الاصلاح الحسيني(1)

لا تعليق
محرم الحرام 1442 هـ
117
0

الاصلاح الحسيني(1)

 

قال الإمام الحسين(ع): وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً، وإنما خرجت طلباً للإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر.

إن أول ما يلفت الانتباه في المقطع الوارد في وصية الإمام الحسين(ع) لأخيه محمد بن الحنفية يوم خروجه من المدينة المنورة، تعبير الإمام(ع) بكلمة: طلباً للإصلاح، ولم يعبر بكلمة: للإصلاح، ووفقاً لما نعتقده من أن كلام المعصوم(ع) قريب من القرآن الكريم، فكما أن كل مفردة ترد في كلام الله سبحانه وتعالى يكون لها مدلول خاص دعى لانتخابها دون بقية المفردات الأخرى المرادفة لها، أو القريبة في الدلالة على المطلوب منها، يراد الإشارة إليه من قبل الله سبحانه، بل يكون دخيلاً في البعد البلاغي والإعجازي للقرآن، فكذلك الكلام الصادر من العصوم(ع)، وهذا يعني أن تعبير الإمام الحسين(ع) بكلمة: طلباً للإصلاح، دون كلمة الإصلاح مباشرة، تشير إلى أمر ما.

 

ولا ريب أن هناك فرقاً جلياً بين التعبير بكلمة: للإصلاح، والتعبير بكلمة: طلب الإصلاح، فإن الأول منهما أضيق دائرة من الثاني، لأنه ينحصر في خصوص مصداق واحد يتمثل في إيجاده خارجاً، وذلك بأن يجعل غالباً على الفساد، وظاهراً عليه. وهذا بخلاف طلب الإصلاح، فإنه أوسع دائرة منه، لأنه يتحقق بأحد مصداقين، فإنه كما يمكن تحققه من خلال إيجاد الإصلاح في الخارج وتحقيقه، ليكون غالباً على الفساد وظاهراً عليه، فإنه يكون من خلال بيان معنى الإصلاح وإيضاح حقيقته، ولو لم يطبق تفعليه في الخارج.

 

وهذه السعة في التعبير بطلب الإصلاح ليكون شاملاً للمصداقين المذكورين، هو ما حدى بالإمام الحسين(ع) أن يستعمل التعبير المذكور.

وكيف ما كان، فإنه حتى يفهم المشروع الإصلاحي الذي سعى الإمام الحسين(ع) إلى تحقيقه وبيان معالمه ومعانيه، يلزم الوقوف على المقصود من مفهوم الإصلاح الوارد في وصيته التي قدمنا ذكرها، وفي غيرها من كلماته التي صدرت منه حتى وصوله إلى الشهادة المباركة.

 

حقيقة الإصلاح:

وتظهر أهمية تحديد المقصود من الإصلاح، لدخالة ذلك ولو بنحو ما في معرفة الهدف الذي من أجله حصلت النهضة الحسينية، لأن البناء على بعض الأهداف إنما ينسجم مع بعض المعاني المذكورة له دون البقية، كما سيتضح إن شاء الله تعالى.

وبالجملة، إن الإصلاح الوارد في كلام الإمام الحسين(ع) لا يخرج عن أحد محتملين ظاهراً لا ثالث لهما:

الاحتمال الأول: أن يكون المقصود منه معناه اللغوي.

الاحتمال الثاني: أن يكون المقصود منه معناه السياسي.

 

المعنى اللغوي:

إن المستفاد من كلمات أهل اللغة، أو الإصلاح مفهوم مأخوذ من الجذر: ص، ل، ح، وله معنيان:

الأول: أن يكون الإصلاح مأخوذاً من مادة الصُلح، ويكون المقصود منه حينها: رفع الاختلاف والنـزاع والشقاق الحاصل بين فردين، أو فئتين، أو أكثر من ذلك.

وقد استعمل بهذا المعنى في جملة من الآيات القرآنية:

منها: قوله تعالى:- (فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما)[1]، فإن المقصود من الإصلاح الوارد ذكره في الآية الشريفة عبارة عن الصلح والتوفيق بين الزوجين المتخاصمين اللذين حصل بينهما نزاع وشقاق، وذلك ببعث حكمين أحدهما من أهل الزوج، والآخر من أهل الزوجة.

 

ومنها: قوله تعالى:- (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما والصلح خير)[2]، ولا يختلف المقصود من الإصلاح في هذه الآية عنه في الآية السابقة، فإنه بمعنى الصلح والتوفيق ورفع النـزاع والخلاف والشقاق الموجود.

 

ويدخل تحت هذا المعنى أيضاً إصلاح ذات البين، والذي حثت عليه النصوص الشريفة كثيراً، فقد جاء في وصية أمير المؤمنين(ع) للحسنين(ع)، وبقية أولاده ليلة وفاته: وصلاح ذات بينكم، فإن صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصوم. وقد تضمنت النصوص الشريفة أنه أفضل من الصلوات المستحبة، وإليه يشير قوله تعالى:- (وأصلحوا ذات بينكم)[3] ، فإن الإصلاح هنا بمعنى الصلح، فإذا حصل نزاع بين أسرتين مثلاً جراء طلاق، أو حصلت قطيعة بين أخوين، بسبب الميراث، فإنه ينبغي السعي للإصلاح بينهما، ورفع حالة القطيعة والشقاق وعلاج النـزاع والخلاف الحاصل بيينهم، ولكل من سعى في ذلك أجر وثواب عظيم عند الله سبحانه وتعالى.

 

الثاني: أن يكون الإصلاح مأخوذاً من مادة الصلاح، وهو مقابل الفساد، ويكون ذلك بالعمل الصالح، وبإيجاد الأشخاص الصالحين غير الفاسدين.

ومن الواضح أن الإصلاح بهذا المعنى يقابل الإفساد، بمعنى القيام بالأعمال الصالحة، أو العمد إلى رفع الفساد من المجتمع، ولذا ورد النهي عن الإفساد في الأرض، فقال سبحانه:- (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها)[4]، ومثله ما جاء في شأن قوم نبي الله شعيب(ع)، قال عز من قائل:- (إن اريد إلا الإصلاح ما استطعت)[5].

ومن هنا أطلق على الشخص المتصدي للعملية الإصلاحية لقيامه بأعمال صالحة ورفعه ألوان الفساد والنقص والعيوب من الوسط الاجتماعي مصلحاً، ويقابله المفسد، وهو الذي يوجد الفساد في المجتمع ويروج له في الوسط الاجتماعي، ومن هنا جاء مصطلح المفسد في الأرض.

النبي محمد مصلحاً:

ولأن كل من يقوم بالإصلاح في الأوساط الاجتماعية يعرف بالمصلح، أطلق على الأنبياء(ع)، بأنهم مصلحون بهذا اللحاظ، وعرف النبي محمد(ص) أنه مصلح لأنه قام بتربية الناس على الأعمال الصالحة، وحارب الفساد والنقص والعيوب، وعمد إلى رفعها وإزالتها من الوسط الاجتماعي، ويظهر هذا جلياً من كلمة جعفر بن أبي طالب(رض) بين يدي النجاشي، وهو يصف ما كانت عليه قريش قبل بعثة رسول الله(ص)، وبعد بعثته، ما يدل على الإصلاح الذي قام به النبي محمد(ص)، قال(رض): أيها الملك, كنا قوما أهل جاهلية , نعبد الأصنام ونأكل الميتة, ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام, ونسيئ الجوار, ويأكل القوى منا الضعيف وبقينا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه…فدعانا إلى الله, لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن واَباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان…وقد أمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم وحقن الدماء , ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً, وأن نقيم الصلاة ونؤتى الزكاة ونصوم رمضان….فصدقناه واَمنا به واتبعناه على ما جاء به من عند الله , فحللنا ما أحل لنا وحرمنا ما حرم علينا.

 

وكذا ما جاء على لسان الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(ع) في خطبتها الفدكية، خلال حديثها عن واقع المجتمع العربي قبل البعثة النبوية، وكيف أصبح حالها بعد بعثته(ص)، قالت(ع): فرأى الأمم فرقاً في أديانها، عكفاً على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة لله مع عرفانها، فأنار الله بأبي محمد(ص) ظلمها، وكشف عن القلوب بهمها، وجلى عن الأبصار غممها، وقام في الناس بالهداية، فأنقذهم من الغواية، وبصّرهم من العماية.

 

الاصلاح بمعنى الصلاح:

ووفقاً لما تقدم في بيان الإصلاح المأخوذ من مادة الصلاح يكون له مصداقان:

1-القيام بالعمل الصالح.

2-رفع الفساد أو الحيلولة دون وقوعه.

 

وقد استعمل المصداقان في القرآن الكريم، فلاحظ قوله تعالى:- (إلا الذين تابوا وأصلحوا)[6]، يعني عملوا أعمالاً صالحة بعد توبتهم بدل تلك الأعمال الخاطئة التي صدرت منهم من الذنوب والمعاصي والسيئات.

المعنى السياسي:

وأما الاحتمال الثاني للإصلاح الوارد ذكره في كلام المولى أبي عبد الله الحسين(ع)، وهو المعنى السياسي، وهو يعني التغيــير التدريجي المرحلي والذي يتم من خلال مراحل متعددة، ولا يكون دفعياً أو مرة واحدة، ويقابله الانقلاب والثورة، وهو التغيير التام مباشرة مرة واحدة ودفعة واحدة.

 

موانع القبول بالإصلاح السياسي:

ويمنع من القبول بحمل الإصلاح الوراد في كلامه(ع) على الإصلاح السياسي مانعان:

الأول: كون الاصلاح السياسي من المصطلحات الحادثة في العصور المتأخرة والتي لا وجود لها في القرآن الكريم ولا السنة الشريفة، وهذا يعني صعوبة حمل مفردة وردت في كلماتهم(ع) على ما لم يكن معروفاً ومتداولاً في تلك الحقبة الزمنية.

الثاني: عدم انسجامه مع النهضة الحسينية المباركة، ذلك أن الإصلاح السياسي كما سمعت يكون وفق مراحل متعددة، ولا يكون دفعة واحدة، ولا يكون مشتملاً على حرب ولا قتال، ولا دم، ولا غير ذلك. وهذا لا ينطبق على النهضة الحسينية المباركة، فإنه مضافاً لوقوعها دفعة واحدة، قد تضمنت حرباً وقتلاً وقتالاً ودماء زاكية قد أريقت على أرض كربلاء الشهادة[7].

 

وقد تحصل مما تقدم أن المقصود من الإصلاح في كلامه(ع) هو معناه اللغوي والمأخوذ من مادة الصلاح في مقابل الفساد، وهذا يعطيه بعداً اجتماعياً أراد الإمام الحسين(ع) تحقيقه في مشروعه الإصلاحي.

 

[1] سورة النساء الآية رقم 35.

[2] سورة النساء الآية رقم 128.

 سورة الأنفال الآية رقم 1. [3]

 سورة الأعراف الآية رقم 56.[4]

[5] سورة هود الآية رقم 88.

 سورة البقرة الآية رقم 160.[6]

[7]  بارقة من سماء كربلاء ص 149-155(بتصرف)

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة