تقية أبي طالب(ع)
عللت بعض النصوص عدم إظهار سيدنا أبي طالب(ع) إيمانه أنه كان يعمل بالتقية، وشبهته تارة بأصحاب الكهف، وأخرى بمؤمن آل فرعون، وكيف أنهم كانوا يكتمون إيمانهم ويعملون بالتقية، فقد ورد عن أبي عبد الله(ع) أنه قال: إن مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف، أسروا الإيمان وأظهروا الشرك، فآتاهم الله أجرهم مرتين[1].
وقد يمنع من الاستناد للنصوص المذكورة والقبول بها مانعان:
الأول: مخالفتها لما هو الثابت تاريخياً من مجاهرته(ع) بنصرة النبي(ص)، كما يظهر ذلك من خلال أشعاره المنقولة في كتب السيرة والتاريخ، وقد نقل كثيراً منها العلامة الأميني(ره) في كتابه الغدير.
الثاني: ما تضمنته المصادر التاريخية وكتب السيرة، بل بعض النصوص التي نصت على أن أبا طالب(ع) لم يسجد لصنم قط، وأنه كان على دين الحنفية السمحاء.
فإن أمكن معالجة المعارضة المتصورة المانعة من ترجيح أحد الخبرين على الآخر، أو تساقطهما، وإلا فلا مناص عندها من الترجيح أو التساقط.
تقية أهل الكهف:
ومن الواضح أن معالجة المعارضة المتصورة تحتاج ملاحظة الوضع الذي كان عليه من شُبه سيدنا أبي طالب(ع) بهما، وهما أهل الكهف، ومؤمن آل فرعون. ولنسلط الضوء على إحداهما، وهم أصحاب الكهف.
ومن يُلاحظ الآيات الشريفة والروايات المباركة المتحدثة عن سيرة أهل الكهف يراها تتضمن مرحلتين مروا بها:
الأولى: مرحلة الكتمان قبل المجاهرة أمام الحاكم وانكشاف أمرهم، وأنهم كانوا يتقون منه، وتستفاد هذه المرحلة من النصوص. فعن درست الواسطي، قال: قال أبو عبد الله(ع): ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف، إذ كانوا يشهدون الأعياد ويشدون الزنانير فأعطاهم الله أجرهم مرتين[2].
الثانية: وهي مرحلة المجاهرة، وهي التي يمكن استظهارها من الآيات الشريفة، وهنا تأتي المشابهة.
ولا مجال لتوهم عدم عمل أهل الكهف بالتقية والقول أنهم كانوا مجاهرين بما يعتقدون ويدينون من دين خلاف دين الملك منذ البداية، وهذا يوجب رفع اليد عن النصوص المتضمنة لعملهم بالتقية، لمخالفتها لظاهر الكتاب الكريم.
لأن مقتضى جمع النصوص والآيات المباركة، هو ما ذكرناه من وجود مرحلتين مروا بها في إظهار دينهم.
وليست نسبة النصوص للآيات الشريفة نسبة التباين، حتى ترفع اليد عنها، وتسقط عن الاعتبار لمخالفتها للكتاب، بل النسبة بينهما هي نسبة العموم المطلق، وهذا يجعل تخصيص الآيات الشريفة التي تضمنت حصول المجاهرة منهم بما يدينون والمواجهة للملك ممكناً دون أي محذور.
والحاصل، إن مقتضى التأمل في الآيات الشريفة والروايات، الوصول لما ذكرناه من وجود مرحلتين مرت بها حركة أهل الكهف الإيمانية.
تقية أبي طالب:
وعليه يمكن القول أيضاً أنه كما كانت في حياة أهل الكهف الإيمانية مرحلتان، مرحلة سرية ومرحلة جهرية، كذلك كانت سيرة أبي طالب(ع)، مشتملة على مرحلتين:
الأولى: قبل دخول الهاشمين شعب أبي طالب، ويمكن التعبير عنها بمرحلة الكتمان للحفاظ على النبي(ص).
الثانية: بعد الدخول في شعب أبي طالب، خصوصاً وأنه قد قوي ركن الدعوة المحمدية في هذه المرحلة، ورسخت أقدامها، وصار للنبي(ص) اتباع، ولم يعد(ص) ضعيفاً يخشى عليه، فعندها جاهر أبو طالب(ع) بنصرته للنبي(ص)، وأفصح عن إيمانه، فكان من هذه الجهة كأصحاب الكهف، لمرورهم بمرحلتين كما سمعت ومروره بمرحلتين أيضاً.
وهذا التوجيه لبيان جانب المشابهة يقوم على احراز عدم صدور شيء من اشعاره(ع) ذات الصراحة في الدلالة على نبوة النبي(ص)، قبل فترة الحصار في الشعب، وإلا مع الإلتزام بصدورها في مطلع الدعوة وبدايتها، أو قبل الدخول في الشعب، لن يكون للتوجيه المذكور معنى أصلاً.
وعليه، لن تكون رواية تقيته(ع) كتقية أصحاب الكهف منافية ومخالفة لأشعاره المتضمنة للتأكيد على نبوة النبي(ص) بل المشيرة لكونه نبياً قد شابه الأنبياء السابقين(ع)، وأنه مرسل من قبل الله سبحانه وتعالى.
المشابهة في الجملة:
ولا يلزم من مشابهته(ع) لأهل الكهف في التقية، أن يكون مشابهاً لهم من جميع الجهات، ليُشكل عندها بمخالفة هذا النص لما ورد من أن أبا طالب(ع) لم يسجد لصنم قط، وأنه كان يعبد الله على دين إبراهيم الخليل(ع)، فهو وإن لم يظهر الإيمان إلا أنه لم يظهر الكفر أيضاً بخلاف هؤلاء فقد كانوا يظهرون العبادة للملك مدة ثم بعد ذلك أظهروا كفرهم به.
لأنه لا يلزم في التشبيه ثبوت جميع صفات المشبه به للمشبه، فلا يعتبر في قولهم: ليلى كالقمر، أن تكون جميع الصفات الموجودة للقمر والثابتة إليه متوفرة وموجودة عند ليلى أيضاً، بل يكفي أن يكون بينهما جهة التقاء واحدة لتكون ليلى مشابهة له في ذلك ليصدق التشبيه، وهذا بنفسه يجري في المقام، ذلك أن نقطة المشابهة بينهما الموجبة للالتقاء مرور كل منهما بمرحلتين في رحلته الإيمانية مرحلة سرية، ومرحلة جهرية.
دوافع تقيته(ع):
ومن الطبيعي أن يسئل عن الموجبات والدوافع التي دعته(ع) للتقية، ومشابهته لأهل الكهف في ذلك، خصوصاً وأن مكانته الاجتماعية قد تحول دون القبول بذلك، كيف وهو شيخ الأبطح وسيد قريش وزعيمها المبرز.
ويزول التعجب المذكور، ويندفع التساؤل حال معرفة نوعية التقية التي كان يمارسها(ع) وأنها من أي أنواع التقية، لأن للتقية أنواعاً، والذي نحتمله قوياً أنه كان يمارس أحد نوعين من التقية، وهما:
١-تقية خوفية، وهي قد تكون على النفس، أو المال، أو العرض بأن تكون على الآخرين، ولا يبعد توسعة المقصود من العرض ليكون شاملاً للأولاد والرحم، بل ليس بعيداً شمول التقية الخوفية للخوف على المؤمنين والأولياء الصالحين.
٢-تقية مدارتية، وهي التي يعمد فيها لمداراة الآخر لغرض من الأغراض المنشودة وهدف من الأهداف المقصودة، والظاهر أنه لا خصوصية للمدارة بالمسلمين فكما تجري معهم تجري مع الكفار أيضاً.
والموجب لتحديد تقيته في النوعين المذكورين دون غيرهما، ما ذكره المتعجب من مكانته الاجتماعية وهو حق بل من المسلمات، فقد نص على أن له مقام الحاكمية على الناس كعبد المطلب، فقد كان ملكاً وله سيماء الأنبياء وهيبة الملوك، ويستفاد هذا المقام من خطبته عند طلبه السيدة خديجة للنبي الأكرم محمد(ص) زوجة وحليلة.
وبسبب المكانة المذكورة والمنزلة الاجتماعية المرموقة كان بين خيارين:
الأول: أن يتكتم على إيمانه ويحافظ على مكانته الاجتماعية كحاكم اجتماعي، فيكون للنبي(ص) حصناً منيعاً وحامية من كل أحد، فيحول بين المشركين وبينه، ويمنعهم من الوصول إليه لأن حاكميته تجعل له اليد الطولى عليهم وتلزمهم قبول قوله والالتزام بأمره.
الثاني: أن يجاهر(ع) بإيمانه، ومن الطبيعي أن مخالفته لقومه سوف تسلب منه صفة الحاكمية التي اكتسبها، خصوصاً وأن وجود هذه الصفة كان ناشئاً من السمت والتقدير والاعتراف بحسن التدبير والإدارة فهو منصب أعطيه(ع) دون طلب ونال من خلاله زعامة مباشرة، فيسلب منه متى قال القوم بفقدانه مؤهلات المنصب.
والحاصل، إن انتخاب الخيار الثاني، يسلب منه المنصب الاجتماعي المرموق الذي يجعله صاحب كلمة مسموعة في الوسط المكي، فلا يمكنه القيام بدوره في حماية النبي الكريم محمد(ص).
وقد أختار(ع) الخيار الأول، لأنه أوفق بالمصلحة وأقرب لمنهج العقلاء، وأدفع عن ملامتهم، ولذا اتخذ جلباب التقية درعاً استعمله للقيام بدور الحامية للنبي محمد(ص).
ومنه يتضح أن التقية التي استعملها(ع) لا تخرج عن أحد النوعين الذين ذكرنا، بل هي للتقية المدارتية أقرب، وإن كانت التقية الخوفية متصورة أيضاً واحتمالها ليس بعيداً.
نعم لا يتصور أن تكون تقيته(ع) تقية إكراهية، لأن ما عرفت من منزلته الاجتماعية ومكانته المرموقة بين أهل مكة، بل في الجزيرة العربية، خصوصاً وأنه خليفة عبد المطلب والقائم مقامه، وعبد المطلب هو هو، تحول دون ذلك، نعم لو قيل بكونها تقية اضطرارية فرضتها الظروف المحيطة وألزمت بها كان لذلك وجهاً.
الهدف والغرض:
ويمكننا القول أنه(ع) قد حقق من خلال تقيته الغرض الأقصى والهدف الأعلى، ذلك أن الأغراض والأهداف نوعان:
الأول: الغرض الأدنى: وهو الذي يسعى صاحبه لتحصيل أدنى المكتسبات وأقلها، ولا يكون طموحه أكثر من ذلك.
وأصحاب هذه الأغراض موضع لوم واستهجان عند العقلاء، لأنهم قد يبذلون جهوداً حثيثة ويصرفون طاقات عظيمة للوصول لنتائج محدودة، بل هزيلة.
الثاني: الغرض الأقصى: وهو الذي يكون داعي صاحبه الوصول لأعلى النتائج وتحصيل أكبر المكتسبات ونيل أعظم الأهداف، وأصحاب هذا الغرض موضع تقدير واحترام عند العقلاء.
ومن خلال ما تقدم يتضح أن منشأ وصف غرضه بأنه أدنى أو أقصى يعود للنتائج المترتبة عليه، بل الدواعي المقصودة منه، وعند التأمل نقف على أن أبا طالب(ع) كان يطلب الغرض الأقصى، وقد كان طريق وصوله لذلك هو كتمانه إيمانه وتقيته، فقد تمكن خلال تلك المدة الزمنية من الحفاظ على رسول الله(ص) وحال دون أن تصل أيديهم إليه بسوء، ويساعد على ذلك أن الله تعالى أمر نبيه(ص) بالهجرة من مكة بمجرد وفاة أبي طالب(ع).
[1] أصول الكافي ج 1 كتاب الحجة باب مولد النبي ح 28 ص 448.
[2] أصول الكافي ج 2 كتاب الإيمان والكفر باب التقية ح 8 ص 218.