طاعة الوالدين(5)

لا تعليق
الزاوية الفقهية - أبواب متفرقة
108
0

مراتب العقوق:

ثم إنه بعدما تعرفنا على حدّ العقوق الموجب لثبوت الحرمة، فلنشر إلى مراتبه، إذ المذكور في كلمات أهل الفن أن له ثلاث مراتب، تستفاد من الشريعة السمحاء:

الأولى: وهي أدنى مراتبه، قول الولد لأبويه أو لأحدهما(أف)، فقد ورد عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: أدنى العقوق أف، ولو علم الله عز وجل شيئاً أهون منه لنهى عنه[1].

وجاء عن الإمام أبي جعفر الباقر(ع) في قول الله(إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما) أنه قال: هو أدنى الأذى حرّم الله فما فوقه[2].

الثانية: وهي المرتبة الوسطى، وهي التي أشير إليها في تحديد ماهية العقوق وبيان المقصود منه، ونعني بها صدور كل فعل يسخط أو يؤذي الوالدين بحيث يكون أثره عليهما أزيد من قوله أفٍ لهما.

الثالثة: وهي أعلى مراتب العقوق، وتكون بإقدام الولد على قتله أحدهما، فقد جاء عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: قال رسول الله(ص): فوق كل ذي بر بر، حتى يقتل الرجل في سبيل الله، فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه بر، وإن فوق كل عقوق عقوقاً، حتى يقتل الرجل أحد والديه، فإذا فعل ذلك فليس فوقه عقوق[3].

خاتمة:

بقي أن نشير في الختام إلى أمرين:

الأول: ما يطرح بين فينة وأخرى، ومفاده أيهما أولى بالبر الأب أم الأم، وهذه من المسائل التي صارت مورداً للخلاف بين الأعلام، والمحتملات المستفادة من كلماتهم ثلاثة.

هذا وينبغي قبل كل شيء الإشارة إلى مورد البحث إنما هو حال التزاحم بين البر والإحسان إلى الأب والأم، فأيهما أولى بالإحسان، فلو تزاحم البر والإحسان بين الأب والأم، فهل يكون التقديم للأب، فيكون هو الأولى بالبر والإحسان، أم تكون هي الأولى، فيكون البر والإحسان إليها دونه، ولا يذهب عليك أن الكلام كله خارج عن دائرة الولاية، وهذا يعني أن كل ما يكون داخلاً في دائرتها، فلا إشكال في كون التقديم للأب عليها، كما لو حصل التزاحم بين طاعة الأب وطاعتها، فلا ريب في كون التقديم لطاعته عليها، ومثل ذلك لو حصل التزاحم بين أوامره ونواهيه، مع أوامرها ونواهيها، فالتقديم لما هو الصادر عنه لا ما هو الصادر عنها.

وكيف كان، فقد عرفت أن المحتملات المتصورة في المورد ثلاثة:

الأول: البناء على أفضلية الأم على الأب، وأنها الأولى بالبر منه، فلو دار الأمر بينهما، ومن يكون الأولى بالبر كان لها التقديم عليه والأولوية، بل قالوا أن للأم ثلاثة أرباع البر، وليس للأب إلا ربع فقط.

الثاني: وهو عكس الأول، فيلتـزم بأن أولوية التقديم تكون للأب حال الدوران بينهما، وأنه المفضل عليها.

الثالث: البناء على عدم تفضيل أحدهما على الآخر، فهما سواء في الفضل، ولا تفاوت بينهما.

وقد جعل أصحاب المحتمل الأول مستندهم في ما قالوا أن تفضيل الأم على الأب أمرين:

الأول: كون المسألة إجماعية، إذ لم يعرف مخالف بين الأصحاب في تقديم الأم على الأب في كل مورد حصل فيه تزاحم بين البر والإحسان إليهما.

الثاني: صحيح هشام بن سالم عن أبي عبد الله(ع)، قال: جاء رجل إلى النبي(ص)، فقال: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك[4]. وقريب منه ما رواه جابر عن أبي جعفر(ع) قال: قال موسى بن عمران(ع): يا رب أوصني، قال: أوصيك بأمك، قال: يا رب أوصني، قال: أوصيك بأمك، قال: أوصني، قال: أوصيك بأبيك. وبما جاء من أن الجنة تحت أقدام الأمهات[5]، وما ورد من الحث على البر بها.

وأما القائلون بالمحتمل الثاني، فجعلوا حجتهم على ما قالوا الموارد المتفرقة في الأبواب الفقهية والتي تتضمن تميزاً للأب على الأم، وما هذا التميز إلا لكونه مقدماً عليها، وأنه صاحب الفضل:

منها: إن الأب لا يقتل بقتله لولده، بينما تقتل الأم لو أقدمت على قتل ولدها.

ومنها: إن للأب ولاية على ولده، وليس للأم ولاية عليه، وتظهر عظمة الأب في المقام من خلال ملاحظة عظم المنصب الذي أنيط به، إذ لا يختلف أثنان في عظمة وأهمية الولاية في الشرع الشريف، وبالتالي لا يعطى مثل هذا المنصب إلا لمن يكون له فضل ومقام.

ومنها: إن نفقة الولد واجبة على الأب دون الأم، وهذا يستوجب أن يكون له تفضيل عليها.

ومنها: إن الأب لا تقطع يده بقيامه بالسرقة من أموال ولده، أما الأم فلو أقدمت على سرقة شيء من أموال ولدها، كان ذلك موجباً لقطع يدها.

ومنها: إن للأب المقدرة على أن يحل نذر الولد، بل ألتـزم بعض الفقهاء بأن انعقاد النذر متوقف على إذنه، فلو لم يأذن لم ينعقد النذر، وليس للأم القدرة على حل نذر ولدها.

ومنها: إن شهادة الولد على أبيه غير مقبولة، بل مردودة، وتكذّب، وعلل ذلك بأنها إيذاء له، ولم يلتـزم بذلك في شأن الأم، ولهذا يحكم بقبول شهادته عليها، ولا يقال أن في ذلك إيذاء لها.

ومنها: لو أعسر الوالد في السداد لما لولده عليه من دين، فإنه لا يحبس بسبب ذلك، وهذا بخلاف الأم فإنها لو لم تسدد دين ولدها أمكن حبسها به.

ومنها: إذا مات الأب وكانت ذمته مشغولة بصلاة أو صوم مثلاً، وجب على الولد الأكبر القضاء عنه، ولا يجب على الولد الأكبر أن يقضي عن الأم شيئاً وإن كانت حال الوفاة مشغولة الذمة بصلاة فائتة أو صوم مثلاً.

والحاصل، إن المستفاد من مجموع هذه الوجوه المذكورة أن هناك تفضيلاً للأب على الأم، وبالتالي يكون مقدماً عليها كما لا يخفى.

والإنصاف، أن شيئاً من الوجوه المذكورة لا يصلح أن يثبت المدعى، ضرورة أن كل واحد منها كان ناشئاً من دليل خاص، وهذا يعني عدم إمكانية الاستدلال به على شيء آخر، إذ هو ليس في مقام البيان إلا في خصوص ما دل عليه، ولم يحرز ملاكه حتى يمكن التعدي فيه، فتدبر.

وعلى هذا فالظاهر بقاء النص النبوي المروي بالسند الصحيح عن الإمام الصادق(ع)، والمتضمن أن للأم ثلاثة أرباع البر، ويبقى الربع الأخير للأب.

اللهم إلا أن يدعى أنه ليس في مقام البيان من هذه الناحية، وإنما هو بصدد الإشارة للمبالغة في بر الأم، وكأن ذلك لعين ما تضمنته آية سورة لقمان وهو قوله تعالى:- (حملته أمه وهنا على وهن وحمله وفصاله في عامين)، إذ لا ريب في أنها ليست بصدد بيان أفضلية الأم على الأب، بل أقصى ما تدل عليه هو الإشارة إلى مقدار الأذى الذي تحملته خلال مرحلة الحمل والولادة والرضاعة، وأين هذا مما نحن فيه، من التفضيل والتقديم.

والإنصاف أن المسألة ليست من الوضوح بمكان، بل هي مشكلة، وتحتاج مزيد تأمل، لا يسعه هذا المختصر، بل يطلب من البحوث التخصصية.

الثاني: قد عرفت في عرض الآيات الشريفة التي يستدل بها للدلالة على وجوب طاعة الوالدين، قرن الذات المقدسة بالوالدين في غير واحدة منها، فما هو السر في ذلك؟

لقد عرض المفسرون لهذه الناحية في تفسيرهم لمثل هذه الآيات الشريفة، وذكروا لذلك وجوهاً، سوف نشير إلى جملة منها:

الأول: إن النشأة الأولى أو الخلق، وإن كانت من الله تعالى، إلا أن دوام بقاء عالم الإنسانية يكون بالوالدين، كما أن منشأ التربية الحقيقية هو الله سبحانه، ثم بعد ذلك في النظام الأحسن تكون التربية من جهة الوالدين، ولهذا قرن الشكر لهما بشكره تعالى، فقال جل شأنه:- (أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير)[6]، والتربية نوعان: تربية جسمانية: يقوم بها الوالدان، وتربية معنوية يقوم بها الأنبياء والأولياء والعلماء، ولا ريب في أفضلية الثانية من الأولى وأهميتها[7].

الثاني: أن يكون إشارة إلى العامل الفطري لإحسان الوالدين، حيث أن وجود الله والإيمان به أمر فطري، فكذلك حب الوالدين والإحسان لهما أمر تقره الفطرة حتى لو لم يأمر به الله تعالى.

الثالث: أن يكون إشارة إلى الأمر العقلي، حيث أن الإيمان بالله سبحانه والإحسان للوالدين يشتركان في وجوب شكر المنعم، وهو أمر يوجبه العقل.

الرابع: أن تكون الغاية من ذلك إلفات الله تعالى أنظارنا إلى أهمية دور الوالدين في حياتنا، وألا نتركهما في جميع مراحل حياتهم وحياتنا، وأن نسير أسرة واحدة بداية ونهاية، وأن وحدة المجتمع هي من وحدة الأسرة، وأن خطر عقوقهما في المجتمع كخطر الاشتراك في العقيدة.

الخامس: أن تكون الغاية تنبيه الوالدين إلى الدور المناط بهم تجاه أبناءهم، فجعلهما قريبين منه سبحانه غايته تحميلهم المسؤولية الكبيرة اتجاه الأسرة وبنائها نحو الأحسن وفقاً للمنهجية الإلهية[8].

والإنصاف، أن شيئاً من الوجوه المذكورة لا يصلح أن يبرر الاقتران المذكور بينه سبحانه وتعالى وبين الوالدين، خصوصاً وأنها مجرد وجوه استحسانية لا ترقى إلى بيان المدعى، وعليه يبقى هذا القرن واحداً من الأسرار الإلهية الواردة في القرآن الكريم، فتأمل.

——————————————————————————–

[1] أصول الكافي ج 2 ص 348 ح 1.
[2] تفسير العياشي ج 2 ص 285 ح 37.
[3] أصول الكافي ج 2 ص 348 ح 4.
[4] أصول الكافي ج 2 ح 9 من باب بر الوالدين.
[5] مستدرك الوسائل ج 15 ح 17933.
[6] سورة لقمان الآية رقم 14.
[7] مواهب الرحمن ج 1 ص 431، التجديد في تفسير القرآن المجيد ج 2 ص 273.
[8] التجديد في تفسير القرآن المجيد ج 2 ص 273-274.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة