومنها: خبر الفضل بن شاذان-في عيون أخبار الرضا- في كتابه للمأمون، قال:…وتحريم الجري من السمك، والسمك الطافي، والمارماهي، والزمير، وكل سمك لا يكون له فلس[8].

ودلالته على المدعى واضحة، حيث أنه(ع) نص على حرمة مجموعة من الأسماك، عدّ منها الجري والمارماهي والزمير، ولا يخفى أن ذكرها في الخبر مأخوذ على نحو الطريقية، وليس مأخوذاً على نحو الموضوعية، فالمذكور ليس إلا من باب المثال كما لا يخفى.

ومنها: مرسل الصدوق(ره) قال: قال الصادق(ع): لا تأكل الجري، ولا المارماهي، ولا الزمير، ولا الطافي، وهو الذي يموت في الماء، فيطفو على رأس الماء[9].

ومنها: صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر(ع) قال: لا تأكل الجري، ولا الطحال[10].

أقول: أبان في هذا النص،هو أبان بن عثمان الأحمر، ولا مانع من الاعتماد عليه، لا لكونه أحد أصحاب الإجماع، بل لكونه ممن روى عنه المشائخ الثقات.

ومنها: ما روته حبابة الوالبية قالت: سمعت مولاي أمير المؤمنين(ع) يقول: إنّا أهل بيت لا نشرب المسكر، ولا نأكل الجري، ولا نمسح على الخفين، فمن كان من شيعتنا فليقتد بنا، وليستنّ بسنـتنا[11].

أقول: في سنده المفضل بن عمر، وهو محل خلاف بين الأصحاب في قبول حديثه وعدمه، وتفصيل الحديث في شرح حاله، يطلب من محل آخر.

هذا ولا ريب في حصول المنافاة والمعارضة بين الطائفتين الأولى والثانية، كما لا إشكال في حصول المنافاة والمعارضة بين الطائفتين الثانية والثالثة، مع أني لم أجد في كلمات الأصحاب ممن تعرض للمسألة وتعرض لعلاج التعارض المتصور، الإشارة إلى علاج المعارضة بين الطائفتين الثانية والثالثة، ولهذا ينبغي التعرض لكلا المعارضتين كل على حدى، فنقول:

أما المعارضة بين الطائفتين الأولى والثانية:

فقد عولجت تارة بالجمع العرفي، وأخرى باللجوء للمرجحات أو المميزات- حسب المبنى في أخبار الترجيح-

أما بالنسبة للجمع العرفي، فقد ذكر أمران:

الأول: أن تحمل نصوص الطائفة الأولى الدالة على المنع عن أكل ما لا فلس له من الأسماك على الكراهة، جمعاً بينها وبين الطائفة الثانية، وقد أحتمل هذا الجمع المحقق السبزواري(ره) في كتابه الكفاية، والمحدث الكاشاني(ره) في مفاتيح الشرائع[12].

وأورد عليه السيد في الرياض: بأنه جمع تبرعي يفتقر إلى الشاهد من الكتاب والسنة، مضافاً إلى أن الحمل على الكراهة يصار إليه حين كون المتضمن للنهي المحمول على الكراهة مرجوحاً بالإضافة إلى ما قابله وعارضه، بحيث يتعين طرحه. أما عند تكافؤ المتعارضين، أو رجحان ما تضمن النهي من دون شاهد أو قرينة، كما في مفروض المسألة، فمما لا وجه له[13].

وحاصل كلامه(ره): أن المصير إلى الجمع العرفي رهين توفر أحد أمرين:

أولهما: وجود شاهد من الكتاب أو السنة، بمثابة الموضح لكون المراد من الكلام الصادر هو خصوص هذا المعنى.

ثانيهما: أن تكون هناك نكتة عرفية تدعو للتصرف في ظهور النص المرجوح وهو الذي سنرفع اليد عن ظهوره فيما هو ظاهر فيه بسبب تلك النكتة، مثل كونه أظهر أو كونه خاصاً والذي ترفع اليد عنه عام، أو ما شابه ذلك.

ولما كان كلا الأمرين مفقوداً في المقام، فلا مجال للقول بإمكانية الجمع العرفي بين الطائفتين.

ويلاحظ عليه: بأن هناك نصين يصلحان شاهدان للجمع العرفي:

الأول: صحيح محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن الجري والمارماهي والزمير، وما ليس له قشر من السمك أحرام هو؟ فقال لي: يا محمد: اقرأ هذه الآية التي في الأنعام:- (قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً) قال: فقرأتها حتى فرغت منها، فقال: إنما الحرام ما حرّم الله ورسوله في كتابه، ولكنهم قد كانوا يعافون أشياء، فنحن نعافها[14].

حيث أشارت إلى نكتة النهي عن أكلها الصادر منهم(ع)، وهي أن المرتكز في أذهان الناس هو عدم حلية أكلها، ولا أقل من وجود حزازة نفسية عندهم منها.

الثاني: وهو أصرح من النص السابق في الدلالة على ما ذكرنا، وهو صحيح زرارة قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن الجرّيث؟ فقال: وما الجرّيث؟ فنعته له، فقال:- (قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه)إلى آخر الآية، ثم قال: لم يحرم الله شيئاً من الحيوان في القرآن، إلا الخنـزير بعينه، ويكره كل شيء من البحر ليس له قشر مثل الورق، وليس بحرام، إنما هو مكروه[15].

فهو صريح، بل نص في إرادة الكراهة المصطلحة المقابلة للحرمة، فلا وجه لقوله(قده): بأن الكراهة الواردة في النصوص أعم من الكراهة المصطلحة والحرمة، بل ظهورها في الحرمة أوضح[16].

ثم إنه بناءاً على ما ذكرناه من وجود شاهد الجمع من السنة المباركة، لا تصل النوبة حينئذٍ لإعمال قواعد المعارضة المستقرة كما لا يخفى.

هذا وقد أشكل بعض الأعلام(قده) على الجمع المذكور بإشكالين آخرين:

الأول: إن هذا الجمع خلاف المشهور، وهو يعني عدم تمامية الظهور المستفاد من النصوص المذكورة المدعى دلالتها على الحلية.

وبعبارة أخرى: إن إعراض المشهور عن النصوص التي دلت على الحلية، كاشف عن وجود خلل في أصالة الظهور فيها، مما يمنع من قبولها.

إن قلت: لم لا يكون نظره(ره) إلى إعراض المشهور عن النص المذكور، مما يكشف عن خلل في أصالة صدوره أو أصالة جهته، فيكون من باب الإعراض الكاسر.

قلت: لا مجال للمصير إلى ذلك، لكون المورد بعد فرض حصول المعارضة وتحققها، وهذا يكشف عن دخول كلا الخبرين دائرة الحجية.

الثاني: إن الأخبار الدالة على الحرمة أكثر من النصوص الدالة على الحلية، مما يستوجب عدم رفع اليد عما دل على الحرمة من خلال التصرف في ظهوره بالحمل على الكراهة[17].

ويلاحظ على كلا الأمرين، أما الأول: فعدم مصير المشهور إلى الطائفة الدالة على الحلية، لا يكشف عن وجود خلل في ظهورها، خصوصاً وقد عرفت أن بعضها نص على المدعى، عمدة ما يتصور أن المشهور لم يعملوا بها لنكتة ربما تكون ناشئة من الإعراض لاحتمال موافقتها للتقية، ومن الواضح أن هذا مردّه إلى إعمال قواعد التعارض، ولا ربط له بالجمع العرفي.

ولا يخفى ما في الثاني، ضرورة أن الكثرة لا توجب المنع من التصرف في الظهور ما دام هناك نكتة دالة على ذلك.

الثاني: ما أفاده المحقق النراقي(قده) من أن الجمع العرفي فرع تكافؤ الخبرين في الحجية صدوراً وجهة وظهوراً، وما لم يتحقق التكافؤ فلا وجه للجمع العرفي بينهما، والتكافؤ من جهة الظهور في المقام ممنوع، ذلك لأن ما دل على الحلية غير ظاهر فيها، إذ أن صحيح زرارة أعم من المدعى لكونه شاملاً للحيتان وغيرها، مما يجعله قابلاً للتخصيص بما دل على المنع، وكذا صحيح ابن مسكان، ورواية حكم، فإنهما شاملان لما له قشر وما لا قشر له، وأما صحيحة محمد بن مسلم فإن عدم ورود التحريم في الكتاب لا يمنع من إمكانية التخصيص للعموم[18].

والحاصل، مؤدى كلامه(ره) أنه تحمل النصوص الدالة على الحلية على النصوص الدالة على الحرمة، فيتضح أن ما دل على الحلية أعم، فيخصص بما دل على الحرمة، وعندها لا يصار للجمع العرفي بالحمل على الكراهة.

ولا يخفى أن هناك فرقاً في النـتيجة بين الجمع العرفي الأول الذي أفاده المحقق السبزواري(قده) وبين هذا الجمع، لأن مقتضى ما أفاده المحقق السبزواري(ره) هو البناء على حلية أكل ما لا فلس له من الأسماك، لكن على كراهية، بينما مقتضى ما أفيد في هذا الوجه هو البناء على حرمة أكل ما لا فلس له من الأسماك، فلاحظ.

وأجيب عنه: بأن مقتضى كون السؤال في صحيح زرارة عن الجرّيث، يستوجب أن يكون الجواب مختصاً بالأسماك، فلا يحكم بكون النص وارداً في مقام إثبات حلية جميع حيوانات البحر.

وكذا يكون الحكم أيضاً بالنسبة إلى صحيحة محمد بن مسلم، لأن السؤال لما كان عما لا فلس له من الأسماك، يستوجب أن يكون الجواب مطابقاً للسؤال، وهذا يثبت اختصاصه بما لا فلس له من الأسماك ليثبت الحلية، وعليه لا يصح حينها تقيـيده.

وأما صحيح عبد الله بن مسكان، وخبر الحكم، فإن الجواب الذي أفاده(ره) يـبتني على أن يكون الاستـثناء منقطعاً، لأن هذا هو مقتضى تخصيص الحيتان بما له فلس، وهو خلاف الظاهر، بما هما كالصريحين في الشمول لما لا فلس له[19].

أقول: أما بالنسبة للجواب عن صحيح زرارة، فلا يخفى أن التمسك بقاعدة المطابقة بين السؤال والجواب في المقام ليست كما ينبغي، ذلك لأن الجواب الصادر منه(ع) شامل لما ورد في السؤال وغيره، وموارد هذا كثيرة في النصوص، بمعنى أن يكون السؤال عن شيء بعينه، فيفيد الإمام(ع) جواباً عاماً شاملاً لعدة أفراد ومصاديق، خصوصاً إذا كان السائل فرداً مثل زرارة، بحيث يعطى من قبل الإمام(ع) قواعد عامة كلية يستنبط منها مجموعة من الأحكام.

بل في بعض الموارد قد يجيب الإمام(ع) بخلاف ما ورد في السؤال، بياناً منه لكونه الحكم على خلاف ما تصوره السائل.

وعلى أي حال، فبناءاً على هذا لن يكون ما أفاده المجيب إيراداً على الفاضل النراقي(قده)، لأن نظر الفاضل النراقي إلى جوابه(ع) بعد إتمام الآية الشريفة: لم يحرم الله شيئاً من الحيوان في القرآن إلا الخنـزير بعينه، ويكره كل شيء من البحر ليس له قشر مثل الورق…الخ…فإن هذا يفيد العموم، بحيث يعطي حلية جميع حيوانات البحر وإن لم تكن ذات فلس، فلا معنى لخصها بخصوص الأسماك، والسؤال لا يصلح لمنع انعقاد الظهور كما لا يخفى. بل إن ذكره(ع) لقيد الورق من باب دفع وهم اختصاص الحلية بما كان له فلس.

