كلمة الجمعة: عالم الغيب
من الأمور التي يطرحها أصحاب المادة والماديـين، إنكار وجود عالم وراء هذا العالم الذي نعيش فيه، فهم لا يؤمنون بوجود شيء وراء عالم المادة والطبيعية، فلا يؤمنون بوجود عالم الغيب، ويحصرون الوجود في خصوص عالم الشهادة.
ولا تتخذ الشبهة المذكورة طريقة عرض واحدة، بل تتعدد سبل عرضها، من حيث السعة والضيق، فنجد البعض يرفض الاعتراف بوجود عالم آخر وراء هذا العالم، وهذا يتجلى في الماديـين الذين لا يدينون بدين ولا يؤمنون بوجود الذات الإلهية، ونجد البعض الآخر من المنتمين للإسلام، والمؤمنين بوجود الذات الإلهية، إلا أن عقولهم تضيق عن التصديق بوجود جملة من العوالم الغيبية، ولهذا نجدهم يعمدون إلى تفسير تلك العوالم بما ينسجم والمعطى المادي والطبيعي، ولهم في ذلك غاية أخرى، وهي مجاراة المثقفين، والحذر من أن تنالهم ألسنتهم بما لا يرضونه من السخرية والاستخفاف.
ولذا عمد هؤلاء إلى تأويل جملة من الآيات الشريفة المتضمنة الحديث عن العوالم الغيبية، بما يجعلها منسجمة والأمور المادية، وحملها عليها، ففسرت النفاثات في قوله تعالى:- (ومن شر النفاثات في العقد)[1]، بالنمامين القاطعين روابط الألفة والحارقين لها. مع أن المقصود بها شيء آخر.
كما حصرت معجزات النبي الأكرم محمد(ص) في خصوص القرآن الكريم، ورفضت المعاجز الأخرى ذات البعد الغيبي، كمعجزة شق القمر، أو حديثه مع الجذع، ومجيئه إليه، خوفاً من عدم قبول المثقف المتوغل في العوالم المادية لها عند اطلاعه عليها.
وقد نشأت الشبهة المذكورة نتيجة حصر أدوات المعرفة في خصوص التجربة والحس، فكل ما أثبتته التجربة ودعمته كان حقاً يتبع ويلتـزم به، وكل ما كان خارجاً عن ذلك لم يعتد به.
وينحصر دور التجربة في خصوص إثبات موردها وموضوعها، فإنها تثبت المادة والطاقة، أما بالنسبة للأمور الخارجة عن موردها فليس لها حكم فيها، كما أنها لا تصلح لنفيها وإثباتها.
ويقابل الرؤية المادية المذكورة الرؤية القرآنية، والتي تتضمن الاعتراف بوجود عالم الغيب غير عالم الشهادة، ويظهر هذا جلياً من خلال ما ذكره القرآن الكريم من حقائق غيبية غير مادية لا تدرك بالحس، كالروح والملك والجن، والبرزخ، والأعراف، وغير ذلك. والتي حالت الحواجز المادية دون إدراكها، ومتى زالت فإنها سوف تنكشف الحقائق حينئذٍ، قال تعالى:- (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد)[2].
وقد برهن القرآن الكريم على وجود تلك العوالم الغيبة من خلال إثباته سبحانه وتعالى أقوالاً وأفعالاً للملائكة وتكليفهم بأمور تكشف عن أن لهم وجوداً واقعياً وراء عالم الحس والشهادة، مثل:
1-قبض الأرواح، قال تعالى:- (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم)[3].
2-حمل الوحي للأنبياء والمرسلين، قال سبحانه:- (ينزّل الملائكة بالوحي من أمره على من يشاء من عباده)[4].
3-إعانة المجاهدين في الحروب، قال عز من قائل:- (ألن يكفيكم أن يمدكم ربك بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين)[5].
4-أنهم خزنة جهنم، وأنهم الموكلون بالجحيم، قال تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد)[6].وغير ذلك.
وكذلك حديث القرآن الكريم عن الجن يدل دلالة واضحة على أن لهم وجوداً وراء عالم المادة والطبيعة والشهادة.
ولم يكتف القرآن الكريم بالإشارة إلى وجود عوالم غيبية أخرى وراء عالم الحس والمادة، بل ذم كل من اعتقد حصر الوجود في خصوص عوالم المادة وفي هذا العالم الفسيح فقط. كما عدّ الإيمان بعالم الغيب من صفات أهل التقوى، قال تعالى:- (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)[7].
وقد وصف القرآن الكريم تلك العوالم الغيبة بأنها تشتمل حياة وراء هذه الحياة الدنيوية، وتختلف عنها بأن حياة العوالم الغيبة هي الحياة الحقيقة، وليست حياة عالم المادة، قال تعالى:- (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كاوا يعلمون)[8]. ولهذا وصف الباري سبحانه وتعالى الحياة الدنيوية بأنها حياة ظاهرية راءها حياة أخرى، قال تعالى:- (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون)[9]، فلاحظ[10].
وحتى يتضح لنا تمامية الأطروحة القرآنية، وبطلان الرؤية المادية، لابد من النظر في الدليل الذي استند الماديون إليه في إثبات دعواهم، فإن إبطاله كفيل بتمامية أطروحة القرآن الكريم بمقتضى القسمة الحاصرة، والإجماع المركب، لعدم وجود رؤية أخرى مقابل هذه الرؤية، خصوصاً وأن الرؤية الثالثة المذكورة تؤول لباً إلى أحدى هاتين الرؤيتين كما سيتضح.
ولابد قبل عرض دليل الماديـين من تحديد محل النزاع، وهذا يتوقف على بيان المقصود من الغيب، وهل أنه قسم واحد، أو أكثر من ذلك.
تعريف الغب، وبيان أقسامه:
عرّف الغيب بأنه كل ما غاب عن الحس، لأن الأصل في الغيب ما بطن وخفي، وقيل عن عالم ما وراء المحسوسات(غيب) لخفائه عن حواسنا[11].
ويظهر من القرآن الكريم مصاديق متعددة لهذا المفهوم، كما يتضح ذلك من خلال استعمالاته إياه في معاني مختلفة، كاستعماله في الدلالة على الذات المقدسة، في قوله تعالى:- (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)[12]، فالغيب فيها يقصد به الذات المقدسة كما قيل[13]، وقيل غير ذلك[14].
وبالجملة، إن مفهوم الغيب عنوان واسع يشمل كل ما يكون غائباً عن الحواس، ولا يمكن إدراكه بشيء منها. نعم لا يفرق في غيابه عن الحواس لعجز، أو لأمر خارج عن القدرة.
وهو قسمان: غيب نسبي، وغب مطلق.
ويقصد بالغيب النسبي: ما يكون غيباً بالنسبة لشخص دون آخر، أو يكون غيباً بالنسبة إلى حاسة دون أخرى، وهكذا، فالموجود في المسجد، يكون مطلعاً على الإمام والمصلين المتواجدين فيه، وعلى دراية بهم ومعرفة، إلا أن وجودهم بالنسبة لمن كان خارج المسجد يعدّ غيباً، لأنه ليس مطلعاً على وجودهم، ولا محيطاً بمن فيه.
وكذا ألوان المسجد وصباغة حيطانه، تعدّ غيباً بالنسبة إلى حاسة السمع، إلا أنها ليست غيباً بالنسبة إلى حاسة البصر، بينما صوت الإمام عندما يصلي أو يخطب يعد غيباً بالنسبة إلى حاسة البصر، وليس غيباً بالنسبة إلى حاسة السمع، وهكذا.
ويقصد من الغيب المطلق: هو ما كان خارجاً عن إدراك الحواس الخمس من غير فرق بين إنسان وآخر، ولا ظرف وظرف، فالجنة غيب لجميع أفراد البشر، لأنه لا يدركها شيء من الحواس، ولا يفرق في ذلك بين الليل والنهار، أو اليوم والأمس.
ومثل ذلك عالم البرزخ، فإنه أمر غيبي لجميع الأفراد على حد سواء، وفي كافة الأزمنة، وكذلك الملائكة، والجن، والروح، وهكذا سائر العوالم العلوية، كالنار، وغير ذلك.
ولا يذهب عليك، أنه لا معنى للنـزاع في القسم الأول من الغيب، أعني الغيب النسبي، لأنه ليس خارجاً عن حدود دائرة المادة، والطبيعة. وإنما محل النـزاع هو خصوص القسم الثاني من القسمين، وهو الغيب المطلق، وهو الذي لا يدرك بالحواس الخمس كما سمعت. مع أن التسليم بوجود القسم الأول من الغيب، شاهد صدق على إمكانية وجود القسم الثاني منه، ذلك أن عجز الحواس البشرية عن الإدراك ولو آناً ما، وفي بعض الأوقات كاشف عن أنه لا يمكنها الإحاطة بكل شيء، الدال على وجود ما لا يمكنها إدراكه.
النظريات في الموجودات:
هناك عدة نظريات وأراء مطروحة حول الكون وما يحويه من موجودات، وعمدتها ثلاث:
الأولى: النظرية المادية، وهي التي تقرر حصر الوجود الكوني في خصوص عالم المادة والطبيعة، وأنه ليس وراء عالم الشهادة عالم آخر.
الثانية: النظرية الشمولية، وهي التي تقوم على أن الكون يحوي نوعين من العوالم، عالم الشهادة، وعالم الغيب، والأول هو الذي يعيشه الناس، ويتلمسون وجوده، فيحسون به ويدركونه، والثاني ما لا يدرك بالحواس.
الثالثة: النظرية التشكيكية واللاأدرية، وهي التي تقف موقف المتحير وغير الجازم تجاه الوجود الكوني، فإنها تسلم بوجود عالم المادة والطبيعة، إلا أنها لا تملك رأياً جازماً بشأن العوالم الغيبة، فلا تملك القدرة على نفيها، كما أنها لا تستطيع التسليم بإثباتها.
ولا يذهب عليك، أن النظرية الثالثة في الحقيقة ليست نظرية مستقلة عن النظريتين الأوليتين، بل هي متولدة عنهما، جراء عدم قدرتها على إقامة البرهان على إحداهما دون الأخرى، وإبطال الثانية، وهذا يعني أنه لو تمت إحدى النظريتين الأولى أو الثانية، وتم هدم النظرية الأخرى، فسوف تتعين النظرية الثالثة فيها. ولهذا يصح التعبير أن النظرية الثالثة فرع إحدى النظريتين من حيث النتيجة.
ولا يذهب عليك أن مصدر النظرية الثانية، أعني النظرية الشمولية، هو ما قامت عليه المناهج الدينية من أن الكون ينقسم إلى عالمي الغيب والشهادة، ويخرج عن الدين كل من أنكر ذلك ولم يؤمن بوجود عالم وراء الحس والطبيعة، ولو أنه جاء بمسلك أو برؤية، لن تخرج عن كونها رؤية بشرية، وليست سماوية إلهية، وسيكون صاحبها مجرد داعية. ولهذا نجد تركيز القرآن الكريم على هذا التقسيم في العديد من آياته المباركة، قال تعالى:- (وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة)[15]. وقال عز من قائل:- (ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون)[16].
أدلة النظرية الأولى:
أصرّ أصحاب النظرية الأولى أنهم في غنى عن الحاجة إلى إقامة دليل أو برهان على مدعاهم، بل طالبوا القائلين بخلاف مقولتهم بالدليل على ذلك. والظاهر أن منشأ ذلك اعتقادهم أن المثبت هو من يحتاج دليلاً دون النافي، لأن النافي يتمسك بالأصل.
وهو توهم فاسد، لأنه كما أن المثبت يحتاج دليلاً لإثبات مدعاه، كذلك يتوقف قبول دعوى النافي على دليل يسندها، وهذا يعني أنه لو وجدت للنافي دعوى لم تبرهن، فسوف تكون مجرد دعوى لا قيمة لها.
وكيف ما كان، فقد استدل القائلون بالنظرية الأولى، وهي النظرية المادية، بحصر أدوات المعرفة في خصوص الحس والتجربة، فكل ما كان خاضعاً للحس وفي دائرته، أو ما كان خاضعاً للتجربة، فهو من أجزاء الكون، ويوصف بأنه موجود، وكل ما خرج عن ذلك كان محكوماً بالعدم.
وبكلمة ثانية، حتى يكون الشيء موصوفاً بصفة الوجود لابد أن يخضع للتجربة، وأن يكون مدركاً بواسطة الحس، فما لا يقبل الخضوع للتجربة، أو لا يكون مدركاً بالحس، لن يكون موجوداً، فالمعيار في صدق عنوان الوجود على شيء انطوائه تحت إحدى هذين المعيارين، إما التجربة، أو الإدراك الحسي، ومع عدم الانطواء تحت أحدهما، لا يصح وصفه بالوجود.
مناقشة النظرية الأولى:
ويلاحظ على الاستدلال المذكور بأمور:
أحدها: بالنقض عليه بنفسه، فإن البرهان المذكور دليلاً على النظرية، لم يخضع للمنحى الذي قامت النظرية عليه، من الخضوع للتجربة والحس. توضيحه:
لقد اعتمد الدليل الذي استند له القائلون بالنظرية المذكورة على إخضاع كل شيء للتجربة والحس، حتى يوصف بكونه موجوداً، فكل ما لا يمكن إخضاعه لهما، لن ينطبق عليه عنوان الوجود، وهذا يجرنا للسؤال التالي: هل أن البرهان الذي اعتمده هؤلاء دليلاً على نظريتهم، يخضع أيضاً لهذا القانون من التجربة والحس، فإن قيل نعم، كان مقتضى ذلك بطلان النظرية المذكورة، وإن قيل لا، كان مقتضى ذلك بطلانها أيضاً، أما الأول فواضح، وأما الثاني، فلأنه كيف يمكن أن يستدل على نظرية بما لا يكون صالحاً للدليلية فيها؟!
ثانيها: بعد التسليم بصحة القانون المذكور، إلا أنه أخص من المدعى، إذ أن الاستفادة منه منحصرة في خصوص دائرة الإثبات فقط، دون دائرة النفي. توضيح ذلك: إن التجربة لما كانت طريقاً متعلقاً بخصوص الأمور المادية، ويركن إليها في إثباتها، كانت دائرة الاستفادة منها منحصرة في زاوية الإثبات دون زاوية النفي، فهي طريق يعتمد عليه في مقام إثبات الأشياء، لأنها مرتبطة بعنصر المادة والطاقة، إلا أنها لا يمكنها أن تنفي ما لم تتمكن من إثباته، وهذا يوجب انحصار دائرة الاستفادة منها في خصوص الإثبات فقط دون النفي.
ثالثها: إن حصر أدوات المعرفة في خصوص الحس والتجربة خلاف سيرة العقلاء الذين منهم الماديين، والقائمة على الاستناد إلى أمور عديدة في علومهم وتصديقاتهم في عشرات من القضايا العقلية التي لا تثبت إلا بالدليل مثل:
1-الحكم بامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما.
2-الحكم بامتناع اجتماع الضدين.
3-الحكم بامتناع الدور.
4-الحكم بامتناع التسلسل.
رابعها: إن حصر أدوات المعرفة في الحس والتجربة يستوجب اغفال العقل ودوره البارز في العلم والمعارف والطبيعة، فإن له دوراً في:
1-عملية الاستنتاج، مثلاً إذا تمت عملية استخراج النتيجة التالية: أن التغير يلازم الحدوث، بمعنى أن الوجود مسبوق بالعدم، فعندها يستنبط من البرهان المذكور حكماً كلياً مفاده، أن كل متغير حادث، ويترتب على هذا الحكم الكلي، البناء على أن جميع هذا الكون والعالم الفسيح حادث، لأنه متغير.
2-إدراك المفاهيم الكلية، التي لا تأبى الانطباق على أزيد من فرد واحد، وهي مما لا يدرك لا بالحس ولا بالتجربة.
3-تصنيف الوجودات، وتأليف المختلفات تحت مفهوم واحد، فيدخل الأنواع الكثيرة تحت الجوهر، كما يدخل العديد من الأعراض تحت الكيف، وأعراض أخرى يدخلها تحت العرض، وهكذا[17].
طريق الإيمان بالغيب:
وبعد وضوح عدم تمامية النظرية المادية، وأن النظرية الحقة التي تتبع هي النظرية الشمولية الموافقة للرؤية القرآنية، كما سمعت، يقع الكلام حول الطرق التي يمكن من خلالها الإيمان بذلك العالم الذي هو وراء الحس والطبيعة، بحيث تكون نافذة عليه، فيصدق الإنسان بوجوده من خلالها، حيث يمكن للباحث رؤية العالم الغيبي بعين القلب، وهذا كما ينفع لحصول الإيمان بهذه النظرية، يصلح دليلاً وحجة على المادي المنكر لوجود ذلك العالم، إذ أن وجود هذه الأمور التي تعتبر نوافذ للمرور من خلالها لذلك العالم شاهد حق وصدق على وجود ذلك العالم.
وعلى أي حال، لنشر إلى بعض تلك الطرق التي يمكن من خلالها الاطلاع على عالم الغيب:
منها: تجرد النفس:
من الأدلة التي يستدل بها على وجود عالم الغيب، وأنه قسيم في الوجود لعالم الشهادة، تجرد النفس، ويستدل عادة بهذا الدليل بنحوين، إذ يستدل تارة بتجرد النفس، وأخرى يكون الاستدلال بتجرد معلوماتها.
والاستدلال بالثاني، أعني تجرد معلوماتها، يكون بهذا النحو: إن الإنسان في ظروف خاصة يغفل عن كل شيء حتى بدنه وأعضائه، إلا أنه لا يغفل عن نفسه، فيصح أن يقال: إن للإنسان وراء جسمه المادي حقيقة أخرى، فالمغفول عنه غير المغفول.
ومن الواضح حاجة التقريب المذكور لينتج، شروطاً لابد من توفرها:
أحدها: صفاء الذهن البشري وخلوها عن جميع الشواغل المادية. كالمرض، فإن وجوده يعدّ شاغلاً له من التوجه لذلك، وكذا عدم الاشتغال ببعض الحيثيات المادية، كأصابع رجله، أو أصابع يديه، لذا يلزم أن يباعد بينها، ويكون مستلقياً على قفاه حذراً من اشتغاله بها.
ثانيها: اعتقاده بكونه حادثاً قد وجد بعد عدم، وأنه وجد في تلك اللحظة وبالذات، ليكون ذلك موجباً لقطع صلته بالماضي وخواطره قطعاً كاملاً.
ومنها: تجرد المعرفة والصور الذهنية العلمية:
وقد استدل الحكماء على تجرد الصور الذهنية بعدة وجوه:
منها: عدم انقسام الوجدانيات: فإن من المعروف أن الانقسام والتجزئة من آثار المادة، وهذا يعني أن كل ما ينطبق عليه عنوان المادة لابد وأن يترتب عليه آثارها، وما لم تترتب عليه آثارها لن يكون مادياً، وعندما نلحظ الوجدانيات، نجد أنها لا تقبل التجزئة والانقسام، وهذا يعني عدم جريان آثار المادة عليها، وعدم جريان الآثار المذكورة ينفي أن تكون مادية، فيلزم أحد أمرين، إما أن ينفي وجودها، فيقال: بعدم وجود الوجدانيات، أو يلتـزم بوجودها لكن لها وجود آخر غير وجود المادة، والأول باطل قطعاً، فيتعين الثاني بمقتضى القسمة الحاصرة، وعليه يكون وجود الوجدانيات أمراً آخر غير وجود عالم المادة، وهذا يثبت وجود عالم آخر غير هذا العالم المادي والحسي، وهو عالم الغيب.
والحاصل، إن الحب والبغض والكراهية والحقد والحسد والبخل، وغير ذلك من الأمور الوجدانية الموجودة عند الإنسان، لا نجدها تقبل التجزئة والانقسام، فلا يقال بأن هناك حباً جزئياً للزوجة، أو بغضاً جزئياً لها، أو حقداً جزئياً على زيد، وحسداً جزئياً على عمرو وهكذا.
ومنها: أن التصديق من الموضوعات التي لا تقبل الانقسام، فإن التصديق بأن هذا هو ذاك، أمر لا يقبل الانقسام ولا التجزئة، وهذا المعبر عنه عند المناطقة بالههوهوية.
وهذا يؤكد أن حقيقة التصديق ليست مادية، وإلا لو كانت مادية للزم أن لا تتخلف عن آثار المادة وخواصها، لأن من المعلوم أن المادة مما يقبل الانقسام والتجزئة، وهذا يعني أن كل ما يكون مادياً لابد وأن يكون كذلك.
ومنها: الإلهامات الغيبية:
ويقصد به ما تتلقاه بعض النفوس حال اليقظة من أمور، ويعبر عنه في الفلسفة بالإلهام. ووجوده خارجاً من الكثرة بمكان ما يمنع من التشكيك فيه، بل ربما نسبت الكثيرة من الاختراعات والاكتشافات إليه، بل حتى المضامين الأدبية العالية قد تنسب إليه، لأنه توجد عند الفرد من دون تفكير مسبق منه فيها، أو التفات إليها.
ويستفاد من كلمات أهل الحكمة، أن حقيقة الإلهام: عبارة عن انعكاس للعالم العلوي على النفس البشرية، وهذا لا يكون إلا في خصوص النفوس الطاهرة النقية من المعاصي، وغير المكدرة بالذنوب، حتى تتلقى الغيب من دون إعمال للعقل والحس.
ومنها: الفراسة وقراءة الضمائر:
وقد أشير إلى هذا في علم النفس، حيث ذكر هناك أن هناك قوة يمكن للإنسان من خلالها معرفة ما يكنه الآخرون في ضمائرهم من أفكار ومشاعر وأحاسيس بمجرد نظرة منه يلقيها عليهم، أو على بعض أعضائهم.
ومنها: الحاسة السادسة:
وهي التي تكون برؤية الحوادث من بعيد، فيمكن للإنسان من خلالها أن يكتشف وقائع المستقبل، أو يقف على وقوع الحادث من بعيد.
ومنها: خوارق المرتاضين:
فقد تضمنت المصادر التاريخية الحديث عن وجود أشخاص يقومون بأعمال خارقة لما هو المألوف عند الناس من الأمور العادية والسنن الطبيعية، كما لو سمعنا بوجود شخص يلقى في النار ولا تحرقه، مع أن الأمر الطبيعي أن النار محرقة، فإن هذا يكشف عن أن هناك عللاً أخرى وراء المادة قد مكنت هذا الإنسان من القيام بأعمال أوجبت تخلف السنن الطبيعية والقوانين المادية عن حالها. وكذا ما ينقل عمن يتناول المسامير، أو الزجاج، أو غير ذلك وهو لا يتأثر، فإن النكتة في الجميع واحدة.
ومنها: الرؤيا الصادقة:
وهي التي تكون صوراً واقعية عن أحداث قطعية إما حصلت في الماضي، أو تحصل الآن، أو سوف تحصل في المستقبل. وهذا يعني أن مصادر المعرفة ليست منحصرة في خصوص الحس والتجربة، بل إن هناك مصادر أخرى لها[18].
ومنها: التنويم المغناطيسي:
وهو علم يقوم به بعض المختصين في هذا المجال، وعندما يخلد الشخص للنوم تظهر منه خوارق تثبت أن له روحاً متميزة يقم المباشر للتنويم بتحريكها وفق ما يريد[19].
[1] سورة الفلق الآية رقم 4.
[2] سورة ق الآية رقم 22.
[3] سورة النحل الآية رقم 32.
[4] سورة النحل الآية رقم 2.
[5] سورة آل عمران الآية رقم 124.
[6] سورة التحريم الآية رقم 6.
[7] سورة البقرة الآية رقم 3.
[8] سورة العنكبوت الآية رقم 64.
[9] سورة الروم الآية رقم 7.
[10] العوالم الغيبية في القرآن الكريم ص 7-22(بتصرف)
[11] الأمثل في تفسير كتاب الله المنـزل ج 1 ص 71.
[12] سورة البقرة الآية رقم 3.
[13] مواهب الرحمن في تفسير القرآن ج 1 ص 91.
[14] مناهج البيان في تفسير القرآن ج 1 ص 136.
[15] سورة الأنعام الآية رقم 73.
[16] سورة التوبة الآية رقم94.
[17] العوالم الغيبة ص 28-31.
[18] نود التنبيه على نقطة مهمة تعدّ صغرى لهذه الكبرى، فإن تسليمنا بأن الرؤيا الصادقة مصدر من مصادر المعرفة وأحد أدواتها، لا يعني القبول بكل من يدعي أنه رأى رؤيا صادقة، بل لابد من التدقيق في الصغريات، فليس كل من يدعي أنه رأى رؤيا، يلزم أن تكون رؤياه صادقة، لأن الرؤى على ثلاثة أقسام، كما بينا ذلك في محله.
[19] العوالم الغيبية ص 34-48(بتصرف).