علم الإمام بالغيب (1)
يعتقد الشيعة أن الإمامة منصب إلهي عظيم يعتبر فيه كل ما يعتبر في النبوة من شروط وصفات، فكما يعتبر أن يكون النبي(ص) معصوماً، يعتبر أن يكون الإمام معصوماً أيضاً، وكما يعتبر في النبي أن يكون عالماً بالغيب، يعتبر ذلك في الإمام أيضاً.
ولم يقع الخلاف في علم النبي(ص) بالغيب، لأن مصدر علمه هو الوحي، لكن وقع الخلاف في علم الأئمة الأطهار(ع)، بذلك، فقال الشيعة بأنهم يعلمون الغيب، ومحيطون بكل شيء، علمهم الله تعالى إياه.
وقد أدى هذا القول إلى وجود خلاف بينهم وبين غيرهم، حتى حدى الأمر بالبعض أن يكفرهم، وينسب إليهم ما لا يقولونه. ومنشأ ذلك هو عدم فهم النظرية الشيعية في ذلك.
وحتى تتضح المسألة، يلزم تحرير محل النـزاع الواقع بين القائلين بثبوت علم المعصوم(ع) بالغيب وغيرهم، ثم النظر في المقتضي للقول بثبوت ذلك له وهو الدليل المستند إليه لإثبات القول بثبوت علمهم(ع) بالغيب، وبعدها يلحظ المانع من البناء على القول بذلك، وهو ما يمثل دليل الطرف الآخر المانع من ثبوت العلم بالغيب إليه.
تحرير محل النـزاع:
لعل المشكلة الأساس التي تعترض البحث هي المقارنة بين صفة العلم الإلهي وما يدور في فلكه، وبين مرتكزات الفكر العقدي للشيعة، ورأيهم في علم الإمام، ومقداره وسعته وشموليته.
ومن المعلوم أن صفة العلم للذات الإلهية لا يمكن أن يشاركه فيها أحد، ولا تصل صفة العلم في المعصوم مهما بلغ شأنها أن تساويها، أو ترتقي إليها. نعم ما ينبغي بيانه هو تحديد نوع علم المعصوم(ع)، وأنه حضوري، أو حصولي. ومع البناء على كونه حضورياً، لابد من تحديد الفرق بينه وبين العلم الإلهي.
أقسام العلم:
ينحصر الحصول على العلم والمعرفة في طريقين لا ثالث لهما، وهما:
الأول: العلم الحضوري: وهو حضور المعلوم بنفسه لدى العالم به، فيحصل له العلم بالشيء من دون واسطة أي شيء. ويعرف بالتعليم الرباني، ويعبر عنه بالعلم اللدني، والعلم الوراثي والإرثي، ويشير إليه قوله تعالى:- (فوجدا عبداً من عبادنا صالحاً آتينه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً)[1].
وهذا العلم قد يحصل بصورة دفعية مرة واحدة، وقد يحصل على نحو التدريج. وللعلم اللدني قسمان:
1-حصوله من دون واسطة، بل يكون الحصول عليه من الله سبحانه وتعالى مباشرة، كما في قوله تعالى:- (وعلم آدم الأسماء كلها)[2].
2-حصوله مع الواسطة، يقول تعالى:- (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحى بإذنه ما يشاء)[3].
الثاني: العلم الحصولي: وهو حضور المعلوم عند العلم به من خلال صورته فهو لا يدركه من خلال ذاته، بل عبر صورته التي تكشف وتحكي عنه، فهو يحتاج حتى يحصل إلى وجود وسيط بين العالم والمعلوم.
ويعبر عن هذا الطريق بالتعليم الإنساني، ويكون من خلال تلقي الإنسان المعلومة بواسطة شخص آخر يعطيها إليه بعدما لم يكن ممتلكاً شيئاً حولها. وهو الطريق المتعارف لدى عامة الناس، وإليه يشير سبحانه وتعالى في قوله:- (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون)[4]، فإنها تدل على أمرين:
1-خلو الإنسان حال تولده عن جميع العلوم التي يمكن تحصيلها عن طريق الحس والفكر والتعقل.
2-وجود آليات التحصيل عند الإنسان، مثل: السمع والبصر.
ولا تنحصر الواسطة في واحدة، بل قد تكون كثيرة ومختلفة من موجود إلى آخر، فيستعان بحاسة البصر مثلاً للعلم بطلوع الشمس، أو يستعان بحاسة الشم للتعرف على الرائحة، أو بحاسة اللمس لتحديد أن هذا حار أو بارد، أو ناعم أو خشن، وهكذا.
وكما يحصل العلم الحصولي من خلال وساطة الحواس، يحصل أيضاً بواسطة البراهين والمقدمات المنطقية للوصول إلى المفاهيم العلمية.
والحاصل، إن الوسائط التي يعتمد عليها تختلف حسب مورد العلم المراد الحصول عليه، فقد يستعان بالحواس، كما قد يستعان بالبراهين والمقدمات المنطقية.
الفرق بين العلم الحضوري والحصولي:
ويفترق العلمان الحضوري والحصولي عن بعضهما من جهات:
منها: عدم قبول العلم الحضوري للخطأ والاشتباه أبداً، لعدم اعتماده على شيء يكون واسطة في حصول المعلوم عند العلم به كما سمعت، وهذا بخلاف العلم الحصولي، فإن مقتضى توقفه على شيء يمثل واسطة للوصول للمعلوم قد يوجب حصول الخطأ والاشتباه، فإن أي خلل يصيب الواسطة يؤثر تبعاً على النتيجة المستقاة منها.
ومنها: إن تحصيل العلم الحضوري متوقف على مشاركة جميع القوى للوصول إليه ولا يكتفى بقوة واحدة لذلك، وأما العلم الحضوري، فإن إدراك المعلومات يقتصر على وجود قوة واحدة فقط دون أن تشترك معها قوى أخرى.
ومنها: إن للعلم الحضوري أثراً حتمياً لابد وأن يتحقق، فيقتضي وجوده عدم حصول غفلة في النفس، ولا نسيان للمعلوم، وهذا بخلافه في العلم الحصولي، فإنه لا يلزم من وجوده ترتب الأثر عليه، فقد يعلم الإنسان بأن هذه الدنيا دار زوال وعدم استقرار، وأنها محطة يخرج منها لدار البقاء في الآخرة وأن هناك سؤالاً وحساباً، فيغفل عن ذلك، ويقوم بارتكاب الذنوب والمعاصي والخطايا، ما يعرضه عند الموت لشدة سكرات الموت التي علمها، ويوجب استحقاقه دخول النار التي علم شدة عذابها، كل ذلك لعدم ترتب أثر على علمه الحصول نتيجة غفل النفس، والنسيان.
نوع علم المعصوم:
ومع كون العلم الإلهي للذات المقدسة علماً حضورياً، فقد التـزم علماء الشيعة أن علم المعصوم(ع) علم حضوري، وليس حصولياً، فإن النفس تشهده من دون واسطة حسية أو عقلية، فيتحد مع النفس، ويصبح شأناً من شؤونها.
وقد أوجب هذا الالتـزام حصول المشكلة، وتوجيه التهمة، وصار ذلك موجباً لطرح الإشكال التالي: إذا كان علم المعصوم(ع) علماً حضورياً، وهو موافق لعلم الله تعالى، فما هو الفرق بينهما، ذلك أن كليهما علماً حضورياً؟
والحاصل، إن هذا التوافق قد أوجب حصول المشكلة، وتوجيه التهمة لأبناء الطائفة المحقة، أعلى الله كلمتهم وأنار برهانهم.
الفرق بين العلم الإلهي وعلم المعصوم:
ومع أن علم المعصوم(ع) علم حضوري، إلا أن بينه وبين العلم الإلهي فروقاً، نشير لبعضها:
أحدها: أن علم الله سبحانه وتعالى قديم، بينما علم المعصوم(ع) حادث.
ثانيها: إن العلم الإلهي سابق على وجود المعلومات، بينما علم المعصوم(ع) متأخر وجوداً عن وجود المعلومات.
ثالثها: إن علم الله سبحانه وتعالى عين ذاته، وليس شيئاً زائداً على الذات، أما علم المعصوم(ع) فليس عين ذاته.
رابعها: إن علم الله عز وجل علة للمعلومات، وليس الأمر كذلك بالنسبة لعلم المعصوم(ع).
ومقتضى وجود هذه الفروق بين علم الله سبحانه وتعالى وبين علم المعصوم، يستوجب ذلك عدم كونهما في رتبة واحدة، وأن العلاقة بينهما علاقة الطولية، فيكون علم المعصوم(ع)، في طول علم الله سبحانه، ومجرد كونه علماً حضورياً لا يستوجب أن يكون هو عين علم الله سبحانه وتعالى.
ومنه يتضح أن النـزاع الحاصل بين الشيعة وغيرهم ليس في محله، وأنه قد نشأ كما ذكرنا من عدم إحاطة الآخر بالرؤية التي يتبناها الشيعة ويلتـزمون بها.
المقتضي لعلم المعصوم:
ثم إنه بعد الفراغ عن الإحاطة بمحل النـزاع، وكيف نشأ، يلزم عرض المقتضي للقول بوجود علم الغيب للمعصوم(ع)، وهو يمثل الدليل المستند إليه في مقام اثبات ذلك، وقد تمسك القائلون بذلك بدليلين، نقلي وعقلي. أما النقلي، فتارة يستند للقرآن الكريم، وأخرى السنة المباركة.
دليلية القرآن الكريم:
أما القرآن الكريم، فقد استند لجملة من الآيات الشريفة:
منها: قوله تعالى:- (ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب)[5]، وقد تضمنت الآية الشريفة احتجاج النبي الأكرم محمد(ص) بشاهدين، وهما:
1-الباري سبحانه وتعالى.
2-من عنده علم الكتاب.
ودلالة الآية الشريفة على المدعى تعتمد على تحديد المقصود بـ(من عنده علم الكتاب)الذي ورد فيها. ويتضح ذلك بملاحظة نوعية السورة، وأنها مكية أو مدنية، فإن ذلك يعين كثيراً، لأنه سوف يدفع بعض المحتملات المتصورة في دلالة الآية وبيان من هو المقصود بذلك فيها.
وعلى أي حال، إن الثابت وفقاً لمقتضى التحقيق[6] أن الآية مكية كمكية السورة التي وقعت فيها، وهذا يستوجب أن يكون المقصود من بـ(من عنده علم الكتاب)، عدم كونه شخصاً من أهل الكتاب، لعدم إيمان أحد منهم خلال تلك الفترة. وقد نصت الروايات الشريفة على أن المقصود به هو أمير المؤمنين(ع).
وعليه، يكون الاستدلال بها كالتالي: إن المستفاد من الآية الشريفة دلالتها على وجود علم الكتاب عند الإمام علي(ع)، وهو علم مضاف يفيد أنه لا يوجد شيء في الكتاب إلا وعلمه عنده(ع). ومع أن المقصود بالكتاب في الآية الشريفة هو القرآن الكريم، إلا أنه لا يقصد به خصوص هذا القرآن الموجود بين الدفتين، بل المقصود منه الكتاب التكويني، بلحاظ الوجود التكويني للقرآن الكريم، في مقابل الوجود الكتبي له.
وبناءً على ما تقدم، يقرر وجود العلم والإحاطة التامة بكل الأمور والأشياء لأمير المؤمنين(ع)، لأنه يملك علم الكتاب التكويني وفقاً للآية الشريفة، وهذا يثبت وجود علمه بالغيب وهو المطلوب.
ومنها: قوله تعالى:- (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين* قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم)[7]، وتتضح دلالتها على المدعى عند الإحاطة بمنشأ فضل آدم(ع) على الملائكة، من خلال ما حصل عليه من التعليم، وأنه ليس مجرد العلم بالأسماء التي علّمها الله سبحانه وتعالى إياه. توضيح ذلك: لقد كان علم آدم(ع) بالأسماء المعينة سبباً لامتيازه على الملائكة، وبه استحق الاستخلاف، وعندما يقوم آدم(ع) بتعليمه الأسماء للملائكة، فلن يبقى متميزاً عليهم، بل سوف يكون وإياهم في مستوى واحد من العلم، بل قد يكون الملائكة أفضل منه، لأن تدبر اللاحق قد يكون أشرف من تدبر السابق، وهذا يوجب نفي الأفضلية له عليهم. مع أن تميزه(ع) عليهم ظل حتى بعد تعليمه إياها لهم. وذلك لأن نوعية العلم التي أمتلكها آدم(ع) تختلف عن نوعية العلم التي حصل عليها الملائكة، فإن المستفاد من الآيات الشريفة أن نوعية علمه(ع) من العلم اللدني الحضوري الذي يكون بنحو الإلهام والإشراق من خلال إلقاء المعلم للمتعلم ذلك. ووجود هذا العلم عنده كان سبباً لاستحقاقه منصب الولاية والرتبة التكوينية، فإذا كان آدم(ع) قد حظي بمثل هذا التشريف من الله تعالى، فالنبي محمد(ص) أولى من آدم(ع) بأن يكون ممتلكاً لهذا العلم الحضوري اللدني، وكذا أهل بيته(ع) الذين هم نفسه الشريفة.
دليلية السنة:
وقد استدل من السنة على ثبوت علم الغيب للمعصوم(ع)، بنصوص أيضاً:
منها: حديث الثقلين الذي رواه الفريقان، وهو وإن اختلفت صيغ روايته، إلا أن موضع الاستدلال به محط وفاق عند كل من رواه، قال (ص): إني مخلف فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإن اللطيف الخبير قد أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض.
وتعرف دلالته على المدعى من خلال الملازمة الثابتة بينهما وعدم حصول الافتراق، ويظهر ذلك من خلال مقدمتين:
الأولى: إن مقتضى كون القرآن الكريم دستور علم وهداية للأمة المرحومة، وأنها خاتمة الرسالات السماوية، يلزم اشتماله على كل ما تحتاج إليه البشرية بشأن هدايتها إلى قيام الساعة، فلا يوجد شيء يحتاجه البشر إلا ويكون موجوداً فيه.
الثانية: إن اللازم من كون العترة الطاهرة، وهم الأئمة المعصومون(ع) عدلاً للقرآن الكريم، يستوجب احاطتهم بكل شيء، وعلمهم بكل ما فيه، حتى لا يحصل الافتراق بينهما، لأنه لو لم يكونوا كذلك لزم من ذلك حصول الافتراق، وقد عرفت إخباره سبحانه وتعالى عن الله عز وجل أنهما لن يفترقا، فيثبت المطلوب.
ومنها: ما تضمن علمهم(ع) في اللوح المحفوظ، ففي حديث أمير المؤمنين(ع) مع سلمان وأبي ذر(رض)، قال: وأنا صاحب اللوح المحفوظ، وألهمني الله عز وجل علم ما فيه[8].
ومنها: ما ورد من أن عندهم الاسم الأعظم لله سبحانه وتعالى، وعلم الكتاب، فقد روى عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله(ع) قال: كنت عنده فذكروا سليمان(ع) وما أعطي من العلم، وما أوتي من الملك، فقال لي: ما أعطي سليمان بن داود؟ إنما كان عنده حرف واحد من الاسم الأعظم، وصاحبكم الذي قال الله:- (قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) وكان والله عند علي(ع) علم الكتاب، فقلت: صدقت والله جعلت فداك[9].
ومنها: النصوص التي نصت على أنهم(ع) ورثة علم الأنبياء(ع)، فعن أمير المؤمنين(ع) قال: ألا إن العلم الذي هبط به آدم من السماء إلى الأرض وجميع ما فضلت به النبيون إلى خاتم النبيـين في عترة خاتم النبيـن[10].
دليلية العقل:
إن مقتضى المنصب والمسؤولية المناطة بالمعصوم(ع) تستدعي أن يمتلك شروطاً وخصائص تؤهله لتحمل تلك الوظيفة والقيام بتلك المسؤوليات المطلوبة منه. ولابد أن تعطيه تلك الشروط والخصائص امتيازاً على جميع الموجودين في عصره بحيث يكون أكملهم علماً ومعرفة، وهكذا.
وهذا يعني أن العقل يحكم بلزوم كون المعصوم في زمانه أعلم الرعية، وأكمل معرفة، وإلا عدّ ناقصاً، ووجود النقص يمنع من أن يكون في موضع المسؤولية التي أعد لها.
[1] سورة الكهف الآية رقم 65.
[2] سورة البقرة الآية رقم 30.
[3] سورة الشورى الآية رقم 51.
[4] سورة النحل الآية رقم 78.
[5] سورة الرعد الآية رقم
[6] أعرضنا عن اثبات مكية سورة الرعد التي وردت فيها الآية الشريفة، لأننا قد تعرضنا لبيان الضابطة في السورة المكية والسورة المدنية بصورة مفصلة في بحث التفسير في مطلع تفسير سورة يس.
[7] سورة البقرة الآيتان رقم
[8] بحار الأنوار ج 26 ح 1 ص 4.
[9] بصائر الدرجات ح 2 ص 212.
[10] بحار الأنوار ج 26 ح 6 ص 160.