ومثل ذلك يأتي أيضاً في صحيحة محمد بن مسلم، لأن قوله(ع): إنما الحرام ما حرّم الله ورسوله في كتابه…الخ…يفيد قاعدة كلية يعطيها(ع) لفقيه من فقهاء الطائفة وهو محمد بن مسلم، فكأنه(ع) قال له: يا محمد: المدار عندنا في الحكم بالحلية والحرمة، يعود لما ورد تحريمه في الكتاب من قبل الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم(ص)، فما لم يكن الشيء المشكوك في حليته وحرمته مما ورد فيه التحريم فيه التحريم في الكتاب، فإنه يحكم بحليته.

وعلى هذا فسيكون النصان المذكوران بمقتضى هذا يفيدان العموم، فيأتي ما أفاده المحقق النراقي(قده).

وأما ما أفاده(دام ظله) بالنسبة لصحيح ابن مسكان، وخبر الحكم فتام، لكنه يمكن أن لا يكون خلاف الظاهر، وذلك بقرينة الطائفة الثالثة التي تقدمت الإشارة إليها والتي تضمنت التعرض لحرمة الجري مثلاً بنفسه، لا لكونه مما فلس له، وعلى هذا لن يكون جعل الاستـثناء منقطعاً مستلزماً لارتكاب شيء من خلاف الظاهر.

ومنه يتضح عدم تمامية الجمع العرفي الأول أعني الحمل على الكراهة، وذلك لأن النصوص الواردة كلها مطلقة أو عامة، قابلة للتخصيص أو التقيـيد، وعندها يتم ما أفاده الفاضل النراقي(قده)، ويتضح أن ما ذكره بعض الأعلام(دام ظله) أنه لولا الشهرة العظيمة على الحرمة، لقلنا بالحكم بحلية ما لا فلس له من الأسماك[20]، في غير محلها.

هذا ولو لم يقبل الجمع العرفي الذي تقدم ذكره، ولم تقبل المناقشة التي ذكرناها، بحيث التـزم باستقرار المعارضة بين الطائفتين، فعندها لابد من إعمال قواعد التعارض، سواء قيل بالترجيح، أم قلنا بالتميـيز كما هو مفصل في محله.

فقدّم صاحب الرياض(قده) ومن بعده صاحب الجواهر(ره) بل الفاضل النراقي[21] -بالنسبة لصحيحة محمد بن مسلم- الروايات المانعة على روايات الحل، لموافقتها للعامة، الذين جعل الرشد في خلافهم. حيث أنهم قائلون بحلية أكل جميع الأسماك من دون تفريق بين كونه مما له فلس، أو مما لا فلس له، قال في الفقه على المذاهب الأربعة: ويحل أكل حيوان البحر الذي يعيش فيه ولو لم يكن على صورة السمك، كأن كان على صورة خنـزير أو آدمي، كما يحل أكل الجريث: وهو السمك الذي على صورة الثعبان، وسائر أنواع السمك ما عدا التمساح فإنه حرام[22].

وفي فقه السنة للسيد سابق: الحيوان البحري حلال كله، لا يحرم منه إلا ما فيه سم للضرر، سواء أكان سمكاً أم كان غيره، وسواء اصطيد أم وجد ميتاً، وسواء أصاده مسلم أم كتابي أم وثني، وسواء كان له شبه في البر أم لم يكن له شبه[23].

والمستفاد من هاتين العبارتين حكم القوم بحلية السمك مطلقاً، سواء كان له فلس أم لم يكن من دون فرق بينهما في الحكم بالحلية.

ولكن لا يخفى أن هذا يـبتني على أحد أمرين:

الأول: أن لا يكون في المقام من الكتاب ما يوفق إحدى الطائفتين بحيث يكون الترجيح حينئذٍ بواسطة موافقة الكتاب.

الثاني: أن يكون الترجيح بمخالفة العامة مقدماً على الترجيح بموافقة الكتاب.

ولذا لو لم نقل بالأمر الثاني، وتم الأمر الأول فلا ريب في أنه لابد من العمد إلى الترجيح بما يكون موافقاً للكتاب.

والأنصاف أننا لو عمدنا إلى الترجيح بما يوافق الكتاب، لكان مقتضى ذلك هو تقديم الطائفة الثانية الدالة على حلية ما لا فلس له من الأسماك، لكونها موافقة لما دل على أصالة الحلية كما تقدم بيانه في مطلع البحث فلاحظ.

هذا وقد يمنع من الترجيح بمخالفة العامة لعدم وجود نكتة عقلائية داعية إلى الاتقاء منهم في هذا الأمر، فتأمل.

ثم إنه لو منع من الترجيح بموافقة الكتاب، وكذا لم يقبل الترجيح بمخالفة العامة، فعندها تصل النوبة إلى الشهرة، سواء قلنا بأنها مرجحة أم قلنا بأنها مميزة، بناءاً على أن المستفاد من المقبولة هو الشهرة الروائية، لا ما قيل من أنها الشهرة الفتوائية، فعندها سوف يكون الترجيح حينئذٍ لما دل على الحرمة، لأنه الأشهر، بل المشهور.

هذا وقد يمنع من وجود المعارضة بين الطائفتين منذ البداية، بدعوى: أن المعارضة فرع الحجية، وهي غير متحققة في المقام، ذلك لكون الطائفة الثانية ساقطة عن الاعتبار بسبب إعراض المشهور، لأنه لو لم يكن بنفسه مانعاً عن الحجية، فلا ريب في كونه سبباً يكشف عن وجود خلل في أصالة الصدور، أو أصالة الجهة، فلا يدخل دائرة الحجية، وعليه يسقط عن الاعتبار كما لا يخفى.

لكن هذا وإن كان كبروياً صحيح في نفسه، لكن الكلام فيه بحسب الصغرى، حيث أن الإعراض المتصور في المقام على فرض تحققه من الإعراض الصناعي الذي لا يكشف عن خلل ولا عن عدم حجية، كما فصل في محله.

وأما علاج المعارضة بين الطائفتين الثانية والثالثة، فبناء على ما سبق منا من حمل الاستـثناء على الاستـثناء المنقطع في بعض موارد ذكر الجري مثلاً، فإن العلاج يكون واضحاً، لأنه حينئذٍ لن تكون هناك معارضة أصلاً، لكون الحكم بالحرمة يكون منصباً عليه، بل لو لم يكن في بعض النصوص استثناء لكان الحكم أوضح، لأنه سوف يكون حينئذٍ من باب حمل العام على الخاص والمطلق على المقيد.

فتحصل من جميع ما ذكر أن ما عليه المشهور، من الحكم بحلية خصوص ما كان له فلس من الأسماك، هو المتبع، ولا مجال للقول بحلية غيره، والله العالم بحقائق الأمور، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

——————————————————————————–

[1] الوسائل ب 9 من أبواب الأطعمة المحرمة ح 19.

[2] المصدر السابق ح 18.

[3] المصدر السابق ح 20.

[4] المصدر السابق ح 21.

[5] الوسائل ب 10 من أبواب الأطعمة المحرمة ح 5.

[6] خاتمة الوسائل ج 30 الفائدة رقم

[7] الوسائل ب 9 من أبواب الأطعمة المحرمة ح 18.

[8] الوسائل ب 9 من الأطعمة المحرمة ح 9.

[9] المصدر السابق ح 6.

[10] المصدر السابق ح 7.

[11] المصدر السابق ح 8.

[12] كفاية الأحكام ج 2 ص .مفاتيح الشرائع ج 2 ص 185.

[13] رياض المسائل ج 13 ص 369.

[14] الوسائل ب 9 من أبواب الأطعمة المحرمة ح 20.

[15] الوسائل ب 9 من أبواب الأطعمة المحرمة ح 19.

[16] رياض المسائل ج 13 ص 369.

[17] جامع المدارك ج 5 ص 138.

[18] مستند الشيعة ج 15 ص 65-66.

[19] فقه الصادق ج 24 ص 108.

[20] فقه الصادق ج 24 ص 108.

[21] رياض المسائل ج 13 ص 369. جواهر الكلام ج 12 ص 669 . مستند الشيعة ج 15 ص 66.

[22] الفقه على المذاهب الأربعة ج 2 ص 19-20.

[23] فقه السنة ج 3 ص 302.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة